الفقه الحنبلي - الخمر - كتاب الجهاد
إلى ضابط فجاز جعل الثلاث ضابطا لها، قال شيخنا ويحتمل ان يكون شربه بعد الثلاث إذا لم يغل مكروها غير محرم فان احمد لم يصرح بالتحريم وقال في موضع اكرهه وذلك لان النبي
صلى الله عليه وسلم لم يكن يشربه بعد ثلاث (مسألة) (وقال أبو الخطاب عندي ان كلام احمد في ذلك محمول على عصير الغالب أنه يتخمر في ثلاثة أيام) (فصل) وكذلك النبيذ مباح ما لم يغل أو يأتي عليه ثلاثة أيام والنبيذ ما يلقى فيه تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلوا به الماء وتذهب ملوحته فلا بأس به ما لم يغل أو يأتي عليه ثلاثة أيام لما روينا عن ابن عباس، وقال ابو هريرة علمت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم اتيته به فإذا هو ينش فقال (اضرب بهذا الحائط فان هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر) رواه أبو داود ولانه إذا بلغ ذلك صار مسكرا وكل مسكر حرام
(مسألة) (ولا يكره ان يترك في الماء تمر أو زبيب ونحوه ليأخذ ملوحته ما لم يشتد أو يأتي عليه ثلاث لما ذكرنا في الفصل الذي قبله (مسألة) (ولا يكره الانتباذ في الدباء والختم (والحنتم) والنقير والمزفت) يجوز الانتباذ في الاوعية كلها وعن أحمد أن يكره الانتباذ في الدباء والختم (والحنتم) والنقير والمزفت
لان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الانتباذ فيها والدباء اليقطين والختم (والحنتم) الجرار والنقير الخشب والمزفت الذي يطلى بالزفت والصحيح أنه لا يكره لما روى بريدة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (نهيتكم عن ثلاث وانا آمركم بهن نهيتكم عن الاشربة ان لا تشربوا الا في ظروف الادم فاشربوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا) رواه مسلم وهذا دليل على نسخ النهي ولا حكم للمنسوخ (فصل) وما طبخ من النبيذ والعصير قبل غليانه حتى صار غير مسكر كالدبس ورب الخروب وغيرهما من المربيات والسكر فهو مباح لان التحريم انما ثبت في المسكر ففيما عداه يبقى على اصل
الاباحة وما اسكر كثيره فقليله حرام سواء ذهب منه الثلثان أو اقل أو اكثر قال أبو داود سألت احمد عن شرب الطلاء إذا ذهب ثلثه وبقي ثلثه قال لا بأس به قيل لاحمد إنهم يقولون إنه يسكر قال لا يسكر لو كان يسكر ما احله عمر (مسألة) (ويكره الخليطان وهو ان ينبذ شيئين كالتمر والزبيب) لان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين، وقال أحمد الخليطان حرام وقال في رجل ينقع الزبيب والتمر الهندي والعناب ونحوه ينقعه غدوة ويشربه عشية للدواء: اكرهه لانه نبيذ ولكن يطبخه ويشربه على المكان وقد روى أبو داود باسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى ان ينبذ الرطب والبسر جميعا ونهى ان ينتبذ التمر والزبيب جميعا، وفي رواية انتبذوا كل واحد على حدة وعن أبي قتادة قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم ان يجمع بين التمر والزهو والتمر والزبيب ولينتبذ كل واحد منهما على حدة متفق عليه قال القاضي يعني احمد بقوله هو حرام إذا اشتد وأسكر وإذا لم يسكر لم يحرم وهذا هو الصحيح ان شاء
الله وانا نهى النبي صلى الله عليه وسلم لعلة اسراعه إلى السكر المحرم فإذا لم يوجد لم يثبت التحريم كما أنه عليه السلام نهى عن الانتباذ في الاوعية المذكورة لهذه العلة ثم أمرهم بالشرب فيها ما لم توجد حقيقة الاسكار وقد دل على صحة هذا ماروي عن عائشة قالت كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنأخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فنطرحها فيه ثم نصب عليه الماء فننبذه غدوة فيشربه عشية وننبذه عشية
فيشربه غدوة رواه أبو داود وابن ماجه فلما كانت مدة الانتباذ قريبة وهي يوم وليلة لا يتوهم الاسكار فيها لم يكره ولو كان مكروها لما فعل هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم له فعلى هذا لا يكره ما كان في المدة اليسيرة ويكره ماكان في مدة يحتمل افضاؤه إلى الاسكار ولا يثبت التحريم ما لم يغل أو تمضي عليه ثلاثة أيام (مسألة) (ولا بأس بالفقاع وبه قال اسحاق وابن المنذر) قال شيخنا ولا أعلم فيه خلافا لانه لا يسكر و إذا ترك يفسد بخلاف الخمر والاشياء على الاباحة ما لم يرد بتحريمها حجة (فصل) والخمرة إذا افسدت فصيرت خلا لم تحل، وان قلب الله عينها فصارت خلا فهي حلال
روي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال الزهري ونحوه قول مالك وقال الشافعي ان القي فيها شئ يفسدها كالملح فتخللت فهي على تحريمها وان نقلت من شمس إلى ظل أو من ظل إلى شمس فتخللت ففي اباحتها قولان وقال أبو حنيفة تطهر في الحالين لان علة تحريمها زالت بتخليلها فطهرت كما لو تخللت بنفسها يحققه ان التطهير لا فرق فيه بين ما حصل بفعل الله تعالى وفعل الآدمي كتطهير الثوب والبدن والارض ونحو هذا قول عطاء وعمرو بن دينار والحارث العكلي وذكره أبو الخطاب وجها في مذهبنا
ولنا ماروى أبو سعيد قال كان عندنا خمر ليتيم فلما نزلت المائدة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إنه ليتيم قال (اهريقوه) رواه الترمذي وقال حديث حسن وعن أنس قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ايتخذ الخمر خلا؟ قال (لا) رواه مسلم والترمذي وقال حديث حسن صحيح وعن أبي طلحة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ايتام ورثوا خمرا فقال (اهرقها) قال: افلا اخللها؟ قال (لا) رواه أبو داود وهذا نهي يقتضي التحريم ولو كان إلى استصلاحها سبيل لم تجز
اراقتها بل ارشدهم إليه سيما وهي لايتام يحرم التفريط في أموالهم ولانه إجماع الصحابة فروي ان عمر رضي الله عنه صعد المنبر فقال لا يحل خل خمر افسدت حتى يكون الله تعالى هو الذي تولى افسادها
ولا بأس على مسلم ابتاع من أهل الكتاب خلا ما لم يتعمد لافسادها، رواه أبو عبيد في الاموال بنحو من هذا المعنى وهذا قول يشتهر لانه خطب به الناس على المنبر فلم ينكر، فاما إذا انقلبت بنفسها فانها تطهر وتحل في قول جميعهم فقد روي عن جماعة من الاوائل انهم اصطبغوا بخل خمر منهم علي وأبو الدرداء ورخص فيه الحسن وسعيد بن جبير وليس في شئ من أخبارهم أنهم اتخذوه خلا ولانه انقلب بنفسه لكن قد بينه عمر بقوله لا يحل خل خمرأفسدت حتى يكون الله تعالى هو الذي يتولى
إفسادها ولانها إذا انقلبت بنفسها فقد زالت علة تحريمها من غير علة خلفتها فطهرت كالماء إذا زال تغيره بمكثه، وإذا القي فيها شئ ينجس بها ثم انقلبت بقي ما القي فيها نجسا فنجسها وحرمها فاما ان نقلها من موضع إلى آخر فتخللت من غير ان يلقي فيها شيئا فان لم يكن قصد تخليلها حلت بذلك لانها تخللت بفعل الله تعالى فيها، وان قصد بذلك تخليلها احتمل ان تطهر لانه لا فرق بينهما الا القصد فلا يقتضي تحريمها ويحتمل ان لا تطهر لانها خللت فلم تطهر كما لو القي فيها شئ
باب التعزير وهو التأديب وهو واجب في كل معصية لاحد فيها ولا كفارة كالاستمتاع الذي لا يوجب الحد واتيان المرأة المرأة وسرقة مالا يوجب القطع و الجناية على الناس بما لاقصاص فيه والقذف بغير الزنا ونحوه والنهب والغصب والاختلاس، وسمي تعزيرا لانه يمنع من الجناية والاصل في التعزير المنع ومنه التعزير بمعني النصرة لانه منع لعدوه من اذاه
(مسألة) (ومن وطئ جارية امرأته فعليه الحد الا ان تكون قد احلتها له فيجلد مائة وهل يلحقه نسب ولدها؟ على روايتين) اما إذا وطئ جارية امرأته باذنها فانه يجلد مائة ولا يرجم ان كان ثيبا وان كان بكرا لم يغرب وان لم تكن احلتها له فهو زان حكمه حكم الزاني بجارية الاجنبي، وحكي عن النخعي انه يعزر ولا حد
عليه لانه يملك امرأته فكانت له شبهة في مملوكتها، وعن عمر وعلي وعطاء وقتادة ومالك والشافعي
أنه كوطئ الاجنبية سواء احلتها له أو لم تحلها لانه لا شبهة له فيها فأشبه جارية اخته ولانه إباحة لوطئ محرمة عليه فلم تكن شبهة كاباحة سائر الملاك وعن ابن مسعود والحسن ان كان استكرهها فعليه غرم مثلها وتعتق وإن كانت طاوعته فعليه غرم مثلها ويملكها لان هذا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه ابن عبد البر وقال هذا حديث صحيح ولنا ماروى أبو داود باسناده عن حبيب بن سالم ان رجلا يقال له عبد الرحمن بن حنين وقع
على جارية امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير وهو أمير الكوفة فقال لاقضين فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة وان لم تكن احلتها لك رجمتك بالحجارة فوجدوها احلتها له فجلدوه مائة
(مسألة) (وهل يلحقه نسب ولدها إذا حملت من هذا الوطئ؟ على روايتين) (احداهما) يلحق لانه وطئ لا يجب به الحد فلحق به النسب كوطئ الجارية المشتركة (والاخرى) لا يلحق به لانه وطئ في غير ملك ولا شبهة ملك أشبه الزنا المحض (مسألة) (ولا يسقط الحد بالاباحة في غير هذا الموضع) لعموم النصوص الدالة على وجوب الحد على الزاني وانما سقط الحد في هذا الموضع لحديث النعمان
(مسألة) (ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات في غير هذا الموضع) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في قدر التعزير فروي عنه انه لا يزاد على عشر جلدات نص عليه في مواضع وهو قول اسحاق لما روى أبو بردة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا يجلد احد فوق عشرة أسواط الا في حد من حدود الله) متفق عليه
(والرواية الثانية) لا يبلغ به الحد وهو الذي ذكره الخرقي فيحتمل انه اراد لا يبلغ به أدنى حد مشروع وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، فعلى هذا لا يبلغ به اربعين سوطا لانها حد العبد في الخمر وهذا قول أبي حنيفة وان قلنا ان حد الخمر اربعون لم يبلغ به عشرين سوطا في حق العبد وأربعين
في حق الحر وهذا مذهب الشافعي فلا يزاد العبد على تسعة عشر سوطا ولا الحر على تسعة وثلاثين وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف ادنى الحدود ثمانون فلا يزاد في التعزير على تسعة وسبعين ويحتمل كلام احمد والخرقي ان لا يبلغ بكل جناية حدا مشروعا في جنسها ويجوز ان يزيد على حد غير جنسها، فعلى هذا ماكان سببه الوطئ جاز ان يجلد مائة الا سوطا لينقص عن حد الزنا، وما كان سببه غير الوطئ لم يبلغ به ادنى الحدود لما ذكرنا من حديث النعمان بن بشير في الذي وطئ جارية امرأته باذنها انه يجلد
مائة وهذا تعزيز لانه في حق المحصن انما هو الرجم، وعن سعيد بن المسيب عن عمر في امة بين رجلين وطئها احدهما يجلد الحد الا سوطا واحدا رواه الاثرم واحتج به أحمد قال القاضي هذا عندي من نص أحمد لا يقتضي اختلافا في التعزير بل المذهب انه لا يزاد على عشر جلدات اتباعا للاثر الا في وطئ
جارية امرأته لحديث النعمان وفي الجارية المشتركة لحديث عمر وما عداهما يبقى على العموم لحديث أبي بردة وهذا قول حسن، إذا ثبت تقدير أكثره فليس اقله مقدرا لانه لو يقدر لكان حدا ولان النبي صلى الله عليه وسلم قدر أكثره ولم يقدر أقله فيرجع فيه إلى اجتهاد الامام أو الحاكم فيما يراه وما يقتضيه
حال الشخص وقال مالك يجوز ان يزاد التعزير على الحد إذا رأى الامام لما روي ان معن بن زائدة عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال ثم جاء به صاحب بيت المال فأخذ منه مالا فبلغ عمر رضي الله عنه فضربه مائة وحبسه وكلم فيه فضربه مائة أخرى فكلم فيه من بعد فضربه مائة ونفاه، وروى أحمد باسناده
ان عليا أتي بالنجاشي قد شرب خمرا في رمضان فضربه ثمانين الحد وعشرين سوطا لفطره في رمضان وروي ان ابا الاسود استخلفه ابن عباس على قضاء البصرة فأتي بسارق قد كان جمع المتاع في البيت ولم يخرجه فقال أبو الأسود اعجلتم المسكين فضربه خمسة وعشرين سوطا وخلى سبيله
ولنا حديث أبي بردة وهو صحيح متفق عليه وروى الشالنجي باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين) ولان العقوبة على قدر الاجرام والمعاصي المنصوص على حدودها أعظم من غيرها فلا يجوز ان يبلغ في اهون الامرين عقوبة اعظمهما وما قالوه يفضي إلى ان
من قبل امرأة حراما يضرب أكثر من حد الزنا وهذا غير جائز لان الزنا مع عظمه وفحشه لا يجوز ان يزاد على حده فما دونه اولى، فما حديث معن فلعله كانت له ذنوب كثيرة فادب على جميعها أو تكرر منه الاخذ أو كان ذنبه مشتملا على جنايات (أحدها) تزويره (والثاني) أخذه لمال بيت المال بغير حقه (والثالث) فتحه باب هذه الحيلة لغيره وغير هذا، واما حديث النجاشي فان عليا ضربه الحد لشربه ثم عزره عشرين لفطره فلم يبلغ بتعزيره حدا وقد ذهب احمد إلى هذا ورأى ان من
شرب الخمر في رمضان يحد ثم يعزر لجنايته من وجهين والذي يدل عل صحة ما ذكرناه ما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى ان لا يبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطا (فصل) والتعزير يكون بالضرب والحبس والتوبيخ ولا يجوز قطع شئ منه ولا جرحه ولا أخذ ماله لان الشرع لم يرد بشئ من ذلك عن أحد يقتدى به ولان الواجب أدب والتاديب لا يكون بالاتلاف وإن رأى الامام العفو عنه جاز
(فصل) والتعزير فيما شرع فيه التعزير واجب إذا رآه الامام وبه قال مالك وابو حنيفة وقال
الشافعي ليس بواجب لان رجلا جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال (اني لقيت امرأة فاصبت منها ما دون أن أطأها فقال (أصليت معنا؟) قال نعم فتلى عليه (ان الحسنات يذهبن السيئات) وقال في الانصار (اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم) وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم في حكم حكم به للزبير: أن كان ابن عمتك؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعزره على مقالته وقال له رجل: ان هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله
ولنا ان ما كان من التعزير منصوصا عليه كوطئ جارية امرأته وجارية مشتركة فيحب امتثال الامر فيه، وما لم يكن منصوصا عليه إذا رأى الامام المصلحة فيه أو علم انه لا ينزجر الا به وجب فانه زجر مشروع لحق الله تعالى فوجب كالحد، وان رأى الامام العفو عنه جاز لما ذكرنا من النصوص والله أعلم وان كان التعزير لحق آدمي فطلبه لزم اجابته كسائر حقوق الآدميين (مسألة) (وان استمنى بيده لغير حاجة عزر) لانه معصية وان فعله خوفا من الزنا فلا شئ عليه لانه لو فعل ذلك خوفا على بدنه لم يلزمه شئ ففعله خوفا على دينه أولى
كتاب الجهاد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسولي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة) متفق عليه ولمسلم (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم) وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها) رواه البخاري (مسألة) (وهو فرض كفاية إذا قام به قوم سقط عن الباقين) معنى فرض الكفاية الذي إذا قام به من يكفي سقط عن سائر الناس وان لم يقم به من يكفي أثم الناس كلهم فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع كفرض الاعيان ثم يختلفان في ان فرض الكفاية يسقط بفعل البعض وفرض الاعيان لا يسقط عن احد بفعل غيره، والجهاد من فروض الكفايات في قول
عوام أهل العلم، وحكي عن ابن المسيب انه فرض عين لقوله تعالى (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله - ثم قال - إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) وقال سبحانه (كتب
عليكم القتال) وروى أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق) رواه أبو داود ولنا قول الله تعالى (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى) وهذا يدل على ان القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، وقال تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ولان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا ويقيم هو وأصحابه.
فأما الآية التي احتجوا بها فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما نسخها قوله تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) رواه الاثرم وأبو داود.
ويحتمل انه أراد حين استنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك وكانت إجابتهم إلى ذلك واجبة عليهم ولذلك هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وأصحابه الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم، وكذلك يجب على من استنفره الامام لقول النبي صلى الله عليه وسلم (وإذا استنفرتم فانفروا) متفق عليه ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم إما أن يكونوا جندا لهم دواوين من اجل ذلك أو يكونوا قد أعدوا أنفسهم له تبرعا بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة بهم ويكون في الثغور من يدفع العدو عنها ويبعث في كل سنة جيش يغيرون على العدو
(مسألة) (ولا يجب إلا على ذكر حر مكلف مستطيع وهو الصحيح الواجد لزاده وما يحمله إذا كان بعيدا) يشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط: الاسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكورية والسلامة من الضرر ووجود النفقة، فأما الاسلام والبلوغ والعقل فهي شروط لوجوب سائر الفروع، ولان
الكافر غير مامون في الجهاد، والمجنون لا يتأتى منه الجهاد، والصبي ضعيف البنية، وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في المقاتلة: متفق عليه، وأما الحرية فتشترط لما روي ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع الحر على الاسلام والجهاد ويبايع العبد على الاسلام دون الجهاد، ولان الجهاد عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم تجب على العبد كالحج، وأما الذكورية فتشترط لما روت عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ فقال (جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة) ولانها ليست من أهل القتال لضعفها وخورها ولذلك لا يسهم لها، ولا يجب على خنثى مشكل لانه لا يعلم كونه ذكرا فلا يجب عليه مع الشك في شرطه، وأما السلامة من الضرر فمعناه السلامة من العمى والعرج والمرض وذلك شرط لقول الله سبحانه (ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج) ولان هذه الاعذار يمنعه من الجهاد، فاما العمى فمعروف، وأما العرج فالمانع منه هو الفاحش الذي يمنع المشي الجيد
والركوب كالزمانة ونحوها، اما اليسير الذي يتمكن معه من الركوب والمشي وانما يتعذر عليه شدة العدو فلا يمنع وجوب الجهاد لانه ممكن منه فاشبه الاعور، والمرض المانع هو الشديد، فاما اليسير الذي لا يمنع الجهاد كوجع الضرس والصداع الخفيف فلا يمنع الوجوب كالعور، وأما وجود النفقة فيشترط لقول الله تعالى [ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ] ولان الجهاد لا يمكن إلا بآلة فاعتبرت القدرة عليها، فان كان الجهاد على مسافة قريبة اشترط أن يجد الزاد ونفقة عياله في مدة غيبته وسلاحا يقاتل به، ولا تعتبر الراحلة لقرب السفر، وان كانت المسافة تقصر فيها الصلاة اعتبر مع ذلك الراحلة لقول الله تعالى [ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما احملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناألا يجدوا ما ينفقون ] (مسألة) (وأقل ما يفعل مرة في كل عام إلا ان تدعو الحاجة إلى تأخيره) أقل ما يفعل الجهاد في كل عام مرة لان الجزية تجب على أهل الذمة مرة في كل عام وهي بدل عن النصرة فكذلك مبدلها وهو الجهاد فان دعت الحاجة إلى تأخيره مثل ان يكون بالمسلمين ضعف في عدد أو
عدة أو يكون متنظرا لمدد يستعين به أو يكون في الطريق إليهم مانع أو ليس فيها علف أو ماء أو يعلم من عدوه حسن الرأي في الاسلام ويطمع في اسلامهم ان أخر قتالهم ونحو ذلك مما يرى المصلحة معه في ترك القتال فيجوز تركه بهدنة وبغير هدنة فان النبي صلى الله عليه وسلم قد صالح قريشا عشر سنين واخر
قتالهم حتى نقضوا عهده واخر قتال قبائل من العرب بغير هدنة، وإن دعت الحاجة إلى القتال في عام أكثر من مرة وجب لانه فرض كفاية فوجب منه ما تدعو الحاجة إليه (فصل) (ومن حضر الصف من أهل فرض الجهاد أو حضر العدو بلده تعين عليه) وجملة ذلك ان الجهاد يتعين في ثلاثة مواضع (أحدها) إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان يحرم على من حضر الانصراف ويتعين عليه المقام لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا - وقوله - يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروازحفا فلا تولوهم الادبار) الآية (الثاني) إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم (الثالث) إذا استنفر الامام قوما لزمهم النفير معه لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الارض؟) الآية ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (وإذا استنفرتم فانفروا) متفق عليه (مسألة) (وأفضل ما يتطوع به الجهاد) قال أحمد رحمه الله لا أعلم شيئا من العمل بعد الفرائض افضل من الجهاد روى ذلك عنه جماعة من أصحابه قال الاثرم قال أحمد لا نعلم شيئا من أبواب البر أفضل من السبيل وقال الفضل بن زياد سمعت أبا عبد الله وذكر له أمر الغزو فجعل يبكي ويقول ما من أعمال البر افضل منه وقال عنه غيره ليس يعدل لقاء العدو شئ ومباشرة القتال بنفسه افضل الاعمال والذين يقاتلون العدو هم الذين
يدفعون عن الاسلام وعن حريمهم فاي عمل افضل منه؟ الناس آمنون وهم خائفون قد بذلوا مهج أنفسهم، وقد روى ابن مسعود رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم اي الاعمال أفضل؟ قال (الصلاة بمواقيتها - قلت ثم أي؟ قال - بر الوالدين - قلت - ثم أي؟ قال - الجهاد في سبيل الله) متفق على معناه
وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى ابو هريرة قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم اي الاعمال افضل؟ اواي الاعمال خير؟ قال (الايمان بالله ورسوله - قيل ثم اي شئ؟ قال - الجهاد سنام العمل - قيل ثم اي قال - حج مبرور) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى ابو سعيد قال قيل يا رسول الله أي الناس أفضل قال (من يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله) متفق عليه وعن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (الا اخبركم بخير الناس؟ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى الخلال باسناده عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده مابين السماء والارض من عمل افضل من جهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لارفث فيها ولافسوق ولا جدال) ولان الجهاد بذل المهجة والمال ونفعه يعم المسلمين كلهم صغيرهم وكبيرهم وقويهم وضعيفهم ذكرهم وانثاهم وغيره لا يساويه في نفعه وخطره فلا يساويه في فضله
(مسألة) [ وغزو البحر أفضل من البر ] غزو البحر مشروع وفضله كبير قال انس بن مالك نام رسول الله؟ صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك قالت ام حرام فقلت ما يضحكك يارسول الله؟ قال (ناس من امتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبح هذا البحر ملوكا على الاسرة - أو - مثل الملوك على الاسرة) متفق عليه قال ابن عبد البر: ام حرام بنت ملحان أخت ام سليم خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة ارضعته أخت لهما ثالثة ولم يرو هذا عن أحد سواه واظنه انما قال هذا لان النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام في بيتها وينظر إلى شعرها ولعل هذا كان قبل نزول الحجاب وروى ابو داود باسناده عن ام حرام عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال (المائد في البحر الذي يصيبه القئ له اجر شهيد والغرق له اجر شهيدين) وروى ابن ماجه باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال (شهيد البحر مثل شهيدي البر والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله وان الله وكل ملك الموت بقبض الارواح إلا شهيد البحر فانه يتولى قبض ارواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين ويغفر لشهيد البحر الذنوب والدين) ولان البحر اعظم خطراومشقة فانه بين خطر العدو وخطر الغرق ولا يتمكن من الفرار إلا مع
اصحابه فكان افضل من غيره [ فصل ] وقتال اهل الكتاب افضل من قتال غيرهم وكان ابن المبارك رضى الله عنه يأتي من مرو لغزو الروم فقيل له في ذلك فقال ان هؤلاء يقاتلون على دين وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال لام خلاد (ان ابنك له اجر شهيدين) قالت ولم ذاك يا رسول الله؟ قال (لانه قتله اهل الكتاب) رواه ابو داود
(مسألة) (ويغزى مع كل بر وفاجر) يعني مع كل امام برا كان أو فاجرا وقد سئل أحمد عن الرجل يقول انا لا أغزو ويأخذه ولد العباس انما يوفر الفئ عليهم فقال سبحان الله هؤلاء قوم سوء هؤلاء القعدة مثبطون جهال فيقال ارأيتم لو أن الناس كلهم قعدوا كما قعدتم من كان يغزو؟ أليس كان قد ذهب الاسلام؟ ما كانت تصنع الروم؟ وقد روى أبو داود باسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا) وباسناده عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاث من أصل الايمان الكف عمن قال لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الاسلام بعمل والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل والايمان بالاقدار) ولان ترك الجهاد مع الفاجر يفضي إلى قطعه وظهور الكفار على المسلمين واستئصالهم وظهور كلمة الكافر وفيه فساد عظيم، قال الله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض) (فصل) قال أحمد لا يعجبني أن يخرج مع الامام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع المسلمين وإنما يغزو مع من له شفقة وحيطة على المسلمين فان كان يعرف بشرب الخمر والغلول يغزى معه إنما ذلك في نفسه ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم (ان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) (مسألة) (ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو).
الاصل في هذا قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ولان الاقرب أكثر ضررا وفي قتاله دفع ضرره عن المقاتل له وعمن وراءه ولان الاشتغال بالبعيد عنه
يمكنه من انتهاز الفرصة في المسلمين لاشتغالهم عنه قيل لاحمد رحمه الله: يحكون عن ابن المبارك أنه قيل له تركت قتال العدو عندك وجئت إلى ههنا قال؟ هؤلاء أهل كتاب؟ فقال أبو عبد الله سبحان الله ما أدري ما هذا القول يترك العدو عنده ويجئ إلى ههنا؟ أفيكون هذا؟ أو يستقيم هذا؟ وقد قال الله تعالى [ قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ] ولو أن أهل خراسان كلهم عملوا على هذا لم يجاهد الترك أحد وهذا والله أعلم إنما فعله ابن المبارك لكونه متبرعا بالجهاد والكفاية حاصلة بغيره من أهل الديوان واجناد المسلمين والمتبرع له ترك الجهاد بالكلية فكان له أن يجاهد حيث شاء ومع من شاء.
إذا ثبت هذا فان كان له عذر في البداية بالابعد لكونه أخوف أو لمصلحة في البداية به لقربه وامكان الفرصة منه أو لكون الاقرب مهادنا أو يمنع مانع من قتاله فلا بأس بالبداية بالابعد للحاجة.
(فصل) وأمر الجهاد موكول إلى الامام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك وينبغي أن يبتدئ بترتيب قوم في اطراف البلاد يكفون من بازائهم من المشركين ويأمر بعمل حصونهم وحفر خنادقم وجميع مصالحهم ويؤمر في كل ناحية أميرا يقلدهم امر الحرب وتدبير الجهاد ويكون ممن له راي وعقل ونجدة وبصر بالحرب ومكايدة العدو مع أمانة ورفق بالمسلمين ونصح لهم وإنما يبدأ
بذلك لانه لا يأمن عليها من المشركين، ويغزو كل قوم من يليهم إلا ان يكون في بعض الجهات من لا يكفيه من يليه فينجدهم بقوم آخرين ويكونون معهم ويوصي من يؤمره أن لا يحمل المسلمين على مهلكة ولا يامرهم بدخول مطمورة يخاف أن يقتلوا تحتها فان فعل ذلك فقد أساء ويستغفر الله تعالى ولا عقل عليه ولا كفارة إذا أصيب واحد منهم بطاعته لانه فعل ذلك باختياره، فان عدم الامام لم يؤخر الجهاد لان مصلحته تفوت بتأخيره، وان حصلت غنيمة قسموها على موجب الشرع، قال القاضي وتؤخر قسمة الاماء حتى يقوم إمام احتياطا للفروج فان بعث الامام جيشا وأمر عليهم اميرا فقتل أو مات فللجيش ان يؤمروا احدهم كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في جيش مؤتة لما قتل أمراؤهم أمروا عليهم خالد بن الوليد فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فرضي امرهم وصوب رأيهم وسمى خالدا يومئذ (سيف الله) [ فصل ] قال احمد قال عمر رضي الله عنه وفروا الاظفار في ارض العدو فانه سلاح قال احمد
يحتاج إليها في ارض العدو ألا ترى انه إذا اراد أن يحل الحبل أو الشئ فإذا لم يكن له اظفار لم يستطع وقال عن الحكم بن عمرو امرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لا نحفي الاظفار في الجهاد فان القوة الاظفار [ فصل ] قال احمد يشيع الرجل إذا خرج ولا يتلقونه شيع علي رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ولم يتلقه، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه انه شيع يزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام ويزيد راكب وأبو بكر رضي الله عنه يمشي فقال
له يزيد يا خليفة رسول اما ان تركب واما ان انزل انا فامشي معك فقال لا أركب ولا تنزل اني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله تعالى، وشيع أبو عبد الله أبا الحارث الصائغ ونعلاه في يديه وذهب إلى فعل أبي بكر رضي الله عنه اراد ان تغبر قدماه في سبيل الله وقال عن عوف بن مالك الخثعمي عن النبي صلى الله عليه وسلم (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) قال أحمد ليس للخثعمي صحبة وهو قديم (مسألة) (وتمام الرباط أربعون يوما وهو لزوم الثغر للجهاد) معنى الرباط الاقامة بالثغر مقويا للمسلمين على الكفار والثغر كل مكان يخيف أهل العدو ويخيفهم وأصله من رباط الخيل لان هؤلاء يربطون خيولهم وهؤلاء يربطون خيولهم كل يعد لصاحبه فسمي المقام بالثغر رباطا وان لم يكن خيل، وفيه فضل عظيم وأجر كبير قال أحمد ليس يعدل الجهاد والرباط شئ والرباط دفع عن المسليمن وعن حريمهم وقوة لاهل الثغر ولاهل الغزو فالرباط عندي أصل الجهاد وفرعه والجهاد افضل منه للعناء والتعب والمشقة وقد روي في فضل الرباط اخبار منها ما روى سلمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (رباط ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه فان مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل وأجري عليه رزقه وأمن الفتان) رواه مسلم وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (كل ميت يختم على عمله الا المرابط في سبيل الله فانه
ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتان القبر) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
صحيح وعن عثمان بن عثمان رضي الله عنه انه قال على المنبر: اني كنت كتمتكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية تفرقكم عني ثم بدا لي ان أحدثكموه ليختار امرؤ منكم لنفسه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (رباط يوم في سبيل الله خير من الف يوم فيما سواه من المنازل) رواه أبو داود والاثرم وغيرهما.
إذا ثبت هذا فان الرباط يقل ويكثر فكل مدة اقامها بنية الرباط فهي رباط قلت أو كثرت ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (رباط يوم - ورباط ليلة) قال أحمد يوم رباط وليلة رباط وساعة رباط وقال عن أبي هريرة رضي الله عنه من رابط يوما في سبيل الله كتب له أجر الصائم القائم ومن زاد زاده الله، وروى سعيد باسناده عن أبي هريرة قال رباط يوم في سبيل الله أحب الي من ان أوافق ليلة القدر في أحد المسجدين مسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رابط أربعين يوما فقد استكمل الرباط وتمام الرباط أربعون يوما روي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وقد ذكرنا خبر أبي هريرة، وروى أبو الشيخ في كتاب الثواب باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال (تمام الرباط أربعون يوما) وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما انه قدم على عمر بن الخطاب من الرباط فقال له كم رابطت قال ثلاثين يوما قال عزمت عليك الا رجعت حتى تتمها أربعين يوما فان رابط أكثر فله أجره كما قال أبو هريرة ومن زاد زاده الله (فصل) وأفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفا لانهم أحوج ومقامه به انفع قال أحمد رحمه
الله: أفضل الرباط اشدهم كلبا وقيل لابي عبد الله فاين أحب اليك ان ينزل الرجل باهله؟ قال كل مدينة معقل للمسلمين مثل دمشق وقال أرض الشام أرض المحشر ودمشق موضع يجتمع الناس إليه إذا غلبت الروم، قيل لابي عبد الله فهذه الاحاديث التي جاءت (ان الله تكفل لي باهل الشام) ونحو هذا قال ما أكثر ما جاء فيه، وقيل له ان هذا في الثغور فأنكره وقال أرض القدس أين هي ولا يزال أهل الغرب ظاهرين؟ هم أهل الشام ففسر أحمد الغرب في هذا الحديث بالشام وهو صحيح رواه مسلم وانما فسره بذلك لان الشام يسمى مغربا لانه مغرب للعراق كما يسمى العراق مشرقا ولهذا قيل ولاهل المشرق ذات عرق وقد جاء في حديث مصرحا به (لا تزال طائفة من امتي ظاهرين على الحق لا يضرهم
من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم بالشام) وفي حديث مالك بن يخامر عن معاذ رضي الله عنه قال (وهم بالشام) رواه البخاري وروى في تاريخه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تزال طائفة بدمشق ظاهرين) وقد روي في الشام أخبار كثيرة منها حديث عبد الله بن حوالة الازدي رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ستجندون أجنادا جندا بالشام وجندا بالعراق وجندا باليمن فقلت خرلي يا رسول الله قال عليك بالشام فانها خيرة الله من ارضه يجتبي إليها خيرته من عباده فمن أبى فليلحق باليمن ويشق من غدره فان الله تكفل لي بالشام وأهله) رواه أبو داود بمعناه وكان أبو إدريس إذا روى هذا الحديث قال ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه وروي عن الاوزاعي قال اتيت المدينة فسألت من
بها من العلماء؟ فقيل محمد بن المنكدر ومحمد بن كعب القرظي ومحمد بن علي بن عبد الله بن العباس ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فقلت والله لابدأن بهذا قبلهم فدخلت إليه فأخذ بيدي وقال من أي اخواننا انت؟ قلت من أهل الشام قال من أيهم؟ قلت من أهل دمشق قال حدثني أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال (يكون للمسلمين ثلاث معاقل فمعقلهم في الملحمة الكبرى التي تكون بعمق انطاكية دمشق، ومعقلهم من الدجال بيت المقدس، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج طور سيناء)) رواه أبو نعيم في الحلية وعن أبي الدرداء رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ان فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام) رواه أبو داود (مسألة) (ولا يستحب نقل أهله إليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رباط يوم في سبيل الله خير من الف يوم فيما سواه من المنازل) قد ذكرنا هذا الحديث وهو صحيح رواه أبو داود وغيره واراد بالثغر ههنا الثغر المخوف وهذا قول الحسن والاوزاعي لما روى يزيد بن عبد الله قال قال: عمر رضي الله عنه لا تنزلوا المسلمين ضفة البحر رواه الاثرم، ولان الثغور المخوفة لا يؤمن ظفر العدو بها وبمن فيها واستيلاؤهم على الذرية والنساء
قيل لابي عبد الله رحمه الله فتخاف على المنتقل بعياله إلى الثغر الاثم؟ قال كيف لا أخاف الاثم وهو يعرض ذريته للمشركين؟ وقال كنت آمر بالتحول بالاهل والعيال إلى الشام قبل اليوم فانا انهى عنه الآن لان الامر قد اقترب، وقال لابد لهؤلاء القوم من يوم قيل فذلك في آخر الزمان قال فهذا آخر الزمان قيل له فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها قال هذا للواحدة ليس الذرية قال الشيخ رحمه الله وهذا من كلام أحمد محمول على ان غير أهل الثغر لا يستحب لهم الانتقال بأهلهم إلى ثغر مخوف فأما أهل الثغر فلابد لهم من السكنى بأهلهم لولا ذلك لخربت الثغور وتعطلت وخص الثغر المخوف بالكراهة لان الخوف عليها أكثر ولان الغالب من غير المخوفة سلامتها وسلامة أهلها (فصل) ويستحب لاهل الثغر ان يجتمعوا في مسجد واحد بحيث إذا حضر النفير صادفهم مجتمعين فيبلغ الخبر جميعهم ويراهم عين الكفار فيعلم كثرتهم فيخوف بهم لانهم إذا كانوا متفرقين رأى الجاسوس قلتهم، وروي عن الاوزاعي انه قال في المساجد التي بالثغر لو ان لي عليها ولاية لسمرت أبوابها حتى تكون صلاتهم في مسجد واحد حتى إذا جاء النفير وهم متفرقون لم يكونوا مثلهم إذا كانوا في موضع واحد (فصل) في الحرس في سبيل الله وفيه ثواب عظيم وفضل كبير قال ابن عباس رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقول عينان لا تمسهما النار عين بكت من حشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب وعن سهل بن الحنظلية أنهم سارو مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فأطنبوا السير حتى كان عشية قال من يحرسنا الليلة؟) قال أنس بن أبي مرثد الغنوي أنا يا رسول الله قال (فاركب) فركب فرسا له وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له (استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغرن من قبلك الليلة) فلما اصبحنا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال (هل أحسستم فارسكم؟) قالوا لا فثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ابشروا قد جاء فارسكم) فإذا هو قد جاء حتى إذا وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اني انطلفت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اصبحت اطلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم ار أحدا فقال له
رسول الله (هل نزلت الليلة؟) قال لا إلا مصليا أو قاضي حاجة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (قد أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها) رواه ابو داود، وعن عثمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول (حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة قيام ليلها وصيام نهارها) رواه ابن سنجر (مسألة) (وتجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه في دار الحرب وتستحب لمن قدر عليه) الهجرة هي الخروج من دار الكفر إلى دار الاسلام قال الله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها؟) الآيات.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال (أنا برئ من مسلم بين مشركين)
رواه أبو داود والنسائي والترمذي، ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت في آي وأخبار سوى هذين كثير (فصل) وحكم الهجرة باق لا ينقطع إلى يوم القيامة في قول عامة أهل العلم، وقال قوم قد انقطعت الهجرة لان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لاهجرة بعد الفتح) وقال (قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية) وروى ان صفوان بن أمية لما أسلم قيل له لا دين لمن لم يهاجر فأتى المدينة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ما جاء بك أبا وهب؟) قال قيل انه لا دين لمن لم يهاجر قال (ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة أقروا على مساكنكم فقد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية) روى ذلك كله سعيد ولنا ما روى معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه أبو داود، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد) رواه سعيد وغيره مع إطلاق الآيات والاخبار الدالة عليها، وتحقق المعنى المقتضي لها في كل زمان وأما الاحاديث الاول فأراد بها لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح، وقوله لصفوان (ان الهجرة قد انقطعت) يعني من مكة لان الهجرة الخروج من بلد الكفار فإذا فتح لم يبق بلد الكفار فلا تبقى منه هجرة، وهكذا كل بلد فتح لا تبقى منه هجرة إنما الهجرة النية
(فصل) والناس في الهجرة على ثلاثة أضرب [ أحدها ] من تجب عليه وهو ممن يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه أو لا يمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه الهجرة لقول الله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولان القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب [ الثاني ] من لاهجرة عليه وهو من يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الاقامة أو ضعف من النساء والولدان وشبههم فهذا لا هجرة عليه لقول الله تعالى (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) فهذه لا توصف باستحباب لعدم القدرة عليها (الثالث) من تستحب له ولا تجب عليه وهو من يقدر عليها لكنه يتمكن من إظهار دينه مع إقامته في دار الكفار فيستحب له ليتمكن من جهادهم وتكثير المسلمين ومعونتهم ويتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ورؤية المنكر بينهم، ولا تجب عليه لامكان اقامة واجب دينه بدون الهجرة وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه مقيما بمكة مع إسلامه
وروي ان نعيم النحام حين أراد أن يهاجر جاءه قومه بنو عدي فقالوا له أقم عندنا وأنت على دينك ونحن نمنعك ممن يريد أذاك واكفنا ما كنت تكفينا وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم فتخلف عن الهجرة مدة ثم هاجر بعد وقال له النبي صلى الله عليه وسلم (قومك كانوا خيرا لك من قومي لي: قومي أخرجوني وأرادوا قتلي وقومك حفظوك ومنعوك) فقال يا رسول الله قومك أخرجوك إلى طاعة الله وجهاد عدوه وقومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله أو نحو هذا القول (مسألة) (ولا يجاهد من عليه دين لا وفاء له، ومن أحد أبويه مسلم إلا باذن غريمه وأبيه الا
أن يتعين عليه الجهاد فانه لا طاعة لهما في ترك فريضة من كان عليه دين حال أو مؤجل لم يجز له الخروج إلى الغزو الا باذن غريمه الا أن يترك وفاء أو يقيم به كفيلا أو يوثقه برهن وبهذا قال الشافعي، ورخص مالك في الغزو لمن لا يقدر على قضاء دينه لانه لا تتوجه عليه المطالبة به ولا حبسه من أجله فلم يمنع من الغزو كما لو لم يكن عليه دين ولنا أن الجهاد تقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس فيفوت الحق بفواتها، وقد روي أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا يكفر عني خطاياي؟ قال (نعم إلا الدين فان جبريل قال لي ذلك) وأما إذا تعين عليه الجهاد فلا إذن لغريمه لانه تعلق بعينه فكان مقدما على ما في ذمته كسائر فروض الاعيان، ولكن يستحب له أن لا يتعرض لمظان القتل من المبارزة والوقوف في أول المقاتلة لان فيه تغريرا
بتفويت الحق، فان ترك وفاء أو اقام كفيلا فله الغزو بغير اذن نص عليه أحمد فيمن ترك وفاء لان عبد الله بن عمرو بن حرام خرج إلى احد وعليه دين كثير فاستشهد وقضاه عنه ابنه جابر بعلم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلمه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينكر فعله بل مدحه وقال (مازالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه) وقال لابنه جابر (أشعرت ان الله أحيا أباك وكلمه كفاحا) (فصل) ومن كان أبواه مسلمين لم يجاهد بغير اذنهما تطوعا روي نحو ذلك عمر وعثمان رضي الله عنهما وبه قال مالك والاوزاعي والثوري والشافعي وسائر أهل العلم لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أجاهد؟ قال (ألك أبوان؟) قال نعم قال (ففيهما فجاهد) وروى ابن عباس نحوه قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وفي رواية قال: جئت ابايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان قال (ارجع اليهما فاضحكهما كما ابكيتهما) وعن ابي سعيد ان رجلا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (هل لك باليمن احد؟) قال نعم ابواي، قال (أذنا لك؟) قال لا، قال (فارجع فاستأذنهما فان أذنا لك فجاهد والا فبرهما) رواهن ابو داود، ولان
بر الوالدين فرض عين والجهاد فرض كفاية وفرض العين يقدم وكذلك ان كان أحدهما مسلما لم يجاهد بغير إذنه لان بره فرض عين فقدم على الجهاد كالابوين، فأما ان كانا غير مسلمين فلا اذن لهما وهذا قول الشافعي وقال الثوري لا يغزو إلا باذنهما لعموم الاخبار
ولنا أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يجاهدون وفيهم من أبواه كافران ولم يستأذنهما منهم أبو بكر الصديق وأبو حذيفة بن عتبة كان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وأبوه رئيس المشركين يومئذ وأبو عبيدة قتل أباه في الجهاد فأنزل الله تعالى (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر) الآية وهذا يخص عموم الاخبار فان كانا رقيقين فعموم كلامه ههنا يقتضي وجوب استئذانهما وهو ظاهر كلام الخرقي لظاهر الاخبار ولانهما مسلمان اشبها الحرين ويحتمل أن لا يعتبر اذنهما لانه لا ولاية لهما فان كانا مجنونين فلا اذن لهما لعدم اعتبار قولهما.
(فصل) فان تعين عليه الجهاد سقط اذنهما وكذلك كل فرائض الاعيان لا طاعة لهما في تركها لان تركها معصية ولاطاعة لاحد في معصية الله وكذلك كل ما وجب كالحج وصلاة الجماعة والجمع والسفر للعلم الواجب لانها فرض عين فلم يعتبر إذن الابوين فيها كالصلاة ولان الله تعالى قال (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) ولم يشترط اذن الوالدين.
(فصل) فان خرج في جهاد تطوع باذنهما فمنعاه منه بعد سيره وقبل تعينه عليه فعليه الرجوع لانه معنى لو وجد في الابتداء منع فمنع إذا وجد في أثنائه كسائر الموانع إلا أن يخاف على نفسه في الرجوع أو يحدث له عذر من مرض أو نحوه فان أمكنه الاقامة في الطريق وإلا مضى مع الجيش وإذا حضر الصف تعين عليه لحضوره وسقط اذنهما وان كان رجوعهما عن الاذن بعد تعين الجهاد عليه لم يؤثر
شيئا وان كانا كافرين فأسلما ومنعاه كان كمنعهما بعد اذنهما سواء، وحكم الغريم يأذن في الجاد ثم يمنع منه حكم الوالد على ما فصلناه، فأما ان حدث للانسان في نفسه مرض أو عمى أو عرج فله الانصراف سواء التقى الصفان أو لا لانه لا يمكنه القتال فلا فائدة في مقامه.
(فصل) فان أذن له والداه في الجهاد وشرطا عليه أن لا يقاتل فحضر القتال تعين عليه وسقط شرطهما كذلك قال الاوزاعي وابن المنذر لانه صار واجبا عليه فلم يبق لهما في تركه طاعة ولو خرج بغير اذنهما فحضر القتال ثم بدا له الرجوع لم يجز له ذلك.
(مسألة) (ولا يجوز للمسلمين الفرار من ضعفهم إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة فان زاد الكفار فلهم الفرار إلا أن يغلب على ظنهم الظفر) وجملة ذلك أنه إذا التقى المسلمون والكفار وجب الثبات وحرم الفرار لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا) وقوله سبحانه (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار) الآية، وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم الفرار من الزحف من الكبائر وحكي عن الحسن والضحاك أن هذا كان يوم بدر خاصة ولا يجب في غيرها.
ولنا أن الامر مطلق والخبر عام فلا يجوز التقييد والتخصيص إلا بدليل، وإنما يجب الثبات بشرطين (أحدهما) أن لا يزيد الكفار على ضعف المسلمين فان زادوا جاز الفرار لقول الله تعالى (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فان يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) وهذا وان كان لفظه لفظ الخبر فهو أمر بدليل قوله (الآن خفف الله عنكم) ولو كان خبرا على حقيقته لم يكن ردنا من غلبة الواحد للعشرة إلى غلبة الاثنين تخفيفا ولان خبر الله تعالى صدق لا يقع بخلاف مخبره وقد علم أن الظفر والغلبة لا يحصل للمسلمين في كل موطن يكون العدو فيه ضعف المسلمين فما دون فعلم انه أمر وفرض ولم يأت شئ ينسخ هذه الآية في كتاب ولا سنة فوجب الحكم بها، قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) فشق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ثم جاء تخفيف فقال (الآن خفف الله عنكم - إلى قوله - يغلبوا مائتين) فلما خفف الله عنهم من العدد نقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد، رواه أبو دواد وقال ابن عباس من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فما فر (الثاني) ان لا يقصد بفراره التحيز إلى فئة ولا التحرف لقتال فان قصد أحد هذين أبيح له لان الله تعالى قال (إلا متحرفا
لقتال أو متحيزا إلى فئة) ومعنى التحرف للقتال أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن مثل أن ينحاز من مواجهة الشمس أو الريح إلى استدبارهما أو من نزول إلى علو أو من معطشة إلى موضع
ماء أو يفر بين أيديهم لتنتقض صفوفهم أو تنفرد خيلهم من رجالتهم أو ليجد فيهم فرصة أو ليستند إلى جبل ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يوما في خطبته إذا قال يا سارية بن زنيم الجبل ظلم الذئب من استرعاه الغنم فانكرها الناس، فقال علي رضي الله عنه دعوه فلما نزل سألوه عما قال لهم فلم يعترف به وكان بعث سارية إلى ناحية العراق لغزوهم فلما قدم ذلك الجيش أخبروا أنهم لقوا عدوهم يوم الجمعة فظفر عليهم فسمعوا صوت عمر فتحيزوا إلى الجبل فنجوا من عدوهم وانتصروا عليهم وأما التحيز إلى فئة فهو ان يصير إلى فئة من المسلمين ليكون معهم فيقوى بهم على عدوه وسواء بعدت المسافة أو قربت قال القاضي لو كانت الفئة بخراسان والفئة بالحجاز جاز التحيز إليها ونحوه ذكر أصحاب الشافعي لان ابن عمر رضي الله عنهما روى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (إني فئة لكم) كانوا بمكان بعيد عنه وقال عمر رضي الله عنه انا فئة كل مسلم وكانوا بالمدينة وجيوشه بمصر والشام والعراق وخراسان رواهما سعيد، وقال عمر رضي الله عنه رحم الله أبا عبيد لو كان تحيز إلي لكنت له فئة.
وإذا خشي الاسر فالاولى ان يقاتل حتى يقتل ولا يسلم نفسه للاسر لانه يفوز بالثواب والدرجة الرفيعة ويسلم من تحكم الكفار عليه بالتعذيب والاستخدام والفتنة، فان استأسر جاز لما روى أبو هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث عشرة عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت فنفرت
إليهم هذيل بقريب من مائة رجل رام فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجؤا إلى فدفد فقالوا لهم انزلوا فاعطونا أيديكم ولكم العهد والميثاق ان لا نقتل منكم أحدا فقال عاصم اما انا فلا أنزل في ذمه مشرك فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما مع سبعة معه ونزل إليهم ثلاثة على العهد والميثاق منهم خبيب وزيد بن الدثنة فلما استمكنوا منهم اطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها متفق عليه فعاصم أخذ بالعزيمة وخبيب
وزيد أخذا بالرخصة وكلهم محمود غير مذموم ولا ملوم (فصل) فان كان العدو أكثر من ضعف المسلمين فغلب عن ظن المسلمين الظفر فالاولى لهم الثبات لما في ذلك من المصلحة ويجوز لهم الانصراف لانهم لا يأمنون العطب والحكم علق على مظنته وهو كونهم أقل من نصف عدوهم ولذلك لزمهم الثبات إذا كانوا أكثر من النصف وان كان غلب عل ظنهم الهلاك فيه، ويحتمل ان يلزمهم الثبات إذا غلب على ظنهم الظفر لما فيه من المصلحة فان غلب على ظنهم الهلاك في الاقامة والسلامة في الانصراف فالاولى لهم الانصراف وان ثبتوا جاز لان لهم غرضا في الشهادة مع جواز الغلبة أيضا وان غلب على ظنهم الهلاك في الاقامة والانصراف فالاولى لهم الثبات لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال محتسبين فيكونوا افضل من المولين ولانه يجوز ان يغلبوا أيضا فقد قال تعالى (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله) الآية ولذلك صبر عاصم وأصحابه فقاتلوا حتى أكرمهم الله بالشهادة
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: