قواعد التصوف احمد زروق 13
محبة الناس للعبد على قدر زهده فيما بأيديهم
معونة الله للعبد على قدر عجزه عن مصالحه، وتوصيل منافعه، ودفع مضاره. ومحبة الناس له، على قدر بعده عن المشاركة لهم فيما هم فيه. فمن ثم قويت محبة الناس في الصبيان والبهاليل، وآثروا الزهاد وأهل الخلوات على العلماء، والعارفين، وإن كانوا أفضل عند صحيح النظر.
وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الأصل بقوله: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس). فدله على الوقوف في باب الله بلا واسطة ونفي الدنيا لتحقق العجز فافهم، والله سبحانه اعلم.
ألسنة الخلق، أقلام الحق
ألسنة الخلق، أقلام الحق. فثناؤهم عليه بما يرتضيه الحق ثناء من الحق عليه بذلك. فإن كان فيه فالثناء منه، وإلا فهو تنبيه وثناء، إن شكره بالقيام بحقه أتمه عليه وزاده منه وإلا سلبه عنه. والمعتبر الإطلاق العام. وما في النفوس لا ما يقع من الطعن بالجحود الذي يدل على بطلانه فقدا لترجمة المترجم، واضطراب القائل في قوله، ويظهر ذلك بارتفاع موجب النكير كالموت ونحوه. وقد صح: (إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل) الحديث.
فيعتبر الحب بالقبول عند اللقاء ونحوه، وإلا فالعارض لا يدفع الحقيقة، والله سبحانه اعلم، فافهم.
قبول أهل الخير العطاء من إخوانهم
إكرام الرجل لدينه إن قصد به وجه الله في معاملته، واستجلاب مودته لغرض ديني، فذلك من نسبة الحق في وجوده. فلذلك قبل أهل الخير من إخوانهم والسلف من أمثالهم. ومعياره بعد تحول النية (عند) فقد الخاصية، إذ المعامل غير مضيع أجر من عامله، وإن كان لمجرد الحياة والتعظيم والنظر للمنصب ونحوه، فهو الأكل بالدين الذي نهى عنه.
وفي الإكمال: أن الذي يأكل بدينه أحد الغاصبين ومن يوهم بالديانة على غير حقيقة إلى غير ذلك، وقد كان بعضهم إذا أوتي بشيء قال: (أمسكه عندك، وانظر هل تبقى نيتك بعد أخذه، كهي قبل ذلك فائتني به، وإلا فلا).
والعمل بمثل هذه الحكاية عسير فالوجه التوقف في القبول على تقدير ذلك في الوجود والله سبحانه اعلم.
وقال الجنيد رحمه الله لذلك الرجل الذي أتاه بألف دينار: (فرقها على المساكين). فقال: أنا أعلم منك بهم، ولكن أتيتك بها لتأكلها في الخلوات ونحوها. فقال: من مثلك يقبل. قال: ولمثلك يعطى. وقال بعض المشايخ: لا تأخذ إلا ممن يكون إعطاؤه إياك أحب من إمساكه، أو كلاهما هذا معناه والله سبحانه اعلم.
لا تمدحن أحدا إلا من حيث مدحه الله
قبول مدح الخلق والنفرة من ذمهم، إن أوجب خروجا عن الحق في الجانبين دل على الاستناد إليهم فيه، وذلك خروج عن الحقيقة التي هي النظر إلى الله تعالى في المدح والذم، بان لا تتجاوز الحق في مدح مادح، ولا في ذم ذام، حتى أنه لو مدحك من شأنه الذم، لاقتصرت على مقدار ما واجهك به، وما علمته من أوصافه المحمودة من غير تغرير، ولو ذمك من شأنه المدح لم يخرجك ذلك عن إقامة حقه بمدحه وهذا جار في العطاء والمنع. فلا تمدحن أحدا إلا من حيث مدحه الله، ولا تذمن أحدا، إلا من حيث ذمه الله. والله سبحانه اعلم، فافهم.
إظهار الكرامة وإخفاؤها على حسب النظر لأصلها وفرعها
إظهار الكرامة وإخفاؤها على حسب النظر لأصلها وفرعها فمن عبر من بساط إحسانه أصمتته الإساءة مع ربه، ومن عبر من بساط إحسان الله، لم يصمت إذا أساء. وقد صح: (إظهار الكرام من قوم وثبت العمل في إخفائها من قوم كالشيخ أبي العباس المرسي في الإظهار وابن أبي جمرة في الإخفاء رضي الله عنهما حتى قال بعض تلامذة ابن أبي جمرة: طريقهما مختلف. فبلغ ذلك شيخه، فقال: والله ما اختلفت قط طريقنا لكنه بسطه العلم، وأنا قبضني الورع. وهذا فصل الخطاب في بابه، والله سبحانه اعلم.
قبول تبرك الناس
ما رتب من الأحكام على ما في النفس، وما لا علم به إلا من قبل إعلام الشخص، ففقهه فيه منه بعد تحقيق حكم الأصل. ومن ذلك وجود التبرك. فمن علم من نفسه وجود التكبر والنظر لها، وعظم دعواها وتصديقها للتعظيم، تعين عليه عدم القبول. ومن غلب عليه حسن الظن باله (له) ببركة العباد المتوجهين لهو وحسن الظن بهم في أنفسهم، فله قبول ذلك في محله. ومن غلب عليه سوء الظن بنفسه، وحسن الظن بالناس أو إطلاق أمرهم فالمنع مضر به لتمكن دعواها وإيثارة شررها، وربما كان العكس فليعتبر ذلك من بلى به كأنه عروس بكر مفتضة من زنا، تنتظر الستر، فإن كان حصل الخير للجميع، وإلا فليس على أصحاب الوليمة عيب. والله اعلم.
الله يقضي للأولياء حوائج الخلق غيرة على قلوبهم من الانشغال بغيره
غيرة الحق على أوليائه من سكون غيره قلوبهم. وشغلهم بالغير عنه هو الموجب لقضاء ما تهمموا به من حوائجهم وحوائج غيرهم، حتى قيل: إن الولي إذا أراد أغنى، ومنه قول الناس له:"خاطرك" أي ليكن بالك، لعل الله أن ينظر إلي فيما أنا فيه، فيريح خاطرك مني. ومن ثم كان أكثر الأولياء في بدايتهم يسرع أثر مقاصدهم في الوجود لاشتغالهم بما يعرض، بخلاف النهاية، فإن الحقيقة مانعة من اشتغال قلوبهم، بغير مولاهم إلا من حيث أمرهم، فينتفع بهم المريدون في طلب الحق لا غيرهم كما يحكى عن الشيخ أبي مدين رحمه الله انه كان يفتح للناس على يده ويصعب عليه أقل حاجاته، وقد قيل: إنما هما اثنان، ولي وصفي.
فالولي: من يتحقق له كل ما يريد.
والصفي: من يتسلط على قلبه الرضا بما يجري، فافهم.
انفراد الحق تعالى بالكمال قاض بثبوت النقص لمن سواه
انفراد الحق تعالى بالكمال قاض بثبوت النقص لمن سواه فلا يوجد كامل إلا بتكميله تعالى، وتكميله من فضله. فالنقص أصل، والكمال عارض. وبحسب هذا، فطلب الكمال في الوجود على وجه الأصالة باطل. ومن ثم قيل: انظر للخلق بعين الكمال، واعتبر في وجودهم النقص. فإن ظهر الكمال يوما ما فهو فضل، وإلا فالأصل هو الأول، وبذلك يقع الاحتراز وحسن الظن، ودوام العشرة، وعدم المبالاة بالعثرة، وكذا معاملة الدنيا كما قال الجنيد رحمه الله، إذ قال: (أصلت أصلا، لا أتشبع بعده ما يرد علي من العالم، وهو أن الدنيا دار هم وغم وبلاء وفتنة). وأن العالم كله شر. ومن حكمه أن يتلقاني بكل ما أكره فإن تلقاني بكل ما أحب فهو فضل، وإلا فالأصل هو الأول. انتهى بمعناه وهو عجيب والله اعلم.
جواب على مسالة الغني الشاكر والفقير الصابر
الفقر والغنى وصفان وجوديان، يصح اتصاف الحق بالثاني منهما دون الأول، فلزم فضله عليه.
ثم هل تعلق العبد بوصف ربه أولى أو تحققه بوصفه أتم؟ وهي مسألة الغني الشاكر، والفقير الصابر، وللناس فيها طريقان، والحق أن كلا منهما مضمن بالآخر، فلا تفاضل، وقد اختار كلا مهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أجوع يوما وأشبع يوما) الحديث، فافهم.
من الناس من يغلب الغنى بالله فتظهر عليه الكرامات وينطق لسانه بالدعوى
من الناس من يغلب الغنى بالله، فتظهر عليه الكرامات، وينطق لسانه بالدعوى من غير احتشام ولا توقف، فيدعى بحق عن حق، لحق في حق، كالشيخ أبي محمد عبد القادر الجيلاني، وأبي يعزى وعامة متأخري الشاذلية.
ومنهم من يغلب عليه الفقر إلى الله، فيكل لسانه، ويتوقف مع جانب الورع، كابن أبي جمرة وغيره. ومن الناس من تختلف أحواله فتارة وتارة، وهو أكمل الكمال، لأنه حاله صلى الله عليه وسلم، إذا أطعم ألفا من صاع، وشد الحجر على بطنه، فافهم.
النهي عن إضاعة المال
ملك العبد لما بيده من أعراض الدنيا غير متحقق له، بل إنما هو خازن فيه لقصره عليه تصرفا وانتفاعا دون غيره. ومن ثم حرم الله الإقتار والإسراف حتى عد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنجيات: القصد في الغنى والفقر. ونهى عليه السلام عن إضاعة المال إلى غير ذلك. فمن ثم قال لنا شيخنا أبو العباس الحضرمي رضي الله عنه: ليس الشأن من يعرف كيفية تفريق الدنيا فيفرقها، إنما الشأن من يعرف كيفية إمساكها فيمسكها.
قلت: وذلك لأنها كالحية ليس الشأن في قتلها أنما الشأن في إمساكها وهي حية.
وفي الحديث: (ليس الزهد بتحريم الحلال، ولا بإضاعة المال، إنما الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك).
وقال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه: (الدنيا جرادة ورأسها حبها، فإذا قطع رأس الجرادة حلت).
وقال الشيخ أبو محمد عبد القادر رضي الله عنه لما سئل عن الدنيا: (أخرجها من قلبك، واجعلها في يدك، فإنها لا تضرك) انتهى.
وكل هذه الجمل تدل على أن الزهد فيها ليس عين تركها. فافهم.
الزهد في الشيء برودته عن القلب
الزهد في الشيء برودته عن القلب، حتى لا يعتبر في وجوده، ولا في عدمه. فمن ثم قال الشاذلي رضي الله عنه: (والله لقد عظمتها إذ زدهت فيها). قلت: يعني بالظاهر، لأن الإعراض عنها تعظيم لها وتعظيم للمظاهر بتركها كما أشار إليها ابن العريف في مجالسه، والهروي في مقاماته.
وقد قال أيضا رضي الله عنه: رأيت الصديق في المنام فقال لي: علامة خروج حب الدنيا من القلب بذلها عند الوجد. ووجود الراحة منها عند الفقد، كحال الصحابة رضي الله عنهم، إذ لم ينظروا إليها عند الفقد، ولا شغلتهم عند الوجد: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار} وقال: لا يبيعون ولا يتجرون.
وقد أدب الله تعالى الأغنياء بقوله: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا). الآية.
وأدب الله الفقراء بقوله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن، واسألوا الله من فضله، إن الله كان بكل شيء عليما). وذلك لا يقتضي عينا ولا وقتا فلزم التزام كل ما أمر الله به، فافهم.
ذم الدنيا أو مدحها
ما ذم لا لذاته، قد يمدح لا لذاته. ومنه وجود المال والجاه والرياسة ونحو ذلك مما ليس بمذموم لذاته، ولا محمود في ذاته، بل يحمد ويذم لما يعرضه له، ولذلك ذم صلى الله عليه وسلم الدنيا بقوله: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله)، ومدحها بقوله: (فنعمة مطية المؤمن). وأثنى سبحانه على قوم طلبوا الرياسة الدينية إذ قالوا: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما).
فكان ابن عمر يقول: اللهم اجعلني إماما للمتقين.
قال مالك رحمه الله: ثواب المتقين عظيم، فكيف بإمامهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أسألك رحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة).
وقال ذلك الرجل له عليه الصلاة والسلام: (دلني على عمل إن عملته أحبني الله، وأحبني الناس، فقال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس). الحديث.
وقال يوسف الصديق صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع النبيين والمرسلين: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)، إلى غير ذلك. فلزم اعتبار النسب وتحقيق المقام باحة ومنعا. والمحاشاة اقرب لسلامة الضعيف من باب ضعفه لا لخلل في ذات الحكم إذا الأصل الإباحة.
ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: (انك رجل ضعيف، وانك إن طلبت الإمارة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها) فافهم.
ليس من شان الصوفي تعظيم الخلق بوجه ولا بحال
لا يباح ممنوع لدفع مكروه، ولا مباح يخشى منه دون التحقق بالوقوع في ممنوع أعظم منه، لا مندوحة عنه.
فمن ثم لا يجوز لأحد أن يجعل دفعه بمحرم. متفق عليه. ثم له في المختلف فيه مندوحة وإن خف الخلاف فيه وتعذر المكروه عليه بعد تعذر ذلك، فالمباح المستبشع كقصة لص الحمام ونحوه، لا قصة الشاهد إذ لم تقع، وإنما ذكر له الشرط اختبارا لعظمة نفسه حتى ظهر له علة منعه.
وقياس المسألة بمن غص بلقمة لا يجد لها مساغا إلا جرعة خمر، لا يصح إذ تفوته به الحياة التي ينتفع بها وجوده، فيكون قد أعان على قتل نفسه وتعطيل حياته من واجبات عمره بخلاف ذلك، فإنما يفوته به الكمال لا غير. ومقصد القوم بذلك، الفرار من نفوسهم، لا التستر من الخلق، لأن التستر منهم تعظيم لهم، فعاد الأمر عودا على بدئه، وليس من شأن الصوفي تعظيم الخلق بوجه ولا بحال، فافهم.
من أراد الظهور فهو عبد الظهور ومن أراد الخفاء فهو عبد الخفاء
إفراد القلب لله تعالى مطلوب بكل حال، فلزم نفي الرياء بالإخلاص ونفي العجب بشهود المنة، ونفي الطمع بوجود التوكل، ومدار الكل على سقوط الخلق من نظر العبد. فلذلك قال سهل بن عبد الله رضي الله عنه: (لا يبلغ العبد حقيقة من هذا الأمر حتى تسقط نفسه من عينه فلا يرى في الدارين إلا هو وربه، أو يسقط الخلق من عينه فلا يبالي بأي حال يرونه).
قلت: فلذلك ينتفي عنه كل شيء من ذلك، وإلا دخل الرياء عليه من حيث لا ينظر الخلق إليه، باستشرافه لعلم الخلق بخصوصيته.
وقد قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: من أراد الظهور، فهو عبد الظهور، ومن أراد الخفاء، فهو عبد الخفاء وعبد الله سواء عليه أظهره أو أخفاه. انتهى وهو لباب هذا الباب.
إذا صح أصل القصد فالعوارض لا تضر
إذا صح أصل القصد فالعوارض لا تضر، كما قال مالك رحمه الله في الرجل يحب أن يرى في طريق المسجد، ولا يحب أن يرى في طريق السوق. وفي الرجل يأتي المسجد، فيجد الناس قد صلوا، فيرجع معهم حياء.
وكما قال صلى الله عليه وسلم في الرجل: (يحب جمال نعله وثوبه).
ومن ثم قال سفيان الثوري رضي الله عنه: (إذا جاءك الشيطان في الصلاة فقال: انك مراء فزده طولا).
وقال الفضيل رحمه الله: (العمل لأجل الناس شرك، وترك العمل لأجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله منهما) انتهى.
وفي طيه أن الرياء يقع بالترك كالفعل، واشتقاقه من الرؤية، رؤية المرائي للخلق في رؤيتهم له، ولولا ذلك لما صح منه في الخلوة، ثم هو فيما قصد للعبادة لا فبما قصد به الخلق مجردا، فانه الشرك الأعظم أو قريب منه والله تعالى اعلم.
نفي الخواطر بإقامة الحجة على إبطالها يمكنها في النفس ودفعها يكون بالتلهي عنها
قصد نفي الخواطر بإقامة الحجة على إبطالها يزيدها تمكينا في النفس لسبقها وقيام صورتها في الخيال. فظهر أن دفعها إنما هو بتسليمها والتلهي عنها في أي باب كانت ومن ثم قال سفيان: (فزده طولا).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليقل الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة).
ويقال: (الشيطان كالكلب، إن اشتغلت بمقاومته مزق الإهاب، وقطع الثياب، وإن رجعت إلى ربه صرفه عنك برفق).
وقد جاءني ليلة في بعض الصلوات وقال: انك مراء، فعارضته بوجوه، فلم يرجع حتى فتح الله بتسليم دعواه وطردها في كل أعمالي بحيث قلت: (إثبات الرياء في هذه إثبات للإخلاص في غيرها، وكل أعمالي معيبة وهذا غاية المقدور، فانصرف عني في ذلك الوقت ولله الحمد).
إظهار العمل وإخفاؤه عند تحقق الإخلاص مستو
إظهار العمل وإخفاؤه، عند تحقق الإخلاص مستو، وقيل وجود تحققه مقو لرؤية الخلق. وقد جاء طلبه شرعاً من غير إشعار بشيء من وجوه الإخلاص ولا الرياء، فظهر أن مراعاته لخوف التلوين، ولراحة القلب من مكابدة الإظهار في العموم، ولحسم مادة ما يعرض أثناءه.
وقيل: وتفضيل النافلة لما علل به صلى الله عليه وسلم من قوله: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم فإن الله جاعل منها في بيوتكم بركة ولا تتخذوها قبورا) والله سبحانه اعلم.
بين المداهنة والمداراة والهدية والرشوة
المداهنة: دفع الباطل والحق بالباطل المشبه للحق.
والمدارات: دفع الباطل بوجه مباح، وكذا إثبات الحق سواء كان لك أو لغيرك وقد صح أن المدارات صدقة، وقد صح: (من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له من اجلها هدية، فقد فتح على نفسه بابا عظيما من الربا). والفرق بين الهدية والرشوة، ما قصد للمودة فهو الهدية إن تجرد، وما قصد لجر نفع غير ديني، ولا في مال الشخص ونفسه، بل للإعانة فرشوة. وهذه الأربع يخفى إدراكها على حذاق العلماء في آحاد المسائل فتعين الورع فيها والله سبحانه اعلم.
الخُلق: هيئة راسخة في النفس
الخُلُق: هيئة راسخة في النفس، تنشأ عنها الأمور بسهولة فحسنها حسن وقبيحها قبيح، فهي تجري في المضادات كالبخل والسخاء والتواضع والكبر والحرص والقناعة والحقد وسلامة الصدر والحسد والتسليم والطمع والتعزز والانتصار والسماح، إلى غير ذلك فافهم.
السخي من سَهُل عليه العطاء ولو لم يعط شيئا
الأخلاق النفسانية لا تعتبر بالعوارض الخارجة إلا من حيث دلالتها عليها. وقد ظهر أن البخل ثقل العطاء على النفس، والسخاء خفته.
فالبخيل: من ثقل عليه العطاء ولو لم يبق لنفسه شيئا.
والسخي: من سهل عليه العطاء ولو لم يعط شيئا.
ومن ثم قيل: إذا تقابل العارضان فالتردد بينهما بخل.
والكبر: اعتقاد المزية وإن كان في أدنى درجات الضعة والتواضع عكسه. ولولا ذلك ما صح كون العائل مستكبرا، حتى ذم به ثم كذلك. فافهم هذا، وتتبعه من كتب الأئمة تجده مستوفى، والله سبحانه اعلم.
معونة الله للعبد على قدر عجزه عن مصالحه، وتوصيل منافعه، ودفع مضاره. ومحبة الناس له، على قدر بعده عن المشاركة لهم فيما هم فيه. فمن ثم قويت محبة الناس في الصبيان والبهاليل، وآثروا الزهاد وأهل الخلوات على العلماء، والعارفين، وإن كانوا أفضل عند صحيح النظر.
وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الأصل بقوله: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس). فدله على الوقوف في باب الله بلا واسطة ونفي الدنيا لتحقق العجز فافهم، والله سبحانه اعلم.
ألسنة الخلق، أقلام الحق
ألسنة الخلق، أقلام الحق. فثناؤهم عليه بما يرتضيه الحق ثناء من الحق عليه بذلك. فإن كان فيه فالثناء منه، وإلا فهو تنبيه وثناء، إن شكره بالقيام بحقه أتمه عليه وزاده منه وإلا سلبه عنه. والمعتبر الإطلاق العام. وما في النفوس لا ما يقع من الطعن بالجحود الذي يدل على بطلانه فقدا لترجمة المترجم، واضطراب القائل في قوله، ويظهر ذلك بارتفاع موجب النكير كالموت ونحوه. وقد صح: (إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل) الحديث.
فيعتبر الحب بالقبول عند اللقاء ونحوه، وإلا فالعارض لا يدفع الحقيقة، والله سبحانه اعلم، فافهم.
قبول أهل الخير العطاء من إخوانهم
إكرام الرجل لدينه إن قصد به وجه الله في معاملته، واستجلاب مودته لغرض ديني، فذلك من نسبة الحق في وجوده. فلذلك قبل أهل الخير من إخوانهم والسلف من أمثالهم. ومعياره بعد تحول النية (عند) فقد الخاصية، إذ المعامل غير مضيع أجر من عامله، وإن كان لمجرد الحياة والتعظيم والنظر للمنصب ونحوه، فهو الأكل بالدين الذي نهى عنه.
وفي الإكمال: أن الذي يأكل بدينه أحد الغاصبين ومن يوهم بالديانة على غير حقيقة إلى غير ذلك، وقد كان بعضهم إذا أوتي بشيء قال: (أمسكه عندك، وانظر هل تبقى نيتك بعد أخذه، كهي قبل ذلك فائتني به، وإلا فلا).
والعمل بمثل هذه الحكاية عسير فالوجه التوقف في القبول على تقدير ذلك في الوجود والله سبحانه اعلم.
وقال الجنيد رحمه الله لذلك الرجل الذي أتاه بألف دينار: (فرقها على المساكين). فقال: أنا أعلم منك بهم، ولكن أتيتك بها لتأكلها في الخلوات ونحوها. فقال: من مثلك يقبل. قال: ولمثلك يعطى. وقال بعض المشايخ: لا تأخذ إلا ممن يكون إعطاؤه إياك أحب من إمساكه، أو كلاهما هذا معناه والله سبحانه اعلم.
لا تمدحن أحدا إلا من حيث مدحه الله
قبول مدح الخلق والنفرة من ذمهم، إن أوجب خروجا عن الحق في الجانبين دل على الاستناد إليهم فيه، وذلك خروج عن الحقيقة التي هي النظر إلى الله تعالى في المدح والذم، بان لا تتجاوز الحق في مدح مادح، ولا في ذم ذام، حتى أنه لو مدحك من شأنه الذم، لاقتصرت على مقدار ما واجهك به، وما علمته من أوصافه المحمودة من غير تغرير، ولو ذمك من شأنه المدح لم يخرجك ذلك عن إقامة حقه بمدحه وهذا جار في العطاء والمنع. فلا تمدحن أحدا إلا من حيث مدحه الله، ولا تذمن أحدا، إلا من حيث ذمه الله. والله سبحانه اعلم، فافهم.
إظهار الكرامة وإخفاؤها على حسب النظر لأصلها وفرعها
إظهار الكرامة وإخفاؤها على حسب النظر لأصلها وفرعها فمن عبر من بساط إحسانه أصمتته الإساءة مع ربه، ومن عبر من بساط إحسان الله، لم يصمت إذا أساء. وقد صح: (إظهار الكرام من قوم وثبت العمل في إخفائها من قوم كالشيخ أبي العباس المرسي في الإظهار وابن أبي جمرة في الإخفاء رضي الله عنهما حتى قال بعض تلامذة ابن أبي جمرة: طريقهما مختلف. فبلغ ذلك شيخه، فقال: والله ما اختلفت قط طريقنا لكنه بسطه العلم، وأنا قبضني الورع. وهذا فصل الخطاب في بابه، والله سبحانه اعلم.
قبول تبرك الناس
ما رتب من الأحكام على ما في النفس، وما لا علم به إلا من قبل إعلام الشخص، ففقهه فيه منه بعد تحقيق حكم الأصل. ومن ذلك وجود التبرك. فمن علم من نفسه وجود التكبر والنظر لها، وعظم دعواها وتصديقها للتعظيم، تعين عليه عدم القبول. ومن غلب عليه حسن الظن باله (له) ببركة العباد المتوجهين لهو وحسن الظن بهم في أنفسهم، فله قبول ذلك في محله. ومن غلب عليه سوء الظن بنفسه، وحسن الظن بالناس أو إطلاق أمرهم فالمنع مضر به لتمكن دعواها وإيثارة شررها، وربما كان العكس فليعتبر ذلك من بلى به كأنه عروس بكر مفتضة من زنا، تنتظر الستر، فإن كان حصل الخير للجميع، وإلا فليس على أصحاب الوليمة عيب. والله اعلم.
الله يقضي للأولياء حوائج الخلق غيرة على قلوبهم من الانشغال بغيره
غيرة الحق على أوليائه من سكون غيره قلوبهم. وشغلهم بالغير عنه هو الموجب لقضاء ما تهمموا به من حوائجهم وحوائج غيرهم، حتى قيل: إن الولي إذا أراد أغنى، ومنه قول الناس له:"خاطرك" أي ليكن بالك، لعل الله أن ينظر إلي فيما أنا فيه، فيريح خاطرك مني. ومن ثم كان أكثر الأولياء في بدايتهم يسرع أثر مقاصدهم في الوجود لاشتغالهم بما يعرض، بخلاف النهاية، فإن الحقيقة مانعة من اشتغال قلوبهم، بغير مولاهم إلا من حيث أمرهم، فينتفع بهم المريدون في طلب الحق لا غيرهم كما يحكى عن الشيخ أبي مدين رحمه الله انه كان يفتح للناس على يده ويصعب عليه أقل حاجاته، وقد قيل: إنما هما اثنان، ولي وصفي.
فالولي: من يتحقق له كل ما يريد.
والصفي: من يتسلط على قلبه الرضا بما يجري، فافهم.
انفراد الحق تعالى بالكمال قاض بثبوت النقص لمن سواه
انفراد الحق تعالى بالكمال قاض بثبوت النقص لمن سواه فلا يوجد كامل إلا بتكميله تعالى، وتكميله من فضله. فالنقص أصل، والكمال عارض. وبحسب هذا، فطلب الكمال في الوجود على وجه الأصالة باطل. ومن ثم قيل: انظر للخلق بعين الكمال، واعتبر في وجودهم النقص. فإن ظهر الكمال يوما ما فهو فضل، وإلا فالأصل هو الأول، وبذلك يقع الاحتراز وحسن الظن، ودوام العشرة، وعدم المبالاة بالعثرة، وكذا معاملة الدنيا كما قال الجنيد رحمه الله، إذ قال: (أصلت أصلا، لا أتشبع بعده ما يرد علي من العالم، وهو أن الدنيا دار هم وغم وبلاء وفتنة). وأن العالم كله شر. ومن حكمه أن يتلقاني بكل ما أكره فإن تلقاني بكل ما أحب فهو فضل، وإلا فالأصل هو الأول. انتهى بمعناه وهو عجيب والله اعلم.
جواب على مسالة الغني الشاكر والفقير الصابر
الفقر والغنى وصفان وجوديان، يصح اتصاف الحق بالثاني منهما دون الأول، فلزم فضله عليه.
ثم هل تعلق العبد بوصف ربه أولى أو تحققه بوصفه أتم؟ وهي مسألة الغني الشاكر، والفقير الصابر، وللناس فيها طريقان، والحق أن كلا منهما مضمن بالآخر، فلا تفاضل، وقد اختار كلا مهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أجوع يوما وأشبع يوما) الحديث، فافهم.
من الناس من يغلب الغنى بالله فتظهر عليه الكرامات وينطق لسانه بالدعوى
من الناس من يغلب الغنى بالله، فتظهر عليه الكرامات، وينطق لسانه بالدعوى من غير احتشام ولا توقف، فيدعى بحق عن حق، لحق في حق، كالشيخ أبي محمد عبد القادر الجيلاني، وأبي يعزى وعامة متأخري الشاذلية.
ومنهم من يغلب عليه الفقر إلى الله، فيكل لسانه، ويتوقف مع جانب الورع، كابن أبي جمرة وغيره. ومن الناس من تختلف أحواله فتارة وتارة، وهو أكمل الكمال، لأنه حاله صلى الله عليه وسلم، إذا أطعم ألفا من صاع، وشد الحجر على بطنه، فافهم.
النهي عن إضاعة المال
ملك العبد لما بيده من أعراض الدنيا غير متحقق له، بل إنما هو خازن فيه لقصره عليه تصرفا وانتفاعا دون غيره. ومن ثم حرم الله الإقتار والإسراف حتى عد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنجيات: القصد في الغنى والفقر. ونهى عليه السلام عن إضاعة المال إلى غير ذلك. فمن ثم قال لنا شيخنا أبو العباس الحضرمي رضي الله عنه: ليس الشأن من يعرف كيفية تفريق الدنيا فيفرقها، إنما الشأن من يعرف كيفية إمساكها فيمسكها.
قلت: وذلك لأنها كالحية ليس الشأن في قتلها أنما الشأن في إمساكها وهي حية.
وفي الحديث: (ليس الزهد بتحريم الحلال، ولا بإضاعة المال، إنما الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك).
وقال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه: (الدنيا جرادة ورأسها حبها، فإذا قطع رأس الجرادة حلت).
وقال الشيخ أبو محمد عبد القادر رضي الله عنه لما سئل عن الدنيا: (أخرجها من قلبك، واجعلها في يدك، فإنها لا تضرك) انتهى.
وكل هذه الجمل تدل على أن الزهد فيها ليس عين تركها. فافهم.
الزهد في الشيء برودته عن القلب
الزهد في الشيء برودته عن القلب، حتى لا يعتبر في وجوده، ولا في عدمه. فمن ثم قال الشاذلي رضي الله عنه: (والله لقد عظمتها إذ زدهت فيها). قلت: يعني بالظاهر، لأن الإعراض عنها تعظيم لها وتعظيم للمظاهر بتركها كما أشار إليها ابن العريف في مجالسه، والهروي في مقاماته.
وقد قال أيضا رضي الله عنه: رأيت الصديق في المنام فقال لي: علامة خروج حب الدنيا من القلب بذلها عند الوجد. ووجود الراحة منها عند الفقد، كحال الصحابة رضي الله عنهم، إذ لم ينظروا إليها عند الفقد، ولا شغلتهم عند الوجد: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار} وقال: لا يبيعون ولا يتجرون.
وقد أدب الله تعالى الأغنياء بقوله: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا). الآية.
وأدب الله الفقراء بقوله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن، واسألوا الله من فضله، إن الله كان بكل شيء عليما). وذلك لا يقتضي عينا ولا وقتا فلزم التزام كل ما أمر الله به، فافهم.
ذم الدنيا أو مدحها
ما ذم لا لذاته، قد يمدح لا لذاته. ومنه وجود المال والجاه والرياسة ونحو ذلك مما ليس بمذموم لذاته، ولا محمود في ذاته، بل يحمد ويذم لما يعرضه له، ولذلك ذم صلى الله عليه وسلم الدنيا بقوله: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله)، ومدحها بقوله: (فنعمة مطية المؤمن). وأثنى سبحانه على قوم طلبوا الرياسة الدينية إذ قالوا: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما).
فكان ابن عمر يقول: اللهم اجعلني إماما للمتقين.
قال مالك رحمه الله: ثواب المتقين عظيم، فكيف بإمامهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أسألك رحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة).
وقال ذلك الرجل له عليه الصلاة والسلام: (دلني على عمل إن عملته أحبني الله، وأحبني الناس، فقال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس). الحديث.
وقال يوسف الصديق صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع النبيين والمرسلين: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)، إلى غير ذلك. فلزم اعتبار النسب وتحقيق المقام باحة ومنعا. والمحاشاة اقرب لسلامة الضعيف من باب ضعفه لا لخلل في ذات الحكم إذا الأصل الإباحة.
ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: (انك رجل ضعيف، وانك إن طلبت الإمارة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها) فافهم.
ليس من شان الصوفي تعظيم الخلق بوجه ولا بحال
لا يباح ممنوع لدفع مكروه، ولا مباح يخشى منه دون التحقق بالوقوع في ممنوع أعظم منه، لا مندوحة عنه.
فمن ثم لا يجوز لأحد أن يجعل دفعه بمحرم. متفق عليه. ثم له في المختلف فيه مندوحة وإن خف الخلاف فيه وتعذر المكروه عليه بعد تعذر ذلك، فالمباح المستبشع كقصة لص الحمام ونحوه، لا قصة الشاهد إذ لم تقع، وإنما ذكر له الشرط اختبارا لعظمة نفسه حتى ظهر له علة منعه.
وقياس المسألة بمن غص بلقمة لا يجد لها مساغا إلا جرعة خمر، لا يصح إذ تفوته به الحياة التي ينتفع بها وجوده، فيكون قد أعان على قتل نفسه وتعطيل حياته من واجبات عمره بخلاف ذلك، فإنما يفوته به الكمال لا غير. ومقصد القوم بذلك، الفرار من نفوسهم، لا التستر من الخلق، لأن التستر منهم تعظيم لهم، فعاد الأمر عودا على بدئه، وليس من شأن الصوفي تعظيم الخلق بوجه ولا بحال، فافهم.
من أراد الظهور فهو عبد الظهور ومن أراد الخفاء فهو عبد الخفاء
إفراد القلب لله تعالى مطلوب بكل حال، فلزم نفي الرياء بالإخلاص ونفي العجب بشهود المنة، ونفي الطمع بوجود التوكل، ومدار الكل على سقوط الخلق من نظر العبد. فلذلك قال سهل بن عبد الله رضي الله عنه: (لا يبلغ العبد حقيقة من هذا الأمر حتى تسقط نفسه من عينه فلا يرى في الدارين إلا هو وربه، أو يسقط الخلق من عينه فلا يبالي بأي حال يرونه).
قلت: فلذلك ينتفي عنه كل شيء من ذلك، وإلا دخل الرياء عليه من حيث لا ينظر الخلق إليه، باستشرافه لعلم الخلق بخصوصيته.
وقد قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: من أراد الظهور، فهو عبد الظهور، ومن أراد الخفاء، فهو عبد الخفاء وعبد الله سواء عليه أظهره أو أخفاه. انتهى وهو لباب هذا الباب.
إذا صح أصل القصد فالعوارض لا تضر
إذا صح أصل القصد فالعوارض لا تضر، كما قال مالك رحمه الله في الرجل يحب أن يرى في طريق المسجد، ولا يحب أن يرى في طريق السوق. وفي الرجل يأتي المسجد، فيجد الناس قد صلوا، فيرجع معهم حياء.
وكما قال صلى الله عليه وسلم في الرجل: (يحب جمال نعله وثوبه).
ومن ثم قال سفيان الثوري رضي الله عنه: (إذا جاءك الشيطان في الصلاة فقال: انك مراء فزده طولا).
وقال الفضيل رحمه الله: (العمل لأجل الناس شرك، وترك العمل لأجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله منهما) انتهى.
وفي طيه أن الرياء يقع بالترك كالفعل، واشتقاقه من الرؤية، رؤية المرائي للخلق في رؤيتهم له، ولولا ذلك لما صح منه في الخلوة، ثم هو فيما قصد للعبادة لا فبما قصد به الخلق مجردا، فانه الشرك الأعظم أو قريب منه والله تعالى اعلم.
نفي الخواطر بإقامة الحجة على إبطالها يمكنها في النفس ودفعها يكون بالتلهي عنها
قصد نفي الخواطر بإقامة الحجة على إبطالها يزيدها تمكينا في النفس لسبقها وقيام صورتها في الخيال. فظهر أن دفعها إنما هو بتسليمها والتلهي عنها في أي باب كانت ومن ثم قال سفيان: (فزده طولا).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليقل الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة).
ويقال: (الشيطان كالكلب، إن اشتغلت بمقاومته مزق الإهاب، وقطع الثياب، وإن رجعت إلى ربه صرفه عنك برفق).
وقد جاءني ليلة في بعض الصلوات وقال: انك مراء، فعارضته بوجوه، فلم يرجع حتى فتح الله بتسليم دعواه وطردها في كل أعمالي بحيث قلت: (إثبات الرياء في هذه إثبات للإخلاص في غيرها، وكل أعمالي معيبة وهذا غاية المقدور، فانصرف عني في ذلك الوقت ولله الحمد).
إظهار العمل وإخفاؤه عند تحقق الإخلاص مستو
إظهار العمل وإخفاؤه، عند تحقق الإخلاص مستو، وقيل وجود تحققه مقو لرؤية الخلق. وقد جاء طلبه شرعاً من غير إشعار بشيء من وجوه الإخلاص ولا الرياء، فظهر أن مراعاته لخوف التلوين، ولراحة القلب من مكابدة الإظهار في العموم، ولحسم مادة ما يعرض أثناءه.
وقيل: وتفضيل النافلة لما علل به صلى الله عليه وسلم من قوله: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم فإن الله جاعل منها في بيوتكم بركة ولا تتخذوها قبورا) والله سبحانه اعلم.
بين المداهنة والمداراة والهدية والرشوة
المداهنة: دفع الباطل والحق بالباطل المشبه للحق.
والمدارات: دفع الباطل بوجه مباح، وكذا إثبات الحق سواء كان لك أو لغيرك وقد صح أن المدارات صدقة، وقد صح: (من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له من اجلها هدية، فقد فتح على نفسه بابا عظيما من الربا). والفرق بين الهدية والرشوة، ما قصد للمودة فهو الهدية إن تجرد، وما قصد لجر نفع غير ديني، ولا في مال الشخص ونفسه، بل للإعانة فرشوة. وهذه الأربع يخفى إدراكها على حذاق العلماء في آحاد المسائل فتعين الورع فيها والله سبحانه اعلم.
الخُلق: هيئة راسخة في النفس
الخُلُق: هيئة راسخة في النفس، تنشأ عنها الأمور بسهولة فحسنها حسن وقبيحها قبيح، فهي تجري في المضادات كالبخل والسخاء والتواضع والكبر والحرص والقناعة والحقد وسلامة الصدر والحسد والتسليم والطمع والتعزز والانتصار والسماح، إلى غير ذلك فافهم.
السخي من سَهُل عليه العطاء ولو لم يعط شيئا
الأخلاق النفسانية لا تعتبر بالعوارض الخارجة إلا من حيث دلالتها عليها. وقد ظهر أن البخل ثقل العطاء على النفس، والسخاء خفته.
فالبخيل: من ثقل عليه العطاء ولو لم يبق لنفسه شيئا.
والسخي: من سهل عليه العطاء ولو لم يعط شيئا.
ومن ثم قيل: إذا تقابل العارضان فالتردد بينهما بخل.
والكبر: اعتقاد المزية وإن كان في أدنى درجات الضعة والتواضع عكسه. ولولا ذلك ما صح كون العائل مستكبرا، حتى ذم به ثم كذلك. فافهم هذا، وتتبعه من كتب الأئمة تجده مستوفى، والله سبحانه اعلم.
16151413121110987654 32 1
الكلمات المفتاحية :
التصوف
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: