قواعد التصوف احمد زروق 6
إثبات الحكم بالذات، ليس كإثباته بعوارض الصفات
إثبات الحكم بالذات، ليس كإثباته بعوارض الصفات. فقوله صلى الله عليه وسلم: (سلمان منا أهل البيت)، لاتصافه بجوامع النسب الدينية حتى لو كان الإيمان بالثريا لأدركه.
وقد قيل في قوله صلى الله عليه وسلم: (الأقربون أولى بالمعروف) إنه يعني إلى الله، إذ لا يتوارث أهل ملتين. فالمعتبر أصل النسب الديني وفروعه مجرداً، ثم إن اتصاف للطيني كان له مؤكداً، فلا تلحق رتبة صاحبه بحال.
وقد أجيب عن قول الشيخ أبي محمد عبد القادر رحمه الله تعالى: (قدمي هذا على رقبة كل ولي) في زمانه. لأنه جمع من علو النسب، شرف العبادة والعلم، ما لم يكن لغيره من أهل وقته. إلا ترى ما روي من احتلامه في ليلة واحدة سبعين مرة، واغتساله لكلها، وفتياه لملك حلف: ليعبدن الله بعبادة لا يشركه فيها غيره، بإخلاء المطاف بعد وقوف الكل دونه في ذلك، والله أعلم.
قاعدة 55
إنما وضعت التراجم لتعريف المناصب، فمن عرفت رتبته كانت الترجمة له تكلفا
إنما وضعت التراجم لتعريف المناصب، فمن عرفت رتبته كانت الترجمة له تكلفاً، غير مفيدة في ذاته. ومن جهلت رتبته لزم عند ذكره الإتيان بما يشعر برتبته، ومن هذه القاعدة جاز أن يقال: (روى أبو بكر، وقال عمر، وعمل عثمان، وسمع علي، وكان ابن المسيب، وأخبر ابن سيرين، وقال الحسن، وذهب مالك، وحُكِيَ عن الجنيد) إلى غير ذلك، والله أعلم.
قاعدة 56
نظر الصوفي للمعاملات، أخص من نظر الفقيه
نظرُ الصوفي للمعاملات، أخص من نظر الفقيه، إذ الفقيه يعتبر ما يسقط به الحرج، والصوفي ينظر فيما يحصل به الكمال. وأخص أيضاً من نظر الأصولي، لأن الأصولي يعتبر ما يصح به المعتقد، والصوفي ينظر فيما يتقوى به اليقين. وأخص أيضاً من نظر المفسر وصاحب فقه الحديث، لأن كلاً منهما يعتبر الحكم والمعنى ليس إلا، وهو يزيد بطلب الإشارة بعد إثبات ما أثبتناه، وإلا فهو باطني خارج الشريعة، فضلاً عن المتصوفة، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 57
تنوع الفرع بتنوع أصله، وأصل التصوف هو مقام الإحسان
تنوع الفرع بتنوع أصله، وقد تقدم أن أصل التصوف في مقام الإحسان، وهو متنوع إلى نوعين:
أحدهما: بدل من الآخر، هما أن تعبد الله كأنك تراه، وإلا فإنه يراك. فالأول رتبة العارف، والثاني: رتبة من دونه. وعلى الأول يحوم الشاذلية ومن نحا نحوهم، وعن الثاني يحوم الغزالي ومن نحا نحوه.
والأول أقرب، لأن غرس شجرتها مشير لقصد ثمرتها ومبناها على الأصول التي قد تحصل لكل مؤمن وجودها. فالطباع مساعدة عليها، والشريعة قائمة فيها، إذ مطلوبها تقوية اليقين وتحقيقه بأعمال المتقين، فافهم.
قاعدة 58
في اختلاف المسالك راحة للسالك
في اختلاف المسالك راحة للسالك، وإعانة على ما أراد من بلوغ الأرب والتوصل بالمراد. فلذلك اختلف طرق القوم ووجوه سلوكهم، فمن ناسك يؤثر الفضائل بكل حال، ومن عابد يتمسك بصحيح الأعمال، ومن زاهد يفر من الخلائق، ومن عارف يتعلق بالحقائق، ومن ورع يحقق المقام بالاحتياط ، ومن متمسك يتعلق بالقوم في كل مناط، ومن مريد يقوم بمعاملة البساط، والكل في دائرة الحق بإقامة حق الشريعة والفرار من كل ذميمة وشنيعة.
قاعدة 59
اتباع الأحسن أبدا، محبوب طبعا، مطلوب شرعا
اتباع الأحسن أبداً، محبوب طبعاً، مطلوب شرعاً {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب}.
إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفاسفها. (إن الله جميل يحب الجمال). ولذا بُني التصوف على اتباع الأحسن، حتى قال ابن العريف رحمه الله تعالى: (السرّ الأعظم في طريق الإرادة. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه).
والاستحسان يختلف باختلاف نظر المستحسن، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 60
تعدد وجوه الحسن، يقضي بتعدد الاستحسان
تعدد وجوه الحسن، يقضي بتعدد الاستحسان [وحصول الحسن لكل مستحسن]، فمن ثم كان لكل فريق طريق: فللعامي تصوف حوته كتب المحاسبي، ومن نحا نحوه، وللفقيه تصوف رحاه ابن الحاج في مدخله، وللمحدث تصوف حام حوله ابن العربي في سراجه، وللعابد تصوف دار عليه الغزالي في منهاجه، وللمتريض تصوف نبه عليه القشيري في رسالته، وللناسك تصوف حواه القوت والإحياء، وللحكيم تصوف أدخله الحاتمي في كتبه، وللمنطقي تصوف نحا إليه ابن سبعين في تآليفه، وللطبائعي تصوف جاء به البوني في أسراره. وللأصولي تصوف قام الشاذلي بتحقيقه، فليعتبر كل بأصله من محله، وبالله التوفيق.
قاعدة 61
لا حظّ للعامي فيما سوى الحذر والإشفاق، والأخذ بأيسر المسالك وأبينها
لا حظّ للعامي فيما سوى الحذر والإشفاق، والأخذ بأيسر المسالك وأبينها لديه، وذلك بالتزام التقوى في البداية قبل وقوع الذنب والاستدراك بالتوبة لما وقع منه بعد تدقيق النظر في ذلك دون ما سواه. وقد اعتنى بذلك المحاسبي وحرره أتم تحرير، إلا أنه شدد غاية التشديد، وذلك في البداية وتعين المقصد به عند النهاية، سيما رعايته ونصائحه. فقد قال أوحد زمانه علماً وعبادة وأفضلهم ورعاً وزهادة، سيدي أحمد بن عاشر رضي الله عنه: (لا يعمل بما فيه [إلا ولي]، أو كلاماً هذا معناه، كذا نقله سيدي أبو عبد الله بن عباد [في تنبيهه] رضي الله عن جميعهم بمنه.
قاعدة 62
إنما يؤخذ علم كل شيء من أربابه
إنما يؤخذ علم كل شيء من أربابه، فلا يعتمد صوفي في الفقه، إلا أن يعرف قيامه عليه، ولا فقيه في التصوف، إلا أن يعرف تحقيقه له، ولا محدث فيهما، إلا أن يعلم قيامه بهما. فلزم طلب الفقه من قبل الفقهاء لمريد التصوف. وإنما يرجع لأهل الطريقة، فيما يختص بصلاح باطنه من ذلك، ومن غيره. ولذلك كان الشيخ أبو محمد المرجاني رضي الله عنه، يأمر أصحابه بالرجوع للفقهاء في مسائل الفقه، وإن كان عارفاً بها، فافهم.
قاعدة 63
يعتبر اللفظ بمعناه، ويؤخذ المعنى من اللفظ
يعتبر اللفظ بمعناه، ويؤخذ المعنى من اللفظ. فكل طالب اعتنى باللفظ أكثر من المعنى، فاته تحصيل المعاني، وكل طالب أهمل اللفظ كان المعنى بعيداً عنه. ومن اقتصر على فهم ما يؤديه اللفظ من غير تعمق ولا تتبع كان أقرب لإفادته واستفادته، فإن أضاف لفهم المعنى أجزاء النظر في حقيقته بأصوله اهتدى للتحقيق إذ العلوم إن لم تكن منك ومنها، كنت بعيداً عنها. فمنك بلا منها فساد وضلال، ومنها بلا منك مجازفة وتقليد، ومنها ومنك توقف وتحقيق، ولذا قيل: (قف حيث وقفوا ثم سر)، والله أعلم.
قاعدة 64
غاية اتباع التقوى التمسك بالورع، وهو ترك ما يحيك في الصدر
غاية اتباع التقوى التمسك بالورع، وهو ترك ما لا بأس به، مما يحيك في الصدر، حذراً مما به بأس، كما صح: (لا يبلغ الرجل درجة المتقين حتى يدع ما حاك في الصدر). وشك بلا علامة وسوسة، وورع بلا سنة بدعة. ومنه التورع عن اليمين في الحق بالحق من غير إكثار. فلا يصح قول من قال: (من الديانة إلا تحلف بالله صادقاً ولا كاذباً). لما استفاض من آثار السلف وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بل [قد] قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن يحلف به، فاحلفوا بالله وبروا واصدقوا).
ونهى الله تعالى عن أن يجعل عرضة للأيمان، فليتق وقوعه غاية، ولا يجتنب بالكلية، والله أعلم.
قاعدة 65
من كمال التقوى وجود الاستقامة، وهي حمل النفس على أخلاق القران والسنة
من كمال التقوى وجود الاستقامة، وهي حمل النفس على أخلاق القرآن والسنة، كقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}، وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}، إلى غير ذلك. ولا يتم أمرها إلا بشيخ ناصح، أو أخ صالح يدل العبد على اللائق به لصالح حاله، إذ رُبّ شيخ ضره ما انتفع به غيره، ويدل على ذلك اختلاف أحوال الصحابة في أعمالهم ووصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ومعاملته معهم. فنهى عبد الله بن عمر عن سرد الصوم، وأقر عليه حمزة بن عمر الأسلمي. وقال في ابن عمر: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)، وأوصى أبا هريرة بأن لا ينام إلا على وتر، وأمر أبا بكر برفع صوته في صلاته، وعمر بالإخفاء، وتفقد علياً وفاطمة لصلاتهما من الليل، وعائشة تعترض بين يديه اعتراض الجنازة فلم يوقظها، وأعلم معاذ بن جبل بأن من قال: (لا إله إلا الله وجبت له الجنة)، وأمر بإخفاء ذلك عن كل الناس. وخص حذيفة بالسرّ، وأسرّ لبعض الصحابة أذكاراً مع ترغيبه في الخير عموماً.
وهذه كلها تربية منه صلى الله عليه وسلم في مقام الاستقامة، والله أعلم.
قاعدة 66
أخذ العلم والعمل عن المشايخ والإفادة من همتهم وحالهم
أخذ العلم والعمل عن المشايخ أتم من أخذ دونهم، بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، واتبع سبيل من آب إليّ.
فلزمت المشيخة، سيما والصحابة أخذوا عنه صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ عن جبريل، واتبع إشارته في أن يكون: نبياً عبداً، [لا نبياً ملكاً]. وأخذ التابعون عن الصحابة، فكان لكل أتباع يختصون به كابن سيرين، وابن المسيب، والأعرج في أبي هريرة، وطاووس، ووهب، ومجاهد لابن عباس إلى غير ذلك. فأما العلم والعمل، فأخذه جلي فيما ذكروا، وكما ذكروا. وأما الإفادة بالهمة والحال فقد أشار إليها أنس بقوله: (ما نفضنا التراب عن أيدينا من دفنه عليه الصلاة والسلام حتى أن كرنا قلوبنا)، فأبان أن رؤية شخصه الكريم، كان نافعاً لهم في قلوبهم، والعلماء ورثة الأنبياء حالاً ومالاً وإن لم يدانوا المنزلة وهو الأصل في طلب القرب من أهل الله في الجملة. إذ من تحقق بحالة لم يخل حاضروه منها، فلذلك أمر بصحبة الصالحين، ونهى عن صحبة الفاسقين، فافهم.
قاعدة 67
ضبط النفس بالاقتداء بشيخ لازم لمنع التشعب والتشعث
ضبط النفس بأصل، يرجع إليه في العلم والعمل [لأنه] لازم لمنع التشعب والتشعث، فلزم الاقتداء بشيخ، قد تحقق أتباعه للسنة، تمكنه من المعرفة ليرجع إليه فيما يريد أو يراد، مع التقاط الفوائد الراجعة لأصله من خارج، إذ الحكمة ضالة المؤمن، وهو كالنحلة ترعى من كل طيب ثم لا تبيت في غير جبحها، وإلا لم ينتفع بعسلها.
وقد تشاجر فقراء الأندلس من المتأخرين، في الاكتفاء بالكتب عن المشايخ ثم كتبوا للبلاد، فكل أجاب على حسب فتحه. وجملة الأجوبة دائرة على ثلاث:
أولها:
النظر للمشايخ، فشيخ التعليم تكفي عنه الكتب للبيت حاذق الذي يعرف موارد العلم.
وشيخ التربية تكفي عنه الصحبة لذي دين عاقل ناصح.
وشيخ الترقية يكفي عنه اللقاء والتبرك. كل ذلك من وجه واحد أتم.
الثاني:
النظر لحال الطالب، فالبليد لا بد له من شيخ يربيه، واللبيب تكفي الكتب في ترقيه، لكنه لا يسلم من رعونة نفسه، وإن وصل لابتلاء العبد برؤية نفسه.
الثالث:
النظر للمجاهدات. فالتقوى لا تحتاج إلى شيخ لبيانها وعمومها. والاستقامة تحتاج إلى شيخ في تمييز الأصلح منها، وقد يكتفي دونه اللبيب بالكتب ومجاهدة الكشف، والترقية لا بد فيها من شيخ يرجع إليه في فتوحها، كرجوعه عليه السلام للعرض على ورقة [بن نوفل] لعلمه بأخبار النبوة ومبادئ ظهورها، حين فاجأه الحق. وهذه الطريقة قريبة من الأولى والسنة معهما، والله أعلم.
إثبات الحكم بالذات، ليس كإثباته بعوارض الصفات. فقوله صلى الله عليه وسلم: (سلمان منا أهل البيت)، لاتصافه بجوامع النسب الدينية حتى لو كان الإيمان بالثريا لأدركه.
وقد قيل في قوله صلى الله عليه وسلم: (الأقربون أولى بالمعروف) إنه يعني إلى الله، إذ لا يتوارث أهل ملتين. فالمعتبر أصل النسب الديني وفروعه مجرداً، ثم إن اتصاف للطيني كان له مؤكداً، فلا تلحق رتبة صاحبه بحال.
وقد أجيب عن قول الشيخ أبي محمد عبد القادر رحمه الله تعالى: (قدمي هذا على رقبة كل ولي) في زمانه. لأنه جمع من علو النسب، شرف العبادة والعلم، ما لم يكن لغيره من أهل وقته. إلا ترى ما روي من احتلامه في ليلة واحدة سبعين مرة، واغتساله لكلها، وفتياه لملك حلف: ليعبدن الله بعبادة لا يشركه فيها غيره، بإخلاء المطاف بعد وقوف الكل دونه في ذلك، والله أعلم.
قاعدة 55
إنما وضعت التراجم لتعريف المناصب، فمن عرفت رتبته كانت الترجمة له تكلفا
إنما وضعت التراجم لتعريف المناصب، فمن عرفت رتبته كانت الترجمة له تكلفاً، غير مفيدة في ذاته. ومن جهلت رتبته لزم عند ذكره الإتيان بما يشعر برتبته، ومن هذه القاعدة جاز أن يقال: (روى أبو بكر، وقال عمر، وعمل عثمان، وسمع علي، وكان ابن المسيب، وأخبر ابن سيرين، وقال الحسن، وذهب مالك، وحُكِيَ عن الجنيد) إلى غير ذلك، والله أعلم.
قاعدة 56
نظر الصوفي للمعاملات، أخص من نظر الفقيه
نظرُ الصوفي للمعاملات، أخص من نظر الفقيه، إذ الفقيه يعتبر ما يسقط به الحرج، والصوفي ينظر فيما يحصل به الكمال. وأخص أيضاً من نظر الأصولي، لأن الأصولي يعتبر ما يصح به المعتقد، والصوفي ينظر فيما يتقوى به اليقين. وأخص أيضاً من نظر المفسر وصاحب فقه الحديث، لأن كلاً منهما يعتبر الحكم والمعنى ليس إلا، وهو يزيد بطلب الإشارة بعد إثبات ما أثبتناه، وإلا فهو باطني خارج الشريعة، فضلاً عن المتصوفة، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 57
تنوع الفرع بتنوع أصله، وأصل التصوف هو مقام الإحسان
تنوع الفرع بتنوع أصله، وقد تقدم أن أصل التصوف في مقام الإحسان، وهو متنوع إلى نوعين:
أحدهما: بدل من الآخر، هما أن تعبد الله كأنك تراه، وإلا فإنه يراك. فالأول رتبة العارف، والثاني: رتبة من دونه. وعلى الأول يحوم الشاذلية ومن نحا نحوهم، وعن الثاني يحوم الغزالي ومن نحا نحوه.
والأول أقرب، لأن غرس شجرتها مشير لقصد ثمرتها ومبناها على الأصول التي قد تحصل لكل مؤمن وجودها. فالطباع مساعدة عليها، والشريعة قائمة فيها، إذ مطلوبها تقوية اليقين وتحقيقه بأعمال المتقين، فافهم.
قاعدة 58
في اختلاف المسالك راحة للسالك
في اختلاف المسالك راحة للسالك، وإعانة على ما أراد من بلوغ الأرب والتوصل بالمراد. فلذلك اختلف طرق القوم ووجوه سلوكهم، فمن ناسك يؤثر الفضائل بكل حال، ومن عابد يتمسك بصحيح الأعمال، ومن زاهد يفر من الخلائق، ومن عارف يتعلق بالحقائق، ومن ورع يحقق المقام بالاحتياط ، ومن متمسك يتعلق بالقوم في كل مناط، ومن مريد يقوم بمعاملة البساط، والكل في دائرة الحق بإقامة حق الشريعة والفرار من كل ذميمة وشنيعة.
قاعدة 59
اتباع الأحسن أبدا، محبوب طبعا، مطلوب شرعا
اتباع الأحسن أبداً، محبوب طبعاً، مطلوب شرعاً {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب}.
إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفاسفها. (إن الله جميل يحب الجمال). ولذا بُني التصوف على اتباع الأحسن، حتى قال ابن العريف رحمه الله تعالى: (السرّ الأعظم في طريق الإرادة. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه).
والاستحسان يختلف باختلاف نظر المستحسن، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 60
تعدد وجوه الحسن، يقضي بتعدد الاستحسان
تعدد وجوه الحسن، يقضي بتعدد الاستحسان [وحصول الحسن لكل مستحسن]، فمن ثم كان لكل فريق طريق: فللعامي تصوف حوته كتب المحاسبي، ومن نحا نحوه، وللفقيه تصوف رحاه ابن الحاج في مدخله، وللمحدث تصوف حام حوله ابن العربي في سراجه، وللعابد تصوف دار عليه الغزالي في منهاجه، وللمتريض تصوف نبه عليه القشيري في رسالته، وللناسك تصوف حواه القوت والإحياء، وللحكيم تصوف أدخله الحاتمي في كتبه، وللمنطقي تصوف نحا إليه ابن سبعين في تآليفه، وللطبائعي تصوف جاء به البوني في أسراره. وللأصولي تصوف قام الشاذلي بتحقيقه، فليعتبر كل بأصله من محله، وبالله التوفيق.
قاعدة 61
لا حظّ للعامي فيما سوى الحذر والإشفاق، والأخذ بأيسر المسالك وأبينها
لا حظّ للعامي فيما سوى الحذر والإشفاق، والأخذ بأيسر المسالك وأبينها لديه، وذلك بالتزام التقوى في البداية قبل وقوع الذنب والاستدراك بالتوبة لما وقع منه بعد تدقيق النظر في ذلك دون ما سواه. وقد اعتنى بذلك المحاسبي وحرره أتم تحرير، إلا أنه شدد غاية التشديد، وذلك في البداية وتعين المقصد به عند النهاية، سيما رعايته ونصائحه. فقد قال أوحد زمانه علماً وعبادة وأفضلهم ورعاً وزهادة، سيدي أحمد بن عاشر رضي الله عنه: (لا يعمل بما فيه [إلا ولي]، أو كلاماً هذا معناه، كذا نقله سيدي أبو عبد الله بن عباد [في تنبيهه] رضي الله عن جميعهم بمنه.
قاعدة 62
إنما يؤخذ علم كل شيء من أربابه
إنما يؤخذ علم كل شيء من أربابه، فلا يعتمد صوفي في الفقه، إلا أن يعرف قيامه عليه، ولا فقيه في التصوف، إلا أن يعرف تحقيقه له، ولا محدث فيهما، إلا أن يعلم قيامه بهما. فلزم طلب الفقه من قبل الفقهاء لمريد التصوف. وإنما يرجع لأهل الطريقة، فيما يختص بصلاح باطنه من ذلك، ومن غيره. ولذلك كان الشيخ أبو محمد المرجاني رضي الله عنه، يأمر أصحابه بالرجوع للفقهاء في مسائل الفقه، وإن كان عارفاً بها، فافهم.
قاعدة 63
يعتبر اللفظ بمعناه، ويؤخذ المعنى من اللفظ
يعتبر اللفظ بمعناه، ويؤخذ المعنى من اللفظ. فكل طالب اعتنى باللفظ أكثر من المعنى، فاته تحصيل المعاني، وكل طالب أهمل اللفظ كان المعنى بعيداً عنه. ومن اقتصر على فهم ما يؤديه اللفظ من غير تعمق ولا تتبع كان أقرب لإفادته واستفادته، فإن أضاف لفهم المعنى أجزاء النظر في حقيقته بأصوله اهتدى للتحقيق إذ العلوم إن لم تكن منك ومنها، كنت بعيداً عنها. فمنك بلا منها فساد وضلال، ومنها بلا منك مجازفة وتقليد، ومنها ومنك توقف وتحقيق، ولذا قيل: (قف حيث وقفوا ثم سر)، والله أعلم.
قاعدة 64
غاية اتباع التقوى التمسك بالورع، وهو ترك ما يحيك في الصدر
غاية اتباع التقوى التمسك بالورع، وهو ترك ما لا بأس به، مما يحيك في الصدر، حذراً مما به بأس، كما صح: (لا يبلغ الرجل درجة المتقين حتى يدع ما حاك في الصدر). وشك بلا علامة وسوسة، وورع بلا سنة بدعة. ومنه التورع عن اليمين في الحق بالحق من غير إكثار. فلا يصح قول من قال: (من الديانة إلا تحلف بالله صادقاً ولا كاذباً). لما استفاض من آثار السلف وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بل [قد] قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن يحلف به، فاحلفوا بالله وبروا واصدقوا).
ونهى الله تعالى عن أن يجعل عرضة للأيمان، فليتق وقوعه غاية، ولا يجتنب بالكلية، والله أعلم.
قاعدة 65
من كمال التقوى وجود الاستقامة، وهي حمل النفس على أخلاق القران والسنة
من كمال التقوى وجود الاستقامة، وهي حمل النفس على أخلاق القرآن والسنة، كقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}، وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}، إلى غير ذلك. ولا يتم أمرها إلا بشيخ ناصح، أو أخ صالح يدل العبد على اللائق به لصالح حاله، إذ رُبّ شيخ ضره ما انتفع به غيره، ويدل على ذلك اختلاف أحوال الصحابة في أعمالهم ووصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ومعاملته معهم. فنهى عبد الله بن عمر عن سرد الصوم، وأقر عليه حمزة بن عمر الأسلمي. وقال في ابن عمر: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)، وأوصى أبا هريرة بأن لا ينام إلا على وتر، وأمر أبا بكر برفع صوته في صلاته، وعمر بالإخفاء، وتفقد علياً وفاطمة لصلاتهما من الليل، وعائشة تعترض بين يديه اعتراض الجنازة فلم يوقظها، وأعلم معاذ بن جبل بأن من قال: (لا إله إلا الله وجبت له الجنة)، وأمر بإخفاء ذلك عن كل الناس. وخص حذيفة بالسرّ، وأسرّ لبعض الصحابة أذكاراً مع ترغيبه في الخير عموماً.
وهذه كلها تربية منه صلى الله عليه وسلم في مقام الاستقامة، والله أعلم.
قاعدة 66
أخذ العلم والعمل عن المشايخ والإفادة من همتهم وحالهم
أخذ العلم والعمل عن المشايخ أتم من أخذ دونهم، بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، واتبع سبيل من آب إليّ.
فلزمت المشيخة، سيما والصحابة أخذوا عنه صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ عن جبريل، واتبع إشارته في أن يكون: نبياً عبداً، [لا نبياً ملكاً]. وأخذ التابعون عن الصحابة، فكان لكل أتباع يختصون به كابن سيرين، وابن المسيب، والأعرج في أبي هريرة، وطاووس، ووهب، ومجاهد لابن عباس إلى غير ذلك. فأما العلم والعمل، فأخذه جلي فيما ذكروا، وكما ذكروا. وأما الإفادة بالهمة والحال فقد أشار إليها أنس بقوله: (ما نفضنا التراب عن أيدينا من دفنه عليه الصلاة والسلام حتى أن كرنا قلوبنا)، فأبان أن رؤية شخصه الكريم، كان نافعاً لهم في قلوبهم، والعلماء ورثة الأنبياء حالاً ومالاً وإن لم يدانوا المنزلة وهو الأصل في طلب القرب من أهل الله في الجملة. إذ من تحقق بحالة لم يخل حاضروه منها، فلذلك أمر بصحبة الصالحين، ونهى عن صحبة الفاسقين، فافهم.
قاعدة 67
ضبط النفس بالاقتداء بشيخ لازم لمنع التشعب والتشعث
ضبط النفس بأصل، يرجع إليه في العلم والعمل [لأنه] لازم لمنع التشعب والتشعث، فلزم الاقتداء بشيخ، قد تحقق أتباعه للسنة، تمكنه من المعرفة ليرجع إليه فيما يريد أو يراد، مع التقاط الفوائد الراجعة لأصله من خارج، إذ الحكمة ضالة المؤمن، وهو كالنحلة ترعى من كل طيب ثم لا تبيت في غير جبحها، وإلا لم ينتفع بعسلها.
وقد تشاجر فقراء الأندلس من المتأخرين، في الاكتفاء بالكتب عن المشايخ ثم كتبوا للبلاد، فكل أجاب على حسب فتحه. وجملة الأجوبة دائرة على ثلاث:
أولها:
النظر للمشايخ، فشيخ التعليم تكفي عنه الكتب للبيت حاذق الذي يعرف موارد العلم.
وشيخ التربية تكفي عنه الصحبة لذي دين عاقل ناصح.
وشيخ الترقية يكفي عنه اللقاء والتبرك. كل ذلك من وجه واحد أتم.
الثاني:
النظر لحال الطالب، فالبليد لا بد له من شيخ يربيه، واللبيب تكفي الكتب في ترقيه، لكنه لا يسلم من رعونة نفسه، وإن وصل لابتلاء العبد برؤية نفسه.
الثالث:
النظر للمجاهدات. فالتقوى لا تحتاج إلى شيخ لبيانها وعمومها. والاستقامة تحتاج إلى شيخ في تمييز الأصلح منها، وقد يكتفي دونه اللبيب بالكتب ومجاهدة الكشف، والترقية لا بد فيها من شيخ يرجع إليه في فتوحها، كرجوعه عليه السلام للعرض على ورقة [بن نوفل] لعلمه بأخبار النبوة ومبادئ ظهورها، حين فاجأه الحق. وهذه الطريقة قريبة من الأولى والسنة معهما، والله أعلم.
16151413121110987654 32 1
الكلمات المفتاحية :
التصوف
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: