الفقه الحنبلي - الجهاد
[ فصل ] فان جاء العدو بلدا فلاهله التحصن منهم وان كانوا أكثر من نصفهم ليلحقهم مدد أو قوة ولا يكون ذلك توليا ولا فرارا إنما التولي بعد اللقاء فان لقوهم خارج الحصن فلهم التحيز إلى
الحصن لانه بمنزلة التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة، وان غزوا فذهبت دوابهم فليس ذلك عذرا في الفرار لان القتال ممكن للرجالة وان تحيزو إلى جبل ليقاتلوا فيه رجالة فلا بأس لانه تحرف للقتال وان ذهب سلاحهم فتحيزوا إلى مكان يمكنهم القتال فيه بالحجارة والتستر بالشجر ونحوه أولهم في التحيز إليه فائدة جاز (فصل) وان فروا قبل احراز الغنيمة فلا شئ لهم إذا أحرزها غيرهم لان ملكها لمن احرزها وان ادعوا أنهم فروا متحيزين إلى فئة أو متحرفين للقتال فلا شئ لهم أيضا لذلك وان فروا بعد احراز الغنيمة لم يسقط سهمهم منها لانهم ملكوا الغنيمة بحيازتها فلم يزل ملكهم عنها بفرارهم (مسألة) (فان القي في مركبهم نار فاشتعلت فيه فالذي يغلب على ظنهم السلامة فيه من المقام أو إلقاء أنفسهم في الماء فالاولى لهم فعله وان استوى عندهم الامران فقال أحمد رحمه الله كيف شاء صنع)
قال الاوزاعي هما موتتان فاختر ايسرهما وعنه يلزمهم المقام ذكرها ابو الخطاب لانهم إذا رموا أنفسهم بالماء كان موتهم بفعلهم وإذا أقاموا فموتهم بفعل غيرهم (فصل) قال رضي الله عنه (ويجوز تبييت الكفار ورميهم بالمنجنيق وقطع المياه عنهم وهدم حصونهم) معنى تبييت الكفار كبسهم ليلا وقتلهم وهم غارون قال أحمد لا بأس بالبيات وهل غزو
الروم الا بالبيات؟ قال ولا نعلم احدا كره بيات العدو وذلك لما روى الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسئل عن الديار من ديار المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال (هم منهم) متفق عليه وقد قال سلمة بن الاكوع رضي الله عنه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابا بكر رضي الله عنه فغزونا ناسا من المشركين فبيتناهم رواه أبو داود، فان قيل فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والذرية، قلنا هذا محمول على التعمد قتلهم (لقتلهم) قال أحمد أما ان يتعمد قتلهم فلا قال وحديث الصعب بعد نهيه وعن قتل النساء لان نهيه عن قتل النساء حين بعث إلى ابن أبي الحقيق وعلى ان الجمع بينهما يحمل النهي على التعمد والاباحة على ما عداه ويجوز رميهم بالمنجنيق لان النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف، وظاهر كلامه ههنا أنه يجوز مع الحاجة وعدمها للحديث وممن رأى ذلك الثوري والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وقد روي عن عمرو بن العاص انه نصب المنجنيق على الاسكندرية ولان القتال به معتاد اشبه الرمي بالسهام وبجوز رميهم بالنار وهدم حصونهم وقطع المياه عنهم وان تضمن ذلك اتلاف النساء والصبيان لحديث الصعب بن جثامة في البيات وهذا في معناه ولان النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق وهو يهدم الحصون عادة (مسألة) (ولا يجوز احراق نحل ولا تغريقه) هذا قول عامة أهل العلم منهم الاوزاعي والليث والشافعي وقيل لمالك انحرق بيوت نحلهم؟ فقال
ما النحل فلا ادري ما هو؟ ومقتضى مذهب ابي حنيفة اباحته لان فيه غيظا لهم واضعافا فاشبه قتل بهائمهم حال قتالهم
ولنا ماروي عن ابي بكر الصديق رضي الله عنه انه قال ليزيد بن ابي سفيان حين بعثه اميرا على على القتال بالشام ولا تحرقن نحلا ولا تغرقنه وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه انه قدم عليه ابن اخيه من غزاة غزاها فقال لعلك حرقت حرثا؟ قال نعم قال لعلك حرقت نحلا؟ قال نعم قال لعلك قتلت صبيا قال نعم قال ليكن غزوك كفافا اخرجهما سعيد ونحو ذلك عن ثوبان ولان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النحلة ولانه افساد فيدخل في عموم قوله تعالى (وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يجب الفساد) ولانه حيوان ذو روح فلم يجز قتله ليغيظهم كنسائهم وصبيانهم فاما أخذ العسل وأكله فمباح لانه من الطعام المباح، وهل يجوز أخذ الشهد كله؟ فيه روايتان [ إحداهما ] لا يجوز لان فيه هلاك النحل [ والثانية ] يجوز لان هلاكه انما يحصل ضمنا غير مقصود فاشبه قتل النساء في البيات (مسألة) (ولا يجوز عقر دابة ولا ذبح شاة إلا لاكل يحتاج إليه) اما عقر دوابهم في غير حال الحرب لمغايظتهم والافساد عليهم فلا يجوز سواء خفنا اخذهم لها أو
لم نخف وبهذا قال الليث والاوزاعي والشافعي وابو ثور وقال ابو حنيفة ومالك يجوز لان فيه غيظا لهم وإضعافا لقوتهم فاشبه قتلها حال قتالهم ولنا ان أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في وصيته ليزيد حين بعثه أميرا: يا يزيد لا تقتل صبيا ولا امرأة ولا هرما ولا تخربن عامرا ولا تعقرن شجرا مثمرا ولا دابة عجماء ولا شاة إلا لمأكلة ولا تحرقن نحلا ولا تغرقنه ولا تغلل ولا تجبن فان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل شئ من الدواب صبرا، ولانه حيوان ذوحرمة فاشبه قتل النساء والصبيان، فاما حال الحرب فيجوز فيها قتل المشركين كيف أمكن بخلاف حالهم إذا قدر عليهم ولهذا جاز قتل النساء والصبيان في البيات وفي المطمورة وإذا لم يتعمد قتلهم منفردين بخلاف حالة القدرة عليهم، وقتل بهائمهم حال القتال يتوصل به إلى قتلهم وهزيمتهم وقد روي ان حنظلة بن الراهب عقر فرس أبي سفيان به يوم احد فرمت به فخلصه ابن شعوب وليس في هذا خلاف
(فصل) فاما عقرها للاكل فان كانت الحاجة داعية إليه ولابد منه فمباح لان الحاجة تبيح مال المعصوم فمال الكفار اولى، وان لم تكن الحاجة داعية وكان الحيوان لا يراد إلا للاكل كالدجاج والحمام وسائر الطير والصيود فحكمه حكم الطعام في قول الجميع لانه لا يراد لغير الاكل وتقل قيمته فاشبه الطعام، وان كان مما يحتاج إليه في القتال كالخيل لم يجز ذبحه للاكل في قولهم جميعا وان كان غير
ذلك كالبقر والغنم لم يبح وهذا ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي ظاهر كلام أحمد اباحته لان هذا الحيوان في باب الاكل مثل الطعام فكان مثله في اباحته كالطير وإذا ذبح الحيوان أكل لحمه وليس له الانتفاع بجلده لانه انما ابيح له ما يأكله دون غيره قال عبد الرحمن بن معاذ كلوا لحم الشاة وردوا اهابها إلى المغنم.
ووجه الاول ماروى سعيد عن أبي الاحوص عن سماك بن حرب عن ثعلبة بن الحكم قال اصبنا غنما للعدو فانتهبناها فنصبنا قدورنا فمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقدور وهي تغلي فأمر بها فاكفئت ثم قال لهم (ان النهبة لا تحل) ولان هذه الحيوانات تكثر قيمتها وتشح بها انفس الغانمين ويمكن حملها إلى دار الاسلام بخلاف الطير والطعام لكن ان اذن الامير فيها جاز لما روى عطية بن قيس قال كنا إذا خرجنا في سرية فاصبنا غنما نادى منادي الامام الا من أراد ان يتناول شيئا من هذه الغنم فليتناول انا لا نستطيع سياقتها رواه سعيد وكذلك قسمها لما روى معاذ رضي الله عنه قال غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر فاصبنا غنما فقسم بيننا النبي صلى الله عليه وسلم طائفة وجعل بقيتها في المغنم رواه أبو داود وروى سعيد باسناده ان رجلا نحر جزورا بارض الروم فلما بردت قال أيها الناس خذوا من لحم هذا الجزور فقد اذنا لكم فقال مكحول يا غساني ألا تأتينا من لحم هذا الجزور فقال يا أبا عبد الله ألا ترى ما عليها من النهي؟ قال محكول لا نهي في المأذون فيه
قال شيخنا ولم يفرق اصحابنا بين جميع البهائم في هذ المسألة، ويقوى عندي ان ما عجز المسلمون عن سياقته وأخذه ان كان مما يستعين به الكفار كالخيل جاز عقره واتلافه لانه مما يحرم إيصاله إلى الكفار بالبيع فتركه لهم بلا عوض اولى بالتحريم، وان كان مما يصلح للاكل فللمسلمين ذبحه والاكل منه مع
الحاجة وعدمها، وما عدا هذين القسمين لا يجوز اتلافه لانه مجرد افساد واتلاف وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان لغير مأكلة (مسألة) (وفي حرق شجرهم، وزرعهم وقطعه روايتان (إحداهما) يجوز ان لم يضر بالمسلمين (والثانية) لا يجوز إلا ان لا يقدر عليهم الا به أو يكونوا يفعلونه بنا وكذلك رميهم بالنار وفتح الماء ليغرقهم وجملة ذلك ان الزرع والشجر ينقسم ثلاثة اقسام (احدها) ما تدعو الحاجة إلى اتلافه كالذي يقرب من حصونهم ويمنع من قتالهم أو يستترون به من المسلمين أو يحتاج إلى قطعه لتوسعة الطريق أو تمكن من قتال أو سد شئ أو اصلاح طريق أو ستارة منجنيق أو غيره أو لا يقدر عليهم الا به أو يكونوا يفعلون ذلك بنا فيفعل ذلك بهم لينتهوا فهذا يجوز بغير خلاف نعلمه (الثاني) ما يتضرر المسلمون بقطعه لكونهم ينتفعون ببقائه لعلوفهم أو يستظلون به أو ياكلون
من ثمره أو تكون العادة لم تجر بذلك بيننا وبين عدونا فإذا فعلناه بهم فعلوه بنا فهذا يحرم لما فيه من الاضرار بالمسلمين (الثالث) ما عدا هذين القسمين مما لا ضرر فيه بالمسلمين فلا نفع سوى غيظ الكفار والاضرار بهم ففيه روايتان (احداهما) لا يجوز لحديث ابي بكر رضي الله عنه ووصيته وقد روي نحو ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولان فيه اتلافا محضا فلم يجز كعقر الحيوان، وبه قال الاوزاعي والليث وأبو ثور (والرواية الثانية) يجوز به قال مالك والشافعي واسحاق وابن المنذر، قال اسحاق التحريق سنة إذا كان أنكى في العدو ولقول الله تعالى (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على اصولها فباذن الله وليخزي الفاسقين ] وروى ابن عمر رضي الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطعه وهي البويرة فانزل الله تعالى (ما قطعتهم من لينة) ولها يقول حسان وهان على سراة بني لؤي * حريق بالبويرة مستطير متفق عليه.
وعن الزهري قال: فحدثني عروة قال فحدثني اسامة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إليه
فقال (أغر على أبناء صباحا وحرق) رواه أبو داود، قيل لابي مسهر أبناء؟ قال نحن أعلم هي ببنا فلسطين والصحيح انها أبناء كما جاءت الرواية وهي قريبة من أرض الكرك في أطراف الشام في الناحية التي قتل فيها أبوه، فأما ببنا فهي من أرض فلسطين ولم يكن اسامة ليصل إليها ولا أمره النبي صلى الله عليه وسلم
بالاغارة عليها لبعدها والخطر بالمصير إليها لتوسطها في البلاد وبعدها من أطراف الشام، فما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليأمره بالتغرير بالمسلمين فكيف يحمل الخبر عليها مع مخالفة لفظ الرواية وفساد المعنى؟ (فصل) ومتى قدر على العدو لم يجز تحريقه بالنار بغير خلاف نعلمه وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأمر بتحريق أهل الردة بالنار وفعله خالد بن الوليد بأمره.
فأما اليوم فلا نعلم فيه خلافا بين الناس، وقد روى حمزة الاسلمي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم امره على سرية قال فخرجت فيها فقال ان أخذتم فلانا فاحرقوه بالنار فوليت فناداني فرجعت فقال (ان أخذتم فلانا فاقتلوه ولا تحرقوه فانه لا يعذب بالنار إلا رب النار) رواه أبو داود وسعيد، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث حمزة فأما رميهم بالنار قبل أخذهم فان أمكن أخذهم بدونها لم يجز لانهم في معنى المقدور عليه وأما عند العجز عنهم بغيرها فجائز في قول أكثر أهل العلم منهم الاوزاعي والثوري والشافعي وقد روى سعيد باسناده عن صفوان بن عمرو وجرير بن عثمان ان جنادة بن أبي أمية الازدي و عبد الله بن قيس الفزاري وغيرهما من ولاة البحر ومن بعدهم كانوا يرمون العدو من الروم وغيرهم بالنار ويحرقونهم هؤلاء لهؤلاء وهؤلاء لهؤلاء، قال عبد الله بن قيس ولم يزل أمر المسلمين على ذلك
وكذلك الحكم في فتح البثوق عليهم لغرقهم وان قدر عليهم بغيره لم يجز إذا تضمن ذلك إتلاف النساء والذرية الذين يحرم إتلافهم قصدا، وان لم يقدر عليهم إلا به جاز كما يجوز البيات المتضمن لذلك (فصل) قال الاوزاعي: إذا كان العدو في المطمورة فعلمت انك تقدر عليهم بغير النار فأحب الي ان يكف عن النار وان لم يمكن ذلك وأبوا أن يخرجوا فلا أرى بأسا وان كان معهم ذرية قد كان
المسلمون يقاتلون بها ونحو ذلك قال سفيان وهشام ويدخن عليهم قال أحمد أهل الشام أعلم بهذا (مسألة) (وإذا ظفر بهم لم يقتل صبي ولا امرة ولا راهب ولا شيخ فان ولا أعمى، لا رأي لهم الا ان يقاتلوا) إذا ظفر بالكفار لم يجز قتل صبي لم يبلع بغير خلاف لما روى ابن عمر رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان، متفق عليه ولان الصبي يصير رقيقا بنفس السبي ففي قتله إتلاف المال وإذا سبي منفردا صار مسلما فاتلافه اتلاف من يمكن جعله مسلما، والبلوغ يحصل بثلاثة أشياء الاحتلام وهو خروج المني من ذكر الرجل أو قبل المرأة في يقظة أو منام ولا خلاف فيه وقد دل عليه قوله تعالى (وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم) وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ (خذ من كل حالم دينارا) وقال (لا يتم بعد احتلام) رواهما ابو داود (الثاني) نبات الشعر الخشن حول القبل وهو علامة على البلوغ لما روى عطية القرظي قال: كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل فكنت فيمن لم
ينبت رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وعن كثير بن السائب قال حدثني أبناء قريظة انهم عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم فمن كان منهم محتلما أو نبتت عانته قتل، ومن لا ترك أخرجه الاثرم وحكي عن الشافعي أن هذا بلوغ في حق الكفار لانه لا يمكن الرجوع إلى قولهم في الاحتلام وعدد السنين وليس بعلامة عليه في المسلمين لامكان ذلك فيهم ولنا قول ابي بصرة وعقبة بن عامر رضي الله عنهما حين اختلف في بلوغ قرع المهري: انظروا فان كان قد أشعر فاقسموا له فنظر إليه بعض القوم فإذا هو قد أنبت فقسموا له ولم يظهر خلافه فكان إجماعا، ولان ما كان علما على البلوغ في حق الكفار كان علما عليه في حق المسلم كالاحتلام والسن وقولهم انه يتعذر في حق الكافر معرفة الاحتلام والسن.
قلنا لا يتعذر معرفة السن في الذمي الناشئ بين المسلمين ثم تعذر المعرفة لا يوجب جعل ما ليس بعلامة علامة بغير الاثبات (الثالث) بلوغ خمس عشرة سنة لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: عرضت على النبي
صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني في المقاتلة قال نافع فحدثت عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث فقال هذا فصل ما بين الرجل وبين الغلمان متفق عليه وهذه العلامات الثلاث في حق الذكر والانثى وتزيد الانثى بالحمل والحيض فمن لم يوجد فيه علامة منهن فهو صبي يحرم قتله
(فصل) ولا تقتل امرأة ولاشيخ فان وبذلك قال مالك وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق ومجاهد، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى (ولا تعتدوا) يقول تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير، وقال الشافعي في أحد قوليه وابن المنذر يجوز قتل الشيوخ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم) رواه ابو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح ولانه يدخل في عموم قوله تعالى (اقتلوا المشركين) ولانه كافر لا نفع في حياته فيقتل كالشاب ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا امرأة) رواه ابو داود، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه اوصى يزيد حين وجهه إلى الشام فقال: لا تقتل امرأة ولا صبيا ولاهرما، وعن عمر رضي الله عنه أنه أوصي سلمة بن قيس فقال لا تقتل امرأة ولا صبيا ولا شيخا هرما رواهما سعيد ولانه ليس من أهل القتال فلا يقتل كالمرأة، وقد أومأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه العلة في المرأة فقال (ما بالها قتلت وهي لا تقاتل؟) والآية مخصوصة بما روينا ولانه قد خرج عن عمومها المرأة والشيخ الهرم في معناها وحديثهم أراد به الشيوخ الذين فيهم قوة على القتال ومعونة عليه برأي أو تدبير جمعا بين الاحاديث، ولان حديثنا خاص في الشيخ الهرم، وحديثم عام في الشيوخ والخاص يقدم على العام.
وقياسهم ينتقض بالعجوز التي لا نفع فيها، ولا يقتل خنثى مشكل لانه لا يعلم كونه رجلا
(فصل) ولا يقتل زمن ولا أعمى ولا راهب والخلاف فيهم كالخلاف في الشيخ وحجتهم فيه ولنا ان الزمن والاعمى ليسا من اهل القتال أشبها المرأة ولان في حديث أبي بكر الصديق رضي الله
عنه وستمرون على أقوام في صوامع لهم احتبسوا أنفسهم فيها فدعهم يحتى يميتهم الله على ضلالتهم ولانهم لا يقاتلوه تدينا فأشبهوا من لا يقدر على القتال (فصل) ولا يقتل العبيد وبه قال الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أدركوا خالدا فمروه أن لا يقتل ذرية ولاعسيفا وهم العبيد) ولانهم يصيرون رقيقا للمسلمين بنفس السبي أشبهوا النساء والصبيان (فصل) ومن قاتل مما ذكرنا جميعهم جاز قتله.
لا نعلم فيه خلافا لان النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم قريظة امرأة ألقت رحى على محمود بن سلمة وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة مقتولة يوم الخندق فقال (من قتل هذه؟) قال رجل أنا يارسول الله قال (ولم؟) قال نازعتني قائم سيفي قال فسكت ولان النبي صلى الله عليه وسلم وقف على امرأة مقتولة فقال (ما بالها قتلت وهي لا تقاتل؟) وفيه دليل على انه انما نهى عن قتل المرأة اذالم تقاتل وكذلك من كان من هؤلاء الرجال المذكورين ذا رأي يعين به في الحرب جاز قتله لان دريد بن الصمة قتل يوم حنين وهو شيخ لا قتال فيه وكانوا خرجوا به معهم
يتيمنون به ويستعينون برأيه فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قتله ولان الرأي من أعظم المعونة في الحرب وربما كان أبلغ من القتال كما قال المتنبي الرأي قبل شجاعة الشجعان * هو أول وهي المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس مرة * بلغت من العلياء كل مكان ولربما طعن الفتى أقرانه * بالرأي قبل تطاعن الفرسان وقد جاء عن معاوية رضي الله عنه انه قال لمروان والاسود امددتما عليا بقيس بن سعد وبرأيه ومكايدته فوالله لو أنكما أمددتماه بثمانية آلاف مقاتل ما كان باغيظ لي من ذلك، فأما المريض فيقتل إذا كان ممن لو كان صحيحا قاتل لانه كالاجهاز على الجريح فان كان مأيوسا من برئه فهو بمنزلة الزمن فلا يقتل لانه لا يخاف منه أن يصير إلى حال يقاتل فيها (فصل) فأما الفلاح الذي لا يقاتل فينبغي ان لا يقتل لما روي عن عمر رضي الله عنه انه قال
(اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب) وقال الاوزاعي لا يقتل الحراث إذا علم انه ليس من المقاتلة وقال الشافعي يقتل الا أن يؤدي الجزية لدخوله في عموم المشريكن ولنا قول عمر ولان الصحابة رضي الله عنهم لم يقتلوهم حين فتحوا البلاد ولانهم لا يقاتلون أشبهوا الشيوخ والرهبان
(مسألة) (فان تترسوا بهم جاز رميهم ويقصد المقاتلة) إذا تترسوا في الحرب بالنساء والصبيان ومن لا يجوز قتله جاز رميهم ويقصد المقاتلة لان النبي صلى الله عليه وسلم رماهم بالمنجنيق ومعهم النساء والصبيان ولان كف المسلمين عنهم يفضي إلى تعطيل الجهاد لانهم متى علموا ذلك تترسوا بهم عند خوفهم وسواء كانت الحرب ملتحمة أو لا لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحين بالرمي حال التحام الحرب (فصل) ولو وقفت امرأة في صف الكفار أو على حصنهم فشتمت المسلمين أو تكشفت لهم جاز رميها قصدا لما روى سعيد حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف أشرفت امرأة فكشفت عن قبلها فقالت (ها دونكم فارموا) فرماها رجل من المسلمين فما أخطأ ذاك منها ويجوز النظر إلى فرجها للحاجة إلى رميها لانه من ضرورته وكذلك يجوز رميها إذا كانت تلتقط لهم السهام أو تسقيهم الماء أو تحرضهم على القتال لانها في معنى المقاتل وكذلك الحكم في الصبي والشيخ وسائر من منعنا قتله منهم (مسألة) (وان تترسوا بالمسلمين لم يجز رميهم إلا ان يخاف على المسلمين فيرميهم ويقصد الكفار) إذا تترسوا بمسلم ولم تدع حاجة إلى رميهم لكون الحرب غير قائمة أو لامكان القدرة عليهم بدونه أو للامن من شرهم لم يجز رميهم فان رماهم فأصاب مسلما فعليه ضمانه وان دعت الحاجة إلى
رميهم للخوف على المسلمين جاز رميهم للضرورة ويقصد الكفار فان لم يخف على المسلمين لكن لم يقدر عليهم إلا بالرمي فقال الاوزاعي والليث لا يجوز رميهم وهو ظاهر كلامه في هذا الكتاب لقول
الله تعالى (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات) الآية قال الليث ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق وقال القاضي يجوز رميهم حال قيام الحرب لان تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد فعلى هذا ان قتل مسلما فعليه الكفارة وفي وجوب الدية على العاقلة روايتان ووجههما يذكر في موضعه وقال أبو حنيفة لا دية ولا كفارة فيه لانه رمي أبيح مع العلم بحقيقه الحال فلم يوجب شيئا كرمي من أبيح رميه ولنا قوله تعالى (وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) ولانه قتل معصوما بالايمان وهو من أهل الضمان أشبه مالو لم يتترس به (مسألة) (ومن أسر أسيرا لم يجز له قتله حتى يأتي به الامام الا أن يمتنع من السير معه ولا يمكنه إكراهه) لا يجوز لمن أسر أسيرا قتله حتى يأتي به الامام فيرى فيه رأيه لانه إذا صار أسيرا فالخيرة فيه إلى الامام وقد روي عن أحمد كلام يدل على إباحة قتله فانه قال لا يقتل أسير غيره إلا أن يشاء الوالي
فمفهومه ان له قتل أسيره بغير إذن الوالي لان له ان يقتله ابتداء فكان له قتله دواما كما لو هرب منه أو قاتله، فان امتنع الاسير أن ينقاد معه فله إكراهه بالضرب وغيره فان لم يمكن إكراهه فله قتله وكذلك إن خافه أو خاف هربه وإن امتنع من الانقياد معه بجرح أو مرض فله قتله وتوقف احمد عن قتله والصحيح الاول كالتذفيف على الجريح ولان تركه حيا ضرر على المسلمين وتقوية للكفار فتعيين القتل كحالة الابتداء وكجريحهم إذا لم يأسره.
فأما أسير غيره فلا يجوز قتله إلا ان يصير إلى حال يجوز قتله لمن اسره وقد روى يحيى بن أبي بكير ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يتعاطين احدكم اسير صاحبه إذا أخذه فيقتله) رواه سعيد فان قتل اسيره أو اسير غيره قبل ذلك اساء ولا ضمان عليه وبه قال الشافعي وقال الاوزاعي ان قتله قبل ان يأتي به الامام لم يضمنه وإن قتله بعد ذلك ضمنه لانه اتلف من الغنيمة ماله قيمة فضمنه بقيمته كما لو قتل امرأة ولنا ان عبد الرحمن بن عوف أسر امية بن خلف وابنه عليا يوم بدر فرأهما بلال فاستصرخ
الانصار عليهما حتى قتلوهما ولم يغرموا شيئا ولانه اتلف ما ليس بمال فلم يغرمه كما لو اتلفه قبل ان يأتي به الامام ولانه اتلف ما لا قيمة له قبل ان يأتي به الامام فلم يغرمه كما لو اتلف كلبا فأما إن قتل امرأة أو صبيا ضمنه لانه صار رقيقا بنفس السبي
(فصل) ومن أسر أسيرا فادعى أنه كان مسلما لم يقبل قوله إلا ببينة لانه يدعي امرا الظاهر خلافه يتعلق به اسقاط حق تعلق برقبته، فان شهد له واحد حلف معه وخلي سبيله وقال الشافعي لا يقبل إلا شهادة عدلين لانه ليس بمال ولا يقصد منه المال ولنا ما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر (لا يبقى منهم أحد الا أن يفدى أو يضرب عنقه) فقال عبد الله بن مسعود الا سهيل بن بيضاء فاني سمعته يذكر الاسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إلا سهيل بن بيضاء) فقبل شهادة عبد الله وحده (مسألة) (ويخير الامير في الاسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء بمسلم أو بمال وعنه لا يجوز بمال إلا غير الكتابي ففي استرقاقه روايتان ولايجوز ان يختار الا الاصلح للمسلمين) وجملة ذلك ان من اسر من دار الحرب على ثلاثة أضرب (أحدها) النساء والصبيان فلا يجوز قتلهم بغير خلاف ويصيرون رقيقا للمسلمين بنفس السبي لان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والولدان متفق عليه وكان عليه الصلاة والسلام يسترقهم إذا سباهم (الثاني) الرجال من أهل الكتاب والمجوس الذين يقرون بالجزية فيتخير الامام فيهم بين أربعة أشياء القتل والمن بغير عوض والمفاداة بهم واسترقاقهم (الثالث) الرجال ممن لايقر بالجزية فيخير الامام فيهم بين القتل والمن والفداء ولايجوز
استرقاقهم في إحدى الروايتين اختارها الخرقي وهو قول الشافعي [ والثانية ] يجوز استرقاقهم لانه كافر اصلي أشبه أهل الكتاب ويحتمل ان يكون جواز استرقاقهم مبنيا على أخذ الجزية منهم فان قلنا بجوازها جاز استرقاقهم وإلا فلا وقال أبو حنيفة يجوز في العجم دون العرب بناء على قوله في
أخذ الجزية منهم ولنا أنه كافر لا يقر بالجزية فلم يجز استرقاقه كالمرتد، والدليل على أنه لا يقر بالجزية يذكر في باب عقد الذمة ان شاء الله تعالى (فصل) وبما ذكرنا في أهل الكتاب قال الاوزاعي والشافعي وأبو ثور وعن مالك كمذهبنا وعنه لا يجوز المن بغير عوض لانه لا مصلحة فيه وانما يجوز للامام فعل ما فيه المصلحة وحكي عن الحسن وعطاء وسعيد بن جبير كراهية قتل الاسرى وقالوا لو من عليه أو فاداه كما صنع باسارى بدر ولان الله تعالى قال (فشدوا الوثاق فاما منا بعد واما فداء) فخيره بعد الاسربين هذين لا غير وقال أصحاب الرأي ان شاء قتلهم وان شاء استرقهم لاغير ولافداء لان الله تعالى قال (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) بعد قوله (فاما منا بعد واما فداء) وكان عمر بن عبد العزيز وعياض بن عقبة يقتلان الاسارى ولنا على جواز المن والفداء الآية المذكورة وان النبي صلى الله عليه وسلم من على ثمامة بن اثال وابي عزة الشاعر وأبي العاص بن الربيع وقال في أسارى بدر (لو كان مطعم بن عدي حيا ثم سألني هؤلاء
النتنى لا طلقتهم له) وفادى اسرى بدر وفادى يوم أحد رجلا برجلين وصاحب العضباء برجلين وأما القتل فان النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجال بني قريظة وقتل يوم بدر النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط صبرا وقتل أبا عزة يوم أحد وهذه قصص اشتهرت وعلمت وفعلها النبي صلى الله عليه وسلم مرات وهو دليل على جوازها، ولان كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الاسرى فان فيهم من له قوة ونكاية في المسلمين فقتله أصلح، ومنهم الضعيف الذي له مال كثير ففداؤه اصلح ومنهم حسن الرأي في المسلمين يرجى اسلامه بالمن عليه أو معونته للمسلمين بتخليص اسراهم أو الدفع عنهم فالمن عليه أصلح ومنهم من ينتفع بخدمته ويؤمن شره فاسترقاقه أصلح كالنساء والصبيان والامام أعلم بالمصلحة ففوض ذلك إليه.
إذا ثبت ذلك فان هذا تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة فمتى رأى المصلحة في خصلة لم يجز اختيار غيرها لانه يتصرف لهم على سبيل النظر لهم فلم يجز له ترك
ما فيه الحظ كولي اليتيم ومتى حصل عنده تردد في هذه الخصال فالقتل اولى قال مجاهد في اميرين (احدهما) يقتل الاسرى وهو افضل وكذلك قال مالك وقال اسحاق الاثخان احب إلى إلا ان يكون معروفا يطمع به في الكثير فمتى رأى القتل ضرب عنقه بالسيف لقول الله تعالى [ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ] ولان النبي صلى الله عليه وسلم امر بضرب اعناق الذين قتلهم ولا يجوز التمثيل به لما روى بريدة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا امر رجلا على جيش أو سرية قال (اغزوا
بسم الله قاتلوا من كفر بالله ولا تعذبوا ولا تمثلوا) وان اختار الفداء جاز ان يفدي بهم اسارى المسلمين وجاز بالمال لان النبي صلى الله عليه وسلم فعل الامرين وفيه رواية اخرى انه لا يجوز بمال كمالا يجوز بيع رقيق المسلمين للكفار في إحدى الروايتين ولانه إذا لم يجز ان نبيعهم السلاح لما فيه من تقويتهم على المسلمين فبيع انفسهم اولى ومنع احمد رحمه الله من فداء النساء بالمال لان في بقائهن تعريضا لهن للاسلام لبقائهن عند المسلمين وجوز ان يفادى بهن اسارى المسلمين لان النبي صلى الله عليه وسلم فادى بالمرأة التي اخذها من سلمة بن الاكوع ولان في ذلك استنقاذ مسلم متحقق اسلاما فاحتمل تفويت غرضية الاسلام من أجله ولا يلزم من ذلك احتمال فدائها لتحصيل المال فأما الصبيان فقال احمد لا يفادى بهم لان الصبي يصير مسلما باسلام سابيه فلا يجوز رده إلى المشركين وكذلك المرأة إذا أسلمت لا يجوز ردها إلى الكفار لقول الله تعالى (فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) وان كان الصبي غير محكوم باسلامه كمن سبي مع أبويه فلا يجوز فداؤه بمال كالمرأة ويجوز فداؤه بمسلم في أحد الوجهين (فصل) ومن استرق منهم أو بلغ فودي بمال وكان الرقيق والمال للغانمين حكمه حكم الغنيمة.
لا نعلم في هذا خلافا فان النبي صلى الله عليه وسلم قسم فداء أسارى بدر بين الغانمين ولانه مال غنمه المسلمون أشبه الخيل والسلاح، فان قيل فالاسير لم يكن للغانمين فيه حق فكيف تعلق حقهم ببدله؟
قلنا انما يفعل الامام في الاسير ما يرى فيه المصلحة لانه لم يصر مالا فإذا صار مالا تعلق حق الغانمين به لانهم
أسروه وقهروه وهذا غير ممتنع ألا ترى أن من عليه دين إذا قتل قتلا يوجب القصاص كان لورثته الخيار بين القتل والعفو إلى الدية فإذا اختاروا الدية تعلق حق الغرماء بها (فصل) فان سأل الاسارى من اهل الكتاب تخليتهم على إعطاء الجزية لم يجز ذلك في صبيانهم ونسائهم لانهم صاروا غنيمة بالسبي ويجوز في الرجال ولا يزول التخيير الثابت فيهم قال أصحاب الشافعي يحرم قتلهم كما لو أسلموا ولنا انه بدل تجوز الاجابة إليه فلم يحرم قتلهم كبدل عبدة الاوثان (فصل) وإذا أسر العبد صار رقيقا للمسلمين لانه مال لهم استولي عليه فكان للغانمين كالبهيمة فان رأى الامام قتله لضرر في ابقائه جاز لان مثل هذا لا قيمة له فهو كالمرتد، وأما من يحرم قتلهم غير النساء والصبيان كالشيخ والزمن والاعمى والراهب فلا يحل سبيهم لان قتلهم حرام ولا نفع في اقتنائه (فصل) ذكر ابو بكر ان الكافر إذا كان مولى مسلم لم يجز استرقاقه لان في استرقاقه تفويت ولاء المسلم المعصوم، وعلى قوله لا يسترق ولده أيضا إذا كان عليه ولاء لذلك، وان كان معتقه ذميا
جاز استرقاقه لان سيده يجوز استرقاقه فاسترقاق مولاه اولى وهذا مذهب الشافعي، وظاهر كلام الخرقي جواز استرقاقه لانه لا يجوز قتله وهو من أهل الكتاب فجاز استرقاقه كغيره، ولان سبب جواز الاسترقاق قد تحقق فيه وهو الاستيلاء عليه مع كون مصلحة المسلمين في استرقاقه ولانه ان كان السبي امرأة أو صبيا لم يجز فيه سوى الاسترقاق فيتعين ذلك فيه، وما ذكروه يبطل بالقتل فانه يفوت الولاء وهو جائز فيه، وكذلك يجوز استرقاق من عليه ولاء الذمي وقوله ان سيده الذمي يجوز استرقاقه غير صحيح فان الذمي لا يجوز استرقاقه ولا تفويت حقوقه وقد قال علي رضي الله عنه انما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كاموالنا (مسألة) (فان أسلموا رقوا في الحال) يعني إذا أسلم الاسير صار رقيقا في الحال وزال التخيير فيه وصار حكمه حكم النساء وبه قال
الشافعي في أحد قوليه لانه أسير يحرم قتله فصار رقيقا كالمرأة وفيه قول آخر أنه يحرم قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم الا باحدى ثلاث) ويتخير بين الخصال الثلاث الباقية المن والفداء والاسترقاق وهو القول الثاني للشافعي لانه إذا جاز المن عليه في حال كفره ففي حال اسلامه أولى لان الاسلام حسنه يقتضي اكرامه والانعام عليه لا منع ذلك في حقه وهذا هو الصحيح ان شاء الله تعالى، ولا يجوز رده إلى الكفار الا أن يكون له من يمنعه من المشركين
من عشيرة أو نحوها، وانما جاز فداؤه لانه يتخلص به من الرق، فاما ان أسلم قبل أسره حرم قتله واسترقاقه والمفاداة به سواء أسلم وهو في حصن أو جوف أو مضيق أو غير ذلك لانه لم يحصل في أيدي الغانمين (مسألة) (ومن سبي من أطفالهم منفردا أو مع أحد أبويه فهو مسلم.
ومن سبي مع أبويه فهو على دينهما) المسبي من أطفال المشركين ينقسم ثلاثة أقسام (أحدها) أن يسبى منفردا عن ابويه فيصير مسلما بالاجماع لان الدين انما يثبت له تبعا، وقد انقطعت تبعيته لابويه لانقطاعه عنهما واخراجه عن دارهما ومصيره إلى دار الاسلام تبعا لسابيه المسلم فكان تابعا له في دينه (الثاني) أن يسبى مع أحد أبويه فيحكم باسلامه أيضا وبه قال الاوزاعي وقال ابو الخطاب يتبع أباه، وقال القاضي فيه روايتان أشهرهما أنه يحكم باسلامه [ والثانية يتبع أباه، وقال ابو حنيفة والشافعي يكون تابعا لابيه في الكفر لانه لم ينفرد عن أحد أبويه فلم يحكم باسلامه كما لو سبي معهما وقال مالك ان سبي مع أبيه تبعه لان الولد يتبع أباه في الدين كما يتبعه في النسب وان سبي مع أمه فهو مسلم لانه لا يتبعها في النسب فكذلك في الدين
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) رواه
مالك فمفهومه أنه لا يتبع أحدهما لان الحكم متى علق بشيئين لا يثبت باحدهما ولانه يتبع سابيه منفردا فيتبعه مع أحد ابويه قياسا على مالو أسلم أحد الابوين، تحقيقه ان كل شخص غلب حكم اسلامه منفردا غلب مع أحد الابوين كالمسلم من الابوين (الثالث) أن يسبى مع احد أبويه فيكون على دينهما وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي، وقال الاوزاعي يكون مسلما لان السابي أحق به لكونه ملكه بالسبي وزالت ولاية أبويه عنه وانقطع ميراثهما منه وميراثه منهما فكان اولى به منهما ولنا قوله عليه الصلاة والسلام (فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) وهما معه وملك السابي له لا يمنع اتباعه لابويه بدليل مالو ولد في ملكه من عبده وأمته الكافرين (مسألة) (ولا ينفسخ النكاح باسترقاق الزوجين وان سبيت المرأة وحدها انفسخ نكاحها وحلت لسابيها) إذا سبي المتزوج من الكفار لم يخل من ثلاثة احوال (احدها) أن يسبى الزوجان معا فلا ينفسخ نكاحهما وبهذا قال أبو حنيفة والاوزاعي ويحتمل أن ينفسخ وبه قال مالك والثوري والليث والشافعي
وأبو ثور لقول الله تعالى (والمحصنات من النساء الا ما ملكت أيمانكم) والمحصنات المتزوجات [ الا ما ملكت أيمانكم ] بالسبي قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه نزلت هذه الآية في سبي أوطاس، وقال ابن عباس رضي الله عنهما الا ذوات الازواج من المسبيات ولانه استولى على محل حق الكافر فزال ملكه كما لو سباها وحدها ولنا ان الرق معنى لا يمنع ابتداء النكاح فلا يقطع استدامته كالعتق، والآية نزلت في سبايا أو طاوس وكانوا أخذوا النساء دون أزواجهن، وعموم الآية مخصوص بالمملوكة المزوجة في دار الاسلام فيخص منه محل النزاع بالقياس عليه (الحال الثاني) أن تسبى المرأة وحدها فينفسخ النكاح بلا خلاف علمناه والآية دالة عليه وقد روى أبو سعيد الخدري قال أصبنا سبايا يوم أوطاس ولهن أزواج في قومهن فذكروا ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم فنزلت [ والمحصنات من النساء الا ما ملكت أيمانكم ] رواه الترمذي وقال حديث حسن الا أن أبا حنيفة قال إذا سبيت المرأة وحدها ثم سبي زوجها بعدها بيوم لم ينفسخ النكاح، ولنا ان السبي المقتضي للفسخ وجد فانفسخ النكاح كما لو سبيت قبله بشهر (الحال الثالث) سبي الرجل وحده فلا ينفسخ النكاح لانه لانص فيه ولا القياس يقتضيه وقد سبى النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا من الكفار يوم بدر فمن على بعضهم وفادى بعضا فلم يحكم عليهم بفسخ
أنكحتهم، ولاننا إذا لم نحكم بفسخ النكاح فيما إذا سبيا معا مع الاستيلاء على محل حقه فلان لا ينفسخ نكاحه مع عدم الاستيلاء عليه أولى وقال ابو الخطاب إذا سبي احد الزوجين انفسخ النكاح ولم يفرق وبه قال ابو حنيفة لان الزوجين افترقت بهما الدار وطرأ الملك على احدهما فانفسخ النكاح كما لو سبيت المرأة وحدها، وقال الشافعي ان سبي واسترق انفسخ نكاحه وان من عليه أو فودي لم ينفسخ، ولنا ما ذكرناه وأن السبي لم يزل ملكه عن ماله في دار الحرب فلم يزل عن زوجته كما لو لم يزل عن امته (فصل) ولم يفرق اصحابنا في سبي الزوجين بين ان يسبيهما رجل واحد أو رجلان وينبغي ان يفرق بينهما فانهما إذا كانا مع رجلين كان مالك المرأة منفردا بها ولا زوج معها فتحل له لقوله تعالى (الا ما ملكت ايمانكم) وذكر الاوزاعي ان الزوجين إذا سبيا فهما على النكاح في المقاسم فان اشتراهما رجل فله أن يفرق بينهما إن شاء أو يقرهما على النكاح ولنا ان تجدد الملك في الزوجين لرجل لا يقتضي جواز الفسخ كما لو اشترى زوجين مسلمين، إذا ثبت هذا فانه لا يحرم التفريق بينهما في القسمة والبيع لان الشرع لم يرد بذلك
(مسألة) (وهل يجوز بيع من استرق منهم للمشركين؟ على روايتين) لا يجوز بيع شئ من رقيق المسلمين لكافر سواء كان مسلما أو كافرا وهذا قول الحسن، وقال
احمد ليس لاهل الذمة أن يشتروا مما سبى المسلمون قال وكتب عمر بن الخطاب ينهى عنه امراء الامصار هكذا حكى اهل الشام، وعنه انه يجوز ذلك وهو قول ابي حنيفة والشافعي لانه لا يمنع من إثبات يده عليه فلا يمنع من ابتدائه كالمسلم، ولانه رد الكافر إلى الكفار فجاز كالمفاداة بهم قبل الاسترقاق والاول اولى لانه قول عمر رضي الله عنه ولم ينكره منكر فكان إجماعا ولان فيه تفويتا للاسلام الذي يظهر وجوده فانه إذا بقي رقيقا للمسلمين الظاهر انه يسلم فيفوت ذلك ببيعه لكافر بخلاف ما إذا كان رقيقا لكافر في ابتدائه فانه لم تثبت له هذه الغرضية (مسألة) (ولا فرق في البيع بين ذي رحم محرم إلا بعد البلوغ على احدى الروايتين) أجمع أهل العلم على ان التفريق بين الام وولدها الطفل غير جائز منهم مالك والاوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور واصحاب الرأي وغيرهم لما روى ابو أيوب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) قال الترمذي هذا حديث حسن غريب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا توله والدة عن ولدها) قال احمد لا يفرق بين الام وولدها وان
رضيت وذلك والله أعلم لما فيه من الاضرار بالولد ولان المرأة قد ترضى بما فيه ضررها ثم يتغير قلبها فتندم، ولا يجوز التفريق بين الاب وولده هذا قول اصحاب الرأي والشافعي وقال مالك والليث يجوز وبه قال بعض الشافعية لانه ليس من اهل الحضانة بنفسه ولانه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه لان الام أشفق منه ولنا انه أحد الابوين أشبه الام ولا نسلم انه ليس من اهل الحضانة، ولا فرق بين أن يكون الولد بالغا أو طفلا في ظاهر كلام الخرقي وإحدى الروايتين عن أحمد لعموم الخبر ولان الوالدة تتضرر بمفارقة ولدها الكبير ولهذا حرم عليه الجهاد إلا باذنها (والثانية) يختص تحريم التفريق بالصغير وهو قول الاكثرين منهم مالك والاوزاعي والليث وأبو ثور وهو قول الشافعي لان سلمة بن الاكوع أتى بامرأة وابنتها فنفله أبو بكر ابنتها فاستوهبها منه النبي صلى الله عليه وسلم فوهبها له ولم ينكر التفريق بينهما ولان الاحرار يتفرقون بعد الكبر فان المرأة تزوج ابنتها وتفارقها فالعبيد أولى، واختلفوا في حد
الكبر الذي يجوز التفريق فعن أحمد رحمه الله حده بلوغ الولد وهو قول سعيد بن عبد العزيز واصحاب الرأي وقول للشافعي، وقال مالك إذا أثغر وقال الاوزاعي والليث إذا استغنى عن أمه ونفع نفسه وللشافعي قول إذا صار ابن سبع أو ثمان، وقال أبو ثور إذا كان يلبس وحده ويتوضأ وحده لانه
إذا كان كذلك استغنى عن أمه ولذلك خير الغلام بين أمه وأبيه إذا كان كذلك ولانه جاز التفريق بينهما بتخييره فجاز ببيعه وقسمته ولنا ما روي عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يفرق بين الوالدة وولدها) فقيل إلى متى؟ قال (حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية) ولان من دون البلوغ يولى عليه أشبه الطفل (فصل) فان فرق بينهما بالبيع فالبيع فاسد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يصح البيع لان النهي لمعنى في غير المعقود عليه فأشبه البيع في وقت النداء ولنا ماروى أبو داود في سننه عن علي رضي الله عنه انه فرق بين الام وولدها فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ورد البيع والاصل ممنوع وما ذكروه لا يصح فانه نهي عنه لما يلحق المبيع من الضرر فهو لمعنى فيه (فصل) والجد والجدة في تحريم التفريق بينهما وبين ولد ولدهما كالابوين لان الجد أب والجدة أم ولذلك يقومان مقام الابوين في استحقاق الحضانة والميراث والنفقه فقاما مقامهما في تحريم التفريق ويستوي في ذلك الجد والجدة من قبل الاب والام لان لهم ولاده ومحرمية فاستووا في ذلك كاستوائهم في منع شهادة بعضهم لبعض (فصل) ويحرم التفريق بين الاخوة في القسمة والبيع أيضا كما يحرم بين الولد ووالده وبهذا
قال أصحاب الرأي وقال مالك والليث والشافعي وابن المنذر لا يحرم لانها قرابة لا تمنع قبول شهادته فلم يحرم التفريق كابن العم ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه قال وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين أخوين فبعت أحدهما فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما فعل غلامك؟) فأخبرته فقال (رده رده) رواه الترمذي
وقال حديث حسن غريب، وروى عبد الرحمن بن فروخ عن أبيه قال كتب الينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تفرقوا بين الاخوين ولا بين الام وولدها في البيع، ولانه ذو رحم محرم فحرم التفريق بينهما كالوالد والولد وانما يحرم التفريق بينهما في حال الصغر وما بعده فيه الروايتان كالاصل والاولى الجواز لان النبي صلى الله عليه وسلم أهديت له مارية و أختها سيرين فأمسك مارية ووهب سيرين لحسان بن ثابت.
(فصل) فأما سائر الاقارب فظاهر كلام الخرقي جواز التفريق بينهم وقال غيره من أصحابنا لا يجوز التفريق بين ذوي رحم محرم كالعمة مع ابن أخيها والخالة مع ابن أختها لما ذكرنا من القياس والاولى جواز التفريق لان الاصل حل البيع والتفريق ولا يصح القياس على الاخوة لانهم أقرب
ولذلك يحجبون غيرهم عن الميراث وهم أقرب فيبقى من عداهم على الاصل، فأما من ليس بينهما رحم محرم فلا يمنع من التفريق بينهما عند أحد علمناه لعدم النص فيهم وامتناع قياسهم على المنصوص وكذلك يجوز التفريق بين الام من الرضاع وولدها والاخت وأخيها لما ذكرنا ولان قرابة الرضاع لا توجب عتق أحدهما على الآخر ولا نفقة ولا ميراثا فاشبهت الصداقة (مسألة) (وإذا حصر الامام حصنا لزمه مصابرته إذا رأى المصلحة فيها) إذا حصر الامام حصنا لزمه مصابرته ولا ينصرف عنه إلا بخصلة من خصال خمس (أحدها) أن يسلموا فيحرزوا بالاسلام دماءهم وأموالهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) (الثانية) أن يبذلوا مالا على الموادعة فيجوز قبوله منهم سواء أعطوه جملة أو جعلوه خراجا مستمرا يؤخذ منهم كل عام، فان كانوا ممن تقبل منهم الجزية فبذلوها لزم قبولها منهم وحرم قتالهم لقوله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) فان بذلوا مالا على غير وجه الجزية فرأى المصلحة في قبوله له قبله ولا يلزمه إذا لم ير المصلحة (الثالثة) أن يفتحه (الرابعة) أن يرى المصلحة في الانصراف إما لضرر في الاقامة وإما لليأس منه أو لغير ذلك فينصرف عنهم لما روى ان النبي صلى الله عليه وسلم حاصر
أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال (إنا قافلون ان شاء الله غدا) فقال المسلمون أنرجع ولم نفتحه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اغدوا على القتال) فغدوا عليه فأصابهم الجراح، فقال لهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنا قافلون غدا) فأعجبهم، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه (الخامسة) أن ينزلوا على حكم حاكم وسنذكره في موضعه ان شاء الله (مسألة) (ومن أسلم منهم أحرز دمه وماله وأولاده الصغار) متى أسلم أهل الحصن أو بعضهم أحرز دمه وماله واولاده الصغار كما ذكر لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور (فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها) ويحرز أولاده الصغار من السبي لانهم تبع له ولذلك يحكم باسلامهم تبعا لاسلامه وكذلك كل من أسلم في دار الحرب وان دخل دار الاسلام فأسلم وله أولاد صغار في دار الحرب صاروا مسلمين ولم يجز سبيهم وبه قال مالك و الشافعي والاوزاعي وقال أبو حنيفة ما كان في يده من ماله ورقيقه ومتاعه وولده الصغار ترك له وما كان من أولاده وامواله بدار الحرب جاز سبيهم لانهم لم يثبت اسلامهم باسلامه لاختلاف الدارين بينهم ولهذا إذا سبي الطفل وأبواه في دار الكفر لم يتبعهما وتبع سابيه في الاسلام وما كان من أرض أو دار فهو فئ وكذلك زوجته إذا كانت كافرة وما على بطنها فئ ولنا ان اولاده اولاد مسلم فوجب ان يتبعوه في الاسلام كما لو كانوا معه في الدار ولان ماله مال مسلم ولايجوز اغتنامه كما لو كان في دار الاسلام، وبذلك يفارق مال الحربي واولاده وما ذكره ابو حنيفة لا يلزم فانا تجعله تبعا للسابي لانا لا نعلم بقاء ابويه فاما اولاده الكبار فلا يعصمهم لانهم لا يتبعونه ولا يعصم
زوجته لذلك فان سبيت صارت رقيقة ولم ينفسخ نكاحه برقها ولكن يكون حكمها في النكاح وفسخه حكم مالو لم تسب على ما نذكر في نكاح اهل الشرك فان كانت حاملا من زوجها لم يجز استرقاق الحمل وكان حرا مسلما وبه قال الشافعي وقال ابو حنيفة يحكم برقه مع امه لان ما سرى إليه العتق سرى إليه الرق كسائر اعضائها
ولنا أنه محكوم بحريته واسلامه فلم يجز استرقاقه كالمنفصل بخلاف الاعضاء فانها لا تنفرد عن حكم الاصل (فصل) إذا أسلم الحربي في دار الحرب وله مال وعقار أو دخل إليها مسلم فابتاع عقارا ومالا فظهر المسلمون على ماله وعقاره لم يملكوه وكان له وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يغنم العقار وأما غيره فما كان في يده أو يد مسلم لم يغنم، واحتج بأنها بقعة من دار الحرب فجاز اغتنامها كما لو كانت لحربي.
ولنا انه مال مسلم فاشبه مالو كانت في دار الاسلام (فصل) إذا استأجر المسلم أرضا من حربي ثم استولى عليها المسلمون فهي غنيمة ومنافعها للمستأجر لان المنافع ملك المسلم، فان قيل فلم أجزتم استرقاق الكفارة الحربية إذا كان قد أسلم زوجها وفي استرقاقها ابطال حق زوجها؟ قلنا يجوز استرقاقها لانها كافرة ولا أمان لها فجاز استرقاقها كما لو لم تكن زوجة مسلم ولا يبطل نكاحه بل هو باق ولان منفعة النكاح لا تجري مجرى الاموال بدليل انها لا تضمن باليد فلا يجوز أخذ العوض عنها بخلاف حق الاجارة (فصل) إذا أسلم عبد الحربي أو أمته وخرج الينا فهو حر وإن أسر سيده وأولاده وخرج الينا
فهو حر والمال له والسبي رقيقه، وإن أسلم وأقام بدار الحرب فهو على رقه، وإن أسلمت أم ولد الحربي وخرجت الينا عتقت واستبرأت نفسها وهذا قول أكثر العلماء، قال ابن المنذر وقال به كل من نحفظ عنه من أهل العلم إلا أن أبا حنيفة قال في أم الولد تزوج ان شاءت من غير استبراء وأهل العلم على خلافه لانها أم ولد عتقت فلم يجز أن تزوج قبل الاستبراء كما لو كانت لذمي، وروى سعيد بن منصور باسناده عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق العبيد إذا جاءوا قبل مواليهم وعن أبي سعيد الاعسم قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد وسيده قضيتين قضى ان العبد إذا خرج من دار الحرب قبل سيده انه حر فان خرج سيده بعد لم يرد عليه، وقضى ان السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد رد على سيده رواه سعيد، وعن الشعبي عن رجل من ثقيف قال سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد علينا أبا بكرة وكان عبدا لنا أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر ثقيف فأسلم فأبى أن يرده علينا وقال (هو طليق الله ثم طليق رسوله) فلم يرده علينا
(مسألة) (وإن سألوا الموادعة بمال أو غيره جاز ان كانت المصلحة فيه) وقد ذكرنا ذلك (مسألة) (وان نزلوا على حكم حاكم جاز إذا كان حرا مسلما بالغا عاقلا من أهل الاجتهاد) إذا نزل أهل الحصن على حكم حاكم جاز لان النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني قريظة ورضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأجابهم إلى ذلك، والكلام فيه في فصلين (أحدهما) في صفة
الحاكم (والثاني) في صفة الحكم، فأما الحاكم فيتعين فيه سبعة أوصاف: الاسلام والحرية والذكورية والعقل والبلوغ والعدالة والاجتهاد كما يشترط في حاكم المسلمين، ولا يشترط البصر لان عدمه لا يضر في مسئلتنا لان لمقصود (المقصود) رأيه ومعرفته المصلحة في أحد أقسام الحكم وهذا لا يضر عدم البصر فيه بخلاف القضاء فانه لا يستغني عن البصر ليعرف المدعي من المدعى عليه والشاهد من المشهود عليه والمقر من المقر له ويعتبر من الفقه ما يتعلق به هذا الحكم مما يجوز فيه ويعتبر له ويجوز ذلك ولا يحتاج ان يكون مجتهدا في جميع الاحكام التي لا تعلق لها بهذا وقد حكم سعد ابن معاذ ولم يثبت أنه كان عالما بجميع الاحكام، فان حكم رجلين جاز ويكون الحكم ما اجتمعا عليه وان جعلوا الحكم إلى رجل يعينه الامام جاز لانه لا يختار إلا من يصلح وان نزلوا على حكم رجل منهم أو جعلوا التعيين إليهم لم يجز لانهم ربما اختاروا من لا يصلح، وان عينوا رجلا يصلح.
فرضيه الامام جاز لان بني قريظة عينوا سعد بن معاذ فرضيه النبي صلى الله عليه وسلم واجاز حكمه وتدل (لقد حكمت بحكم الله) وان مات من انفقوا عليه فاتفقوا على غيره ممن يصلح قام مقامه وان لم يتفقوا وطلبوا حكما لا يصلح ردهم إلى مأمنهم وكانوا على الحصار حتى يتفقوا وكذلك ان رضوا باثنين فمات أحدهما فاتفقوا على من يقوم مقامه جاز وإلا ردوا إلى مأمنهم وكذلك إذا رضوا بتحكيم من لا تجتمع الشرائط فيه ووافقهم الامام عليه ثم بان أنه لا يصلح لم يحكم ويردون إلى مأمنهم كما كانوا
(مسألة) (ولا يحكم إلا بما فيه الحظ للمسلمين من القتل والسبي والفداء فان حكم بالمن لزم قبوله في أحد الوجهين)
إذا حكم بقتل مقاتلهم وسبي ذراريهم نفذ حكمه لان سعد بن معاذ حكم في قريظة بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة) وان حكم بالفداء جاز لان الامام يخير في الاسرى بين القتل والمن والفداء والاسترقاق فكذلك الحاكم، وإن حكم عليهم باعطاء الجزية لم يلزم حكمه لان عقد الذمة عقد معاوضة فلا يثبت إلا بالتراضي ولذلك لا يملك الامام إجبار الاسير على إعطاء الجزية، وان حكم بالمن على المقاتلة وسبي الذرية فقال القاضي يلزم حكمه وهو مذهب الشافعي لان الحكم إليه فيما يرى المصلحة فيه فكان له المن كالامام في الاسرى واختار أبو الخطاب ان حكمه لا يلزم لان عليه ان يحكم بما فيه الحظ ولا حظ في المن، وان حكم بالمن على الذرية فينبغي ان لا يجوز لان الامام لا يملك المن على الذرية إذا سبوا فكذلك الحاكم ويحتمل الجواز لان هؤلاء لا يتعين السبي فيهم بخلاف من سبي فانه يصير رقيقا بنفس السبي (مسألة) (وان حكم بقتل أو سبي فاسلموا عصموا دماءهم وفي استرقاقهم وجهان) إذا حكم عليهم بالقتل والسبي جاز للامام المن على بعضهم لان ثابت بن قيس سأل في الزبير ابن باطا من قريظة وماله وأولاده رسول الله صلى الله عليه فاجابه، ويخالف مال الغنيمة إذا حازه الامام لان ملكهم قد استقر عليه ومتى أسلموا قبل الحكم عليهم عصموا دماءهم وأموالهم لانهم
فلم يجز استرقاقهم بخلاف الاسير، وان أسلموا بعد الحكم عليهم بالقتل سقط لان من أسلم فقد عصم دمه ولم يجز استرقاقهم لانهم أسلموا قبل استرقاقهم قال أبو الخطاب ويحتمل ان يجوز كما لو أسلموا بعد الاسر ويكون المال على ما حكم فيه وان حكم بان المال للمسلمين كان غنمية لانهم أخذوه بالقهر والحصر (باب ما يلزم الامام والجيش) (مسألة) (يلزم الامام عند مسير الجيش تعاهد الخيل والرجال فما لا يصلح للحرب يمنعه من الدخول) يستحب للامام أو الامير إذا أراد الغزو ان يعرض الجيش ويتعاهد الخيل والرجال فلا يدع فرسا حطما وهو الكسير ولا قحما وهو الكبير ولا ضرعا وهو الصغير ولا هزيلا يدخل معه أرض
العدو لئلا ينقطع فيها وربما كان سببا للهزيمة (مسألة) (ويمنع المخذل والمرجف) والمخذل هو الذي يفند الناس عن الغزو ويزهدهم في الخروج إليه والقتال ومثل من يقول الحر أو البرد شديد والمشقة شديدة ولا يؤمن هزيمة هذا الجيش ونحو هذا والمرجف هو الذي يقول قد هلكت سرية المسلمين ومالهم مدد ولا طاقة لهم بالكفار والكفار لهم قوة ومدد وصبر ولا يثبت
لهم أحد واشباه هذا ولا يأذن لمن يعين على المسلمين بالتجسس للكفار واطلاعهم على عورات المسلمين ولا لمن يوقع العداوة بين المسلمين ويسعى بالفساد بينهم ولا لمن يعرف بالنفاق والزندقة لقول الله تعالى (فان رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا - وقوله تعالى - ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولاوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) قيل معناه لاوقعوا بينكم الاختلاف وقيل لاسرعوا في تفريق جمعكم ولان في حضورهم ضررا فيجب صيانة المسلمين عنه ولا يأذن لطفل ولا مجنون لان دخولهم تعرض للهلاك بغير فائدة ويجوز ان يأذن لمن اشتد من الصبيان لان فيهم معونة ونفعا (مسألة) (ويمنع النساء الا طاعنة في السن لسقي الماء ومعالجة الجرحى) يكره دخول النساء الشواب أرض العدو لانهن لسن من أهل القتال وقلما ينتفع بهن فيه لاستيلاء الجبن والخور عليهن ولا يؤمن ظفر العدو بهن فيستحلون ما حرم الله منهن وقد روى حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه انها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر سادسة ست نسوة فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث الينا فجئنا فرأينا فيه الغضب فقال) (مع من خرجتن؟) فقلنا يارسول الله خرجنا نغزل الشعر ونعين به في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى ونناول
السهام ونسقي السويق فقال (قمن) حتى إذا فتح الله خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال، قلت لها يا جدة
ماكان ذاك؟ قالت تمرا قيل للاوزاعي هل كانوا يغزون معهم بالنساء في الصوائف؟ قال لا إلا بالجواري، فأما المرأة الطاعنة في السن وهي الكبيرة إذا كان فيها نفع مثل سقي الماء ومعالجة الجرحى فلا بأس به لما روينا من الخبر وقد كانت أم سليم ونسيبة بنت كعب تغروان مع النبي صلى الله عليه وسلم فأما نسيبة فكانت تقاتل وقطعت يدها يوم اليمامة وقالت الربيع كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم لسقي الماء ومعالجة الجرحى.
وقال أنس كان رسول الله (ص) يغزو بأم سليم ونسوة معها من الانصار يسقين الماء ويداوين الجرحى قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، فان قيل فقد كان النبي (ص) يخرج معه من تقع عليه القرعة من نسائه، قلنا تلك امرأة واحدة يأخذها للحاجة إليها ويجوز مثل ذلك للامير عند حاجته، ولا يرخص لسائر الرعية لئلا يفضي إلى ما ذكرنا
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: