قواعد التصوف احمد زروق 8
قوم تعلقوا بالظاهر وقوم تأولوا ما يؤول وقوم أخذوا الإشارة من الظاهر والباطن
أصل كل أصل من علوم الدنيا والآخرة، مأخوذ من الكتاب والسنة، مدحاً للممدوح، وذماً للمذموم، ووصفاً للمأمور به. ثم للناس في أخذها ثلاث مسالك.
أولها: قوم تعلقوا بالظاهر، مع قطع النظر عن المعنى جملة. وهؤلاء أهل الجحود من الظاهرية، لا عبرة بهم.
الثاني: قوم نظروا لنفس المعنى جمعا بين الحقائق، فتأولوا ما يؤول، وعدلوا ما يعدل، وهؤلاء أهل التحقق من أصحاب المعاني والفقهاء.
الثالث: قوم أثبتوا المعاني، وحققوا المباني، وأخذوا الإشارة من ظاهر اللفظ وباطن المعنى، وهم الصوفية المحققون، والأئمة المدققون، لا الباطنية الذين حملوا الكل عن الإشارة. فهم لم يثبتوا معنى ولا عبارة، فخرجوا عن الملة، ورفضوا الدين كله، نسأل الله العافية بمنه في الدنيا والآخرة.
قاعدة 80
الفرق بين الضروري والحاجي والتكميلي
الضروري: ما لا يؤمن الهلاك بفقده.
والحاجي: ما أدى فقده لخلل غير مستهلك.
والتكميلي: ما كان وجوده أولى من فقده، وذلك يجري في كل شيء يكتسب، فوجبت مراعاة المراتب بتقديم كل على بعده.
فضروري العلم ما لا يؤمن الهلاك مع جهله، وهذا هو المتعين بالوجوب على صاحبه. وحاجيه ما كان فقد نقصا لصاحبه وهو فرض الكفاية منه. وتكميليه ما كان وجوده زيادة في فضيلته كمنطق وفصاحة، وشعر ونحوها.
وواجب العبادات ضروري ومسنونها حاجي، ومندوبها تكميلي، ولكل رتب في أنفسها، فافهم.
قاعدة 81
لا يجوز لأحد أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه
لا يجوز لأحد أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه. قال الشافعي إجماعا لقوله صلى الله عليه وسلم: (العلم إمام العمل، والعمل تابعه). فلزم كل أحد تعلم علم حاله، حسب وسعه بوجه إجمالي يبرأه من الجهل بأصل حكمه إذ لا يلزمه تتبع مسائله، بل عند النازلة والحالة ما يتعلق بها. وما وراء ذلك من فروض الكفاية الذي يحمله من قام به، ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجة فلا عذر في طلبه، فافهم.
قاعدة 82
العامي يسأل ليعمل فحقه أن يذكر النازلة والطالب يسأل ليعلم فحقه أن يسأل عن مسالة بمسالة أخرى
إتيان الشيء من بابه أمكن من تحصيله، فمن ثم قيل: (العامي يسأل ليعمل، فحقه أن يذكر النازلة).
والطالب يسأل ليعلم، فحقه أن يسأل عن مسألة بمسألة أخرى، وعلى العالم أن يبين بيانا يمنع السائل من التأويل.
قلت: وسؤال الطالب كما في الحديث أن عائشة كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه.
وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حوسب عذب).
فقالت عائشة رضي الله عنها: أوليس يقول الله عز وجل {فسوف يحاسب حسابا يسيرا}.
وإجابة العالم مثل قوله عليه الصلاة والسلام في جوابها: (إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب يهلك).
وحقق النووي أنه عليه الصلاة والسلام إنما عاب على الخطيب الذي قال: ومن يعصمها، اختصاره في محل التعليم، لا الجمع بالكناية الذي قد ورد كثيرا والله سبحانه أعلم.
قاعدة 83
لا يُقبل في باب الاعتقاد موهم ولا مبهم ولا يسلم لأحد فيه ويستوي في ذلك الصوفي والفقيه
لا يقبل في باب الاعتقاد موهم ولا مبهم، ولا يسلم لأحد فيه ما وقع منه دون كلام فيه، بل يرد في نفسه بما يصح رد ظاهره به، ثم إن حضر قائله تكلم معه في معناه وحكمه في نفسه وذكره. وإن عدم تأول بما يرده لأصل الحق، إن وافق أصلا شرعيا في إطلاقه وثبتت إمامة قائله كما في رسالة ابن أبي زيد رحمه الله، في مسألة الاستواء وغيره. وليس صوفي بأولى من فقيه، ولا فقيه بأولى من صوفي في ذلك ونحوه، بل الصوفي ربما كان أعذر لضيق العبارة عن مقاصده، وقصر ما تكلم فيه على نوعه ورومه التحقيق بإشارته، فإن سوغ التأويل في أحدهما لزم في الآخر. وإن قيل لا يتأول إلا كلام المعصوم، فتأويل الأئمة كلام مثلهم، ناقض له أو هي مردودة عليهم، أو لكل اجتهاده إذ الخلاف في المسألة بوجود كل ذك يعدد ما لا يحتمل الحق بوحه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قاعدة 84
لا يجوز لأحد أن يتعدى ما انتُهي إليه من العلم الصحيح
لا يجوز لأحد أن يتعدى ما انتُهي إليه من العلم الصحيح، بالوجه الوضاح لما لا علم له به {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}. فالمنكر بعلم كالأخذ به والمتعصب بالباطل كالمنكر لما هو به جاهل، فقد أنكر موسى عليه السلام على الخضر عليه السلام ولم يكن منكرا في حق واحد منهما، إذ كل على حكمه.
فلذلك قال شيخنا أبو العباس الحضرمي رضي الله عنه، بعد كلام ذكره: والجاحد لمن يوحى إليه شيء من هذا الكلام وما يفهمه، هو معذور مسلم، له حاله من باب الضعف والتقصير والسلامة، وهو مؤمن إيمان الخائفين، ومن يفهم شيئا من ذلك فهو لقوة إيمان معه، واتساع دائرة ومشهده واسع، سواء كان معه نور أو ظلمة بحسب ما في القوالب من الودائع الموضوعة على أي صفة كانت وهذا شيء معروف مفهوم. انتهى.
قاعدة 85
ثبوت المزية لا يقضي برفع الأحكام، ولزوم الأحكام الشرعية لا يرفع خصوص المزية
ثبوت المزية لا يقضي برفع الأحكام، ولزوم الأحكام الشرعية لا يرفع خصوص المزية، فمن ثبت عليه حق، أو لزمه حد، وقع عليه مع حفظ حرمته الإيمانية أصلا، فلا يمتهن عرضه إلا بحقه، على قدر الحق المسوغ له، وإن ثبتت مزية دينية، لم ترفع إلا بموجب رفعها.
فالولي ولي وإن أتى حدا أو أقيم عليه، ما لم يخرج لحد الفسق بإصرار وإدمان ينفي ظاهر الحكم عنه بالولاية. لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله. (لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها). وقد أعاذها الله من ذلك، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. فمن ثم أفتى الشبلي بقتل الحلاج، والحريري بضربه وإطالة سجنه. وقال هو في نفسه ما على المسلمين أهم من قتله نصحا للدين من دعاوي الزنادقة، لا إقرارا على نفسه وإعانة على قتله بما علم براءته من حقيقته، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 86
تحقق العلم بالمزية لا يبيح السكوت عند تعين الحق إلا عند العلم بحقيقة ما عليه الفاعل
تحقق العلم بالمزية لا يبيح السكوت عند تعين الحق إلا عند العلم بحقيقة ما عليه الفاعل من غير شك.
ثم إن وقع إنكار فليس بقادح في واحد منهما، إذ كل على علم علمه الله إياه، كما قال الخضر لموسى عليهما السلام في أول أمرهما. وسكوت الثالث، لأن الحكم لغيره مع عدم تعيين الموجب لدخوله من إقامة حد أو غيره، مع احتمال التأويل لما وقع منه أن يكون قد أبيح لعلته التي أبداها في آخر أمره. فلو أتى بأمر لا يباح بوجه فلا تأويل إلا عصيانه أو فسقه، وما لا يباح بوجه هو اللواط، أو الزنا بمعينه، أو إدمان شرب خمر ونحوه لا قتل ، وأخذ مال ونحوه مما له وجه في الإباحة، عند حصول شرطه، وإنما التوقف عند الاحتمال باطنا، ولا توقف في الحكم الظاهر عند تعيينه بوجه صحيح والله أعلم.
قاعدة 87
التوقف في محل الاشتباه مطلوب ومبنى الطريق على ترجيح الظن الحسن وإن ظهر معارض
التوقف في محل الاشتباه مطلوب كعدمه فيما تبين وجهه من خير أو شر، ومبنى الطريق على ترجيح الظن الحسن عند موجبه وإن ظهر معارض. حتى قال ابن فورك رحمه الله: (الغلط في إدخال ألف كافر بشبهة إسلامه، ولا الغلط في إخراج مؤمن واحد بشبهة ظهرت منه). وسئل مالك عن أهل الأهواء: أكفار هم؟ قال: من الكفر هربوا. وأشار عليه السلام للتوقف في الخوارج بقوله: وتتمارى في الفرق. وقال قوم: ما أدى إليه الاجتهاد جزم به، ثم أمر الباطن إلى الله. فمن ثم اختلف في جماعة من الصوفية كابن الفارض، وابن أحلا، والعفيف التلمساني، وابن ذي سكين، وأبي إسحاق التجيبي، والششتري، وابن سبعين، والحاتمي، وغيرهم.
وقد سئل شيخنا أبو عبد الله القوري رحمه الله وأنا اسمع، فقيل له: (ما تقول في ابن العربي الحاتمي؟).
فقال: (أعرف بكل فن، من أهل كل فن).
فقيل له: ما سألناك عن هذا؟
فقال: اختلف فيه من الكفر إلى القطبانية.
قيل له: فما ترجح؟ قال: التسليم.
قلت: لأن التكفير خطر، وتعظيمه ربما عاد على صاحبه بالضرر من جهة اتباع السامع لمبهماته وموهماته، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 88
كمال العبادة بإقامة حدودها الظاهرة والباطنة ومن غير غلو ولا تفريط
كمال العبادة بحفظها والمحافظة عليها، وذلك بإقامة حدودها الظاهرة والباطنة ومن غير غلو ولا تفريط فالمفرط مضيّع، والغالي مبتدع، سيما إن اعتقد القربة في زيادته، فمن ثم قيل: الوسوسة بدعة، واصلها جهل بالسنة، أو خيال في العقل يدفعها دوام ذكر (سبحان الملك الخلاق). {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد. وما ذلك على الله بعزيز}. مع كل ورد والتزام التلهي والأخذ بالرخص، من أقوال العلماء النافية لها لا تتبع الرخص فإنها ضلال بإجماع فافهم.
قاعدة 89
أصل كل خير وشر :اللقمة والخلطة
أصل كل خير وشر اللقمة والخلطة، فكل ما شئت، فمثله تفعل واصحب من شئت فأنت على دينه. قيل: وما أكل بالغفلة استعمل فيها، فاستحبوا لذلك أن يسمى على كل لقمة ويحمد على بلعها.
قال ابن الحاج: وهذا حسن، ولكن التسمية سنة وتكون أولا، والحمدلة آخرا من غير زائد، والسنة أحسن.
فذكرت ذلك لبعض أهل الخير، فقبله، وبقي في نفسي شيء منه، فرددت الكلام معه فيه وقلت وهو معارض لسنة الحديث على الطعام فقال: هذا إن كان معه أحد، فقبلت بحثه، ثم بدا لي فرجعت عن قوله توقفا من السنة الحكم على الاعتياد في حق كل أحد على كل حال. والله سبحانه أعلم.
قاعدة 90
تكلف ما ليس في الوسع جائز عقلا، غير وارد شرعا
تكلف ما ليس في الوسع جائز عقلا، غير وارد شرعا. إذ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. وقد أمر كل مؤمن بطلب الحلال، فوجوده ممكن للكل في كل عصر وقطر لوجود أصوله عموما، ولأن الأرض لا تخلو من ولي وصالح وهو قوتهم، ولا يكلفنا الله بما في علمه، إنما يكلفنا بما نعلم من حيث نعلم. فمن لا يعمل بيده حراما ولا يغلب على ظنه دخوله في ماله بعلامة صحيحة، فلا وجه لاعتقاد الحرام ولا الشبهة فيه. بل قد قيل: المال كالماء، خلق الله هذا حلالا، كما خلق الله هذا طهورا هذا لا ينجسه إلا ما غير وهذا لا يحرمه إلا ما غير. وتفصيل ذلك في كتاب الحلال والحرام من الإحياء وغيره، ولذا أجمعوا على وجوده كما ذكره السهروردي والله سبحانه أعلم.
قاعدة 91
تحريم الخروج عن الإمام بقول أو فعل
حفظ النظام واجب، ومراعاة المصلحة العامة لازم، فلذا أجمعوا على تحريم الخروج عن الإمام، بقول أو فعل حتى أن جز في إجماعهم على الصلاة خلف كل بر وفاجر من الولاة وغيرهم ما لم يكن فسقه في عين الصلاة. وكذا يرون الجهاد مع كل أمير من المسلمين، وإن كان فاجرا لا غيره. وزعم ابن مجاهد إجماع المسلمين، وأنكره ابن حزم، وفيه كلام لهما. والمعول، المنع بكل حال، فلقد قال عليه الصلاة والسلام: (ما سب قوم أميرهم إلا حرموا خيره). وقال عليه الصلاة والسلام (المؤمن لا يذل نفسه). قال ابن عباس: يتعرض للسلطان وليس له منه النصف. وفي الترمذي: (ما مشى قوم إلى السلطان شبرا ليذلوه، إلا أذلهم الله تعالى) إلى غير ذلك مما يطول ذكره. ويجمعه قوله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، والقوم أهرب الناس مما لا يعنى، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 92
محمل كلام القوم في ذم الرخص والتأويلات هو في كل مشكوك الحكم لا في المحقق
العبادة: إقامة ما طلب شرعا من الأعمال الخارجة عن العبادة، أو الداخلة، سواء كان رخصة أو عزيمة، إذا أمر الله فيهما واحد. فليس الوضوء بأولى من التيمم في محله، ولا الصوم بأولى من الإفطار في محله، ولا الإكمال بأولى من القصر في موضوعه. وعليه يتنزل قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يكره أن تترك عزائمه). لا على الرخصة المختلف في حكمها، إذ الورع مطلوب في كل مشكوك الحكم، بخلاف المحقق، فإن تركه تنطع، وعلى هذا الأخير يتنزل كلام القوم في ذم الرخص، والتأويلات، والله أعلم.
قاعدة 93
المقصود موافقة الحق حتى إن كان موافقا للهوى
المقصود موافقة الحق وإن كان موافقا للهوى، حتى قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (إذا وافق الحق الهوى، فذلك الشهد بالزبد). وقد أغرق قوم في مخالفة النفس، حتى خالفوا الحق في طي ذلك. ومنه استئذانهم في الواجب والضروري الذي لا يمكن انفكاكه، وتركهم جملة من السنن، لإلفها مع ترك ما ألفوا منها. وهذا وإن كان مؤثرا في النفس، فهو مثير للباطل وسائر بصاحبه لعكس القصد، نسأل الله العافية.
قاعدة 94
الأجر على قدر الاتباع لا على قدر المشقة و (خير دينكم أيسره)
الأجر على قدر الاتباع، لا على قدر المشقة لفضل الإيمان والمعرفة والذكر والتلاوة على ما هو أشف منها بكثير من الحركات الجسمانية. وقوله عليه الصلاة والسلام: (أجرك على قدر نصبك) إخبار خاص في خاص لا يلزم عمومه. سيما وما خير في أمرين إلا اختار أيسرهما مع قوله: (إن أعلمكم بالله وأتقاكم لله أنا). وكذا جاء: (خير دينكم أيسره) إلى غير ذلك، والله أعلم.
قاعدة 95
التشديد في العبادة منهي عنه، كالتراخي عنها
التشديد في العبادة منهي عنه، كالتراخي عنها. والتوسط: أخذ بالطرفين، فهو أحسن الأمور كما جاء: (خير الأمور أوسطها).
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}. {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}.
قال عليه السلام: (أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر). وكان يقوم من الليل نصفه، وثلثه، وثلثيه، وهو الوسط باعتبار من يأتي على كله، أو لا يقوم منه إلا اليسير. وكذلك رد عبد الله بن عمر للوسط بصيام نصف الدهر وقيام نصف الليل، وختم القرآن في سبع إلى غير ذلك، فلزم التوسط في كل مكتسب، لأنه أرفق بالنفس وأبقى للعبادة.
قاعدة 96
تحديد ما لم يرد في الشرع تحديده ابتداع في الدين إن عارض أصلا شرعيا
تحديد ما لم يرد في الشرع تحديده، ولا أشارت النصوص الشرعية بأمر لا يمكن تركه ما حدد منه، ابتداع في الدين، ولا سيما إن عارض أصلا شرعيا كصيام يومه لفوات ورد ليلته الذي لم يجعل له الشارع كفارة إلا الإتيان به، قبل صلاة الصبح، أو زوال اليوم. وكذا قراءة الفاتحة قبل الصلاة، وتوقيت ورد الصلاة ونحوها، مما لم يرد من الشارع نص فيه، لا ما ورد فيه نص أو أشار إليه، كصلاة الرواتب، وأذكار ما بعد الصلاة، وقراءة القرآن، وصيام النقل، ونحوه مما يكره ترك معتاده ويمنع الاعتداد فيه فافهم.
قاعدة 97
استخراج الشيء من محله يكون بإدخال الضد عليه
استخراج الشيء من محله بإدخال الضد عليه أبدا، فإن تعدد تعدد، وإن اتحد اتحد، حسب سنة الله، لا لزوما في النظر، وإن اقتضاه العقل. فلهذا أمروا المريد في ابتداءه بتعدد الأوراد وإكثارها، نفيا لما في نفسه من آثارها، وعند توسطه بإفراد الورد لإفراد الهم وإفراد الحقيقة. وكل هذا بعد حفظ الورد الشرعي، ذكرا أو غيره حسبما ورد عموما والله أعلم.
قاعدة 98
ما رُكب في الطباع معين للنفس على ما تريد حسب قواها
ما ركب في الطباع معين للنفس على ما تريد حسب قواها. فلذا قيل: إذا علم الصغير ما تميل إليه نفسه من المباحات، خرج إماما فيها. وإذا انتحل المريد ما ترجحه حقيقته من الأذكار والأوراد، كان معينا على مقصده بدوامه. فإنه ما قصر جسد عن مهمته ويعين الله العبد على قدر نيته. ما دخل بانبساط كان أدعى للدوام. وقد أشار لهذه الجملة في تاج العروس، وتكلم عليها الشيخ ابن أبي جمرة في حديث حذيفة إذ قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير). والله أعلم.
قاعدة 99
طلب الشيء بوجه واحد مع الإلحاح أقرب لنواله
طلب الشيء بوجه واحد مع الإلحاح أقرب لنواله، وأدعى لدوام سببه المطلوب في نفسه لإفراد الحقيقة له، فلزم التزام ورده لا تنتقل عنه حتى تحصل نتائجه، وإلا فالمنتقل قبل الفتح كحافر بئر لا يدم على محل واحد، كالمقطر قطرة، على كل محل يريد تأثير المحل بالنظر أثرا يظهر لعمله مع ذلك أثر. قيل: والدوام في الشيء زيادة فيه باعتبار العمر، لا باعتبار العدد ومن استوى يومه هو الذي لم يعمل فيهما شيئا ومن احتوى أمسه على خلاف يومه فهو المحروم فإنه ليس عنده إلا عمل أمسه والله أعلم.
قاعدة 100
دوام الشيء بدوام ما رتب عليه، وثوابه على قدر نيته
دوام الشيء بدوام ما رتب عليه، وثوابه على قدر نيته، ورتبته على قدر التقرب به. والله تعالى دائم الربوبية فأحكام عبوديته دائمة على خلقه لا ترتفع عنهم وأجل العباد عنده من عبده، لأنه أهل للعبادة، مع رجائه والخوف منه أو الهيبة أو الحياء ونحوه فافهم والله سبحانه أعلم.
قاعدة 101
رب فضل أدى لفضول كثيرة فصار المحمود في الجملة مذموما بالنسبة
العائدة على قدر الفائدة، وهي معتبرة بأنفسها ومقاصدها، لا أعدادها، إذ رب فضل أدى لفضول كثيرة فصار المحمود في الجملة مذموماً بالنسبة كتتبع الفضائل. والعمل في المنافع العامة، مؤد لأعظم الضرر، بحسب الزمان والعقول، فلولا الأول ما طلب الفقير شيئا من ترهات الباطلين كالكنوز والكيمياء ونحوهما، مما لا يطلبه إلا من قل دينه وعقله ومروءته وفلاحه.
أما قلة دينه، فإنه لا يخلو في الطلب والعمل والتصريف عن محرم، أقله عدم البيان أو الدلسة. وأما قلة عقله فلاشتغاله بمتوهم لا يدركه غالباً عن محقق أو مظنون يفوت هي الأسباب العادية. وأما قلة مروءته فلأنه ينسب للدلسة والخيانة والسحر إن ظهر عليه. وفي طلب منافع العامة ما لا يخفى من التعرض للأذى والرمي بالقيام ونحوه والله أعلم.
أصل كل أصل من علوم الدنيا والآخرة، مأخوذ من الكتاب والسنة، مدحاً للممدوح، وذماً للمذموم، ووصفاً للمأمور به. ثم للناس في أخذها ثلاث مسالك.
أولها: قوم تعلقوا بالظاهر، مع قطع النظر عن المعنى جملة. وهؤلاء أهل الجحود من الظاهرية، لا عبرة بهم.
الثاني: قوم نظروا لنفس المعنى جمعا بين الحقائق، فتأولوا ما يؤول، وعدلوا ما يعدل، وهؤلاء أهل التحقق من أصحاب المعاني والفقهاء.
الثالث: قوم أثبتوا المعاني، وحققوا المباني، وأخذوا الإشارة من ظاهر اللفظ وباطن المعنى، وهم الصوفية المحققون، والأئمة المدققون، لا الباطنية الذين حملوا الكل عن الإشارة. فهم لم يثبتوا معنى ولا عبارة، فخرجوا عن الملة، ورفضوا الدين كله، نسأل الله العافية بمنه في الدنيا والآخرة.
قاعدة 80
الفرق بين الضروري والحاجي والتكميلي
الضروري: ما لا يؤمن الهلاك بفقده.
والحاجي: ما أدى فقده لخلل غير مستهلك.
والتكميلي: ما كان وجوده أولى من فقده، وذلك يجري في كل شيء يكتسب، فوجبت مراعاة المراتب بتقديم كل على بعده.
فضروري العلم ما لا يؤمن الهلاك مع جهله، وهذا هو المتعين بالوجوب على صاحبه. وحاجيه ما كان فقد نقصا لصاحبه وهو فرض الكفاية منه. وتكميليه ما كان وجوده زيادة في فضيلته كمنطق وفصاحة، وشعر ونحوها.
وواجب العبادات ضروري ومسنونها حاجي، ومندوبها تكميلي، ولكل رتب في أنفسها، فافهم.
قاعدة 81
لا يجوز لأحد أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه
لا يجوز لأحد أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه. قال الشافعي إجماعا لقوله صلى الله عليه وسلم: (العلم إمام العمل، والعمل تابعه). فلزم كل أحد تعلم علم حاله، حسب وسعه بوجه إجمالي يبرأه من الجهل بأصل حكمه إذ لا يلزمه تتبع مسائله، بل عند النازلة والحالة ما يتعلق بها. وما وراء ذلك من فروض الكفاية الذي يحمله من قام به، ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجة فلا عذر في طلبه، فافهم.
قاعدة 82
العامي يسأل ليعمل فحقه أن يذكر النازلة والطالب يسأل ليعلم فحقه أن يسأل عن مسالة بمسالة أخرى
إتيان الشيء من بابه أمكن من تحصيله، فمن ثم قيل: (العامي يسأل ليعمل، فحقه أن يذكر النازلة).
والطالب يسأل ليعلم، فحقه أن يسأل عن مسألة بمسألة أخرى، وعلى العالم أن يبين بيانا يمنع السائل من التأويل.
قلت: وسؤال الطالب كما في الحديث أن عائشة كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه.
وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حوسب عذب).
فقالت عائشة رضي الله عنها: أوليس يقول الله عز وجل {فسوف يحاسب حسابا يسيرا}.
وإجابة العالم مثل قوله عليه الصلاة والسلام في جوابها: (إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب يهلك).
وحقق النووي أنه عليه الصلاة والسلام إنما عاب على الخطيب الذي قال: ومن يعصمها، اختصاره في محل التعليم، لا الجمع بالكناية الذي قد ورد كثيرا والله سبحانه أعلم.
قاعدة 83
لا يُقبل في باب الاعتقاد موهم ولا مبهم ولا يسلم لأحد فيه ويستوي في ذلك الصوفي والفقيه
لا يقبل في باب الاعتقاد موهم ولا مبهم، ولا يسلم لأحد فيه ما وقع منه دون كلام فيه، بل يرد في نفسه بما يصح رد ظاهره به، ثم إن حضر قائله تكلم معه في معناه وحكمه في نفسه وذكره. وإن عدم تأول بما يرده لأصل الحق، إن وافق أصلا شرعيا في إطلاقه وثبتت إمامة قائله كما في رسالة ابن أبي زيد رحمه الله، في مسألة الاستواء وغيره. وليس صوفي بأولى من فقيه، ولا فقيه بأولى من صوفي في ذلك ونحوه، بل الصوفي ربما كان أعذر لضيق العبارة عن مقاصده، وقصر ما تكلم فيه على نوعه ورومه التحقيق بإشارته، فإن سوغ التأويل في أحدهما لزم في الآخر. وإن قيل لا يتأول إلا كلام المعصوم، فتأويل الأئمة كلام مثلهم، ناقض له أو هي مردودة عليهم، أو لكل اجتهاده إذ الخلاف في المسألة بوجود كل ذك يعدد ما لا يحتمل الحق بوحه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قاعدة 84
لا يجوز لأحد أن يتعدى ما انتُهي إليه من العلم الصحيح
لا يجوز لأحد أن يتعدى ما انتُهي إليه من العلم الصحيح، بالوجه الوضاح لما لا علم له به {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}. فالمنكر بعلم كالأخذ به والمتعصب بالباطل كالمنكر لما هو به جاهل، فقد أنكر موسى عليه السلام على الخضر عليه السلام ولم يكن منكرا في حق واحد منهما، إذ كل على حكمه.
فلذلك قال شيخنا أبو العباس الحضرمي رضي الله عنه، بعد كلام ذكره: والجاحد لمن يوحى إليه شيء من هذا الكلام وما يفهمه، هو معذور مسلم، له حاله من باب الضعف والتقصير والسلامة، وهو مؤمن إيمان الخائفين، ومن يفهم شيئا من ذلك فهو لقوة إيمان معه، واتساع دائرة ومشهده واسع، سواء كان معه نور أو ظلمة بحسب ما في القوالب من الودائع الموضوعة على أي صفة كانت وهذا شيء معروف مفهوم. انتهى.
قاعدة 85
ثبوت المزية لا يقضي برفع الأحكام، ولزوم الأحكام الشرعية لا يرفع خصوص المزية
ثبوت المزية لا يقضي برفع الأحكام، ولزوم الأحكام الشرعية لا يرفع خصوص المزية، فمن ثبت عليه حق، أو لزمه حد، وقع عليه مع حفظ حرمته الإيمانية أصلا، فلا يمتهن عرضه إلا بحقه، على قدر الحق المسوغ له، وإن ثبتت مزية دينية، لم ترفع إلا بموجب رفعها.
فالولي ولي وإن أتى حدا أو أقيم عليه، ما لم يخرج لحد الفسق بإصرار وإدمان ينفي ظاهر الحكم عنه بالولاية. لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله. (لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها). وقد أعاذها الله من ذلك، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. فمن ثم أفتى الشبلي بقتل الحلاج، والحريري بضربه وإطالة سجنه. وقال هو في نفسه ما على المسلمين أهم من قتله نصحا للدين من دعاوي الزنادقة، لا إقرارا على نفسه وإعانة على قتله بما علم براءته من حقيقته، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 86
تحقق العلم بالمزية لا يبيح السكوت عند تعين الحق إلا عند العلم بحقيقة ما عليه الفاعل
تحقق العلم بالمزية لا يبيح السكوت عند تعين الحق إلا عند العلم بحقيقة ما عليه الفاعل من غير شك.
ثم إن وقع إنكار فليس بقادح في واحد منهما، إذ كل على علم علمه الله إياه، كما قال الخضر لموسى عليهما السلام في أول أمرهما. وسكوت الثالث، لأن الحكم لغيره مع عدم تعيين الموجب لدخوله من إقامة حد أو غيره، مع احتمال التأويل لما وقع منه أن يكون قد أبيح لعلته التي أبداها في آخر أمره. فلو أتى بأمر لا يباح بوجه فلا تأويل إلا عصيانه أو فسقه، وما لا يباح بوجه هو اللواط، أو الزنا بمعينه، أو إدمان شرب خمر ونحوه لا قتل ، وأخذ مال ونحوه مما له وجه في الإباحة، عند حصول شرطه، وإنما التوقف عند الاحتمال باطنا، ولا توقف في الحكم الظاهر عند تعيينه بوجه صحيح والله أعلم.
قاعدة 87
التوقف في محل الاشتباه مطلوب ومبنى الطريق على ترجيح الظن الحسن وإن ظهر معارض
التوقف في محل الاشتباه مطلوب كعدمه فيما تبين وجهه من خير أو شر، ومبنى الطريق على ترجيح الظن الحسن عند موجبه وإن ظهر معارض. حتى قال ابن فورك رحمه الله: (الغلط في إدخال ألف كافر بشبهة إسلامه، ولا الغلط في إخراج مؤمن واحد بشبهة ظهرت منه). وسئل مالك عن أهل الأهواء: أكفار هم؟ قال: من الكفر هربوا. وأشار عليه السلام للتوقف في الخوارج بقوله: وتتمارى في الفرق. وقال قوم: ما أدى إليه الاجتهاد جزم به، ثم أمر الباطن إلى الله. فمن ثم اختلف في جماعة من الصوفية كابن الفارض، وابن أحلا، والعفيف التلمساني، وابن ذي سكين، وأبي إسحاق التجيبي، والششتري، وابن سبعين، والحاتمي، وغيرهم.
وقد سئل شيخنا أبو عبد الله القوري رحمه الله وأنا اسمع، فقيل له: (ما تقول في ابن العربي الحاتمي؟).
فقال: (أعرف بكل فن، من أهل كل فن).
فقيل له: ما سألناك عن هذا؟
فقال: اختلف فيه من الكفر إلى القطبانية.
قيل له: فما ترجح؟ قال: التسليم.
قلت: لأن التكفير خطر، وتعظيمه ربما عاد على صاحبه بالضرر من جهة اتباع السامع لمبهماته وموهماته، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 88
كمال العبادة بإقامة حدودها الظاهرة والباطنة ومن غير غلو ولا تفريط
كمال العبادة بحفظها والمحافظة عليها، وذلك بإقامة حدودها الظاهرة والباطنة ومن غير غلو ولا تفريط فالمفرط مضيّع، والغالي مبتدع، سيما إن اعتقد القربة في زيادته، فمن ثم قيل: الوسوسة بدعة، واصلها جهل بالسنة، أو خيال في العقل يدفعها دوام ذكر (سبحان الملك الخلاق). {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد. وما ذلك على الله بعزيز}. مع كل ورد والتزام التلهي والأخذ بالرخص، من أقوال العلماء النافية لها لا تتبع الرخص فإنها ضلال بإجماع فافهم.
قاعدة 89
أصل كل خير وشر :اللقمة والخلطة
أصل كل خير وشر اللقمة والخلطة، فكل ما شئت، فمثله تفعل واصحب من شئت فأنت على دينه. قيل: وما أكل بالغفلة استعمل فيها، فاستحبوا لذلك أن يسمى على كل لقمة ويحمد على بلعها.
قال ابن الحاج: وهذا حسن، ولكن التسمية سنة وتكون أولا، والحمدلة آخرا من غير زائد، والسنة أحسن.
فذكرت ذلك لبعض أهل الخير، فقبله، وبقي في نفسي شيء منه، فرددت الكلام معه فيه وقلت وهو معارض لسنة الحديث على الطعام فقال: هذا إن كان معه أحد، فقبلت بحثه، ثم بدا لي فرجعت عن قوله توقفا من السنة الحكم على الاعتياد في حق كل أحد على كل حال. والله سبحانه أعلم.
قاعدة 90
تكلف ما ليس في الوسع جائز عقلا، غير وارد شرعا
تكلف ما ليس في الوسع جائز عقلا، غير وارد شرعا. إذ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. وقد أمر كل مؤمن بطلب الحلال، فوجوده ممكن للكل في كل عصر وقطر لوجود أصوله عموما، ولأن الأرض لا تخلو من ولي وصالح وهو قوتهم، ولا يكلفنا الله بما في علمه، إنما يكلفنا بما نعلم من حيث نعلم. فمن لا يعمل بيده حراما ولا يغلب على ظنه دخوله في ماله بعلامة صحيحة، فلا وجه لاعتقاد الحرام ولا الشبهة فيه. بل قد قيل: المال كالماء، خلق الله هذا حلالا، كما خلق الله هذا طهورا هذا لا ينجسه إلا ما غير وهذا لا يحرمه إلا ما غير. وتفصيل ذلك في كتاب الحلال والحرام من الإحياء وغيره، ولذا أجمعوا على وجوده كما ذكره السهروردي والله سبحانه أعلم.
قاعدة 91
تحريم الخروج عن الإمام بقول أو فعل
حفظ النظام واجب، ومراعاة المصلحة العامة لازم، فلذا أجمعوا على تحريم الخروج عن الإمام، بقول أو فعل حتى أن جز في إجماعهم على الصلاة خلف كل بر وفاجر من الولاة وغيرهم ما لم يكن فسقه في عين الصلاة. وكذا يرون الجهاد مع كل أمير من المسلمين، وإن كان فاجرا لا غيره. وزعم ابن مجاهد إجماع المسلمين، وأنكره ابن حزم، وفيه كلام لهما. والمعول، المنع بكل حال، فلقد قال عليه الصلاة والسلام: (ما سب قوم أميرهم إلا حرموا خيره). وقال عليه الصلاة والسلام (المؤمن لا يذل نفسه). قال ابن عباس: يتعرض للسلطان وليس له منه النصف. وفي الترمذي: (ما مشى قوم إلى السلطان شبرا ليذلوه، إلا أذلهم الله تعالى) إلى غير ذلك مما يطول ذكره. ويجمعه قوله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، والقوم أهرب الناس مما لا يعنى، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 92
محمل كلام القوم في ذم الرخص والتأويلات هو في كل مشكوك الحكم لا في المحقق
العبادة: إقامة ما طلب شرعا من الأعمال الخارجة عن العبادة، أو الداخلة، سواء كان رخصة أو عزيمة، إذا أمر الله فيهما واحد. فليس الوضوء بأولى من التيمم في محله، ولا الصوم بأولى من الإفطار في محله، ولا الإكمال بأولى من القصر في موضوعه. وعليه يتنزل قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يكره أن تترك عزائمه). لا على الرخصة المختلف في حكمها، إذ الورع مطلوب في كل مشكوك الحكم، بخلاف المحقق، فإن تركه تنطع، وعلى هذا الأخير يتنزل كلام القوم في ذم الرخص، والتأويلات، والله أعلم.
قاعدة 93
المقصود موافقة الحق حتى إن كان موافقا للهوى
المقصود موافقة الحق وإن كان موافقا للهوى، حتى قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (إذا وافق الحق الهوى، فذلك الشهد بالزبد). وقد أغرق قوم في مخالفة النفس، حتى خالفوا الحق في طي ذلك. ومنه استئذانهم في الواجب والضروري الذي لا يمكن انفكاكه، وتركهم جملة من السنن، لإلفها مع ترك ما ألفوا منها. وهذا وإن كان مؤثرا في النفس، فهو مثير للباطل وسائر بصاحبه لعكس القصد، نسأل الله العافية.
قاعدة 94
الأجر على قدر الاتباع لا على قدر المشقة و (خير دينكم أيسره)
الأجر على قدر الاتباع، لا على قدر المشقة لفضل الإيمان والمعرفة والذكر والتلاوة على ما هو أشف منها بكثير من الحركات الجسمانية. وقوله عليه الصلاة والسلام: (أجرك على قدر نصبك) إخبار خاص في خاص لا يلزم عمومه. سيما وما خير في أمرين إلا اختار أيسرهما مع قوله: (إن أعلمكم بالله وأتقاكم لله أنا). وكذا جاء: (خير دينكم أيسره) إلى غير ذلك، والله أعلم.
قاعدة 95
التشديد في العبادة منهي عنه، كالتراخي عنها
التشديد في العبادة منهي عنه، كالتراخي عنها. والتوسط: أخذ بالطرفين، فهو أحسن الأمور كما جاء: (خير الأمور أوسطها).
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}. {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}.
قال عليه السلام: (أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر). وكان يقوم من الليل نصفه، وثلثه، وثلثيه، وهو الوسط باعتبار من يأتي على كله، أو لا يقوم منه إلا اليسير. وكذلك رد عبد الله بن عمر للوسط بصيام نصف الدهر وقيام نصف الليل، وختم القرآن في سبع إلى غير ذلك، فلزم التوسط في كل مكتسب، لأنه أرفق بالنفس وأبقى للعبادة.
قاعدة 96
تحديد ما لم يرد في الشرع تحديده ابتداع في الدين إن عارض أصلا شرعيا
تحديد ما لم يرد في الشرع تحديده، ولا أشارت النصوص الشرعية بأمر لا يمكن تركه ما حدد منه، ابتداع في الدين، ولا سيما إن عارض أصلا شرعيا كصيام يومه لفوات ورد ليلته الذي لم يجعل له الشارع كفارة إلا الإتيان به، قبل صلاة الصبح، أو زوال اليوم. وكذا قراءة الفاتحة قبل الصلاة، وتوقيت ورد الصلاة ونحوها، مما لم يرد من الشارع نص فيه، لا ما ورد فيه نص أو أشار إليه، كصلاة الرواتب، وأذكار ما بعد الصلاة، وقراءة القرآن، وصيام النقل، ونحوه مما يكره ترك معتاده ويمنع الاعتداد فيه فافهم.
قاعدة 97
استخراج الشيء من محله يكون بإدخال الضد عليه
استخراج الشيء من محله بإدخال الضد عليه أبدا، فإن تعدد تعدد، وإن اتحد اتحد، حسب سنة الله، لا لزوما في النظر، وإن اقتضاه العقل. فلهذا أمروا المريد في ابتداءه بتعدد الأوراد وإكثارها، نفيا لما في نفسه من آثارها، وعند توسطه بإفراد الورد لإفراد الهم وإفراد الحقيقة. وكل هذا بعد حفظ الورد الشرعي، ذكرا أو غيره حسبما ورد عموما والله أعلم.
قاعدة 98
ما رُكب في الطباع معين للنفس على ما تريد حسب قواها
ما ركب في الطباع معين للنفس على ما تريد حسب قواها. فلذا قيل: إذا علم الصغير ما تميل إليه نفسه من المباحات، خرج إماما فيها. وإذا انتحل المريد ما ترجحه حقيقته من الأذكار والأوراد، كان معينا على مقصده بدوامه. فإنه ما قصر جسد عن مهمته ويعين الله العبد على قدر نيته. ما دخل بانبساط كان أدعى للدوام. وقد أشار لهذه الجملة في تاج العروس، وتكلم عليها الشيخ ابن أبي جمرة في حديث حذيفة إذ قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير). والله أعلم.
قاعدة 99
طلب الشيء بوجه واحد مع الإلحاح أقرب لنواله
طلب الشيء بوجه واحد مع الإلحاح أقرب لنواله، وأدعى لدوام سببه المطلوب في نفسه لإفراد الحقيقة له، فلزم التزام ورده لا تنتقل عنه حتى تحصل نتائجه، وإلا فالمنتقل قبل الفتح كحافر بئر لا يدم على محل واحد، كالمقطر قطرة، على كل محل يريد تأثير المحل بالنظر أثرا يظهر لعمله مع ذلك أثر. قيل: والدوام في الشيء زيادة فيه باعتبار العمر، لا باعتبار العدد ومن استوى يومه هو الذي لم يعمل فيهما شيئا ومن احتوى أمسه على خلاف يومه فهو المحروم فإنه ليس عنده إلا عمل أمسه والله أعلم.
قاعدة 100
دوام الشيء بدوام ما رتب عليه، وثوابه على قدر نيته
دوام الشيء بدوام ما رتب عليه، وثوابه على قدر نيته، ورتبته على قدر التقرب به. والله تعالى دائم الربوبية فأحكام عبوديته دائمة على خلقه لا ترتفع عنهم وأجل العباد عنده من عبده، لأنه أهل للعبادة، مع رجائه والخوف منه أو الهيبة أو الحياء ونحوه فافهم والله سبحانه أعلم.
قاعدة 101
رب فضل أدى لفضول كثيرة فصار المحمود في الجملة مذموما بالنسبة
العائدة على قدر الفائدة، وهي معتبرة بأنفسها ومقاصدها، لا أعدادها، إذ رب فضل أدى لفضول كثيرة فصار المحمود في الجملة مذموماً بالنسبة كتتبع الفضائل. والعمل في المنافع العامة، مؤد لأعظم الضرر، بحسب الزمان والعقول، فلولا الأول ما طلب الفقير شيئا من ترهات الباطلين كالكنوز والكيمياء ونحوهما، مما لا يطلبه إلا من قل دينه وعقله ومروءته وفلاحه.
أما قلة دينه، فإنه لا يخلو في الطلب والعمل والتصريف عن محرم، أقله عدم البيان أو الدلسة. وأما قلة عقله فلاشتغاله بمتوهم لا يدركه غالباً عن محقق أو مظنون يفوت هي الأسباب العادية. وأما قلة مروءته فلأنه ينسب للدلسة والخيانة والسحر إن ظهر عليه. وفي طلب منافع العامة ما لا يخفى من التعرض للأذى والرمي بالقيام ونحوه والله أعلم.
16151413121110987654 32 1
الكلمات المفتاحية :
التصوف
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: