الفردانية 2
الفردانية |
لمّا اعتلاه في المقام ( مقام العلم بالله تعالى المختصّ به ) وهذا قد يحدث فيما بين الشيخ ومريده بعد أن يكمل المريد كما حدث في قصّة سيدنا يوسف مع أبيه سيدنا يعقوب ومع إخوته. فإنّ سيدنا يوسف عليه السلام كان من الأفراد بينما كان أبوه سيدنا يعقوب عليه السلام قطبا في زمانه ( لا نتكلّم عن النبوّة بل عن مقامات الولاية فيهما ) لذا متى تلاقى القطب مع الفرد سلّم القطب للفرد في حضرة الفرد متى قصده لذا سجد يعقوب وبنوه ليوسف عليهم جميعا السلام وهذا ما وقع في قصّة موسى مع الخضر عليهما السلام فقد رجع موسى إلى حكم الخضر لأنّه في حضرة الفرد ولا يعني هذا أنّ الفرد أعلى من القطب في كلّ شيء بل فقط من حيث خصوصية الفرد فيما اختصّ به من علم ومعرفة من حيث تعلّق علومه بالذات العلية فلا تعلّق للفرد بعالم الأكوان بل تعلّقه فقط بالوجهة إلى حضرة الإحسان. وآية هذا الإختصاص الخضري قوله تعالى: ( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ). فعلّمه الله تعالى من لدنه علما مختصّ به فلا يجاوزه إلى غيره لذا سأله موسى التعليم من ذلك العلم المختصّ به , وكذلك آية فردانية يوسف الصدّيق عليه السلام بشهادة أبيه له يعقوب قوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ). فالربّ هو الذي علّمه وليس يعقوب وبشهادة يوسف على نفسه في قوله تعالى : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) فالله هو الذي آتاه وهذا مشهد الفرد في حديثه عن نفسه فلا يرى فضلا عليه إلاّ لربّه الذي علّمه. فإذا علمت هذا علمت أنّ موسى في حكايته مع الخضر لم يصبر على الخضر ولم يسلّم له في علمه بل أنكر عليه فيه كما أنكر إخوة يوسف على أبيهم يعقوب في محبّته ليوسف وتقديمه عليهم. و من علامات الفرد إمّا أن يكون منكرا عليه من قبل الأقطاب في علومه وقد أنكر كثير من الأولياء على سيدي محي الدين بن عربي وقد ذكر نكرانهم في الفتوحات لذا كتب كتابه الفتوحات لصديقه في تونس عبد العزيز القرشي رضي الله عنهما وكان من الأقطاب وكان أميّا. أوأن يكون محسودا على ما أختصّ به ممّن هم دونه وإنّما لم ينكر يعقوب على يوسف لأنّه إبنه والأب يرى نفسه في ابنه فسلّم له ولم يحسده على ما آتاه الله تعالى فلأنّ الأنبياء معصومون من هذا جملة وتفصيلا فلا يخطر على قلوبهم أمّا إخوته فقد حملتهم الغيرة على المقامات وهذا باب آخر يعلمه أهله لا لحسد منهم له فلو كانوا حسدوه ما رجعوا عن حسدهم. لأنّ الحسود لا يرجع متى نبت مرض الحسد في قلبه كإبليس لعنه الله لمّأ حسد آدم تكبّر عليه وأبى السجود له أمّا إخوة يوسف فسلّموا له وطلبوا الصفح منه ثمّ سجدوا له تكريما واعترافا بمقامه الخاص به لذا قال من قال بأنّهم أيضا من الأنبياء وهذا الذي أٌقول به ولذلك شواهد من الآيات عبارة وإشارة وقد ذهب بعض الأولياء إلى مذهب أنّهم أنبياء كسيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه وغيره فلو كان قابيل نبيّا لما قتل هابيل ولما حسده ترى ذلك في تقديمه للقربان فقد قدّم أسوأ ما عنده دليل مرض القلب بالحرص على الدنيا. فلمّا أختصّ الفرد يوسف الصديق بعلم تأويل الرؤى والملك والإجتباء الخاص كان تأويله لا يخطئ وهكذا صاحب الفردانية فإنّه لا يخطئ في علمه الذي علّمه الله تعالى إيّاه كما لم يخطئ الخضر مع موسى فقال له منذ أوّل اللقاء ( إنّك لن تستطيع معي صبرا ) فما أخطأ قوله هذا حرفا واحدا رغم قول موسى ( ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ) فلم يصبر موسى وعصى أمر الخضر ولكن فراسة الخضر في عدم صبر موسى لم تتغيّر فما حكاه الخضر أوّلا وقف عليه موسى آخرا لذا قال له في الأخير ( هذا فراق بيني وبينك سأنبّئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ). فرجع له بالقول إلى قوله الأوّل ( إنّك لن تستطيع معي صبرا ) ولكن لمّا علم صدق موسى في طلبه لم يحرمه من الإفادة بتأويل ما لم يستطع عليه صبرا فجنى موسى من رحلته ما علمه من تأويل أفعال الخضر فأوّل الخضر أفعاله كما أوّل يوسف رؤياه. فتعلم أنّ مناط علوم الفردانية لها تعلّق كبير بالتأويل في مختلف علومها أمّا الراسخ في العلم فهو القطب الفرد الذي نال درجة القطبانية مع درجة الفردانية. فمتى علمت هذا فقد كان عليه الصلاة والسلام يؤوّل الرؤى بمحضر الصحابة ويطلب منهم بداية سماع تأويلاتهم فمنهم من يصيب ومنهم من يخطئ ومنهم من يصيب منها بعضها ومنهم من يخطئ في بعضها. فهذا علم يعطيك مقامات الصحابة من حيث الإختصاص , فمتى علم هذا تعلم لماذا أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام أنّ يطلب بعض الصحابة متى اجتمعوا بأويس القرني مجرّد الدعاء والإستغفار لهم وليس طلب العلم وذلك لحقائق عديدة فيها من العلوم الشيء النفيس. فإذا علمت هذا علمت أنّ الفرد غالبا ما يكون جسمانيا بعيدا عن أهل الله فقلّما يجتمع بهم ظاهرا مثل أويس القرني ومثل الخضر ومثل يوسف لما فارق بلدته وأهله فيكون عيشهم روحي مع أهل الله أكثر منه ملاقاة وذلك لوجود مقامات أخرى تساعدهم على ذلك ولا تنفكّ عنهم بحال ومنها : الصدّيقية : التي تعلّقها خاصّة بصفاء ورقّة باطن العبد حتى يشفّ فيكون كملك من الملائكة في الصفاء أو يزيد لذا خرج صفاء يوسف الصديق على ظاهره فقالت النسوة ( إن هذا إلاّ ملك كريم ) لأنّ صفاء الباطن هو الجمال حقيقة لما عليه الحضرة في صفائها فهو صفاء غامض عجيب يحيّر الألباب ومنهم ما تراه في الجنّة من صفاء حتى ترى البطون بعين الظهور كأن ترى مخّ ساق حور العين من وراء سبعين حلّة أو ترى بطون القصور وما في غرفها وأنت لم تصلها بعد وهكذا لتعلّق هذا العالم بالنور بل هو النور الصرف وهذا من أنوار الحضرة المحمّدية وكذلك ما تراه من اجتماع روح أويس القرني رضي الله عنه مع روحه في التربية عليه الصلاة والسلام لرقّة الحجاب فلا تعنيهم تلك المظاهر والأشكال , وما تراه أيضا في شفافية الخضر فهو مجال الصفات. ومنها مقام الفقر : فلا تجد الفرد غالبا إلاّ فقيرا معدوما منذ نشأته يشفق عليه كلّ من يراه رغم عزّته كعزّة يوسف فرغم فقره ( واشتروه بثمن بخس ) إلاّ أنّه امتنع عن مراودة من هو في بيتها وهي إمرأة عزيز مصر فهي مالكة وحاكمة , ومن ذلك ما تراه من فقر أويس القرني رضي الله عنه فقد حكى من رآه أنّه رثّ الثياب غاية وكذلك ما ورد في قصّة سيدي محمد البوزيدي رضي الله عنه فقد زوّجه وأنفق عليه وبنى داره مريده سيدي أبو العباس أحمد بن عجيبة الحسني رضي الله عنه وكذلك في قصّة الخضر فإنّ جميع أفعاله التي فعلها بحضور موسى تدلّ على فقره الظاهري وذلك لشفقته على المساكين وعلى الوالدين والأهمّ أنّه لم يأخذ أجرا على بناء الحائط لأنّه ليتيمين. ومن ذلك أيضا مقام العفو والمسامحة: فلا تجد في مراتب الولاية أكثر مسامحة من الأفراد لذا قال موسى للخضر بعد أن سامحه في العديد من المرّات ( قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ) أي نهاية قبول العذر من طرف الخضر وكذلك مسامحة يوسف لإخوته فما وجدوه إلاّ مسامحا كريما سواء في الكيل أو عند القدوم عليه مع الأهل من البادية .. ومقامات الفرد كثيرة منها ما يشاركه فيها غيره من عامّة الأولياء ومنها ما لا يشاركه فيها سواه على تمامها وإنّما لمّا كان الكلام عن الأفراد أظهرنا بعضا من مقاماتهم التي لا بدّ أن تكون فيهم تحضيرا ربانيا وإجتباء إلهيا لا دخل فيه لحيلة ولا توصل إليه وسيلة فلم يكن بإرادة الخضر قدوم موسى عليه وما سأل ذلك ولا طلبه أو بحث عن موسى كي يطلعه على علمه لذا كان مؤيّدا. وكذلك أمر يوسف فما كان بإرادته كلّ ما جرى له منذ أن أراد إخوته أن يلقوه في غيابة الجبّ وإنّما هي أمور تأخذ الفرد تدريجيا إلى مقامه. وإنّما حديثنا ليس عن النبوّة العالية في أحكامها وإنّما نقصد مقامات ولاية الأنبياء التي يرث منها الأولياء فإنّ الوليّ متى قال في حالة إستغراق في حضرة نبيّ من الأنبياء أنا عين ذلك النبيّ. كمن قال أنا موسى زماني أو عيسى حالي ... إلخ فإنّما يكون مستغرقا في حضرة ولاية ذلك النبيّ لا في حضرة نبوّته لأنّ النبوّة إختصاص فلا يدخل أحد من عباد الله تعالى في خصوصية غيره وبهذا ورد الأمر الإلهي بل جاء النهي عن مجرّد تمنّي ما أختصّ به غيرك ممّن لا يكون لك في قوله تعالى: ( ولا تتمنّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض ). فهذا أمر, ثمّ الأمر الثاني هو النهي عن الحسد في مثل هكذا أمور لأنّها ليست بيد صاحبها بل هي رحمة من عند الله ( والله يختصّ برحمته من يشاء ) وقد قال لك الله تعالى : ( واسألوا الله من فضله ). وهو المجيب لقوله: ( أمّن يجيب المضطرّ إذا دعاه ). والمرتبة النازلة عن هذا ( أدعوني أستجب لكم ) إلى غير ذلك من مقامات الدعاء وحضراته فإنّ الدعاء يكون بحسب حقيقة الإنسان وكذلك الإستجابة تكون بحسب ميزان الحقائق ومن الحقائق ( باب الفضل ). لأنّ المشيئة أوسع نطاقا من دائرة مجرّد الرحمة فقد تنكر من حيث دائرة الرحمة ولكن محال أن ينكر العارف من حيث دائرة المشيئة المطلقة فهذا بحر الأدب فتدور مع الحقّ حيثما دار فلا يوجد له قرار . وهذا مبحث عظيم فقد يؤاخذ الوليّ على مثاقيل الذرّ من حديث النفس فالآية وإن نسخت رحمة بالعوام فهي باقية لخاصّة الخاصّة ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) بحسب حقيقة ذلك الخاطر النفسي فخاطر إبليس لم يغفره الله تعالى لأنّه خاطر يزاحم شؤون الألوهية في أحكامها أمّا ما دون ذلك من الخواطر كخواطر المقامات فهي إن شاء الله مغفورة بشروط التوبة منها المعلومة والمعروفة ... هذا ولا يعني أنّ الفرد أعلى من غيره من حيث مجمل العلوم بل فقط بالعلم المختصّ به وإلاّ فإنّ فرائص الأكوان ترتعد أمام علوم وشؤون القطب الفرد الغوث الجامع وهذا لا دخل لنا فيه البتّة بل لمّا كان الفرد خارج دائرة الكون فلا يدخل هو في القطب ولا يدخل فيه القطب ( هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن ) كناية عن مراتب الأفراد ثمّ قال تعالى ( وهو بكلّ شيء عليم ) متى فهمت الإشارة عنه بذكره للعلم المحيط في هذه الآية وكلّ عن مقامه يتكلّم كما قال الخضر لموسى عليهما السلام. ثمّ هناك تفصيلات كثيرة في طي ما كتبته لها تعلّق بالأبوّة والأخوّة ومقاماتها ولها تعلّق بالإنفصال والإتّصال فيما بين أهل الولاية أو تقول النفور والقبول ومنها معاني إبتلاء الفرد وأن سيره من أوّله إلى آخره يكون بالإبتلاء فهو شيخه حقيقة غالبا وأنّه يكرم في الأخير بزيارة القطب له وهو دليل كمال مقام فردانيته وهذا لا يكون إلاّ في كِبَره بعد أن يستوفي مقامات وأحوال مقامه هذا في الفرد الذي أٍراد الله تعالى إبرازه في الوجود. ويقابله من هو مخفي من الطرف المقابل كي يستشعر المقام فلا يطغى به فلو طغى يوسف بالمقام لما كان سامح إخوته وهو ملك في الظاهر والباطن مع جمال الظاهر والباطن وغناء الظاهر والباطن وهكذا الخضر ما طغى بمقامه ولا اغترّ بما ناله من اختصاص في العلوم فإنّ حدّ الفرد الذي يعرف به أن تجده أقرب الناس إلى قلبك من حيث تواضعه وفقره فيكون ملامتي حقيقة لا يرى أحد من العباد شيئا من كراماته إلاّ من صحبه أو كانت له معه علاقة ربانية وكذلك لم يغترّ أو يطغى كثير من أهل الفردانية كسيدي محمد البوزيدي والشيخ الأكبر من وجه رضي الله عنهم وغيرهم كثير رضي الله تعالى عنهم جميعا ...
قد يظنّ الكثيرون أنّ حديثي كان عن المقامات من حيث هي مقامات أو المراتب من حيث كونها كذلك رغم أنّ الأمر ليس كذلك فقد يتكلّم الصوفي عن الحال أو عن المقام أو عن المراتب وليس مقصوده الحديث عنها لذاتها بل لغيرها ... وأعني التوحيد الذي فيها ونسائم الحضرة فيما بين سطورها. والخطأ الثاني : على قدر فهم ما بين السطور من روح الكلام يقع الحكم على الأشياء بحسب ذلك التصوّر وهذا الذي يقع فيه اليوم جملة من الذين تصدّروا للكلام في ماهايات علوم التصوّف. الأمر الثالث : أنّ مثل هذه العلوم لا بدّ فيها من تبحّر واسع وفهم دقيق وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه فمثلا : هناك فرق بين مقام القطب من حيث كونه "فردا" وبين مقام الفرد من حيث كونه "فردا" وما قصدت في موضوعي هذا الحديث عن ( الفرد الغوث القطب الجامع ) وإنّما الحديث عن ( علوم الفرد ) من حيث كونه فردا وليس قطبا والأمر مفصّل في الفتوحات المكيّة وقد قيل بأنّ ( الأفراد ) أربعة في كلّ زمان ومكان إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها ... ونحن هنا لا نتكلّم عن مقام القطب الشامل الجامع لكلّ زمان ومكان الذي هو سيّد الوجود عليه الصلاة والسلام ولا عن مقام ( القطب ) في كلّ عصر كالأقطاب الأربعة وغيرهم وإنّما نتكلّم في علوم ( الفرد ) وحضراتها كعلوم سيّدنا الخضر وقد كان ( فردا ). ثمّ إنّ أمر التزكية والترقية شيء مستقلّ بذاته وليس هو موضوعنا في هذا الموضوع قال تعالى: ( وزنوا بالقسطاس المستقيم ). كما قال تعالى: ( إهدنا الصراط المستقيم ).
الكلمات المفتاحية :
التربية و السلوك
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: