قواعد التصوف الشيخ احمد زروق 15
الذوق علمه مقصورٌ على ذائِقِه
العلمُ برهانه في نفسه، فمدعية باختياره مكذب باختلاله، والذوق علمه مقصور على ذائقة فدعواه ثابتة بشواهد حاله، كاذبة بها. لكن قد يتطرق الغلط للناظر من عدم تحقيقه بهوى يخالطه. فلزم اقتصاره على ما صح واشتهر في النفي، لا في الإثبات، إذ غلطة في النفي إذاية، وفي الإثبات إحسان. وليس لذي الذوق الانتصار لنفسه بوجه، إلا أن يتعلق به أمر شرعي من هداية مريد، أو إرشاد ضال، لا يمكن بغير دعواه، وفيما ظهر من الحجة كفاية لتعرف الحجة فلا حاجة لإظهار الخصائص لغير الخواص، فافهم.
لا حاكم إلا الشارع ولا تحاكم إلا له
لا حاكم إلا الشارع، فلا تحاكم إلا له، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا).
وقد أوجب وحرم وندب، كره وأباح، وبين العلماء ما جاء عنه كل بوجهه ودليله، فلزم الرجوع لأصولهم في ذلك من غير تعد للحق، ولا خروج عن الصدق.
فمن أخل بالأولين، أطرح حيث يتفق إجماعا، وحيث يختلف اعتبر إمامه في حكمه فلا ينكر عليه غير ما اتفاق بمذهبه، إن تكرر لغير ضرورة وإلا فالضرورة لها أحكام. وما بعد الواجب والمحرم، ليس أحد على أحد فيه سبيل. إن اثبت حكمه على وجهه، ولم يتعلق بغير تركه، ولم يخرج به الأمر لحد التهاون، أو تشهد أحواله بالأرزاء على ذلك ورقة الديانة به، (فرب طاعم شاكر، خير من صائم صابر) الحديث.
ومن ثم أجمع القوم على أن هم لا يوقظون نائما، ولا يصومون مفطرا، ومن وجه دخول الرياء والتكلف ولأن العناية بإقامة الفرائض هي الأصل لا غيرها، وكل السنة تشهد لذلك، والله سبحانه اعلم.
باب
وجوب تحفظ الصوفي على إقامة رسم الطريقة بترك ما يريب ويعيب
طلب التحقق بالصدق يقتضي الاسترسال مع الحركات في عموم الأوقات دون مبالاة بغير الواجب والمحرم. فمن ثم وقع الغلط لكثير من المتصوفة في الأعمال، ولكثير من الناس في الإنكار عليهم خلاف الأولى بهم. فوجب التحفظ من الصوفي على إقامة رسم الطريقة بترك ما يريب ويعيب، وإن كان مباحا لأن دخوله فيه إدخال للطعن على طريقة، فافهم.
النظر لصرف الحقيقة مخل بوجه الطريقة
فمن ثم وقع القوم في الطامات، وتكلموا بالشطحات حتى كفر من كفر، وبدع من بدع، وفسق من فسق، بواضح الشريعة ولسان العلم، ظاهرا وباطنا، فلزم التحفظ في القبول، بأن لا يؤخذ إلا عن الكتاب والسنة، وفي الإلقاء بان لا يلقى إلا بالوجه السائغ فيهما من غير منازع وإلا فلا عتب على منكر استند لأصل صحيح. وقد قال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه: (إنها لتقع النكتة من كلام القوم في قلبي أياما، فأقول: لا أقبلك إلا بشاهدي عدل الكتاب والسنة)، انتهى.
الإنسان مطالب على قدر حاله
مطالبة الشخص على قدر حاله، ومخاطبته بما يقتضيه وجود أصله، فلا يطالب عامي بزائد على التقوى، ولا فقيه بزائد على الاستقامة. ويطالب المريد بالصدق بعد تحصيل الأولين، والعارف بالورع، فعامي لا تقوى له فاجر وفقيه لا استقامة له مقصد، ومريد لا صدق له متلاعب، وعارف لا ورع له ناقص. وأصل التصوف دائر على الإحسان أبدا إن تحررت طريقته فواجب في الأحكام الورع، ولازمه في السن التحفظ، وحاله في الأدب دائر مع قلبه، ولذلك اختلفت أحواله فيه فليعتبر بكل في محله.
معظم اهتمام القوم ما يجمع قلوبهم على مولاهم
معظم نظر القوم ما يجمع قلوبهم على مولاهم، فمن ثم قالوا بأشياء في باب الأدب أنكرها من لم يعرف قصدهم وأخذها بغير حق من لم يبلغ حالهم فضل بها، وزل كالسماع ونحوه، وقد أشار لذلك الجنيد رحمه الله حين سئل عن السماع فقال: كل ما يجمع العبد على مولاه فهو مباح، انتهى.
فجعله مشروطا بالجمع في إباحته حتى لا يتعدى حكمه موقوفا على علته حتى لا ينكر، والله سبحانه اعلم.
العبادات جمع ونور ، والمعاصي تفريق وظلمة
العبادات كلها جمع ونور، والمعاصي والمكروهات المتفق عليها تفريق وظلمة. والشبهة بينهما إن تجاد بها أصل الندب، والمنع لا أصل الإباحة والتحريم، لكون الإباحة للتوسعة، والتحريم في الأصل من غير مرجح له. ومن ثم حرم ما اجتمع فيه مبيح، محضر، كالجمع بين أختين بملك اليمين، ولم يحرم ما اجتمع فيه مندوب، ومحظر، كصوم يوم عرفة لخوف العيد، ورابعة الوضوء إن كان في ذلك اختلاف، فمن حيث السبب، والله سبحانه اعلم.
كل صوفي أهمل أحواله في معاملة الخلق، كما أمر فيها، لابد أن يقع في الغلط
كل صوفي أهمل أحواله من النظر لمعاملة الخلق، كما أمر فيها، وصرف وجهه نحو الحق دون نظر لسنته في عباده، فلا بد له من غلط في أعماله أو شطح في أحواله، أو وقوع طامة في أقواله. فإما هلك أو أهلك، أو كانا معا جاريين عليه. ولا يتم له ذلك، ما لم يصحب متمكنا، أو فقيها صالحا، أو مريدا عالما، أو صديقا صادقا، يجعله مرآة له، إن غلط رده، وإن ادعى دفعه، وإن تحقق أرشده. فهو ينصفه في حاله وينصحه في جميع أحواله، إذ لا يتهمه ولا يهمله، فافهم.
كثر المدعون في هذا الطريق لغربته
كثر المدعون في هذا الطريق لغربته، وبعد الإفهام عنه لدقته، وكثر الإنكار على أهله لنظافته، وحذر الناصحون من سلوكه لكثرة الغلط فيه.
وصنف الأئمة في الرد على أهله لما أحدث أهل الضلال فيه وانتسبوا منه إليه حتى ابن العربي الحاتمي رحمه الله: (احذر هذا الطريق، فإن أكثر الخوارج منه، وما هو إلا الطريق الهلك والملك، من حقق علمه وعمله وحاله، نال عز الأبد، ومن فارق التحقيق فيه، هلك وما نفذ، ولذلك أشار بعضهم بقوله: بلغنا إلى حد إذ قال هكذا، قال في النار، نسأل الله العافية بمنه وكرمه.
لا يصح التصوف بدون فقه
لما كان الفقه في علمه لا يصح التصوف بدونه، كان التزامه صدق القصد به، محصلا له. فمن ثم كان الفقيه الصوفي تام الحال، بخلاف الصوفي الذي لا فقه له، كفى الفقه عن التصوف، ولم يكف التصوف عنه.
ومن ثم خص الأئمة على القيام بالظاهر لما سئلوا عن علم الباطن. قال صلى الله عليه وسلم للذي سأله أن يعلمه من غرائب العلم: (من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم) الحديث، فافهم.
التصديق مفتاح الفتح
وجود الجحد مانع من قبول المجحود أو نوعه، لنفور القلب عنه. والتصديق مفتاح الفتح لما صدق به وإن لم يتوجه لهو إذ لا دافع له. فالمتوقف مع الفقه يتعين عليه تجويز الوهب أو الفتح من غير تقييد بزمان ولا مكان ولا عين، لأن القدرة لا تتوقف أسبابها على شيء وإلا كان محروما مما قام به جحوده. ثم هو إن استند إلى أصل معذور، وإلا فلا عذر له بإنكار ما لا علم له به، فسلم تسلم، والله اعلم.
الإنكار لسد ذريعة
إنكار المنكر إما أن يستند لاجتهاد، أو لحسم ذريعة أو لعدم التحقيق، أو لضعف الفهم، أو لقصور العلم، أو لجهل المناط، أو لانبهام البساط، أو لوجود العناد. فعلامة الكل الرجوع للحق عند تعيينه إلا الأخير، فانه لا يقبل ما ظهر، ولا تنضبط دعواه، ولا يصحبه اعتدال في أمره.
وذو الذريعة إن رجع للحق لا يصح الوقوف مع إنكاره، ما دام وجه الفساد قائما بما أنكر ومنه تحذير أبي حيان في نهره وبحره، وابن الجوزي في تلبيسه وغيرهما كما ادعياه وحلفا عليه. وفي كلامهما ما يدل أن ذلك مع اجتهاد منهما. واختص ابن الجوزي بتطريز كتبه بكلام القوم مع الإنكار عليهم، فدل على أنه قصد حسم الذريعة، والله سبحانه اعلم.
تعريف العيوب مع الستر نصيحة، ومع الإشاعة والهتك فضيحة
تعريف العيوب مع الستر نصيحة، ومع الإشاعة والهتك فضيحة. فمن عرفك بعيبك من حيث لا يشعر الغير فهو الناصح، ومن أعلمك بعيبك مع شعور الغير فهو الفاضح. وليس لمسلم أن يفضح مسلما إلا في موجب حكم بقدره من غير تتبع لما لا تعلق له بالحكم، ولا ذكر عيب أجنبي عنه، وإلا انقلب الحكم عليه بقهر القدرة الإلهية حسب الحكمة الربانية والوعد الصادق الذي جاء في قوله صلى الله عليه وسلم : (لا تظهر الشماتة بأخيك، فيعافيه الله ويبتليك).
ونهى عليه الصلاة والسلام عن التثريب للأمة عند جلدها في حد الزنا فكيف بالحر المؤمن القائم الحرمة بإقامة رسم الشريعة.
وقد صح: (من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة). و (من أقال عثرة مسلم، أقال الله عثرته يوم القيامة).
حفظ الأديان مقدم على حفظ الأعراض في الجملة
حفظ الأديان مقدم على حفظ الأعراض في الجملة، فلذلك جاز ذكرها في التعديل والتجريح لحديث أو شهادة أو إنفاذ حكم أو إيقاع ما يستدام كنكاح، وتظلم، وتحذير من محل اقتداء أن يغتر برتبته. ولعل منه تعيين ابن الجوزي من قصد الرد عليه من الصوفية. لكن مجاوزة الحد في التشنيع تدل على خلاف ذلك، وبه أطرحه المحققون، وإلا فهو أنفع كتاب عرف وجوه الضلال لتحذر، ونبه على السنة بأم وجه أمكنه، والله سبحانه اعلم.
التحذير من كتاب تلبيس إبليس والفتوحات وغيرها
حذر الناصحون من تلبيس ابن الجوزي، وفتوحات الحاتمي بل كل كتبه أو جلها، كابن سبعين، وابن الفارض، وابن حلا، وابن ذو سكين، والعفيف التلمساني، والأيكي العجمي، والأسود الأقطع، وأبي اسحق التجيبي، والششتري، ومواضع من الإحياء للغزالي، جلها في المهلكات منه، والنفخ والتسوية له، والمضنون به على غير أهله، ومعراج السالكين له، والمنقذ، ومواضع من قوت القلوب لأبي طالب المكي، وكتب السهروردي ونحوهم. فلزم الحذر من مواطن الغلط، لا تجنب الجملة، أو معادة العلم. ولا يتم ذلك إلا بثلاث: قريحة صادقة، وفطرة سليمة، وأخذ ما بان وجهه وتسليم ما عداه، وإلا هلك الناظر فيه باعتراض على أهله، أو أخذ الشيء على غير وجه، فافهم.
باب
دواعي الإنكار على القوم خمسة
دواعي الإنكار على القوم خمسة:
أولها: النظر لكمال طريقهم، فإذا تعلقوا برخصة، أو أتوا بإساءة أدب، أو تساهلوا في أمر، أو بدأ منهم نقص، أسرع للإنكار عليهم، لأن النظيف يظهر فيه أقل عيب، ولا يخلو الإنسان من نقص ما لم تكن له من الله عصمة أو حفظ.
الثاني: رقة المدرك ومنه وقع الطعن على علومهم في أحوالهم، إذ النفس مسرعة لإنكار ما لم يتقدم له علمه.
الثالث: كثرة المبطلين في الدعاوي والطالبين للأغراض بالديانة، وذلك سبب إنكار حال من ظهر منهم بدعوى، وإن أقام عليها الدليل لاشتباهه.
الرابع: خوف الضلال على العامة باتباع الباطن دون اعتناء بظاهر الشريعة كما اتفق لكثير من الجاهلين.
الخامس: شحة النفوس بمراتبها، إذ ظهور الحقيقة مبطل لكل حقيقة، ومن ثم أولع الناس بالصوفية أكثر من غيرهم، وتسلط عليهم أصحاب المراتب أكثر من سواهم، وكل الوجوه المذكورة صاحبها مأجور أو معذور إلا الأخير، والله سبحانه أعلم.
السبب في بقاء ذكر الصالح أكثر من ذكر الفقيه
النسبة عند تحقيقها تقتضي ظهور اثر الانتساب، فلذلك بقي ذكر الصالح أكثر من ذكر الفقيه لأن الفقيه منسوب إلى صفة من أوصاف نفسه هي فهمه، وفقهه، المنقضي بانقضاء حسه. والصالح منسوب إلى ربه، وكيف يموت من صحت نسبته للحي الذي لا يموت بلا علة من نفسه؟ ولما عمل المجاهد حتى مات شهيدا في تحقيق كلمة الله وإعلائها حسا ومعنى، كانت حياته حسية معنوية بدوام كرامته، وذكر بركاته على مر الدهور. قد مات قوم وهم في الناس أحياء، فافهم.
ما ألف من الكتب للرد على القوم نافع في التحذير من الغلط
ما ألف من الكتب للرد على القوم فهو نافع في التحذير من الغلط ولكن مستفيد إلا بثلاثة شروط:
أولها: حسن النية في القائل، باعتقاد اجتهاده وانه قاصد حسم الذريعة وإن خشي لفظه، كابن الجوزي، فللمبالغة في التنفير.
ثانيهما: إقامة عذر القول فيه بتأويل أو غلبة، أو غلط، أو غير ذلك، إذ ليس بمعصوم، وقد تكون للولي الزلة والزلات، والهفوة والهفوات لعدم العصمة وغلبة الأقدار كما أشار إليه الجنيد رحمه الله تعالى. بقوله تعالى: {وكان أمر الله قدرا مقدورا}.
ثالثهما: أن يقتصر بنظره على نفسه، فلا يحكم به على غيره، ولا يبديه لمن لا قصد له في السلوك فيشوش عليه اعتقاده الذي ربما كان سبب نجاته وفوزه، فإن احتاج لذلك فليعترض على القول دون تعيين القائل ويعرض بعظمته وجلاله مع قامة قدره إذ ستر زلل الأئمة واجب، وصيانة الدين أوجب، والقائم بدين الله مأجور، والمنتصر له منصور، والإنصاف في الحق لازم، ولا خير في ديانة يصحبها هوى، فافهم والله سبحانه أعلم، فافهم.
تعتبر دعوى المدعي نتيجة دعواه، فإن ظهرت صحت، وإلا فهو كذاب
تعتبر دعوى المدعي نتيجة دعواه، فإن ظهرت صحت، وإلا فهو كذاب، فتوبة لا تتبعها تقوى باطلة، وتقوى لا تظهر بها استقامة ناقصة، واستقامة لا ورع فيها غير تامة، وورع لا ينتج زهدا قاصر، وزهد لا يؤثر توكلا يابس، وتوكل لا تظهر ثمرته بالانقطاع إلى الله عن الكل، واللجأ إليه، صورة لا حقيقة لها. فتظهر صحة التوبة عند اعتراض المحرم، وكمال التقوى، حيث لا مطلع إلا الله. ووجود الاستقامة بالتحفظ على إقامة الورد في غير ابتداع، ووجود الورع في مواطن الشهوات عند الاشتباه، فإن ترك فذاك، وإلا فليس هناك. والزهد في الرفض عند التخيير والاستسلام عند المعارضة فلا يبالي بإقبال الدنيا ولا بإدبارها.
والتوكل عند تعذر الأسباب، ونفي الجهات بتقدير عدم إمطار السماء، وإنبات الأرض، وموت كل الخلائق فإن سكن القلب فذاك، وإلا فليس هناك، وكل عمل قُدِّر سقوط وجوبه أو ندبه، وطَلَبَتْهُ النفسُ مع ذلك، فالحامل عليه الهوى، وإن كان حقا في ذاته، فإن سقط بتقدير السقوط، فقصده ما ورد فيه، فافهم.
16151413121110987654 32 1
الكلمات المفتاحية :
التصوف
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: