قواعد التصوف احمد زروق 3
اختلاف المسالك لا يلزم منه اختلاف المقصد
لا يلزم من اختلاف المسالك اختلاف المقصد، بل قد يكون متحدا مع اختلاف مسالكه، كالعبادة والزهادة، والمعرفة مسالك لقرب الحق على سبيل الكرامة، وكلها متداخلة، فلا بد للعارف من عبادة، وإلا فلا عبرة بمعرفته إذ لم يعبد معروفه. ولا بد له من زهادة، وإلا فلا حقيقة عنده، إذ لم يُعرض عمن سواه. ولا بد للعابد منهما، إذ لا عبادة إلا بمعرفة، ولا فراغ للعبادة إلا بزهد، والزاهد كذلك إذ لا زهد إلا بمعرفة، ولا زهد إلا بعبادة، وإلا عاد بطالة.
نعم من غلب عليه العمل فعابد، أو الترك فزاهد. أو النظر لتصريف الحق فعارف. والكلّ صوفية، والله أعلم.
قاعدة 11
من هو المؤهل للتصوف؟
لكلّ شيء أهل ووجه ومحل وحقيقة.
وأهلية التصوف لذي توجه صادق، أو عارف محقق، أو محب مصدق، أو طالب منصف، أو عالم تقيده الحقائق أو فقيه تقيده الاتساعات، لا متحامل بالجهل، أو مستظهر بالدعوى، أو مجازف في النظر، أو عامي غبي، أو طالب معرض، أو مصمم على تقليد أكابر من عرف في الجملة، والله أعلم.
قاعدة 12
علم بلا عمل، وسيلة بلا غاية
شرف الشيء إما أن يكون بذاته، فيتجرد طلبه لذاته، وإمّا أن يكون لمنفعته، فيطلب من حيث يتوصل منه إليها به، وإما أن يكون لمتعلقه، فيكون الفائدة في الوصلة بمتعلقه. فمن ثمّ قيل: (علم بلا عمل وسيلة بلا غاية، وعمل بلا علم جناية)، والعقل أفضل من علم به، والعلم به تعالى أفضل العلوم لأنّه أجلّ العلوم. وعلم يراد لذاته أفضل، لكون خاصيته في ذاته، كعلم الهيبة والأنس ونحو ذلك. فمن لم يظهر له نتيجة علمه في عمله فعلمه عليه لا له. وربما شهد بخروجه منه إن كان علمه مشروطاً بعمله، ولو في باب كماله، فافهم وتأمّل ذلك.
قاعدة 13
فائدة الشيء ما قصد له وجوده
فائدة الشيء: ما قصد له وجوده. وإفادته: حقيقته في ابتدائه أو انتهائه أو فيهما.
كالتصوف: علم قصِد لإصلاح القلوب، وإفرادها لله عما سواه.
وكالفقه: لإصلاح العمل، وحفظ النظام، وظهور الحكمة بالأحكام.
وكالأصول: لتحقيق المعتقدات بالبرهان، وتحلية الإيمان بالإيقان.
وكالطب: لحفظ الأبدان.
وكالنحو: لإصلاح اللسان.، إلى غير ذلك فافهم.
قاعدة 14
أفضلية علم التصوف على غيره
العلم بفائدة الشيء ونتيجته باعث على التهمم به، والأخذ في طلبه لتعلق النفس بما يفيدها وإن وافقها، وإلا فعلى العكس، وقد صح أن شرف الشيء بشرف متعلقه. ولا أشرف من متعلق علم التصوف، لأن مبدأه خشية الله التي هي نتيجة معرفته ومقدمة إتباع أمره.
وغايته إفراد القلب له تعالى، فلذلك قال الجنيد رضي الله عنه: (لو علمت أن تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعيت إليه).انتهى، وهو واضح.
قاعدة 15
بذل العلم لغير أهله
أهلية الشيء تقضي بلزوم بذله لمن تأهل له، إذ يقدره حق قدره ويضعه في محله، ومن ليس بأهل فقد يضيعه، وهو الغالب أو يكون حاملا له على طلب نوعه وهو النادر.
ومن ثم اختلف الصوفية في بذل علمهم لغير أهله،
فمن قائل: لا يبذل إلا لأهله، وهو مذهب الثوري وغيره.
ومن قائل: يبذل لأهله ولغير أهله، والعلم أحمى جانبا من أن يصل إلى غير أهله، وهو مذهب الجنيد رحمه الله. إذ قيل له: كم تنادي على الله بين يدي العامة؟ فقال: (لكني أنادي على العامة بين يدي الله) انتهى. يعني أنه يذكر لهم ما يردّهم إليه، فتتضح الحجة لقوم وتقوم على آخرين. والحق اختلاف الحكم باختلاف النسب والأنواع، والله أعلم.
قاعدة 16
طلب الدنيا بالتصوف واستعماله لغير غايته
وجوه الاستحقاق مستفادة من شاهد الحال، وقد يشتبه الأمر، فيكون التمسك بالحذر أولى لعارض الحال، وقد يتجاذب الأمر من يستحقه ومن لا، فيكون المنع لأحد الطرفين دون الآخر.
وقد أشار سهل لهذا الأصل بقوله: (إذا كان بعد المائتين فمن كان عنده شيء من كلامنا فليدفنه فإنه يصير زهد الناس في كلامهم، ومعبودهم بطونهم). وعدّد أشياء تقضي بفساد الأمر حتى يحرم بثه لحمله على غير ما قصد له، ويكون معلمه كبائع السيف من قاطع الطريق.
وهذا حال الكثير من الناس في هذا الوقت، اتخذوا علوم الرقائق والحقائق سلماً لأمور كاستهواء قلوب العامة، وأخذ أموال الظلمة، واحتقار المساكين، والتمكن من محرمات بينة وبدع ظاهرة، حتى أن بعضهم خرج عن الملة وقبل منة الجهال ذلك، بادعاء الإرث والاختصاص في الفن، نسأل الله السلامة بمنه.
قاعدة 17
مخاطبة الناس على قدر عقولهم
في كل علم ما يُخص ويُعم، فليس التصوف بأولى من غيره في عمومه وخصوصه، بل يلزم بذل أحكام الله المتعلقة بالمعاملات من كل، عموماً وما وراء ذلك على حسب قابله لا على قدر قائله، لحديث: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟). وقيل للجنيد رحمه الله: يسألك الرجلان عن المسألة الواحدة، فتجيب هذا بخلاف ما تجيب هذا؟ فقال: (الجواب على قدر السائل)، قال عليه السلام: (أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم).
قاعدة 18
تقديم الأهم على المهم شأن الصادقين في كل شيء
اعتبار المهم وتقديمه أبداً، شأن الصادقين في كل شيء، فكل من طلب من علوم القوم رقيقها قبل علمه بجملة أحكام العبودية منها، وعدل عن جليّ الأحكام إلى غامضها، فهو مخدوع بهواه، لا سيما إن لم يُحكم الظواهر الفقهية للعبادات، ويحقق الفارق بين البدعة والسنة في الأحوال، ويطالب نفسه بالتحلي قبل التخلي، أو يدعي لها ذلك، ولله درّ سرّي رضي الله عنه حيث قال:
من عرف الله عـاش *** ومن مال إلى الدنيا طاش
والأحمق يغدو ويروح في لاش *** والعاقل عن محبوبه فتاش
وفي الحكم: (تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب، خير من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب). انتهى وهو عجيب.
قاعدة 19
الغيرة على علوم الصوفية وحماية العوام من التعلق بالخاص منها
اعتبار النسب في الواقع يقضي بتخصيص الحكم عن عمومه، ومن ذلك وجود الغيرة على علوم القوم من الإنكار، وحماية عقول العوام من التعلق بما يخص منها حامل على وجود القصد لتخصيصها. هذا مع كثرة ما يخص منها، ومداخل الغلط فيه علما وعملا، أو دعوى أو غير ذلك، فافهم. وأعط كلّ ذي حكم حقه. فالأعمال للعامة والأحوال للمريدين والفوائد للعابدين والحقائق للعارفين والعبارات قوت لعائلة المستمعين وليس لك إلا ما أنت له آكل، فافهم.
قاعدة 20
الفقه والتصوف شقيقان في الدلالة على أحكام الله
الاشتراك في الأصل يقضي بالاشتراك في الحكم.
والفقه والتصوف شقيقان في الدلالة على أحكام الله تعالى وحقوقه، فلهما حكم الأصل الواحد في الكمال والنقص، إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر في مدلوله. وقد صح أن العمل شرط كمال العلم، فيهما وفي غيرهما، لا شرط صحة فيه، إذاً لا ينتفي بانتفائه، بل قد يكون دونه، لأن العلم إمام العمل فهو سابق وجوده حكما وحكمة، بل لو شُرط الاتصال لبطل أخذه، كما أنه لو شُرط في الأمر والنهي والعمل للزم ارتفاعهما بفساد الزمان، وذلك غير سائغ شرعاً ولا محمود في الجملة، بل قد أثبت الله العلم لمن يخشاه وما نفاه عمن لم يخشاه، واستعاذ صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع، وقال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه)، فسماه عالما مع عدم انتفاعه بعلمه. فلزم استفادة العلم من كل محق فيه، محقق له ليس ضرر علمه في وجه إلقائه كعدم اتصافه، فافهم.
قاعدة 21
التصوف لا يُعرف إلا مع العمل به
الأغلب في الظهور لازم في الاستظهار بما يلازمه، وقد عرف أن التصوف لا يعرف إلا مع العمل به فالاستظهار به دون عمل تدليس، وإن كان العمل شرط كماله، وقد قيل: (العلم بالعمل فإن وجده وإلا ارتحل). أعاذنا الله من علم بلا عمل آمين.
قاعدة 22
شرط العلم للعمل
لا يصلح العمل بالشيء إلا بعد معرفة حكمه ووجهه، فقول القائل لا أتعلم حتى أعمل كقوله لا أتداوى حتى تذهب علته، فهو لا يتداوى ولا تذهب علته، ولكن العلم ثم العمل ثم النشر ثم الإجادة، وبالله التوفيق.
قاعدة 23
كيفية تحصيل علم التصوف
طلب الشيء من وجهه وقصده من مظانه أقرب لتحصيله، وقد تبث أنّ دقائق علوم الصوفية منح إلهية، ومواهب اختصاصية، لا تنال بمعتاد الطلب فلزم مراعاة وجه ذلك وهو ثلاثة:
أولها: العمل بما علم قدر الاستطاعة.
الثاني: اللجأ إلى الله في الفتح على قدر الهمة.
الثالث: إطلاق النظر في المعاني حال الرجوع لأصل السنة ليجري الفهم وينتفي الخطأ ويتيسر الفتح.
وقد أشار الجنيد رحمه الله لذلك بقوله (ما أخذنا التصوف عن القيل والقال والمراء والجدال، وإنما أخذناه عن الجوع والسهر وملازمة الأعمال). أو كما قال: وعنه عليه الصلاة والسلام (من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم). وقال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه: (إذا اعتادت النفوس ترك الآثام جالت في الملكوت، ورجعت إلى صاحبها بطرائف الحكمة من غير أن يؤدي إليها عالم علما). انتهى.
قاعدة 24
أهل هذا الطريق مبتلون بتسليط الخلق
ما ظهرت حقيقة في الوجود إلا قوبلت بدعوى مثلها، وإدخال ما ليس فيها منها عليها ووجود تكذيبها، كل ذلك ليظهر فضل الاستئثار بها وتتبين حقيقتها بانتفاء معارضها، {فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}
وللوارث نسبة من الموروث، وأشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل. إنما يبتلي الرجل على قدر دينه فمن ثم كان أهل هذا الطريق مبتلين بتسليط الخلق أولا وبإكرامهم وسطا وبهما آخرا. قيل لئلا يفوتهم الشكر على المدح ولا الصبر على الذم فمن أراده فليوطن نفسه على الشدة، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا}، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهْوَ حَسْـبُهُ}. فافهم.
قاعدة 25
من علم التصوف ما تتناوله الإشارة ولا تحتمله العبارة
لا علم إلا بتعلم عن الشارع، أو من ناب منابه فيما أتى به، إذ قال عليه السلام (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن طلب الخير يؤته، ومن يتق الشر يوقه). وما تفيده التقوى إنما هو فهم يوافق الأصول ويشرح الصدور ويوسع العقول، ثم هو منقسم لما يدخل تحت دائرة الأحكام، ومنه ما لا يدخل تحت دائرة العبارة، وإن كان مما تتناوله الإشارة. ومنه ما لا تفهمه الضمائر، وإن أشارت إليه الحقائق، مع وضوحه عند مشاهده وتحقيقه عند متلقيه. وقولنا فيه فهم تجوز ما لإثبات أصله لا غير. فاعرف ما أشرنا إليه، وبالله التوفيق.
قاعدة 26
صوفي الفقهاء أكمل من فقيه الصوفية
حكم الفقه عام في العموم، لأن مقصده إقامة رسم الدين، ورفع مناره، وإظهار كلمته.
وحكم التصوف خاص في الخصوص، لأنه معاملة بين العبد وربّه، من غير زائد على ذلك. فمن ثمّ صح إنكار الفقيه على الصوفي، ولا يصح إنكار الصوفي على الفقيه، ولزم الرجوع من التصوف للفقه في الأحكام والحقائق، لا بالنبذ والترك وصح الاكتفاء به دونه. ولم يكف التصوف عن الفقه، بل لا يصح دونه، ولا يجوز الرجوع منه إليه إلا به، وإن كان أعلى منه رتبة فهو أسلم وأعم مصلحة. وفي ذلك قيل: (كن فقيها صوفيا، ولا تكن صوفيا فقيها). وصوفي الفقهاء أكمل من فقيه الصوفية
وأسلم، لأن صوفي الفقهاء قد تحقق بالتصوف حالاً وعملاً وذوقاً. بخلاف فقيه الصوفية فإنّه المتمكن من علمه وحاله، ولا يتم له ذلك إلا بفقه صحيح وذوق صريح، ولا يصلح له أحدهما بدون الآخر، كالطبيب الذي لا يكتفي علمه عن التجربة ولا العكس. فافهم.
لا يلزم من اختلاف المسالك اختلاف المقصد، بل قد يكون متحدا مع اختلاف مسالكه، كالعبادة والزهادة، والمعرفة مسالك لقرب الحق على سبيل الكرامة، وكلها متداخلة، فلا بد للعارف من عبادة، وإلا فلا عبرة بمعرفته إذ لم يعبد معروفه. ولا بد له من زهادة، وإلا فلا حقيقة عنده، إذ لم يُعرض عمن سواه. ولا بد للعابد منهما، إذ لا عبادة إلا بمعرفة، ولا فراغ للعبادة إلا بزهد، والزاهد كذلك إذ لا زهد إلا بمعرفة، ولا زهد إلا بعبادة، وإلا عاد بطالة.
نعم من غلب عليه العمل فعابد، أو الترك فزاهد. أو النظر لتصريف الحق فعارف. والكلّ صوفية، والله أعلم.
قاعدة 11
من هو المؤهل للتصوف؟
لكلّ شيء أهل ووجه ومحل وحقيقة.
وأهلية التصوف لذي توجه صادق، أو عارف محقق، أو محب مصدق، أو طالب منصف، أو عالم تقيده الحقائق أو فقيه تقيده الاتساعات، لا متحامل بالجهل، أو مستظهر بالدعوى، أو مجازف في النظر، أو عامي غبي، أو طالب معرض، أو مصمم على تقليد أكابر من عرف في الجملة، والله أعلم.
قاعدة 12
علم بلا عمل، وسيلة بلا غاية
شرف الشيء إما أن يكون بذاته، فيتجرد طلبه لذاته، وإمّا أن يكون لمنفعته، فيطلب من حيث يتوصل منه إليها به، وإما أن يكون لمتعلقه، فيكون الفائدة في الوصلة بمتعلقه. فمن ثمّ قيل: (علم بلا عمل وسيلة بلا غاية، وعمل بلا علم جناية)، والعقل أفضل من علم به، والعلم به تعالى أفضل العلوم لأنّه أجلّ العلوم. وعلم يراد لذاته أفضل، لكون خاصيته في ذاته، كعلم الهيبة والأنس ونحو ذلك. فمن لم يظهر له نتيجة علمه في عمله فعلمه عليه لا له. وربما شهد بخروجه منه إن كان علمه مشروطاً بعمله، ولو في باب كماله، فافهم وتأمّل ذلك.
قاعدة 13
فائدة الشيء ما قصد له وجوده
فائدة الشيء: ما قصد له وجوده. وإفادته: حقيقته في ابتدائه أو انتهائه أو فيهما.
كالتصوف: علم قصِد لإصلاح القلوب، وإفرادها لله عما سواه.
وكالفقه: لإصلاح العمل، وحفظ النظام، وظهور الحكمة بالأحكام.
وكالأصول: لتحقيق المعتقدات بالبرهان، وتحلية الإيمان بالإيقان.
وكالطب: لحفظ الأبدان.
وكالنحو: لإصلاح اللسان.، إلى غير ذلك فافهم.
قاعدة 14
أفضلية علم التصوف على غيره
العلم بفائدة الشيء ونتيجته باعث على التهمم به، والأخذ في طلبه لتعلق النفس بما يفيدها وإن وافقها، وإلا فعلى العكس، وقد صح أن شرف الشيء بشرف متعلقه. ولا أشرف من متعلق علم التصوف، لأن مبدأه خشية الله التي هي نتيجة معرفته ومقدمة إتباع أمره.
وغايته إفراد القلب له تعالى، فلذلك قال الجنيد رضي الله عنه: (لو علمت أن تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعيت إليه).انتهى، وهو واضح.
قاعدة 15
بذل العلم لغير أهله
أهلية الشيء تقضي بلزوم بذله لمن تأهل له، إذ يقدره حق قدره ويضعه في محله، ومن ليس بأهل فقد يضيعه، وهو الغالب أو يكون حاملا له على طلب نوعه وهو النادر.
ومن ثم اختلف الصوفية في بذل علمهم لغير أهله،
فمن قائل: لا يبذل إلا لأهله، وهو مذهب الثوري وغيره.
ومن قائل: يبذل لأهله ولغير أهله، والعلم أحمى جانبا من أن يصل إلى غير أهله، وهو مذهب الجنيد رحمه الله. إذ قيل له: كم تنادي على الله بين يدي العامة؟ فقال: (لكني أنادي على العامة بين يدي الله) انتهى. يعني أنه يذكر لهم ما يردّهم إليه، فتتضح الحجة لقوم وتقوم على آخرين. والحق اختلاف الحكم باختلاف النسب والأنواع، والله أعلم.
قاعدة 16
طلب الدنيا بالتصوف واستعماله لغير غايته
وجوه الاستحقاق مستفادة من شاهد الحال، وقد يشتبه الأمر، فيكون التمسك بالحذر أولى لعارض الحال، وقد يتجاذب الأمر من يستحقه ومن لا، فيكون المنع لأحد الطرفين دون الآخر.
وقد أشار سهل لهذا الأصل بقوله: (إذا كان بعد المائتين فمن كان عنده شيء من كلامنا فليدفنه فإنه يصير زهد الناس في كلامهم، ومعبودهم بطونهم). وعدّد أشياء تقضي بفساد الأمر حتى يحرم بثه لحمله على غير ما قصد له، ويكون معلمه كبائع السيف من قاطع الطريق.
وهذا حال الكثير من الناس في هذا الوقت، اتخذوا علوم الرقائق والحقائق سلماً لأمور كاستهواء قلوب العامة، وأخذ أموال الظلمة، واحتقار المساكين، والتمكن من محرمات بينة وبدع ظاهرة، حتى أن بعضهم خرج عن الملة وقبل منة الجهال ذلك، بادعاء الإرث والاختصاص في الفن، نسأل الله السلامة بمنه.
قاعدة 17
مخاطبة الناس على قدر عقولهم
في كل علم ما يُخص ويُعم، فليس التصوف بأولى من غيره في عمومه وخصوصه، بل يلزم بذل أحكام الله المتعلقة بالمعاملات من كل، عموماً وما وراء ذلك على حسب قابله لا على قدر قائله، لحديث: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟). وقيل للجنيد رحمه الله: يسألك الرجلان عن المسألة الواحدة، فتجيب هذا بخلاف ما تجيب هذا؟ فقال: (الجواب على قدر السائل)، قال عليه السلام: (أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم).
قاعدة 18
تقديم الأهم على المهم شأن الصادقين في كل شيء
اعتبار المهم وتقديمه أبداً، شأن الصادقين في كل شيء، فكل من طلب من علوم القوم رقيقها قبل علمه بجملة أحكام العبودية منها، وعدل عن جليّ الأحكام إلى غامضها، فهو مخدوع بهواه، لا سيما إن لم يُحكم الظواهر الفقهية للعبادات، ويحقق الفارق بين البدعة والسنة في الأحوال، ويطالب نفسه بالتحلي قبل التخلي، أو يدعي لها ذلك، ولله درّ سرّي رضي الله عنه حيث قال:
من عرف الله عـاش *** ومن مال إلى الدنيا طاش
والأحمق يغدو ويروح في لاش *** والعاقل عن محبوبه فتاش
وفي الحكم: (تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب، خير من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب). انتهى وهو عجيب.
قاعدة 19
الغيرة على علوم الصوفية وحماية العوام من التعلق بالخاص منها
اعتبار النسب في الواقع يقضي بتخصيص الحكم عن عمومه، ومن ذلك وجود الغيرة على علوم القوم من الإنكار، وحماية عقول العوام من التعلق بما يخص منها حامل على وجود القصد لتخصيصها. هذا مع كثرة ما يخص منها، ومداخل الغلط فيه علما وعملا، أو دعوى أو غير ذلك، فافهم. وأعط كلّ ذي حكم حقه. فالأعمال للعامة والأحوال للمريدين والفوائد للعابدين والحقائق للعارفين والعبارات قوت لعائلة المستمعين وليس لك إلا ما أنت له آكل، فافهم.
قاعدة 20
الفقه والتصوف شقيقان في الدلالة على أحكام الله
الاشتراك في الأصل يقضي بالاشتراك في الحكم.
والفقه والتصوف شقيقان في الدلالة على أحكام الله تعالى وحقوقه، فلهما حكم الأصل الواحد في الكمال والنقص، إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر في مدلوله. وقد صح أن العمل شرط كمال العلم، فيهما وفي غيرهما، لا شرط صحة فيه، إذاً لا ينتفي بانتفائه، بل قد يكون دونه، لأن العلم إمام العمل فهو سابق وجوده حكما وحكمة، بل لو شُرط الاتصال لبطل أخذه، كما أنه لو شُرط في الأمر والنهي والعمل للزم ارتفاعهما بفساد الزمان، وذلك غير سائغ شرعاً ولا محمود في الجملة، بل قد أثبت الله العلم لمن يخشاه وما نفاه عمن لم يخشاه، واستعاذ صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع، وقال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه)، فسماه عالما مع عدم انتفاعه بعلمه. فلزم استفادة العلم من كل محق فيه، محقق له ليس ضرر علمه في وجه إلقائه كعدم اتصافه، فافهم.
قاعدة 21
التصوف لا يُعرف إلا مع العمل به
الأغلب في الظهور لازم في الاستظهار بما يلازمه، وقد عرف أن التصوف لا يعرف إلا مع العمل به فالاستظهار به دون عمل تدليس، وإن كان العمل شرط كماله، وقد قيل: (العلم بالعمل فإن وجده وإلا ارتحل). أعاذنا الله من علم بلا عمل آمين.
قاعدة 22
شرط العلم للعمل
لا يصلح العمل بالشيء إلا بعد معرفة حكمه ووجهه، فقول القائل لا أتعلم حتى أعمل كقوله لا أتداوى حتى تذهب علته، فهو لا يتداوى ولا تذهب علته، ولكن العلم ثم العمل ثم النشر ثم الإجادة، وبالله التوفيق.
قاعدة 23
كيفية تحصيل علم التصوف
طلب الشيء من وجهه وقصده من مظانه أقرب لتحصيله، وقد تبث أنّ دقائق علوم الصوفية منح إلهية، ومواهب اختصاصية، لا تنال بمعتاد الطلب فلزم مراعاة وجه ذلك وهو ثلاثة:
أولها: العمل بما علم قدر الاستطاعة.
الثاني: اللجأ إلى الله في الفتح على قدر الهمة.
الثالث: إطلاق النظر في المعاني حال الرجوع لأصل السنة ليجري الفهم وينتفي الخطأ ويتيسر الفتح.
وقد أشار الجنيد رحمه الله لذلك بقوله (ما أخذنا التصوف عن القيل والقال والمراء والجدال، وإنما أخذناه عن الجوع والسهر وملازمة الأعمال). أو كما قال: وعنه عليه الصلاة والسلام (من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم). وقال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه: (إذا اعتادت النفوس ترك الآثام جالت في الملكوت، ورجعت إلى صاحبها بطرائف الحكمة من غير أن يؤدي إليها عالم علما). انتهى.
قاعدة 24
أهل هذا الطريق مبتلون بتسليط الخلق
ما ظهرت حقيقة في الوجود إلا قوبلت بدعوى مثلها، وإدخال ما ليس فيها منها عليها ووجود تكذيبها، كل ذلك ليظهر فضل الاستئثار بها وتتبين حقيقتها بانتفاء معارضها، {فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}
وللوارث نسبة من الموروث، وأشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل. إنما يبتلي الرجل على قدر دينه فمن ثم كان أهل هذا الطريق مبتلين بتسليط الخلق أولا وبإكرامهم وسطا وبهما آخرا. قيل لئلا يفوتهم الشكر على المدح ولا الصبر على الذم فمن أراده فليوطن نفسه على الشدة، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا}، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهْوَ حَسْـبُهُ}. فافهم.
قاعدة 25
من علم التصوف ما تتناوله الإشارة ولا تحتمله العبارة
لا علم إلا بتعلم عن الشارع، أو من ناب منابه فيما أتى به، إذ قال عليه السلام (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن طلب الخير يؤته، ومن يتق الشر يوقه). وما تفيده التقوى إنما هو فهم يوافق الأصول ويشرح الصدور ويوسع العقول، ثم هو منقسم لما يدخل تحت دائرة الأحكام، ومنه ما لا يدخل تحت دائرة العبارة، وإن كان مما تتناوله الإشارة. ومنه ما لا تفهمه الضمائر، وإن أشارت إليه الحقائق، مع وضوحه عند مشاهده وتحقيقه عند متلقيه. وقولنا فيه فهم تجوز ما لإثبات أصله لا غير. فاعرف ما أشرنا إليه، وبالله التوفيق.
قاعدة 26
صوفي الفقهاء أكمل من فقيه الصوفية
حكم الفقه عام في العموم، لأن مقصده إقامة رسم الدين، ورفع مناره، وإظهار كلمته.
وحكم التصوف خاص في الخصوص، لأنه معاملة بين العبد وربّه، من غير زائد على ذلك. فمن ثمّ صح إنكار الفقيه على الصوفي، ولا يصح إنكار الصوفي على الفقيه، ولزم الرجوع من التصوف للفقه في الأحكام والحقائق، لا بالنبذ والترك وصح الاكتفاء به دونه. ولم يكف التصوف عن الفقه، بل لا يصح دونه، ولا يجوز الرجوع منه إليه إلا به، وإن كان أعلى منه رتبة فهو أسلم وأعم مصلحة. وفي ذلك قيل: (كن فقيها صوفيا، ولا تكن صوفيا فقيها). وصوفي الفقهاء أكمل من فقيه الصوفية
وأسلم، لأن صوفي الفقهاء قد تحقق بالتصوف حالاً وعملاً وذوقاً. بخلاف فقيه الصوفية فإنّه المتمكن من علمه وحاله، ولا يتم له ذلك إلا بفقه صحيح وذوق صريح، ولا يصلح له أحدهما بدون الآخر، كالطبيب الذي لا يكتفي علمه عن التجربة ولا العكس. فافهم.
16151413121110987654 32 1
الكلمات المفتاحية :
التصوف
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: