قواعد التصوف احمد زروق 14
الطباع لا تُستأصَل ولكن تحّول
ما جبلت عليه النفوس، فلا يصح انتفاؤه عنها، بل ضعفه وقوته فيها وتحويله عن مقصد لغيره، كالطمع لتعلق القلب بما عند الله توكلا عليه ورجاء فيه.
والحرص على الدار الآخرة بدلا من الدنيا.
والبخل فيما حرم ومنع، والكبر على مستحقه، ولرفع الهمة عن المخلوقين حتى تتلاشى في همته جميع المقدورات، فضلا عن المخلوقات.
والحسد للغبطة، والغضب لله سبحانه حيث أمر.
والحقد على من لا نسبة له من الله حسب إعراضه والتعزز (على الدنيا وأهلها) والانتصار للحق عند تعينه إلى غير ذلك والله تعالى اعلم.
مقصد الحاسد إتلاف عين المحسود عليه
معنى الحسد يرجع للمضايقة، ومقصد الحاسد إتلاف عين المحسود عليه على من حسده. فإذا كانت الفضائل في النفوس كالحسد في أعيانها والعمل في إتلافها. (وإذا كانت الفضائل في الإعراض كان الحسد في أعيانها والعمل على إتلافها) فمن ثم اختلفت أغراض الحاسدين ومقاصدهم.
فلا ينسب حاسد العامة لمثله في السوق ونحوه، إلا الخيانة والغش ونحو ذلك، ولا حاسد الجند إلا عدم الاحترام، وقلة القيام بالحقوق ونحوه، ولا حاسد الفقهاء إلا الكفر والضلال ونحوه ليتلف ذاته. وفضيلتها المستدامة بدعوى ما يتلفها ويستدام ولا حاسد الفقراء إلا وجود الحيل والمخادعات وانه صاحب ناموس ونحوه إلى غير ذلك مما يطول ذكره، فافهم.
الدفع بالتي هي أحسن: لمن يقبل الإحسان، والإعراض: لمن لا يقبل الإحسان
دفع الشر بمثله مشين لما هو أعظم منه عند ذوي النفوس. فلزم الدفع بالتي هي أحسن لمن يقبل الإحسان كما أدبنا الله عز وجل به: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). ولكن لا يستعمله إلا صادق، خلا من حظ نفسه، فحصل له أعظم حظ عند ربه كما قال الله عز وجل. ثم استفزه غضب، فالاستدراك مأمور به: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله انه سميع عليم) الآية.
ومن لا يقبل الإحسان فمقابلته بالإعراض عنه، (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين). إلى غير ذلك، فافهم.
الحدود والجهاد رحمة عامة
التأديب عند تعين الحق، إما لحفظ النظام، أو لوجود الرحمة في حق من أقيم عليه، أو بسببه حتى لا يجني ولا يجنى عليه. فإقامة الحدود والجهاد رحمة لنا، وقصدا لدخولهم في الرحمة معنا وجناية عليهم بسبب مفارقتنا. فبأي وجه قصد صح، إذ الكل داع لإعلاء كلمة الله وإقامة دينه وحفظ نظام الإسلام. قال الله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين).
فاعتبر المالكية ما فيه من رحمتنا ورحمتهم فبوبوا له في العبادات، واعتبره الشافعية من حيث الجناية عليهم، فوضعوه هناك، واعتبره المحدثون واسطة، والمذهب أقرب لطريق القوم في هذا الأمر، إذ كله رحمة، والله سبحانه اعلم.
بين الانتصار والعفو
الغضب جمرة في القلب تلهب عند مثيرها من حق أو باطل، فإذا كان صاحبها محقا، لم يقم لغضبه شيء لقوة البساط الذي منه وقع انبعاثه، وإن كان مبطلا لم يزل أمره في خمود حتى يضمحل. وقد مدح الله المؤمنين بالانتصار للحق، فقال تعالى: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون)، ثم ندبهم للعفو بقوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، انه لا يحب الظالمين).
وجاء: (من مكارم الأخلاق أن تعفو عمن ظلمك).
وفي الحديث يقول الله تعالى لمن دعا على ظالمه: (أنت تدعو على من ظلمك، ومن ظلمته يدعو عليك، فإن استجبت لك استجبت عليك).
وقال عليه الصلاة والسلام: (أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم). الحديث.
لكن في البخاري كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا، انتهى. وهو عين الواجب ومقتضى عز المؤمن وقيامه بحق الشرع والطبع الكريم والله سبحانه أعلم.
نفي الأخلاق الذميمة بالعمل بضدها
نفي الأخلاق الذميمة بالعمل بضدها، عند اعتراضها كالثناء على المحسود، والدعاء للظالم بالخير، والتوجه له بوجود النفع رجوعا لقوله تعالى: ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يخلو منها ابن آدم: الحسد، والظن، والطيرة، فإذا حسدت فلا تبغ، وإذا تطيرت فامض، وإذا ظننت فلا تحقق) الحديث.
وجملته دالة على الإعراض عن موجب تلك الأشياء دفعا للضرر، وقد قيل (البر الذي لا يؤذي الذر والمؤمن مثل الأرض، يوضع عيها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح). رزقنا الله العافية بمنه.
قاعدة 190
العافية سكون القلب وهدوءه، سواء كان ذلك بسبب أو بلا سبب
العافية سكون القلب وهدوءه، سواء كان ذلك بسبب أو بلا سبب. ثم إن كانت إلى الله فهي العافية الكاملة، وإلا فعلى العكس. وعافية كل قوم على قدر حالهم كما تقدم، والفتنة بحسبها.
قال ابن العريف: والفتنة الباطنة قد عمت وهي جهل كل أحد بمقداره. فلزم اعتبار العبد العافية في نفسه لنفسه حتى لا تنافه الفتن، وإلا هلك في مصالح الخلق دينا ودنيا. فتأمل هذه النكتة فإنها واجبات الوقت، والله سبحانه اعلم.
الاهتمام بما لا اثر له في الخارج الحسي من المضار مشوش
ما لا أثر له في الخارج الحسي من المضار، فاعتباره مشوش لغير فائدة. فمن ثم كان كل ما ضر في العرض بالقول أو بالظن مأمور بالصبر عليه لقوله تعالى: (واصبر على ما يقولون)، بخلاف الفعل إذا أمر عليه الصلاة والسلام بالهجرة عند قصدهم به له. وقال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن كيس فطن حذر، ثلثاه تغافل يعني في القول، والظن لا الفعل). ورغب عليه الصلاة والسلام في الفرار من الفتن. وترجم البخاري أن ذلك من الدين فوجب مراعاته.
غربة الدين في البدء والانتهاء. وما من كبير في الدين لا يعادى
تمام الشيء من وجه ابتدائه، وللوارث من النسبة على قدر مورثه وإرثه منه.
(وقد بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا).
فلا يتم في زمان غربته إلا بالهجرة، كما كان أولا، وما نصر نبي من قومه غالبا بل جملة لقول ورقة: (لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي).
والنسبة معروضة أبدا لوجود الأذى، فلذلك لا تجد كبيرا في الدين إلا مقابلا بذلك.
ولحديث: (أشد الناس بلاء)، الحديث.
ضرورة اكتساب الأخلاق بالتخلق قبل وقوع الحاجة إليها
اكتساب الأخلاق عند الحاجة إليها بزوال ضدها متعذر إلا بتوطين متقدم، وإلا تعب مريدها فيه.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم ومن يطلب الخير يعطه ومن يتق الشر يوقه). رواه أبو نعيم في آداب العالم والمتعلم، والله سبحانه اعلم.
باب
إقرار المرء بعيبه وبنعم الله عليه
إقرار المرء بعيبه وبنعم الله عليه، دون تتبع ذلك بتفاصيله، يزيد في جرأته ويمنع من التحقق بحقيقته، لعدم حقيقة ما بيده. وتتبع ذلك تفصلا يقضي بارتسامه في النفس جملة حتى يؤثر موجبها اعترافا بالنقص في الأولى وشكر النعمة في الثانية، فافهم.
فائدة التدقيق في عيوب النفس معرفة المرء بنفسه وتواضعه لربه
فائدة التدقيق في عيوب النفس وتعرفها وتعرف دقائق الأحوال، معرفة المرء بنفسه وتواضعه لربه، ورؤية قصوره وتقصيره وإلا فليس في قوة البشر التبري من كل عيب بإزالته. إذ لو انك لا تصل إلى الله إلا بعد فناء مساويك ومحو دعاويك لم تصل إليه أبدا، فافهم.
تمييز الخواطر من مهمات أهل المراقبة لنفي الصوارف عن القلوب
تمييز الخواطر من مهمات أهل المراقبة لنفي الصوارف عن القلوب فلزم الاهتمام بها لمن له في ذلك أدنى قدم، والخواطر أربعة: رباني بلا واسطة، ونفساني، وملكي، وشيطان، وكل إنما يجري بقدرة الله تعالى وإرادته وعلمه.
فالرباني لا متزحزح ولا متزلزل، كالنفساني، ويجريان لمحبوب وغيره، فما كان في التوحيد الخاص فرباني، وفي مجاري الشهوات فنفساني، وما وافق أصلا شرعيا لا يدخله رخصة ولا هوى فرباني وغيره نفساني. ويعقب الرباني برودة وانشراح والنفساني يبس وانقباض، والرباني كالفجر الساطع لا يزداد إلا وضوحا، والنفساني كعمود قائم إن ينقص بقي على حاله. وأما الملكي والشيطاني فمترددان. ولا يأتي الملكي إلا بخير، والشيطاني قد يأتي به فيشكل، ويفرق بأن الملكي تعضده الأدلة ويصحبه الانشراح ويقوى بالذكر وأثره كغبش الصبح وله بقاء ما.
بخلاف الشيطاني، فانه يضعف بالذكر ويعمى عن الدليل، وتعقبه حرارة ويصحبه شغل وغيار، وضيق، وكزازة في الوقت وربما تبعه كسل ويأتي من يسار القلب، والملكي عن يمينه، والنفساني من خلفه، والرباني مواجهة له. والكل رباني عند الحقيقة، ولكن باعتبار النسب فما عدى عنها نسب للأصل وإلا فنسبته ملاحظة للحكمة. ثم تحقيق هذا الأمر إنما يتم بالذوق، وقد قالوا: من عقل ما يدخل جوفه عرف ما يهجس في نفسه، والله سبحانه أعلم.
الحكايات جند من جنود الله يثبت الله تعالى بها قلوب العارفين
التأثير بالإخبار عن الوقائع أتم لسماعها من التأثير شرف بغيرها. فمن ثم قيل: الحكايات جند من جنود الله يثبت الله تعالى بها قلوب العارفين. قيل: فهل تجد لذلك شاهدا من كتاب الله؟ قال: نعم، (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين). ووجه ذلك، أن شاهد الحقيقة بالفعل، أظهر وأقوى في الانفعال من شاهدها القولي، إذ مادة الفاعل مستمرة في الفعل لغابر الدهر، ومن ثم قيل: الشعر قوة نفسانية، فهولا يقوي سوى النفس، فإن كانت في جنب محمود قوت محامدها، وإلا أعانت على مذهبها. ولهذا لم يكن السلف يتعاهدونه إلا عند الاحتياج، لإثارة النفس في محمود كالجهاد وأعماله، فافهم.
من أضاف فضيلة الغير لنفسه بتصريح أو تلويح فهو سارق
لكل شيء وفاء وتطفيف، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فمن اثبت مزية نفسه وجحد مزية غيره كان مطففا، وسواء العلم والعمل والحال. فأما إن أضاف فضيلة الغير لنفسه بتصريح أو تلويح فهو سارق، والمتشبع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور.
فمن ثم قيل: من حكا حكاية السلف واتخذها حالا لنفسه به قدمه في مهاوي الضلال، وعن قريب تفضحه شواهد الامتحان، لأن من ادعى فوق مرتبته حط لدون مرتبته، لأمن وقف دون مرتبته وقع فوقها، ومن ادعى مرتبته نوزع في استحقاقها، فافهم.
لزوم العزو للقائل عند نقل الأقوال
المسبوق بقول إن نقل باللفظ تعين العزو لصاحبه وإلا كان مدلسا. وكذا بالمعنى المحاذي للفظ القائل من غير زيادة عليه بالإشارة لوجه نقله. فإن وقع له تصرف فيه، يمكن تمييز الوجه معه من غير إخلال بالكلام، لزم بيان كل بوجهه، وإلا فإطلاقه أو نسبته له إن تحقق تصرفه فيه أولى ولينظر فيه مع ما زيد عليه وما نقل إليه، إذ قيل: من نقل بالمعنى فإنما نقل فهمه، لأنه ربما كان في اللفظ من زيادة المعاني ما لا يشعر به الراوي بالمعنى ولو في القمح بالبر. ولا يلزم من التكميل والترجيح والتقوية، هضيمة الأول، ولا دعوى الثاني، فإن إلزام ذلك مخل بإظهار الحق، ثم إن إلزامه بلسان العلم فصيح بما لم يصح رد على قائله، وإلا كان قد باء متهمه بالجحود، فافهم.
مراعاة اللفظ لتوصيل المعنى لازم كمراعاة المعنى في حقيقة اللفظ
مراعاة اللفظ لتوصيل المعنى لازم كمراعاة المعنى في حقيقة اللفظ، فلزم ضبط المعاني في النفس، ثم ضبط اللسان في الإبانة عنها، والأصل المتكلم في الأول وأصل في الثاني، فمن هذا الوجه وضع الأئمة لحن العامة، ونبهوا على وجوه الغلط في العبارات.
وربما كُفِّر وبُدّع وفُسّق مُحققٌ لقصور عبارته عن توصيل مقصده بوجه سليم عن الشبه. وأكثر ما وقع هذا الفن للصوفية حتى كثر الإنكار عليهم أحياء وأمواتا. وقد يكون الضرر من وجه آخر، وهو عدم الأذى الشائع بين القوم حتى أن الحقيقة الواحدة تقبل من رجل، ولا تقبل من آخر. بل وربما قبلت من شخص في وقت ورُدّت عليه من آخر مع اتحاد لفظها ومعناها. وقد شاهدنا من ذلك كثيرا، ونقص عليه الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه.
دواعي الرمز في لغة القوم
داعية الرمز قلة الصبر عن التمييز لقوة نفسانية لا يمكن معها السكوت، أو قصد هداية ذي فتح معنى ما رمز حتى يكون شاهدا له، أو مراعاة حق الحكمة في الوضع لأهل الفن دون غيرهم، أو دمج كثير من المعنى في قليل اللفظ لتحصيله وملاحظته وإلقائه في النفوس أو الغيرة عليه، أو اتقاء حاسد أو جاحد لمعانيه أو مبانيه. ومنه قول الشاذلي رحمه الله. ق.ج، سران من سرك وهما دالان على غيرك. فانك اعتبرتهما من حيث الكلام فالقاف آخر الفرق وهو أول الجمع الذي أوله الجيم. ومن حيث العدد الذي به تم الرجوع وتصريف الجيم، جامع الشفع والوتر وهو منتهى العدد، كالقاف الذي هو غايته، وهو مقدم عليه في تعريف الأشفاع والأوتار، ثم ينتهي إليه بهما، فموقف القاف الجيم، ومنتهى الجيم القاف. ومن حيث الطبائع فإنهما يجتمعان في الحقيقة الواحدة، ويكون الأول من الثاني على عدده في ذاته من درجته، وهو كذلك في رتبته بعبرة تحار فيها العقول والأفهام.
ومن حيث الشكل فللقاف إحاطة واستعلاء، لا باعتبار لفظه، ولا باعتبار خطه، ولا باعتبار معناه. وللجيم ذلك في السفليات لأن أعلاه يشير للملكوت وأسفله للملك وقاعدته للجبروت، وينبه على أن شكل الموجود مثلث وحكمه كذلك وتشهد له القضايا العقلية والأحكام العادية، وشرح ذلك يستدعي طولا، فليعتبر بما أشرنا إليه وربك الفتاح العليم.
ما جبلت عليه النفوس، فلا يصح انتفاؤه عنها، بل ضعفه وقوته فيها وتحويله عن مقصد لغيره، كالطمع لتعلق القلب بما عند الله توكلا عليه ورجاء فيه.
والحرص على الدار الآخرة بدلا من الدنيا.
والبخل فيما حرم ومنع، والكبر على مستحقه، ولرفع الهمة عن المخلوقين حتى تتلاشى في همته جميع المقدورات، فضلا عن المخلوقات.
والحسد للغبطة، والغضب لله سبحانه حيث أمر.
والحقد على من لا نسبة له من الله حسب إعراضه والتعزز (على الدنيا وأهلها) والانتصار للحق عند تعينه إلى غير ذلك والله تعالى اعلم.
مقصد الحاسد إتلاف عين المحسود عليه
معنى الحسد يرجع للمضايقة، ومقصد الحاسد إتلاف عين المحسود عليه على من حسده. فإذا كانت الفضائل في النفوس كالحسد في أعيانها والعمل في إتلافها. (وإذا كانت الفضائل في الإعراض كان الحسد في أعيانها والعمل على إتلافها) فمن ثم اختلفت أغراض الحاسدين ومقاصدهم.
فلا ينسب حاسد العامة لمثله في السوق ونحوه، إلا الخيانة والغش ونحو ذلك، ولا حاسد الجند إلا عدم الاحترام، وقلة القيام بالحقوق ونحوه، ولا حاسد الفقهاء إلا الكفر والضلال ونحوه ليتلف ذاته. وفضيلتها المستدامة بدعوى ما يتلفها ويستدام ولا حاسد الفقراء إلا وجود الحيل والمخادعات وانه صاحب ناموس ونحوه إلى غير ذلك مما يطول ذكره، فافهم.
الدفع بالتي هي أحسن: لمن يقبل الإحسان، والإعراض: لمن لا يقبل الإحسان
دفع الشر بمثله مشين لما هو أعظم منه عند ذوي النفوس. فلزم الدفع بالتي هي أحسن لمن يقبل الإحسان كما أدبنا الله عز وجل به: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). ولكن لا يستعمله إلا صادق، خلا من حظ نفسه، فحصل له أعظم حظ عند ربه كما قال الله عز وجل. ثم استفزه غضب، فالاستدراك مأمور به: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله انه سميع عليم) الآية.
ومن لا يقبل الإحسان فمقابلته بالإعراض عنه، (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين). إلى غير ذلك، فافهم.
الحدود والجهاد رحمة عامة
التأديب عند تعين الحق، إما لحفظ النظام، أو لوجود الرحمة في حق من أقيم عليه، أو بسببه حتى لا يجني ولا يجنى عليه. فإقامة الحدود والجهاد رحمة لنا، وقصدا لدخولهم في الرحمة معنا وجناية عليهم بسبب مفارقتنا. فبأي وجه قصد صح، إذ الكل داع لإعلاء كلمة الله وإقامة دينه وحفظ نظام الإسلام. قال الله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين).
فاعتبر المالكية ما فيه من رحمتنا ورحمتهم فبوبوا له في العبادات، واعتبره الشافعية من حيث الجناية عليهم، فوضعوه هناك، واعتبره المحدثون واسطة، والمذهب أقرب لطريق القوم في هذا الأمر، إذ كله رحمة، والله سبحانه اعلم.
بين الانتصار والعفو
الغضب جمرة في القلب تلهب عند مثيرها من حق أو باطل، فإذا كان صاحبها محقا، لم يقم لغضبه شيء لقوة البساط الذي منه وقع انبعاثه، وإن كان مبطلا لم يزل أمره في خمود حتى يضمحل. وقد مدح الله المؤمنين بالانتصار للحق، فقال تعالى: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون)، ثم ندبهم للعفو بقوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، انه لا يحب الظالمين).
وجاء: (من مكارم الأخلاق أن تعفو عمن ظلمك).
وفي الحديث يقول الله تعالى لمن دعا على ظالمه: (أنت تدعو على من ظلمك، ومن ظلمته يدعو عليك، فإن استجبت لك استجبت عليك).
وقال عليه الصلاة والسلام: (أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم). الحديث.
لكن في البخاري كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا، انتهى. وهو عين الواجب ومقتضى عز المؤمن وقيامه بحق الشرع والطبع الكريم والله سبحانه أعلم.
نفي الأخلاق الذميمة بالعمل بضدها
نفي الأخلاق الذميمة بالعمل بضدها، عند اعتراضها كالثناء على المحسود، والدعاء للظالم بالخير، والتوجه له بوجود النفع رجوعا لقوله تعالى: ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يخلو منها ابن آدم: الحسد، والظن، والطيرة، فإذا حسدت فلا تبغ، وإذا تطيرت فامض، وإذا ظننت فلا تحقق) الحديث.
وجملته دالة على الإعراض عن موجب تلك الأشياء دفعا للضرر، وقد قيل (البر الذي لا يؤذي الذر والمؤمن مثل الأرض، يوضع عيها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح). رزقنا الله العافية بمنه.
قاعدة 190
العافية سكون القلب وهدوءه، سواء كان ذلك بسبب أو بلا سبب
العافية سكون القلب وهدوءه، سواء كان ذلك بسبب أو بلا سبب. ثم إن كانت إلى الله فهي العافية الكاملة، وإلا فعلى العكس. وعافية كل قوم على قدر حالهم كما تقدم، والفتنة بحسبها.
قال ابن العريف: والفتنة الباطنة قد عمت وهي جهل كل أحد بمقداره. فلزم اعتبار العبد العافية في نفسه لنفسه حتى لا تنافه الفتن، وإلا هلك في مصالح الخلق دينا ودنيا. فتأمل هذه النكتة فإنها واجبات الوقت، والله سبحانه اعلم.
الاهتمام بما لا اثر له في الخارج الحسي من المضار مشوش
ما لا أثر له في الخارج الحسي من المضار، فاعتباره مشوش لغير فائدة. فمن ثم كان كل ما ضر في العرض بالقول أو بالظن مأمور بالصبر عليه لقوله تعالى: (واصبر على ما يقولون)، بخلاف الفعل إذا أمر عليه الصلاة والسلام بالهجرة عند قصدهم به له. وقال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن كيس فطن حذر، ثلثاه تغافل يعني في القول، والظن لا الفعل). ورغب عليه الصلاة والسلام في الفرار من الفتن. وترجم البخاري أن ذلك من الدين فوجب مراعاته.
غربة الدين في البدء والانتهاء. وما من كبير في الدين لا يعادى
تمام الشيء من وجه ابتدائه، وللوارث من النسبة على قدر مورثه وإرثه منه.
(وقد بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا).
فلا يتم في زمان غربته إلا بالهجرة، كما كان أولا، وما نصر نبي من قومه غالبا بل جملة لقول ورقة: (لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي).
والنسبة معروضة أبدا لوجود الأذى، فلذلك لا تجد كبيرا في الدين إلا مقابلا بذلك.
ولحديث: (أشد الناس بلاء)، الحديث.
ضرورة اكتساب الأخلاق بالتخلق قبل وقوع الحاجة إليها
اكتساب الأخلاق عند الحاجة إليها بزوال ضدها متعذر إلا بتوطين متقدم، وإلا تعب مريدها فيه.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم ومن يطلب الخير يعطه ومن يتق الشر يوقه). رواه أبو نعيم في آداب العالم والمتعلم، والله سبحانه اعلم.
باب
إقرار المرء بعيبه وبنعم الله عليه
إقرار المرء بعيبه وبنعم الله عليه، دون تتبع ذلك بتفاصيله، يزيد في جرأته ويمنع من التحقق بحقيقته، لعدم حقيقة ما بيده. وتتبع ذلك تفصلا يقضي بارتسامه في النفس جملة حتى يؤثر موجبها اعترافا بالنقص في الأولى وشكر النعمة في الثانية، فافهم.
فائدة التدقيق في عيوب النفس معرفة المرء بنفسه وتواضعه لربه
فائدة التدقيق في عيوب النفس وتعرفها وتعرف دقائق الأحوال، معرفة المرء بنفسه وتواضعه لربه، ورؤية قصوره وتقصيره وإلا فليس في قوة البشر التبري من كل عيب بإزالته. إذ لو انك لا تصل إلى الله إلا بعد فناء مساويك ومحو دعاويك لم تصل إليه أبدا، فافهم.
تمييز الخواطر من مهمات أهل المراقبة لنفي الصوارف عن القلوب
تمييز الخواطر من مهمات أهل المراقبة لنفي الصوارف عن القلوب فلزم الاهتمام بها لمن له في ذلك أدنى قدم، والخواطر أربعة: رباني بلا واسطة، ونفساني، وملكي، وشيطان، وكل إنما يجري بقدرة الله تعالى وإرادته وعلمه.
فالرباني لا متزحزح ولا متزلزل، كالنفساني، ويجريان لمحبوب وغيره، فما كان في التوحيد الخاص فرباني، وفي مجاري الشهوات فنفساني، وما وافق أصلا شرعيا لا يدخله رخصة ولا هوى فرباني وغيره نفساني. ويعقب الرباني برودة وانشراح والنفساني يبس وانقباض، والرباني كالفجر الساطع لا يزداد إلا وضوحا، والنفساني كعمود قائم إن ينقص بقي على حاله. وأما الملكي والشيطاني فمترددان. ولا يأتي الملكي إلا بخير، والشيطاني قد يأتي به فيشكل، ويفرق بأن الملكي تعضده الأدلة ويصحبه الانشراح ويقوى بالذكر وأثره كغبش الصبح وله بقاء ما.
بخلاف الشيطاني، فانه يضعف بالذكر ويعمى عن الدليل، وتعقبه حرارة ويصحبه شغل وغيار، وضيق، وكزازة في الوقت وربما تبعه كسل ويأتي من يسار القلب، والملكي عن يمينه، والنفساني من خلفه، والرباني مواجهة له. والكل رباني عند الحقيقة، ولكن باعتبار النسب فما عدى عنها نسب للأصل وإلا فنسبته ملاحظة للحكمة. ثم تحقيق هذا الأمر إنما يتم بالذوق، وقد قالوا: من عقل ما يدخل جوفه عرف ما يهجس في نفسه، والله سبحانه أعلم.
الحكايات جند من جنود الله يثبت الله تعالى بها قلوب العارفين
التأثير بالإخبار عن الوقائع أتم لسماعها من التأثير شرف بغيرها. فمن ثم قيل: الحكايات جند من جنود الله يثبت الله تعالى بها قلوب العارفين. قيل: فهل تجد لذلك شاهدا من كتاب الله؟ قال: نعم، (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين). ووجه ذلك، أن شاهد الحقيقة بالفعل، أظهر وأقوى في الانفعال من شاهدها القولي، إذ مادة الفاعل مستمرة في الفعل لغابر الدهر، ومن ثم قيل: الشعر قوة نفسانية، فهولا يقوي سوى النفس، فإن كانت في جنب محمود قوت محامدها، وإلا أعانت على مذهبها. ولهذا لم يكن السلف يتعاهدونه إلا عند الاحتياج، لإثارة النفس في محمود كالجهاد وأعماله، فافهم.
من أضاف فضيلة الغير لنفسه بتصريح أو تلويح فهو سارق
لكل شيء وفاء وتطفيف، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فمن اثبت مزية نفسه وجحد مزية غيره كان مطففا، وسواء العلم والعمل والحال. فأما إن أضاف فضيلة الغير لنفسه بتصريح أو تلويح فهو سارق، والمتشبع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور.
فمن ثم قيل: من حكا حكاية السلف واتخذها حالا لنفسه به قدمه في مهاوي الضلال، وعن قريب تفضحه شواهد الامتحان، لأن من ادعى فوق مرتبته حط لدون مرتبته، لأمن وقف دون مرتبته وقع فوقها، ومن ادعى مرتبته نوزع في استحقاقها، فافهم.
لزوم العزو للقائل عند نقل الأقوال
المسبوق بقول إن نقل باللفظ تعين العزو لصاحبه وإلا كان مدلسا. وكذا بالمعنى المحاذي للفظ القائل من غير زيادة عليه بالإشارة لوجه نقله. فإن وقع له تصرف فيه، يمكن تمييز الوجه معه من غير إخلال بالكلام، لزم بيان كل بوجهه، وإلا فإطلاقه أو نسبته له إن تحقق تصرفه فيه أولى ولينظر فيه مع ما زيد عليه وما نقل إليه، إذ قيل: من نقل بالمعنى فإنما نقل فهمه، لأنه ربما كان في اللفظ من زيادة المعاني ما لا يشعر به الراوي بالمعنى ولو في القمح بالبر. ولا يلزم من التكميل والترجيح والتقوية، هضيمة الأول، ولا دعوى الثاني، فإن إلزام ذلك مخل بإظهار الحق، ثم إن إلزامه بلسان العلم فصيح بما لم يصح رد على قائله، وإلا كان قد باء متهمه بالجحود، فافهم.
مراعاة اللفظ لتوصيل المعنى لازم كمراعاة المعنى في حقيقة اللفظ
مراعاة اللفظ لتوصيل المعنى لازم كمراعاة المعنى في حقيقة اللفظ، فلزم ضبط المعاني في النفس، ثم ضبط اللسان في الإبانة عنها، والأصل المتكلم في الأول وأصل في الثاني، فمن هذا الوجه وضع الأئمة لحن العامة، ونبهوا على وجوه الغلط في العبارات.
وربما كُفِّر وبُدّع وفُسّق مُحققٌ لقصور عبارته عن توصيل مقصده بوجه سليم عن الشبه. وأكثر ما وقع هذا الفن للصوفية حتى كثر الإنكار عليهم أحياء وأمواتا. وقد يكون الضرر من وجه آخر، وهو عدم الأذى الشائع بين القوم حتى أن الحقيقة الواحدة تقبل من رجل، ولا تقبل من آخر. بل وربما قبلت من شخص في وقت ورُدّت عليه من آخر مع اتحاد لفظها ومعناها. وقد شاهدنا من ذلك كثيرا، ونقص عليه الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه.
دواعي الرمز في لغة القوم
داعية الرمز قلة الصبر عن التمييز لقوة نفسانية لا يمكن معها السكوت، أو قصد هداية ذي فتح معنى ما رمز حتى يكون شاهدا له، أو مراعاة حق الحكمة في الوضع لأهل الفن دون غيرهم، أو دمج كثير من المعنى في قليل اللفظ لتحصيله وملاحظته وإلقائه في النفوس أو الغيرة عليه، أو اتقاء حاسد أو جاحد لمعانيه أو مبانيه. ومنه قول الشاذلي رحمه الله. ق.ج، سران من سرك وهما دالان على غيرك. فانك اعتبرتهما من حيث الكلام فالقاف آخر الفرق وهو أول الجمع الذي أوله الجيم. ومن حيث العدد الذي به تم الرجوع وتصريف الجيم، جامع الشفع والوتر وهو منتهى العدد، كالقاف الذي هو غايته، وهو مقدم عليه في تعريف الأشفاع والأوتار، ثم ينتهي إليه بهما، فموقف القاف الجيم، ومنتهى الجيم القاف. ومن حيث الطبائع فإنهما يجتمعان في الحقيقة الواحدة، ويكون الأول من الثاني على عدده في ذاته من درجته، وهو كذلك في رتبته بعبرة تحار فيها العقول والأفهام.
ومن حيث الشكل فللقاف إحاطة واستعلاء، لا باعتبار لفظه، ولا باعتبار خطه، ولا باعتبار معناه. وللجيم ذلك في السفليات لأن أعلاه يشير للملكوت وأسفله للملك وقاعدته للجبروت، وينبه على أن شكل الموجود مثلث وحكمه كذلك وتشهد له القضايا العقلية والأحكام العادية، وشرح ذلك يستدعي طولا، فليعتبر بما أشرنا إليه وربك الفتاح العليم.
16151413121110987654 32 1
الكلمات المفتاحية :
التصوف
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: