قواعد التصوف احمد زروق 4
الاختلاف في الحكم الواحد نفياً وإثباتاً، إن ظهر ابتناء أحدهما على أصل لا يتم الاحتجاج به فهو فاسد، وإن أدّى إلى محال فهو باطل، بخلاف ما ظهر ابتناؤه على أصل يتم الاحتجاج به، ولا ينزع الحجة من يد مخالفه، لأن الكل صحيح، ومن ثمّ يفرق بين خلاف واختلاف، فنكفر من آل قوله لمحال في معقول العقائد، ونبدع من آل به ذلك في منقولها إن التزم القول باللازم. وإلا نظر في شبهته فيجري له حكمها على خلاف بين العلماء في لازم القول، ولا نكفر ولا نبدع من خرج لازم قوله عن محال، إذ لا نجزم بفساد أصله مع احتماله، وبهذا الوجه يظهر قبول خلاف أهل السنة بينهم مع ردهم للغير عموما. وهو جار في باب
الأحكام الشرعية في باب الرد والقبول فتأمل ذلك تجده. وبالله التوفيق.
قاعدة 28
الإخلال بشروط العلم يحرم الوصول لحقيقته
لكلّ شيء وجه، فطالب العلم في بدايته شرطه الاستماع والقبول، ثم التصور والتفهم، ثم التعليل والاستدلال، ثم العمل والنشر، ومتى قدم رتبة عن محلها حرم الوصول لحقيقة العلم من وجهها. فعالم بغير تحصيل ضحكة، ومحصّل دون تقوى لا عبرة به، وصورة لا يصحبها الفهم لا يفيدها غيره، وعلم عري عن الحجة لا ينشرح به الصدر، وما لم ينتج فهو عقيم، والمذاكرة حياته لكن بشرط الإنصاف والتواضع وهو قبول الحق بحسن الخلق، ومتى كثر العدد انتفيا، فاقتصر ولا تنتصر، واطلب ولا تقصر، وبالله التوفيق.
قاعدة 29
إحكام وجه الطلب معين على تحصيل المطلوب
إحكام وجه الطلب معين على تحصيل المطلوب، ومن ثم كان حسن السؤال نصف العلم، إذ جواب السائل على قدر تهذيب المسائل. وقد قال ابن العريف رحمه الله: (لا بد لكلّ طالب علم حقيقي من ثلاثة أشياء:
أحدهما: معرفة الإنصاف، ولزومه بالأوصاف.
الثاني: تحرير وجه السؤال، وتجريده من عموم جهة الإشكال.
الثالث: تحقيق الفرق بين ا لخلاف والاختلاف).
قلت: فما رجع لأصل واحد، فاختلاف، يكون حكم الله في كلٍ، ما أدّاه الله إليه اجتهاده، وما رجع لأصلين يتبين بطلان أحدهما عند تحقيق النظر فخلاف، والله أعلم.
قاعدة 30
لا تجعل لأحد من أهل الظاهر حجة على أهل الباطن
التعاون على الشيء ميسّر لطلبه، ومسهل لمشاقه على النفس وتعبه، فلذلك ألفته النفوس، حتى أمر به على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان. فلزم مراعاة الأول في كلّ شيء لا كالثاني.
ومنه قول سيدي أبي عبد الله بن عباد رحمه الله تعالى: (أوصيكم بوصية لا يعقلها إلا من عقل وجرب، ولا يهملها إلا من غفل فحجب، وهي : أن لا تأخذوا في هذا العلم مع متكبر، ولا صاحب بدعة ولا مقلد.
فأما الكبر: فطابع يمنع من فهم الآيات والعبر.
والبدعة: توقع في البلايا الكبر.
والتقليد: يمنع من بلوغ الوطر ونيل الظفر.)
قال: (ولا تجعلوا لأحد من أهل الظاهر حجة على أهل الباطن).
قلت: (بل يبحثوا على أن يجعلوا أهل الظاهر حجة لهم لا عليهم)، إذ كل باطن مجرد عن الظواهر باطل، والحقيقة ما عقد بالشريعة، فافهم.
قاعدة 31
مدار الفقه على ما يسقط به الحرج، ومدار التصوف على طلب الكمال
الفقه مقصود لإثبات الحكم في العموم، فمداره على إثبات ما يسقط به الحرج، والتصوف مرصده طلب الكمال. ومرجعه لتحقيق الأكمل حكماً وحكمة. والأصول شرط في النفي والإثبات، فمدارها على التحقيق المجرد {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، فافهم.
قاعدة 32
الصوفي من عامل الحق بالحقيقة والخلق بالشريعة
مادة الشيء مستفادة من أصوله، ثم قد يشارك الغير في مادته، ويخالفه في وجه استمداده. كالفقه والتصوف والأصول، أصولها: الكتاب والسنة، وقضايا العقل المسلمة بالكتاب والسنة. لكن الفقيه ينظر من حيث ثبوت الحكم الظاهر، للعمل الظاهر، بقاعدته المقتضية له. والصوفي ينظر من حيث الحقيقة في عين التحقيق، ولا نظر فيه للفقيه حتى يصل ظاهره بباطنه. والأصولي يعتبر حكم النفي والإثبات من غير زائد. فمن ثم قال ابن الجلاء رحمه الله: (من عامل الحق بالحقيقة، والخلق بالحقيقة، فهو زنديق، ومن عامل الحق بالشريعة، والخلق بالشريعة فهو سنيّ، ومن عامل الحق بالحقيقة، والخلق بالشريعة فهو صوفيّ)، انتهى. وهو عجيب مناسب لما قبله، تظهر أمثلته مما بعده.
قاعدة 33
من أمثلة طلب الكمال عند الصوفي
إنما يظهر الشيء بمثاله، ويقوى بدليله. فمثال الزنديق: الجبري الذي يريد إبطال الحكمة والأحكام. ومثال السني: ما وقع في حديث الثلاثة الذين اشتد عليهم الغار، فسأل الله كل واحد بأفضل أعماله كما صح، وعضدته ظواهر الأدلة ترغيباً وترهيباً والله أعلم.
ومثال الصوفي: حديث الرجل الذي استلف من رجل ألف دينار فقال: أبغني شاهداً. فقال: (كفى بالله شهيداً)، فقال: أبغني كفيلاً، فقال: (كفى بالله كفيلاً). فرضي. ثم لما حضر الأجل، خرج يلتمس مركباً فلم يجده، فنقر خشبة، وجعل فيها الألف دينار، ورقعة تقتضي الحكاية، وأبذلها للذي رضي به وهو الله سبحانه فوصلت. ثم جاءه بألف أخرى وفاءً بحق الشريعة. أخرجهما البخاري في جامعه. ومنه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}، الإنسان. فجعل متعلق الخوف مجرداً عن حامل العمل والله أعلم.
وقد قال رجل للشبلي رحمه الله: (كم في خمس من الإبل؟ قال: شاة في الواجب، فأما عندنا فكلها لله. قال له: فما أصلك في ذلك؟ قال: أبو بكر حين خرج عن ماله كله لله ورسوله. ثم قال: فمن خرج عن ماله كله لله فإمامه أبو بكر، ومن خرج عن بعضه فإمامه عثمان، ومن ترك الدنيا لأهلها، فإمامه علي رضي الله عنهم، وكل علم لا يؤدي إلى ترك الدنيا فليس بعلم). انتهى وهو عظيم في بابه.
قاعدة 34
على المتكلم في العلم أن يلحق فروعه بأصوله، ويصل معقوله بمنقوله
المتكلم في فن من فنون العلم، إن لم يُلحق فرعه بأصله ويحقق أصله من فرعه، ويصل معقوله بمنقوله، وينسب منقوله لمعانيه، ويعرض ما فهم منه على ما علم من استنباط أهله، فسكوته عنه أولى من كلامه فيه، إذ خطأه أقرب من إصابته، وضلاله أسرع من هدايته، إلا أن يقتصر على مجرد النقل المحرر من الإيهام والإبهام. فرب حامل فقه غير فقيه فيسلم له نقله لا قوله. وبالله سبحانه التوفيق.
قاعدة 35
غلاة المتصوفة كغلاة الأصوليين والمتفقهين
يعتبر الفرع بأصله وقاعدته، فإن وافق قبل، وإلا رد على مدعيه إن تأهل، أو تأول عليه إن قبل، أو سلم له إن كملت مرتبته علماً وديانةً، ثم هو غير قادح في الأصل، لأن فساد الفاسد إليه يعود، ولا يقدح في صالح الصالح شيئاً، فغلاة المتصوفة كأهل الأهواء من الأصوليين، وكالمطعون عليهم من المتفقهين، يرد قولهم، ويتجنب فعلهم، ولا يترك المذهب الحق الثابت بنسبتهم له وظهورهم فيه والله أعلم.
قاعدة 36
أهمية ضبط العلم بقواعده
ضبط العلم بقواعده مهم، لأنها تضبط مسائله، وتُفهم معانيه، وتدرك مبانيه، وينتفي الغلط من دعواه، وتهدي المتبصر فيه، وتعين المتذكر عليه، وتقيم حجة المناظر، وتوضح المحجة للناظر، وتبين الحق لأهله، والباطل في محله. واستخراجها من فروعه عند تحققها، أمكن لمريدها لكن بُعدَ الأفهام مانع من ذلك، فلذلك اهتم بها المتأخر والمتقدم. والله سبحانه أعلم.
قاعدة 37
السبب في تأخر تدوين قواعد علم التصوف
لما كانت دلالة التصوف بجملته على التوجه إلى الله من حيث يرضى، كَفت أوائله مع التزام واتباع الفقه، فكان الاعتناء بعمله، أكثر من علمه، ومن ثم لم تدون قواعده، ولم تمهد أصوله، وإن أشار إليها أئمته كالسلمي في فصوله، والقشيري في رسالته، والله أعلم.
قاعدة 38
المتقدم في العلم ليس بأولى من المتأخر
إذا حُقق أصل العلم، وعرفت مواده وجرت فروعه، ولاحت أصوله، كان الفهم فيه مبذولاً بين أهله. فليس المتقدم فيه بأولى من المتأخر، وإن كانت له فضيلة السبق، فالعلم حاكم، ونظر المتأخر أتم، لأنه زائد على المتقدم والفتح من الله مأمول لكل أحد.
ولله در ابن مالك رحمه الله حيث يقول: (إذا كانت العلوم منحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين). نعوذ بالله من حسد يسدّ باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف. انتهى وهو عجيب.
قاعدة 39
إتيان المتأخر بما لم يسبق إليه لا يلزم منه القدح في المتقدم
العلماء مصدقون فيما ينقلون، لأنه موكول لأمانتهم. مبحوث معهم فيما يقولون، لأنه نتيجة عقولهم والعصمة غير ثابتة لهم، فلزم التبصر والنظر وطلباً للحق والتحقيق، لا اعتراضاً على القائل والناقل. ثم إن أتى المتأخر بما لم يسبق إليه، فهو على رتبته، ولا يلزمه القدح في المتقدم، ولا إساءة الأدب معه، لأن ما ثبت من عدالة المتقدم، قاض برجوعه للحق عند بيانه لو سمعه فهو ملزوم به، إن أدى لنقض قوله مع حقيقته لا أرجحيته، إذ الاحتمال ثبت له، ومن ثم خالف أئمة متأخري الأمة أولها، ولم يكن قدحاً في واحد منهما، فافهم.
قاعدة 40
مبنى الحال على التسليم والتصديق وصاحب الحال لا يقتدى به
مبنى العلم على البحث والتحقيق، ومبنى الحال على التسليم والتصديق، فإذا تكلم العارف من حيث العلم نظر في قوله بأصله من الكتاب والسنة وآثار السلف، لأن العلم معتبر بأصله. وإذا تكلم من حيث الحال، سُلم له ذوقه، إذ لا يوصل إليه إلا بمثله، فهو معتبر بوجدانه.
فالعلم به مستند لأمانة صاحبه، ثم لا يقتدى به، لعدم عموم حكمه، إلا في حق مثله .
قال أستاذ لمريده: (يا بني برّد الماء، فإنك إن شربت ماءاً بارداً حمدت الله بكلية قلبك، وإن شربته ساخناً حمدت الله على كزازة نفس)، قال: يا سيدي والرجل الذي وجد قلته قد انبسطت عليها الشمس، فقال: أستحي من الله أن أنقلها لحظة. قال: يا بني، ذلك صاحب الحال لا يقتدى به. انتهى.
الأحكام الشرعية في باب الرد والقبول فتأمل ذلك تجده. وبالله التوفيق.
قاعدة 28
الإخلال بشروط العلم يحرم الوصول لحقيقته
لكلّ شيء وجه، فطالب العلم في بدايته شرطه الاستماع والقبول، ثم التصور والتفهم، ثم التعليل والاستدلال، ثم العمل والنشر، ومتى قدم رتبة عن محلها حرم الوصول لحقيقة العلم من وجهها. فعالم بغير تحصيل ضحكة، ومحصّل دون تقوى لا عبرة به، وصورة لا يصحبها الفهم لا يفيدها غيره، وعلم عري عن الحجة لا ينشرح به الصدر، وما لم ينتج فهو عقيم، والمذاكرة حياته لكن بشرط الإنصاف والتواضع وهو قبول الحق بحسن الخلق، ومتى كثر العدد انتفيا، فاقتصر ولا تنتصر، واطلب ولا تقصر، وبالله التوفيق.
قاعدة 29
إحكام وجه الطلب معين على تحصيل المطلوب
إحكام وجه الطلب معين على تحصيل المطلوب، ومن ثم كان حسن السؤال نصف العلم، إذ جواب السائل على قدر تهذيب المسائل. وقد قال ابن العريف رحمه الله: (لا بد لكلّ طالب علم حقيقي من ثلاثة أشياء:
أحدهما: معرفة الإنصاف، ولزومه بالأوصاف.
الثاني: تحرير وجه السؤال، وتجريده من عموم جهة الإشكال.
الثالث: تحقيق الفرق بين ا لخلاف والاختلاف).
قلت: فما رجع لأصل واحد، فاختلاف، يكون حكم الله في كلٍ، ما أدّاه الله إليه اجتهاده، وما رجع لأصلين يتبين بطلان أحدهما عند تحقيق النظر فخلاف، والله أعلم.
قاعدة 30
لا تجعل لأحد من أهل الظاهر حجة على أهل الباطن
التعاون على الشيء ميسّر لطلبه، ومسهل لمشاقه على النفس وتعبه، فلذلك ألفته النفوس، حتى أمر به على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان. فلزم مراعاة الأول في كلّ شيء لا كالثاني.
ومنه قول سيدي أبي عبد الله بن عباد رحمه الله تعالى: (أوصيكم بوصية لا يعقلها إلا من عقل وجرب، ولا يهملها إلا من غفل فحجب، وهي : أن لا تأخذوا في هذا العلم مع متكبر، ولا صاحب بدعة ولا مقلد.
فأما الكبر: فطابع يمنع من فهم الآيات والعبر.
والبدعة: توقع في البلايا الكبر.
والتقليد: يمنع من بلوغ الوطر ونيل الظفر.)
قال: (ولا تجعلوا لأحد من أهل الظاهر حجة على أهل الباطن).
قلت: (بل يبحثوا على أن يجعلوا أهل الظاهر حجة لهم لا عليهم)، إذ كل باطن مجرد عن الظواهر باطل، والحقيقة ما عقد بالشريعة، فافهم.
قاعدة 31
مدار الفقه على ما يسقط به الحرج، ومدار التصوف على طلب الكمال
الفقه مقصود لإثبات الحكم في العموم، فمداره على إثبات ما يسقط به الحرج، والتصوف مرصده طلب الكمال. ومرجعه لتحقيق الأكمل حكماً وحكمة. والأصول شرط في النفي والإثبات، فمدارها على التحقيق المجرد {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، فافهم.
قاعدة 32
الصوفي من عامل الحق بالحقيقة والخلق بالشريعة
مادة الشيء مستفادة من أصوله، ثم قد يشارك الغير في مادته، ويخالفه في وجه استمداده. كالفقه والتصوف والأصول، أصولها: الكتاب والسنة، وقضايا العقل المسلمة بالكتاب والسنة. لكن الفقيه ينظر من حيث ثبوت الحكم الظاهر، للعمل الظاهر، بقاعدته المقتضية له. والصوفي ينظر من حيث الحقيقة في عين التحقيق، ولا نظر فيه للفقيه حتى يصل ظاهره بباطنه. والأصولي يعتبر حكم النفي والإثبات من غير زائد. فمن ثم قال ابن الجلاء رحمه الله: (من عامل الحق بالحقيقة، والخلق بالحقيقة، فهو زنديق، ومن عامل الحق بالشريعة، والخلق بالشريعة فهو سنيّ، ومن عامل الحق بالحقيقة، والخلق بالشريعة فهو صوفيّ)، انتهى. وهو عجيب مناسب لما قبله، تظهر أمثلته مما بعده.
قاعدة 33
من أمثلة طلب الكمال عند الصوفي
إنما يظهر الشيء بمثاله، ويقوى بدليله. فمثال الزنديق: الجبري الذي يريد إبطال الحكمة والأحكام. ومثال السني: ما وقع في حديث الثلاثة الذين اشتد عليهم الغار، فسأل الله كل واحد بأفضل أعماله كما صح، وعضدته ظواهر الأدلة ترغيباً وترهيباً والله أعلم.
ومثال الصوفي: حديث الرجل الذي استلف من رجل ألف دينار فقال: أبغني شاهداً. فقال: (كفى بالله شهيداً)، فقال: أبغني كفيلاً، فقال: (كفى بالله كفيلاً). فرضي. ثم لما حضر الأجل، خرج يلتمس مركباً فلم يجده، فنقر خشبة، وجعل فيها الألف دينار، ورقعة تقتضي الحكاية، وأبذلها للذي رضي به وهو الله سبحانه فوصلت. ثم جاءه بألف أخرى وفاءً بحق الشريعة. أخرجهما البخاري في جامعه. ومنه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}، الإنسان. فجعل متعلق الخوف مجرداً عن حامل العمل والله أعلم.
وقد قال رجل للشبلي رحمه الله: (كم في خمس من الإبل؟ قال: شاة في الواجب، فأما عندنا فكلها لله. قال له: فما أصلك في ذلك؟ قال: أبو بكر حين خرج عن ماله كله لله ورسوله. ثم قال: فمن خرج عن ماله كله لله فإمامه أبو بكر، ومن خرج عن بعضه فإمامه عثمان، ومن ترك الدنيا لأهلها، فإمامه علي رضي الله عنهم، وكل علم لا يؤدي إلى ترك الدنيا فليس بعلم). انتهى وهو عظيم في بابه.
قاعدة 34
على المتكلم في العلم أن يلحق فروعه بأصوله، ويصل معقوله بمنقوله
المتكلم في فن من فنون العلم، إن لم يُلحق فرعه بأصله ويحقق أصله من فرعه، ويصل معقوله بمنقوله، وينسب منقوله لمعانيه، ويعرض ما فهم منه على ما علم من استنباط أهله، فسكوته عنه أولى من كلامه فيه، إذ خطأه أقرب من إصابته، وضلاله أسرع من هدايته، إلا أن يقتصر على مجرد النقل المحرر من الإيهام والإبهام. فرب حامل فقه غير فقيه فيسلم له نقله لا قوله. وبالله سبحانه التوفيق.
قاعدة 35
غلاة المتصوفة كغلاة الأصوليين والمتفقهين
يعتبر الفرع بأصله وقاعدته، فإن وافق قبل، وإلا رد على مدعيه إن تأهل، أو تأول عليه إن قبل، أو سلم له إن كملت مرتبته علماً وديانةً، ثم هو غير قادح في الأصل، لأن فساد الفاسد إليه يعود، ولا يقدح في صالح الصالح شيئاً، فغلاة المتصوفة كأهل الأهواء من الأصوليين، وكالمطعون عليهم من المتفقهين، يرد قولهم، ويتجنب فعلهم، ولا يترك المذهب الحق الثابت بنسبتهم له وظهورهم فيه والله أعلم.
قاعدة 36
أهمية ضبط العلم بقواعده
ضبط العلم بقواعده مهم، لأنها تضبط مسائله، وتُفهم معانيه، وتدرك مبانيه، وينتفي الغلط من دعواه، وتهدي المتبصر فيه، وتعين المتذكر عليه، وتقيم حجة المناظر، وتوضح المحجة للناظر، وتبين الحق لأهله، والباطل في محله. واستخراجها من فروعه عند تحققها، أمكن لمريدها لكن بُعدَ الأفهام مانع من ذلك، فلذلك اهتم بها المتأخر والمتقدم. والله سبحانه أعلم.
قاعدة 37
السبب في تأخر تدوين قواعد علم التصوف
لما كانت دلالة التصوف بجملته على التوجه إلى الله من حيث يرضى، كَفت أوائله مع التزام واتباع الفقه، فكان الاعتناء بعمله، أكثر من علمه، ومن ثم لم تدون قواعده، ولم تمهد أصوله، وإن أشار إليها أئمته كالسلمي في فصوله، والقشيري في رسالته، والله أعلم.
قاعدة 38
المتقدم في العلم ليس بأولى من المتأخر
إذا حُقق أصل العلم، وعرفت مواده وجرت فروعه، ولاحت أصوله، كان الفهم فيه مبذولاً بين أهله. فليس المتقدم فيه بأولى من المتأخر، وإن كانت له فضيلة السبق، فالعلم حاكم، ونظر المتأخر أتم، لأنه زائد على المتقدم والفتح من الله مأمول لكل أحد.
ولله در ابن مالك رحمه الله حيث يقول: (إذا كانت العلوم منحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين). نعوذ بالله من حسد يسدّ باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف. انتهى وهو عجيب.
قاعدة 39
إتيان المتأخر بما لم يسبق إليه لا يلزم منه القدح في المتقدم
العلماء مصدقون فيما ينقلون، لأنه موكول لأمانتهم. مبحوث معهم فيما يقولون، لأنه نتيجة عقولهم والعصمة غير ثابتة لهم، فلزم التبصر والنظر وطلباً للحق والتحقيق، لا اعتراضاً على القائل والناقل. ثم إن أتى المتأخر بما لم يسبق إليه، فهو على رتبته، ولا يلزمه القدح في المتقدم، ولا إساءة الأدب معه، لأن ما ثبت من عدالة المتقدم، قاض برجوعه للحق عند بيانه لو سمعه فهو ملزوم به، إن أدى لنقض قوله مع حقيقته لا أرجحيته، إذ الاحتمال ثبت له، ومن ثم خالف أئمة متأخري الأمة أولها، ولم يكن قدحاً في واحد منهما، فافهم.
قاعدة 40
مبنى الحال على التسليم والتصديق وصاحب الحال لا يقتدى به
مبنى العلم على البحث والتحقيق، ومبنى الحال على التسليم والتصديق، فإذا تكلم العارف من حيث العلم نظر في قوله بأصله من الكتاب والسنة وآثار السلف، لأن العلم معتبر بأصله. وإذا تكلم من حيث الحال، سُلم له ذوقه، إذ لا يوصل إليه إلا بمثله، فهو معتبر بوجدانه.
فالعلم به مستند لأمانة صاحبه، ثم لا يقتدى به، لعدم عموم حكمه، إلا في حق مثله .
قال أستاذ لمريده: (يا بني برّد الماء، فإنك إن شربت ماءاً بارداً حمدت الله بكلية قلبك، وإن شربته ساخناً حمدت الله على كزازة نفس)، قال: يا سيدي والرجل الذي وجد قلته قد انبسطت عليها الشمس، فقال: أستحي من الله أن أنقلها لحظة. قال: يا بني، ذلك صاحب الحال لا يقتدى به. انتهى.
16151413121110987654 32 1
الكلمات المفتاحية :
التصوف
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: