قواعد التصوف احمد زروق 12
يجوز التشبه بأهل الخير في زيهم إلا إن قصد التلبيس والتغرير
المتشبه بالقوم ملحق بالمتشبه بهم لحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم)، لأنه مؤذن بالمحبة. وقد صح: (الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم قال: أنت مع من أحببت).
فجاز التشبه بأهل الخير في زيهم إلا أن قصد التلبيس والتغرير، كلباس المرقعة، وأخذ السبحة والعصا، والسجادة والأصباغ ونحوه لما في ذلك مما ذكر، ومن حماية النفس عن كبائر لا يمكن معه وإن أمكنت، فلا تمكن المجاهدة بها، ثم لباس المرقعة أعون على دفع الكلف، وأذهب للكبر، واقرب للحق مع الاقتداء
بعمر رضي الله عنه، إذ لبسها مع وجود غيرها لصلاح قلبه . إلا تراه يقول حين البس غيرها قال: أنكرت نفسي. وهو أيضا اقرب لوجود الحلال في اللباس نعم ، ولمنع أكثر الإذايات في الأسفار وغيرها، وقد أمر الله نساء المؤمنات مع أزواج رسول الله وبناته بالتدني حتى لا يعرفن فلا يؤذين. وكان عمر رضي الله عنه يضرب الإماء على التنقب للتشبه بالحرائر. وقال الشيخ أبو يوسف الدهماني رضي الله عنه لفقير له: أخذه العرب في البادية ولم يكن معه زي الفقراء المفرط أولى بالخسارة، لأن هذه الأسباب سلاح، من دخلها احترم من أجل الله، ومن لم يحترمه فقد هتك حرمه الله (ومن هتك حرمة الله) لا يفلح. وقال الشيخ لبعض الشباب: إياكم وهذه المرقعات فإنكم تكرمون لأجلها . فقال: يا أستاذ إنما نكرم بها من اجل النسبة إلى الله، قال: نعم. قال: حبذا من نكرم لأجله، قال الشيخ: بارك ا لله فيك، وكما قال.
قاعدة 145
يجوز التبرك بآثار أهل الخير ممن ظهرت كراماته
كرامة المتبِع شاهدة بصدق المتبَع، فله نسبة من (جهة) حرمته لثبوت الإرث له ، فمن ثم جاز التبرك بآثار أهل الخير ممن ظهرت كراماته، بديانة أو علم أو عمل ، أو اثر ظاهر ، كتكثير القليل أو الأخبار عن الغيب حسب فراسته وإجابة الدعوة،وتسخير الماء والهواء إلى ذلك مما صح من آيات الأنبياء،فيكون كرامة الأولياء . إذ الأصل التأسي حتى يأتي المخصص وقيل عكسه، ولم يزل أكابر الملة يتبركون بأهل الفضل من كل عصر وقطر، فلزم الاقتداء بهم حسبما يهدي إليهم النظر في الأشخاص، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 146
يُعرف باطن العبد من ظاهر حاله
يعرف باطن العبد من ظاهر حاله، لأن الأسرة تدل على السريرة، وما خامر القلوب فعلى الوجوه أثره يلوح، {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من اثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع اخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع نباته ليغيظ به الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيما}
وقال ذلك الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلما رأيته علمت انه ليس بوجه كذاب).
وقال عز من قائل (في المنافقين): {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم، ولتعرفنهم في لحن القول، والله يعلم أعمالكم}. وقيل: (الناس حوانيت مغلقة) فإذا تكلم الرجلان، تبين العطار من البيطار، لأن الكلام صفة المتكلم، وما فيك ظهر على فيك.
فمعرفة الرجل من ثلاثة: كلامه، وتصرفه، وطبعه، وتتعرف كلها من مغاضبته، فإن لزم الصدق، وآثر الحق، وسامع الخلق فهو ذاك، وإلا فليس هناك، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 147
إذا أردت أن تعرف صالح بلد فانظر لباطل أهلها هل هو بريء منه أم لا
لكل بلد ما يغلب عليها من الحق والباطل، فإذا أردت إن تعرف صالح بلد فانظر لباطل أهلها، هل هو بريء منه أم لا، فإن كان بريئا فهو ذاك، وإلا فلا عبرة به. وبحسب هذا، فاعتبر في أهل المغرب الأقصى، السخاء وحسن الخلق، فإن وجدت وإلا فدع.
وفي أهل الأندلس كذلك. وفي أهل المشرق الغيرة لله، وسلامة الصدر، وإلى غير ذلك. وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الأصل فذكر أوصاف البلاد وعوارضها، كقوله في المشرق: (الفتنة هاهنا). وكذا النجد. وفي الفرس: (لو كان الإيمان بالثريا لأدركه رجال منهم). وفي أهل اليمن: أنهم أرق أفئدة. وفي أهل المدينة: أنهم خير الناس مع ما وصفهم الله به من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وما وصف به أهل مصر من الأوصاف المذكورة وغيرها التي يبلغ عددها سبعة عشر موضعا في كتاب الله. وقال صلى الله عليه وسلم (السكينة والوقار في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في أهل الخيل، والغلظة والجفاة في الفدادين تباع إذناب الإبل والبقر في ربيعة ومضر). وقال عمر رضي الله عنه: (إفريقية بلاد مكر وخديعة). وقال مولانا جلت قدرته لذي القرنين في أهل المغرب الأقصى: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما، قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) فدل على استحقاقهم لكل ما يعاملون به من خير أو شر، وأنهم لكذلك والله سبحانه اعلم.
قاعدة 148
ما يجري في العموم قد ينتقض في الخصوص
ما يجري في العموم قد ينتقض في الخصوص، بل الموجود كذلك، والناس معادن، ففي كل بلدة سادة، وفي كل قطرة قادة، والشخص معتبر بوصفه، فمن ثم قيل: الناس أبناء أخلاقهم، والذم عموما لا يتناول من خلا عن سبيله، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 149
النظر بعين الكمال المطلق يقتضي التنقيص بما ليس بمنقص عند تحقيقه
النظر بعين الكمال المطلق يقتضي التنقيص بما ليس بمنقص عند تحقيقه، والعصمة غير موجودة لسوى الأنبياء. فلزم إن ينظر للغالب على أحوال الشخص لا لكله، فإن غلب صلاحه رجحه، وإن غلب غير ذلك رجحه.
وان تساويا، نظر فيه بوجه التحقيق فأعطى حكم المسألة فإن أمكن التأويل في الجميع، تأول ما لم يخرج لحد الفسق البين أو يتعلق بما ينقض طريقه.
قيل للجنيد رحمه الله: أيزني العارف؟ فسكت ملياً ثم قال: { وكان أمر الله قدراً مقدورا }
قال ابن عطاء الله رضي الله عنه : ليت شعري، لو قيل له: أتتعلق همة العارف بغير الله؟ لقال: لا. قلت: لأن عنوان معرفته تعلقه بربه، فإذا انتقص ذلك انتفى عن المعرفة، فافهم، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 150
من ظهرت عليه خارقة، إن صحت ديانته فكرامة وإلا فهي استدراج
من ظهرت عليه خارقة تقتضي ما هو أعم من كرامته، نظر فيها بفعله، فان صحت ديانته معها فكرامة، وإن لم تصح فاستدراج أو سحر. وإن ظهر بعد ثبوت الرتبة مناف مما يباح بوجه تأول مع إقامة الحق الشرعي إن تعين. وإن كان مما لا يباح بوجه فالحكم لازم،والتأويل غير مصادف محلاً إذ الحقائق لا تنقلب، والأحكام ثابتة على الذوات، فلزم الحكم عليه بحكمه. وأصل تأويل ما لا يباح بوجه مذكور في قضية الخضر مع موسى عليهما السلام، إذ بين الوجه عند فراقه، فافهم، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 151
الاختلاف في الخضر عليه السلام
وقائع الخصوص لا تتناول الحكم في العموم، فلا يعم إجراء الحكم المختص بقوم في عموم الخلق، لأنه ليس لهم به علم. وقد أمرنا بترك ما لا علم لنا به . فالقائل بان الخضر نبي مرسل، وإن من اعتقد فيه الولاية فقد تَنَقّصَه محجوج بنفي القاطع عن دعواه، ثم هو مسلم له فيما ادعاه، لاحتماله منعه من إجراء الأحكام عن أصل إلقائه وأمره إذ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لما قبلها، وما قدرته من ذلك إن ظهر وقوعه وإلا فلا يجدي حكمه، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 152
المزية لا تقتضي التفضيل
المزية لا تقتضي التفضيل، والاقتداء لا يصح إلا بذي علم كامل، أو دين. ولو قيل بالتفضيل بالمزايا للزم تفضيل إبليس على عوام المؤمنين، إذ له مزية خرق الهواء، والمشي على الماء، ونفوذ الأرض في لحظة وما اثبت الله له تعالى من أن يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه. وللزم تفضيل الخضر على موسى عليهما السلام، وكل ذلك لا يصح. فلزم أن التفضيل بحكم الله في الجملة فلا يتعرض له إلا بتوفيق ثابت في بابه. ولكن للدليل ترجيح فوجب التوقف عن الجزم، وجاز الخوض في الترجيح إذا أحوج إليه الوقت، وإلا فترك الكلام فيه أولى والله سبحانه اعلم.
قاعدة 153
النظر للأزمنة والأشخاص لا من حيث أصل شرعي أمر جاهلي
النظر للأزمنة والأشخاص لا من حيث أصل شرعي أمر جاهلي حيث قال الكفار: {وقالوا لولا انزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} الآية. {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}. فرد الله تعالى عليهم: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} الآية .
قاعدة 154
لزوم احترام المنتسب لجانب الله بأي وجه كان وعلى أي وجه كان
الانتساب مشعر بعظمة المنتسب إليه، والمنتسب فيه في نظر المنتسب فلذلك لزم احترام المنتسب لجانب الله بأي وجه كان، وعلى أي وجه كان ما لم يأت بما ينقصه على التعظيم.
فالنقص كمخالفة الشريعة صريحاً، فيتعين مراعاة نسبته وإقامة الحد عليه لأن الذي تعلق به هو الذي أمره. نعم يلزم تحقيق أمره فيه، وإلا عاد الضرر على معارضه لقصد هتك منتسب لجانب عظيم بمجرد هواه. فمن ثم تضرر كثير ممن يتعرض للاعتراض على "جانب" الله، وإن كانوا محقين، إذ الحق تعالى يغار لهتك جانبه، فلزم تحقيق المقام في النكير، وتصحيح النية بالغاية وإلا فالحذر الحذر، والله سبحانه اعلم .
قاعدة 155
عافية من ابتلي من الأكابر في بلائه
مقتضى الكرم أن تحفظ النسبة للمنتسب على وجه طلبه، ويشهد لذلك (أنا عند ظن عبدي بي).
ومن ثم قيل: (إن عافية من ابتلى من الأكابر في بلائه، إذ لا حاجة له في سوى رضا ربه ورضاه عنه بأي وجه كان، بل يطلب لقاءه على وجه يرضاه وإن كان فيه حتفه. إلا ترى لعمر رضي الله عنه حيث كان يطلب الشهادة فأعطيها وعثمان رضي الله عنه اختار القتل ظلما لحقن دماء المسلمين وتعجيله للقاء أصحابه ونبيه إلى غير ذلك. حتى أن بلالا لما كان في الموت قالت زوجته: (واكرباه) فقال: (واطرباه) غدا ألقى الأحبة، محمد وحزبه.
ومعاذ رضي الله عنه لما ذكر الوباء فقال: انه رحمة لهذه الأمة، اللهم لا تنسى معاذا وأهله من هذه الرحمة. فأخذته وباية في كفه، فكان يغمى عليه، ثم يفيق فيقول: أخنق خنقك، فوعزتك لتعلم أني أحبك، إلى غير ذلك.
ولما قتل الحجاج سعيد بن جبير رحمه الله، قال سعيد: (أنا آخر الناس عينا بك) قال: قد قتلت من هو أفضل منك. قال سعيد: (أولئك كانت قلوبهم متعلقة بالدار الآخرة فلم يبالوا، بل كانوا أحرص الناس على قربهم منها، وأنا قلبي متعلق بنفسي)، فقتله فكان آخر قتيل له بدعوته عليه فظهر الفرق، وإن عافية كل أحد على حسب حاله ومعاملة الحق له لا على حسب انتسابه، والله اعلم.
قاعدة 156
العافية سكون القلب عن الاضطراب حتى لو دخل صاحبها النار لرضي عن ربه
العافية سكون القلب عن الاضطراب، وقد يكون ذلك بسب عادم أو وجه شرعي، أو حقيقة تامة هي سكون القلب إلى الله تعالي، وهذه عافية أهل الكمال وهي الشاملة بكل حال حتى لو دخل صاحبها النار لرضي عن ربه فافهم، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 157
جواز التوسل بالأعمال الصالحة وبالأشخاص
لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه، وقد أمر بابتغاء الوسيلة إليه. وقيل: إتباع رسول الله، وقيل في العموم.
فيتوسل بالأعمال كأصحاب الغار الذين دعا كل وأحد بأفضل عمله. وبالأشخاص كتوسل عمر رضي الله بالعباس رضي الله عنه في استسقائه.
وجاء التغريب في دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب مطلقا، وفي دعاء المرء لأخيه مطلقا. أخرجه البخاري.
وقال عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه حين ذهب لعمرة له: (أشركنا في دعائك يا أخي)، وذلك للتعليم وإلا فهو عليه الصلاة والسلام وسيلة الوسائل، وأساس الخيرات والفضائل.
وقد روي عن مالك: (لا يتوسل بمخلوق أصلا)، وقيل: إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا كما قال أبو بكر بن العربي في زيارة المقابر: (لا يزار لينتفع به إلا قبره عليه السلام). وسيأتي إن شاء الله، والله اعلم.
قاعدة 158
الخرقة، ومناولة السبحة، وأخذ العهد والمصافحة والمشابكة
ليس الخرقة، ومناولة السبحة، وأخذ العهد والمصافحة والمشابكة من علم الرواية، إلا أن يقصد بها حال فتكون لأجله. وقد ذكر ابن أبي جمرة أخذ العهد في باب البيعة وألحقه بأقسامها، وأخذوا إلباس الخرقة من أحاديث وردت في خلعه صلى الله عليه وسلم على غير وأحد من أصحابه ومبايعة سلمة بن الأكوع، وكذا مبايعته صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد تحقق الإيمان وتقديره في قلوبهم إنما هو لذلك، ويجري حكم الإرث والتأسي فيها كغيرها فلا نكير لجري الخلاف ولا لزوم لوجود الاشتباه، ووجهها وطريقها ليس هذا محله. نعم، هي لمحب أو منتسب أو محقق، وفيها أسرار خفية يعلمها أهلها، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 159
زيارة القبور والتبرك وشد الرحال للمساجد
ما صح واتضح، وصحبه العمل لازم الإباحة، كزيارة المقابر، (فقيل): (ليس إلا لمجرد الاعتبار بها، لقوله r: (فإنها تذكر بالآخرة).
قيل: ولنفعها بالتلاوة والذكر والدعاء الذي اتفاق على وصوله كالصدقة. قيل: وللانتفاع بها، لأن كل من يتبرك به في حياته يجوز التبرك به بعد موته، كذا قال الإمام أو حامد الغزالي رحمه الله في (كتاب آداب السفر)، قال: ويجوز شد الرحال لهذا الغرض، ولا يعارضه حديثه: (لا تشد الرحال إلا للمساجد الثلاثة) لتساوي المساجد في الفضل دون الثلاثة، وتفاوت العلماء والصلحاء في الفضل فتجوز الرحلة عن الفاضل للأفضل. ويعرف ذلك من كراماته وعلمه وعمله سيما من ظهرت كرامته بعد موته مثلها في حياته، كالسبتي، أو أكثر منها في حياته، كابي يعزى، ومن جربت إجابة الدعاء عند قبره، وهو غبر واحد من أقطار الأرض، وقد أشار إليه الشافعي رحمه الله حيث قال: (قبر موسى الكاظم الترياق المجرب).
وكان شيخنا أبو عبد الله القوري رحمه الله يقول: (إذا كانت الرحمة تنزل عند ذكرهم، فما ظنك بمواطن اجتماعهم على ربهم، ويوم قدومهم عليه بالخروج من هذه الدار وهو يوم وفاتهم، فزيارتهم فيه تهنئة (لهم)، وتعرض لما يتجدد من نفحات الرحمة عليهم فهي إذا مستحبة إن سلمت من محرم ومكروه بين في أصل الشرع، كاجتماع النساء، وتلك الأمور التي تحدث هناك، ومراعاة آدابها من ترك التمسح بالقبر وعدم الصلاة عنده للتبرك، وإن كان عليه مسجد، لنهيه r عن ذلك وتشديده فيه ومراعاة حرمته ميتا كحرمته حيا، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 160
القطع بإيمان مسلم أو ولاية صالح
قد تفيد الدلائل من الظن ما يتنزل منزلة القطع، وإن كان لا يجري على حكمه في جميع الوجوه، كالقطع بإيمان مسلم ظهرت منه أعلام الإسلام، وكولاية صالح دلت على مقامه أفعاله وأقواله وشواهد أحواله، كل ذلك في علمنا من غير جزم بعلم الله فيه، إلا في حق من جاءنا عن الله مخصص له، كالعشرة المشهود لهم بالجنة.
وقد صح: (إذا رأيتهم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان).
وصح: (خصلتان لا يجتمعان في منافق: حسن سمت، وفقه دين، و (خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل، وسوء الخلق).
وصح حلف سعد على إيمان رجل، فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه وإن رده بقول: أو مسلم.
وصح: (ثلاثة من كن فيه فهو منافق) الحديث.
ولا يتناول من واقع ذلك من المؤمنين جملة، بل مجراه في حق من لا يبالي في أي جزء وقعت منه تلك الخصال من عقد أو عمل أو قول، إذا في كل واحدة.
ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (كل الخصال يطبع عليها المؤمن ليس الخيانة والكذب).
فنفى عنه أن يكون مطبوعا عليها لا غيره، فهي وإن وقعت منه فبالعرض لا بالأصالة، بخلاف المنافق، ولذلك لم تصح من مؤمن في كل شيء، إذ يستثنى جزءا، ولو في باب الكفر، إذ لا يجزم به ظاهرا كغيره، فكانت فيه لا في غيره والله سبحانه اعلم.
وقد يريد نفاقا دون نفاق، وحمله عليه جماعة من العلماء، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 161
الفراسة الشرعية نور إيماني ينبسط على القلب
الفراسة الشرعية، نور إيماني ينبسط على القلب حتى يتميز في نظر صاحبه حالة المنظور فيه عن غيره، بل يميز أحواله في النظر فيه، بحسب أوقاته. ولكل مؤمن منها نصيب، لكن لا يهتدي لحقيقتها إلا من صفا قلبه من الشواغل (والشواغب)، ثم هو لا يصح أن يقبل الخاطر منها إلا بعد تردده مدة في البداية، وبعد اعتياده على حسب اعتياده.
وإليها الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: (كان في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي، فعمر منهم).
وقال أبو بكر رضي الله عنه: (اقتسمي مع إخوتك).
وقال عثمان رضي الله عنه للرجل الذي دخل (عليه)، وقد نظر في محاسن امرأة: (أيدخل علي أحدكم وعيناه مملوءة زنا).
والفراسة الحكمية، اعتبار بواطن الأشخاص، بظواهر الحواس. وقد أشار إليها في حديث الرجل الذي قال: (اعدل).
وفي حديث: (تقاتلون قوما، نعالهم الشعر، وتقاتلون الترك). ونحوه ذلك.
وفائدة كل منهما، الالتفات لما دل عليه فيحذر، أو يعامل لا الجزم في الحكم، إذ لا تفيد قطعا ولا ظنا يتنزل منزلته والله سبحانه اعلم.
قاعدة 162
ذاهب العقل بحقيقة إلهية يعتبر من حيث إنه ظرف لمعنى شريف
ذهاب العقل، إن كان بخيالات وهمية، سقط اعتبار صاحبه ظاهرا أو باطنا. وبحقيقة إلهية، اعتبر صاحبه من حيث انه ظرف لمعنى شريف. ويدل على كل إشارته بحاله ومقاله، كقول بعض المجانين: (يا مناحيس لا يغرنكم إبليس فانه إن دخل النار، رجع إلى داره، وأنتم يجتمع عليكم العذاب والغربة).
وقال الشيخ أبو محمد عبد القادر رضي الله عنه: (إن لله عبادا عقلاء ومجانين، والعقلاء خير من المجانين) أو كما قال.
ولما نظر بعض القضاة لرجل قد أعطي التحول في الصورة وهو على مزبلة، قال في نفسه: إن الذي يعتقد هذا لخسيس العقل، فناداه في الحال: يا فقيه، قال: نعم، قال: هل أحطت بعلم الله؟ قال: لا. قال: (أنا من علم الله الذي لم تحط به). انتهى وهو عجيب، فسلم تسلم.
المتشبه بالقوم ملحق بالمتشبه بهم لحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم)، لأنه مؤذن بالمحبة. وقد صح: (الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم قال: أنت مع من أحببت).
فجاز التشبه بأهل الخير في زيهم إلا أن قصد التلبيس والتغرير، كلباس المرقعة، وأخذ السبحة والعصا، والسجادة والأصباغ ونحوه لما في ذلك مما ذكر، ومن حماية النفس عن كبائر لا يمكن معه وإن أمكنت، فلا تمكن المجاهدة بها، ثم لباس المرقعة أعون على دفع الكلف، وأذهب للكبر، واقرب للحق مع الاقتداء
بعمر رضي الله عنه، إذ لبسها مع وجود غيرها لصلاح قلبه . إلا تراه يقول حين البس غيرها قال: أنكرت نفسي. وهو أيضا اقرب لوجود الحلال في اللباس نعم ، ولمنع أكثر الإذايات في الأسفار وغيرها، وقد أمر الله نساء المؤمنات مع أزواج رسول الله وبناته بالتدني حتى لا يعرفن فلا يؤذين. وكان عمر رضي الله عنه يضرب الإماء على التنقب للتشبه بالحرائر. وقال الشيخ أبو يوسف الدهماني رضي الله عنه لفقير له: أخذه العرب في البادية ولم يكن معه زي الفقراء المفرط أولى بالخسارة، لأن هذه الأسباب سلاح، من دخلها احترم من أجل الله، ومن لم يحترمه فقد هتك حرمه الله (ومن هتك حرمة الله) لا يفلح. وقال الشيخ لبعض الشباب: إياكم وهذه المرقعات فإنكم تكرمون لأجلها . فقال: يا أستاذ إنما نكرم بها من اجل النسبة إلى الله، قال: نعم. قال: حبذا من نكرم لأجله، قال الشيخ: بارك ا لله فيك، وكما قال.
قاعدة 145
يجوز التبرك بآثار أهل الخير ممن ظهرت كراماته
كرامة المتبِع شاهدة بصدق المتبَع، فله نسبة من (جهة) حرمته لثبوت الإرث له ، فمن ثم جاز التبرك بآثار أهل الخير ممن ظهرت كراماته، بديانة أو علم أو عمل ، أو اثر ظاهر ، كتكثير القليل أو الأخبار عن الغيب حسب فراسته وإجابة الدعوة،وتسخير الماء والهواء إلى ذلك مما صح من آيات الأنبياء،فيكون كرامة الأولياء . إذ الأصل التأسي حتى يأتي المخصص وقيل عكسه، ولم يزل أكابر الملة يتبركون بأهل الفضل من كل عصر وقطر، فلزم الاقتداء بهم حسبما يهدي إليهم النظر في الأشخاص، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 146
يُعرف باطن العبد من ظاهر حاله
يعرف باطن العبد من ظاهر حاله، لأن الأسرة تدل على السريرة، وما خامر القلوب فعلى الوجوه أثره يلوح، {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من اثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع اخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع نباته ليغيظ به الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيما}
وقال ذلك الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلما رأيته علمت انه ليس بوجه كذاب).
وقال عز من قائل (في المنافقين): {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم، ولتعرفنهم في لحن القول، والله يعلم أعمالكم}. وقيل: (الناس حوانيت مغلقة) فإذا تكلم الرجلان، تبين العطار من البيطار، لأن الكلام صفة المتكلم، وما فيك ظهر على فيك.
فمعرفة الرجل من ثلاثة: كلامه، وتصرفه، وطبعه، وتتعرف كلها من مغاضبته، فإن لزم الصدق، وآثر الحق، وسامع الخلق فهو ذاك، وإلا فليس هناك، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 147
إذا أردت أن تعرف صالح بلد فانظر لباطل أهلها هل هو بريء منه أم لا
لكل بلد ما يغلب عليها من الحق والباطل، فإذا أردت إن تعرف صالح بلد فانظر لباطل أهلها، هل هو بريء منه أم لا، فإن كان بريئا فهو ذاك، وإلا فلا عبرة به. وبحسب هذا، فاعتبر في أهل المغرب الأقصى، السخاء وحسن الخلق، فإن وجدت وإلا فدع.
وفي أهل الأندلس كذلك. وفي أهل المشرق الغيرة لله، وسلامة الصدر، وإلى غير ذلك. وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الأصل فذكر أوصاف البلاد وعوارضها، كقوله في المشرق: (الفتنة هاهنا). وكذا النجد. وفي الفرس: (لو كان الإيمان بالثريا لأدركه رجال منهم). وفي أهل اليمن: أنهم أرق أفئدة. وفي أهل المدينة: أنهم خير الناس مع ما وصفهم الله به من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وما وصف به أهل مصر من الأوصاف المذكورة وغيرها التي يبلغ عددها سبعة عشر موضعا في كتاب الله. وقال صلى الله عليه وسلم (السكينة والوقار في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في أهل الخيل، والغلظة والجفاة في الفدادين تباع إذناب الإبل والبقر في ربيعة ومضر). وقال عمر رضي الله عنه: (إفريقية بلاد مكر وخديعة). وقال مولانا جلت قدرته لذي القرنين في أهل المغرب الأقصى: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما، قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) فدل على استحقاقهم لكل ما يعاملون به من خير أو شر، وأنهم لكذلك والله سبحانه اعلم.
قاعدة 148
ما يجري في العموم قد ينتقض في الخصوص
ما يجري في العموم قد ينتقض في الخصوص، بل الموجود كذلك، والناس معادن، ففي كل بلدة سادة، وفي كل قطرة قادة، والشخص معتبر بوصفه، فمن ثم قيل: الناس أبناء أخلاقهم، والذم عموما لا يتناول من خلا عن سبيله، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 149
النظر بعين الكمال المطلق يقتضي التنقيص بما ليس بمنقص عند تحقيقه
النظر بعين الكمال المطلق يقتضي التنقيص بما ليس بمنقص عند تحقيقه، والعصمة غير موجودة لسوى الأنبياء. فلزم إن ينظر للغالب على أحوال الشخص لا لكله، فإن غلب صلاحه رجحه، وإن غلب غير ذلك رجحه.
وان تساويا، نظر فيه بوجه التحقيق فأعطى حكم المسألة فإن أمكن التأويل في الجميع، تأول ما لم يخرج لحد الفسق البين أو يتعلق بما ينقض طريقه.
قيل للجنيد رحمه الله: أيزني العارف؟ فسكت ملياً ثم قال: { وكان أمر الله قدراً مقدورا }
قال ابن عطاء الله رضي الله عنه : ليت شعري، لو قيل له: أتتعلق همة العارف بغير الله؟ لقال: لا. قلت: لأن عنوان معرفته تعلقه بربه، فإذا انتقص ذلك انتفى عن المعرفة، فافهم، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 150
من ظهرت عليه خارقة، إن صحت ديانته فكرامة وإلا فهي استدراج
من ظهرت عليه خارقة تقتضي ما هو أعم من كرامته، نظر فيها بفعله، فان صحت ديانته معها فكرامة، وإن لم تصح فاستدراج أو سحر. وإن ظهر بعد ثبوت الرتبة مناف مما يباح بوجه تأول مع إقامة الحق الشرعي إن تعين. وإن كان مما لا يباح بوجه فالحكم لازم،والتأويل غير مصادف محلاً إذ الحقائق لا تنقلب، والأحكام ثابتة على الذوات، فلزم الحكم عليه بحكمه. وأصل تأويل ما لا يباح بوجه مذكور في قضية الخضر مع موسى عليهما السلام، إذ بين الوجه عند فراقه، فافهم، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 151
الاختلاف في الخضر عليه السلام
وقائع الخصوص لا تتناول الحكم في العموم، فلا يعم إجراء الحكم المختص بقوم في عموم الخلق، لأنه ليس لهم به علم. وقد أمرنا بترك ما لا علم لنا به . فالقائل بان الخضر نبي مرسل، وإن من اعتقد فيه الولاية فقد تَنَقّصَه محجوج بنفي القاطع عن دعواه، ثم هو مسلم له فيما ادعاه، لاحتماله منعه من إجراء الأحكام عن أصل إلقائه وأمره إذ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لما قبلها، وما قدرته من ذلك إن ظهر وقوعه وإلا فلا يجدي حكمه، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 152
المزية لا تقتضي التفضيل
المزية لا تقتضي التفضيل، والاقتداء لا يصح إلا بذي علم كامل، أو دين. ولو قيل بالتفضيل بالمزايا للزم تفضيل إبليس على عوام المؤمنين، إذ له مزية خرق الهواء، والمشي على الماء، ونفوذ الأرض في لحظة وما اثبت الله له تعالى من أن يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه. وللزم تفضيل الخضر على موسى عليهما السلام، وكل ذلك لا يصح. فلزم أن التفضيل بحكم الله في الجملة فلا يتعرض له إلا بتوفيق ثابت في بابه. ولكن للدليل ترجيح فوجب التوقف عن الجزم، وجاز الخوض في الترجيح إذا أحوج إليه الوقت، وإلا فترك الكلام فيه أولى والله سبحانه اعلم.
قاعدة 153
النظر للأزمنة والأشخاص لا من حيث أصل شرعي أمر جاهلي
النظر للأزمنة والأشخاص لا من حيث أصل شرعي أمر جاهلي حيث قال الكفار: {وقالوا لولا انزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} الآية. {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}. فرد الله تعالى عليهم: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} الآية .
قاعدة 154
لزوم احترام المنتسب لجانب الله بأي وجه كان وعلى أي وجه كان
الانتساب مشعر بعظمة المنتسب إليه، والمنتسب فيه في نظر المنتسب فلذلك لزم احترام المنتسب لجانب الله بأي وجه كان، وعلى أي وجه كان ما لم يأت بما ينقصه على التعظيم.
فالنقص كمخالفة الشريعة صريحاً، فيتعين مراعاة نسبته وإقامة الحد عليه لأن الذي تعلق به هو الذي أمره. نعم يلزم تحقيق أمره فيه، وإلا عاد الضرر على معارضه لقصد هتك منتسب لجانب عظيم بمجرد هواه. فمن ثم تضرر كثير ممن يتعرض للاعتراض على "جانب" الله، وإن كانوا محقين، إذ الحق تعالى يغار لهتك جانبه، فلزم تحقيق المقام في النكير، وتصحيح النية بالغاية وإلا فالحذر الحذر، والله سبحانه اعلم .
قاعدة 155
عافية من ابتلي من الأكابر في بلائه
مقتضى الكرم أن تحفظ النسبة للمنتسب على وجه طلبه، ويشهد لذلك (أنا عند ظن عبدي بي).
ومن ثم قيل: (إن عافية من ابتلى من الأكابر في بلائه، إذ لا حاجة له في سوى رضا ربه ورضاه عنه بأي وجه كان، بل يطلب لقاءه على وجه يرضاه وإن كان فيه حتفه. إلا ترى لعمر رضي الله عنه حيث كان يطلب الشهادة فأعطيها وعثمان رضي الله عنه اختار القتل ظلما لحقن دماء المسلمين وتعجيله للقاء أصحابه ونبيه إلى غير ذلك. حتى أن بلالا لما كان في الموت قالت زوجته: (واكرباه) فقال: (واطرباه) غدا ألقى الأحبة، محمد وحزبه.
ومعاذ رضي الله عنه لما ذكر الوباء فقال: انه رحمة لهذه الأمة، اللهم لا تنسى معاذا وأهله من هذه الرحمة. فأخذته وباية في كفه، فكان يغمى عليه، ثم يفيق فيقول: أخنق خنقك، فوعزتك لتعلم أني أحبك، إلى غير ذلك.
ولما قتل الحجاج سعيد بن جبير رحمه الله، قال سعيد: (أنا آخر الناس عينا بك) قال: قد قتلت من هو أفضل منك. قال سعيد: (أولئك كانت قلوبهم متعلقة بالدار الآخرة فلم يبالوا، بل كانوا أحرص الناس على قربهم منها، وأنا قلبي متعلق بنفسي)، فقتله فكان آخر قتيل له بدعوته عليه فظهر الفرق، وإن عافية كل أحد على حسب حاله ومعاملة الحق له لا على حسب انتسابه، والله اعلم.
قاعدة 156
العافية سكون القلب عن الاضطراب حتى لو دخل صاحبها النار لرضي عن ربه
العافية سكون القلب عن الاضطراب، وقد يكون ذلك بسب عادم أو وجه شرعي، أو حقيقة تامة هي سكون القلب إلى الله تعالي، وهذه عافية أهل الكمال وهي الشاملة بكل حال حتى لو دخل صاحبها النار لرضي عن ربه فافهم، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 157
جواز التوسل بالأعمال الصالحة وبالأشخاص
لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه، وقد أمر بابتغاء الوسيلة إليه. وقيل: إتباع رسول الله، وقيل في العموم.
فيتوسل بالأعمال كأصحاب الغار الذين دعا كل وأحد بأفضل عمله. وبالأشخاص كتوسل عمر رضي الله بالعباس رضي الله عنه في استسقائه.
وجاء التغريب في دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب مطلقا، وفي دعاء المرء لأخيه مطلقا. أخرجه البخاري.
وقال عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه حين ذهب لعمرة له: (أشركنا في دعائك يا أخي)، وذلك للتعليم وإلا فهو عليه الصلاة والسلام وسيلة الوسائل، وأساس الخيرات والفضائل.
وقد روي عن مالك: (لا يتوسل بمخلوق أصلا)، وقيل: إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا كما قال أبو بكر بن العربي في زيارة المقابر: (لا يزار لينتفع به إلا قبره عليه السلام). وسيأتي إن شاء الله، والله اعلم.
قاعدة 158
الخرقة، ومناولة السبحة، وأخذ العهد والمصافحة والمشابكة
ليس الخرقة، ومناولة السبحة، وأخذ العهد والمصافحة والمشابكة من علم الرواية، إلا أن يقصد بها حال فتكون لأجله. وقد ذكر ابن أبي جمرة أخذ العهد في باب البيعة وألحقه بأقسامها، وأخذوا إلباس الخرقة من أحاديث وردت في خلعه صلى الله عليه وسلم على غير وأحد من أصحابه ومبايعة سلمة بن الأكوع، وكذا مبايعته صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد تحقق الإيمان وتقديره في قلوبهم إنما هو لذلك، ويجري حكم الإرث والتأسي فيها كغيرها فلا نكير لجري الخلاف ولا لزوم لوجود الاشتباه، ووجهها وطريقها ليس هذا محله. نعم، هي لمحب أو منتسب أو محقق، وفيها أسرار خفية يعلمها أهلها، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 159
زيارة القبور والتبرك وشد الرحال للمساجد
ما صح واتضح، وصحبه العمل لازم الإباحة، كزيارة المقابر، (فقيل): (ليس إلا لمجرد الاعتبار بها، لقوله r: (فإنها تذكر بالآخرة).
قيل: ولنفعها بالتلاوة والذكر والدعاء الذي اتفاق على وصوله كالصدقة. قيل: وللانتفاع بها، لأن كل من يتبرك به في حياته يجوز التبرك به بعد موته، كذا قال الإمام أو حامد الغزالي رحمه الله في (كتاب آداب السفر)، قال: ويجوز شد الرحال لهذا الغرض، ولا يعارضه حديثه: (لا تشد الرحال إلا للمساجد الثلاثة) لتساوي المساجد في الفضل دون الثلاثة، وتفاوت العلماء والصلحاء في الفضل فتجوز الرحلة عن الفاضل للأفضل. ويعرف ذلك من كراماته وعلمه وعمله سيما من ظهرت كرامته بعد موته مثلها في حياته، كالسبتي، أو أكثر منها في حياته، كابي يعزى، ومن جربت إجابة الدعاء عند قبره، وهو غبر واحد من أقطار الأرض، وقد أشار إليه الشافعي رحمه الله حيث قال: (قبر موسى الكاظم الترياق المجرب).
وكان شيخنا أبو عبد الله القوري رحمه الله يقول: (إذا كانت الرحمة تنزل عند ذكرهم، فما ظنك بمواطن اجتماعهم على ربهم، ويوم قدومهم عليه بالخروج من هذه الدار وهو يوم وفاتهم، فزيارتهم فيه تهنئة (لهم)، وتعرض لما يتجدد من نفحات الرحمة عليهم فهي إذا مستحبة إن سلمت من محرم ومكروه بين في أصل الشرع، كاجتماع النساء، وتلك الأمور التي تحدث هناك، ومراعاة آدابها من ترك التمسح بالقبر وعدم الصلاة عنده للتبرك، وإن كان عليه مسجد، لنهيه r عن ذلك وتشديده فيه ومراعاة حرمته ميتا كحرمته حيا، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 160
القطع بإيمان مسلم أو ولاية صالح
قد تفيد الدلائل من الظن ما يتنزل منزلة القطع، وإن كان لا يجري على حكمه في جميع الوجوه، كالقطع بإيمان مسلم ظهرت منه أعلام الإسلام، وكولاية صالح دلت على مقامه أفعاله وأقواله وشواهد أحواله، كل ذلك في علمنا من غير جزم بعلم الله فيه، إلا في حق من جاءنا عن الله مخصص له، كالعشرة المشهود لهم بالجنة.
وقد صح: (إذا رأيتهم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان).
وصح: (خصلتان لا يجتمعان في منافق: حسن سمت، وفقه دين، و (خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل، وسوء الخلق).
وصح حلف سعد على إيمان رجل، فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه وإن رده بقول: أو مسلم.
وصح: (ثلاثة من كن فيه فهو منافق) الحديث.
ولا يتناول من واقع ذلك من المؤمنين جملة، بل مجراه في حق من لا يبالي في أي جزء وقعت منه تلك الخصال من عقد أو عمل أو قول، إذا في كل واحدة.
ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (كل الخصال يطبع عليها المؤمن ليس الخيانة والكذب).
فنفى عنه أن يكون مطبوعا عليها لا غيره، فهي وإن وقعت منه فبالعرض لا بالأصالة، بخلاف المنافق، ولذلك لم تصح من مؤمن في كل شيء، إذ يستثنى جزءا، ولو في باب الكفر، إذ لا يجزم به ظاهرا كغيره، فكانت فيه لا في غيره والله سبحانه اعلم.
وقد يريد نفاقا دون نفاق، وحمله عليه جماعة من العلماء، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 161
الفراسة الشرعية نور إيماني ينبسط على القلب
الفراسة الشرعية، نور إيماني ينبسط على القلب حتى يتميز في نظر صاحبه حالة المنظور فيه عن غيره، بل يميز أحواله في النظر فيه، بحسب أوقاته. ولكل مؤمن منها نصيب، لكن لا يهتدي لحقيقتها إلا من صفا قلبه من الشواغل (والشواغب)، ثم هو لا يصح أن يقبل الخاطر منها إلا بعد تردده مدة في البداية، وبعد اعتياده على حسب اعتياده.
وإليها الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: (كان في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي، فعمر منهم).
وقال أبو بكر رضي الله عنه: (اقتسمي مع إخوتك).
وقال عثمان رضي الله عنه للرجل الذي دخل (عليه)، وقد نظر في محاسن امرأة: (أيدخل علي أحدكم وعيناه مملوءة زنا).
والفراسة الحكمية، اعتبار بواطن الأشخاص، بظواهر الحواس. وقد أشار إليها في حديث الرجل الذي قال: (اعدل).
وفي حديث: (تقاتلون قوما، نعالهم الشعر، وتقاتلون الترك). ونحوه ذلك.
وفائدة كل منهما، الالتفات لما دل عليه فيحذر، أو يعامل لا الجزم في الحكم، إذ لا تفيد قطعا ولا ظنا يتنزل منزلته والله سبحانه اعلم.
قاعدة 162
ذاهب العقل بحقيقة إلهية يعتبر من حيث إنه ظرف لمعنى شريف
ذهاب العقل، إن كان بخيالات وهمية، سقط اعتبار صاحبه ظاهرا أو باطنا. وبحقيقة إلهية، اعتبر صاحبه من حيث انه ظرف لمعنى شريف. ويدل على كل إشارته بحاله ومقاله، كقول بعض المجانين: (يا مناحيس لا يغرنكم إبليس فانه إن دخل النار، رجع إلى داره، وأنتم يجتمع عليكم العذاب والغربة).
وقال الشيخ أبو محمد عبد القادر رضي الله عنه: (إن لله عبادا عقلاء ومجانين، والعقلاء خير من المجانين) أو كما قال.
ولما نظر بعض القضاة لرجل قد أعطي التحول في الصورة وهو على مزبلة، قال في نفسه: إن الذي يعتقد هذا لخسيس العقل، فناداه في الحال: يا فقيه، قال: نعم، قال: هل أحطت بعلم الله؟ قال: لا. قال: (أنا من علم الله الذي لم تحط به). انتهى وهو عجيب، فسلم تسلم.
16151413121110987654 32 1
الكلمات المفتاحية :
التصوف
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: