مفاهيم حول التصوف
بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله تعالى وسلّم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الكثير من الناس اليوم يخطئ خطأ جسيما
في فهم التصوّف كما نراه في الآونة الأخيرة في مجمل بلاد المسلمين ,خصوصا من ذلك الفهم الخاطئ المركّب الذي يتداوله الفكر السلفي في كتبهم ومجالسهم ومحاضراتهم عن التصوّف وأهله ,حتى صار الشطط من طرف غلاتهم فأخرجوا أهل
التصوّف عن دائرة أهل السنّة والجماعة حتى وصل الأمر أنّ عدّ أحد كتّابهم ومنظّريهم وما أكثرهم في هذا الزمان التصوّف من جملة العقائد والأفكار الخارجة عن دين الإسلام ظانّا بذلك أنه يصلح القلوب والعقول ويبيّن الحقائق رغم أنّه في الحقيقة يفسدها .
فدخل في تشويه مدارس سلوكية إسلامية أصيلة ومناهج تربوية على المنهاج النبوي ناصعة ,فلا نعلم لمصلحة من يكتبون ذلك وينشرونه بكلّ تفانٍ فهم يهدمون من حيث يظنّون أنّهم يصلحون ,وما أصدق قول الله تعالى ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) فهذه الآية وإن كانت نزلت في الكافرين والمشركين إلاّ أنّ مضمونها أيضا يتناول كلّ من يفسد وهو يظنّ أنّه يصلح ...
الفاجعة والداهية أنّ من يتلقّى تلك الأفكار الغريبة عن الإسلام إذ أنّها تؤسّس لإطفاء نور الولاية الربانية في الأرض غالبيتهم فتيان صغار وشباب عاطفي متحمّس ومتعطّش لدين الله تعالى بعد أن فعل العلمانيون فعلتهم في تجفيف منابع التلقي الديني الصحيح الوسطي المعتدل والقلبي الروحي المنوّر بنور الصدق والفهم والإخلاص والرحمة والعلم, إذ لا فقه ديني متكامل لأولائك الشباب ولا معرفة لهم بأصول الديانة وأركانها ومقاماتها ,بل أخذوا العلم الشرعي على غير أصوله العريقة الصحيحة وعلى غير مشائخه المحققين .
فاعترضتهم هناك أمواج من الأوهام والتخيلات أوردتهم موارد الغلوّ والجهل الكبير والجدال بالباطل فصدّوا عن سبيل الله تعالى من حيث لا يشعرون ,وصادموا الحقائق الواضحات وهم لا يدركون فذهبت بهم مذهب أهل العناد فلا يرجعون عمّا اعتقدوه حتى خلنا أنّ تلك الأحاديث التي وردت في أقوام من الخوارج تشمل زمرة هائلة منهم وهذا لا يخفى على كلّ باحث منصف أوعالم محقق مدرك أو مؤمن تنوّر قلبه وسلمت مداركه ...
التصوّف كما قال الشيخ العلوي المالكي في كتابه ( مفاهيم يجب أن تصحّح ) هو ذلك المظلوم البريء الذي ظُلم من معاديه كما ظُلم من منتسبيه فعزمت في هذه الرسالة إن شاء الله تعالى توضيح معنى التصوّف والإستدلال عليه من الكتاب العزيز والسنّة الشريفة ومن أقوال السلف الصالح وذلك ببيان أحواله ومقاماته وعلومه ...
فأقول وعلى الله تعالى التيسير والقبول :
بداية لا يجوز إنكار التصوّف من حيث حقيقته وموضوعه وحدّه وإستمداده ومباحثه لأنّ إنكاره يعد إنكار ما عُلم من الدين بالضرورة إذ أنّ التصوّف كما عرّفه أهل السلف والخلف هو الوسيلة إلى الوصول إلى الركن الثالث من الدين كما نسب إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى أنّه قال ( من تشرّع ولم يتحقّق فقد تفسّق ) فالتحقّق هو التصوّف إذ لا يمكن لعبد أن يتحقّق إلاّ في مدرسة التزكية والتربية التي سماها أهلها بمدرسة أهل التصوّف وسمّاها أهل الله تعالى بـــ : ( الطريقة ) فإسم الطريقة هو إسم شرعي كما قال تعالى ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ).
فلا نزعم أنّ المراد من ذكر الطريقة في هذه الآية هو ما تعارف عليه أهل الله تعالى في ذكرهم لسيرهم وسلوكهم بإسم الطريقة ولكن أنت هنا متى تدبّرت في الآية الكريمة بقلب فقيه سليم تلاحظ الترابط الوثيق بين الإستقامة على الطريقة وبين الشرب الذي يذكره القوم في مواجيدهم وأناشيدهم ... هذا مثال يعطيك تقريبا للمعنى الذي تعارف عليه أهل الله تعالى وأنّ نظرهم ثاقب في فهم مدلولات القرآن ومعانيه والمقامات المذكورة فيه والأحوال .. والأمثلة كثيرة ... وهذا لا يعني أنّ كلّ من سلك طريقة إستقام سيره بل قد يكون في الطريقة ولا يكون مستقيما ( وأن لو إستقاموا على الطريقة ... الآية ) .
قد يقول قائل : لماذا ذكر الله تعالى هنا الطريق بإسم مؤنّثها ؟ فما قال ( الطريق ) بل قال ( الطريقة ) فالجواب والله أعلم : أنّ الطرق كثيرة فهي للجمع أمّا الطريق فهو واحد لذا نقول في أهل الله تعالى أنّ طريقهم واحد وطرائقهم متعدّدة فالطريق الواحد هو صراط الله تعالى المستقيم أمّا الطريقة فلكلّ واحد من الوارثين طريقة متنوّعة عن غيرها يثبت بها الطريق المسقيم لأتباعه.
فعندما نقول مثلا : الطريقة الشاذلية ليس هو نفس قولنا الطريقة الرفاعية .. بمعنى أنّ مناهج السلوك يختلف بينهما وكذلك غيرهما من الطرق ولكن يبقى طريقهم كلّهم واحد وهو صراط الله تعالى المستقيم .. كما قال الإمام البوصيري رضي الله عنه ( وكلّهم من رسول الله ملتمس --- غرفا من البحر أو رشفا من الديّم ) فدلّك على أنّ الإلتماس كلّه من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فالعين واحدة ولكن المسالك متعدّدة .. فهذا أمر لا ينكره عالم أو باحث منصف ..
لا يهمّنا كثيرا في تعريف معنى التصوّف لغة ومن أين إشتقاقه وإنّما الذي يعنينا تحديدا هو تعريف معنى التصوّف إصطلاحا وهو ما تعارف عليه القوم من أهل الله تعالى إذ أنّ كلّ فريق تعارفوا على ما هم فيه من الفنّ بإسم معيّن فلا مشاحة في الإصطلاحات ولا الأسماء فلا يمكن للمسترشد أن تحجبه الأسماء أو المصطلحات مهما كانت حادثة ,فلا يجب أن تكون حجابا عمّا في طيّاتها من معانيَ سليمة وعلوم مستقيمة , فالفيصل في ذلك الإستدلال والإجماع ...
نحن لو نظرنا في معنى مدلول الفِرَقِ الإسلامية لوصلنا إلى عدّة مفاهيم وحقائق ربّما تكون غائبة عنّا فبالنسبة للتصوّف ما كان في يوم من الأيّام فرقة إسلامية بالمعنى السياسي الذي نعرفه اليوم عن الفرق الإسلامية فلو عدنا إلى صدر التاريخ الإسلامي وبحثنا في أسباب نشوء الفرق الإسلامية لوجدنا أنّ أوّل بزوغ لتلك الفرق الإسلامية كان منشؤها سياسيا بحتا .
فلمّا كان القوم مجمعين على إمام الإمام علي ابن أبي طالب كرّم الله تعالى وجهه هناك بارزه ونازعه الخلافة من ليس هو من أهلها بحجج مختلفة واهمة أو مرضية .فمنهم من تمسّك بتأويلات دينية لا اساس لها من الصحّة كالخوارج ومنهم من تمسّك بتأويلات عصبية ليس لها علاقة بمفهوم الدين ومنهم من تمسّك بتأويلات التشيّع ولكن تبقى الخلاصة أنّ أغلب الفرق التي حدثت في صدر الإسلام إنّما أحدثتها التجاذبات السياسية خاصّة أمّا الفرق التي نشأت عن تجاذبات دينية فقد أحدثتها العصبيات الدينية فكما أراد الفريق الأوّل الإستئثار بالسياسة أراد الفريق الثاني الإستئثار بالدين ...
فالتشيّع مثلا هو مذهب سياسي بالاساس هو محبّة آل البيت وكذلك الخوارج فمذهبهم سياسي لهذا أقام الصفويون حكمهم فيما تمكّنوا منه من البلاد كبلد العراق وإيران في العصر الحديث , كذلك أقام الخوارج حكمهم فيما وقع تحت سيطرتهم من البلاد كبلاد ( عُمان ) كما أقام الوهابيون دولتهم اليوم في أرض نجد والحجاز وقد أقام أيضا المعتزلة دولتهم في عهد المأمون ..
فهذه فرق أنتجها الصراع السياسي تحت غطاء الدين ومظلّته فالشيعة مثلا لا يقبلون في دولتهم إلاّ ما كان يناسب مذهبهم السياسي الديني وكذلك الوهابيون في دولتهم لا يسمحون إلاّ لمنهجهم كما فعل في القديم المعتزلة فقد نفوا كلّ رأي يخالف رايهم حتى حبسوا الإمام أحمد ابن حنبل في فتنته الشهيرة رضي الله تعالى عنه فإنّ هذه الفرق جميعها إستعملت السيف والعنف واستعبدت رقاب الناس بقوّة السطوة والقهر ... فكان الخلاف صعبا والصراع أشدّ في هذه الأمّة التي كان بأسها فيما بينها شديد ...
نعود لنقول :
التصوّف ما كان في يوم ما مذهب سياسي ولا قام بالسيف ولا كانت له دوله قطّ لأنّه الدين لا أكثر ولا أقلّ .. فهل سمعتم في يوم من الأيام أو قرأتم أنّ هناك دولة ( الصوفية ) كما نرى ونشاهد في الحديث وكذلك كما قرأنا في القديم عن وجود دول : دولة الوهابية دولة الشيعة دولة الخوارج ...واليوم أيضا .. دولة الإخوان المسلمين بصدد التأسيس ..
الدين متى تأسس على مناهج السياسة والسياسيين ضاع واندثر ...
سيّدنا محمّد رسول الله عليه الصلاة والسلام ما كان سياسيا في يوم من الايام بالصورة المتعارف عليها اليوم لأنّه قال ( تكون فيكم النبوّة ما شاء الله لها أن تكون ثمّ يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ) فقد كانت فينا نبوّة وما كانت فينا سياسة ثمّ كانت فينا خلافة راشدة وما كانت فينا سياسة .. ولكن السياسة حدثت بعد الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية ..لهذا قال عليه الصلاة والسلام ( ثمّ يكون ملك عاضّا ..ثمّ ملك جبريا ... ) فلاحظ كيف أخرج الدين حينما ذكر الملك العاض والملك الجبري ...
فما كانت دولة محمّد صلى الله عليه وسلّم دولة دينية بالمعنى الذي نفهمه اليوم بل كانت دولة نبوّة كما كانت من بعده دولة خلافة على منهاج النبوّة ..فإذا علمت أنّ ما نشاهده اليوم ليس هو بدولة نبوّة ولا هو دولة خلافة فما بقي ؟ الجواب : بقي الملك سواء أكان الملك العضود أم الملك الجبري .. فلا يمكن نعت الملك بالخلافة إلاّ متى كان الخليفة عادلا عدلا تاما لهذا عدّوا عمر بن عبد العزيز بالخليفة الخامس ... رغم تقدّم ملوك قبله من بني أميّة كمعاوية بن أبي سفيان وإبنه يزيد فلم يطلق عليهما هذا الوصف ..
فالتصوّف ليس هو بمذهب سياسي بل هو مدرسة دينية فيها يتعلّم الدين الصحيح الحقيقي ومنها يتخرّج الخلفاء فمن يستقرئ السيرة الذاتية لسيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مثلا لا يشكّ لحظة في كونه رجلا صوفيا ليس بالمعنى الإسمي المشتقّ ولكن بمعنى مضامين ذلك الإسم ومعانيه وهو التربية والسلوك الرباني ..
هنا يصحّ قول من قال ومنهم الإمام الغزالي رضي الله عنه ( التصوّف فرض عين على كلّ مسلم ومسلمة ) وكذلك قال فيما معناه الشيخ زرّوق رضي الله عنه لذا قال العارفون : لا يهمّ من القادم علينا ولكن المهمّ أن يكون قاصدا نحو الله تعالى طالبا قربه سائلا محبّته ..
لقد ورث الصوفية علومهم وسلوكهم ومقاماتهم وأحوالهم عن الخلفاء وعن آل البيت فهم باب الله تعالى أسانيدهم موصولة غير مقطوعة ونعني هنا بالاسانيد الوصلة القلبية والروحية التي عليها مدار واساس الأمر كلّه ..
فالذي أحببت أن أقوله في هذه المقدّمة المتناثرة التي لا أتقيّد فيها بتأصيل أكاديمي فهذا لا أحسنه ولا أستطيعه أنّ موضوع التصوّف هو ( معرفة الله تعالى ) وقد نصّ الإمام العارف سيدي ابن عجيبة الحسني تعاريف التصوّف في مقدّمة كتابه شرح الحكم ...
فما كان قطّ التصوّف فرقة إسلامية بالمعنى المتعارف عليه حتّى عدّوه من الفرق الإثنتين والسبعين فهذا غلط بل التصوّف هو الدين وهو الإسلام لا أكثر ... لهذا أوصانا عليه الصلاة والسلام بأن نعتزل جميع تلك الفرق في آخر الزمان ...
الكثير من الناس اليوم يخطئ خطأ جسيما
في فهم التصوّف كما نراه في الآونة الأخيرة في مجمل بلاد المسلمين ,خصوصا من ذلك الفهم الخاطئ المركّب الذي يتداوله الفكر السلفي في كتبهم ومجالسهم ومحاضراتهم عن التصوّف وأهله ,حتى صار الشطط من طرف غلاتهم فأخرجوا أهل
التصوّف عن دائرة أهل السنّة والجماعة حتى وصل الأمر أنّ عدّ أحد كتّابهم ومنظّريهم وما أكثرهم في هذا الزمان التصوّف من جملة العقائد والأفكار الخارجة عن دين الإسلام ظانّا بذلك أنه يصلح القلوب والعقول ويبيّن الحقائق رغم أنّه في الحقيقة يفسدها .
فدخل في تشويه مدارس سلوكية إسلامية أصيلة ومناهج تربوية على المنهاج النبوي ناصعة ,فلا نعلم لمصلحة من يكتبون ذلك وينشرونه بكلّ تفانٍ فهم يهدمون من حيث يظنّون أنّهم يصلحون ,وما أصدق قول الله تعالى ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) فهذه الآية وإن كانت نزلت في الكافرين والمشركين إلاّ أنّ مضمونها أيضا يتناول كلّ من يفسد وهو يظنّ أنّه يصلح ...
الفاجعة والداهية أنّ من يتلقّى تلك الأفكار الغريبة عن الإسلام إذ أنّها تؤسّس لإطفاء نور الولاية الربانية في الأرض غالبيتهم فتيان صغار وشباب عاطفي متحمّس ومتعطّش لدين الله تعالى بعد أن فعل العلمانيون فعلتهم في تجفيف منابع التلقي الديني الصحيح الوسطي المعتدل والقلبي الروحي المنوّر بنور الصدق والفهم والإخلاص والرحمة والعلم, إذ لا فقه ديني متكامل لأولائك الشباب ولا معرفة لهم بأصول الديانة وأركانها ومقاماتها ,بل أخذوا العلم الشرعي على غير أصوله العريقة الصحيحة وعلى غير مشائخه المحققين .
فاعترضتهم هناك أمواج من الأوهام والتخيلات أوردتهم موارد الغلوّ والجهل الكبير والجدال بالباطل فصدّوا عن سبيل الله تعالى من حيث لا يشعرون ,وصادموا الحقائق الواضحات وهم لا يدركون فذهبت بهم مذهب أهل العناد فلا يرجعون عمّا اعتقدوه حتى خلنا أنّ تلك الأحاديث التي وردت في أقوام من الخوارج تشمل زمرة هائلة منهم وهذا لا يخفى على كلّ باحث منصف أوعالم محقق مدرك أو مؤمن تنوّر قلبه وسلمت مداركه ...
التصوّف كما قال الشيخ العلوي المالكي في كتابه ( مفاهيم يجب أن تصحّح ) هو ذلك المظلوم البريء الذي ظُلم من معاديه كما ظُلم من منتسبيه فعزمت في هذه الرسالة إن شاء الله تعالى توضيح معنى التصوّف والإستدلال عليه من الكتاب العزيز والسنّة الشريفة ومن أقوال السلف الصالح وذلك ببيان أحواله ومقاماته وعلومه ...
فأقول وعلى الله تعالى التيسير والقبول :
بداية لا يجوز إنكار التصوّف من حيث حقيقته وموضوعه وحدّه وإستمداده ومباحثه لأنّ إنكاره يعد إنكار ما عُلم من الدين بالضرورة إذ أنّ التصوّف كما عرّفه أهل السلف والخلف هو الوسيلة إلى الوصول إلى الركن الثالث من الدين كما نسب إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى أنّه قال ( من تشرّع ولم يتحقّق فقد تفسّق ) فالتحقّق هو التصوّف إذ لا يمكن لعبد أن يتحقّق إلاّ في مدرسة التزكية والتربية التي سماها أهلها بمدرسة أهل التصوّف وسمّاها أهل الله تعالى بـــ : ( الطريقة ) فإسم الطريقة هو إسم شرعي كما قال تعالى ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ).
فلا نزعم أنّ المراد من ذكر الطريقة في هذه الآية هو ما تعارف عليه أهل الله تعالى في ذكرهم لسيرهم وسلوكهم بإسم الطريقة ولكن أنت هنا متى تدبّرت في الآية الكريمة بقلب فقيه سليم تلاحظ الترابط الوثيق بين الإستقامة على الطريقة وبين الشرب الذي يذكره القوم في مواجيدهم وأناشيدهم ... هذا مثال يعطيك تقريبا للمعنى الذي تعارف عليه أهل الله تعالى وأنّ نظرهم ثاقب في فهم مدلولات القرآن ومعانيه والمقامات المذكورة فيه والأحوال .. والأمثلة كثيرة ... وهذا لا يعني أنّ كلّ من سلك طريقة إستقام سيره بل قد يكون في الطريقة ولا يكون مستقيما ( وأن لو إستقاموا على الطريقة ... الآية ) .
قد يقول قائل : لماذا ذكر الله تعالى هنا الطريق بإسم مؤنّثها ؟ فما قال ( الطريق ) بل قال ( الطريقة ) فالجواب والله أعلم : أنّ الطرق كثيرة فهي للجمع أمّا الطريق فهو واحد لذا نقول في أهل الله تعالى أنّ طريقهم واحد وطرائقهم متعدّدة فالطريق الواحد هو صراط الله تعالى المستقيم أمّا الطريقة فلكلّ واحد من الوارثين طريقة متنوّعة عن غيرها يثبت بها الطريق المسقيم لأتباعه.
فعندما نقول مثلا : الطريقة الشاذلية ليس هو نفس قولنا الطريقة الرفاعية .. بمعنى أنّ مناهج السلوك يختلف بينهما وكذلك غيرهما من الطرق ولكن يبقى طريقهم كلّهم واحد وهو صراط الله تعالى المستقيم .. كما قال الإمام البوصيري رضي الله عنه ( وكلّهم من رسول الله ملتمس --- غرفا من البحر أو رشفا من الديّم ) فدلّك على أنّ الإلتماس كلّه من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فالعين واحدة ولكن المسالك متعدّدة .. فهذا أمر لا ينكره عالم أو باحث منصف ..
لا يهمّنا كثيرا في تعريف معنى التصوّف لغة ومن أين إشتقاقه وإنّما الذي يعنينا تحديدا هو تعريف معنى التصوّف إصطلاحا وهو ما تعارف عليه القوم من أهل الله تعالى إذ أنّ كلّ فريق تعارفوا على ما هم فيه من الفنّ بإسم معيّن فلا مشاحة في الإصطلاحات ولا الأسماء فلا يمكن للمسترشد أن تحجبه الأسماء أو المصطلحات مهما كانت حادثة ,فلا يجب أن تكون حجابا عمّا في طيّاتها من معانيَ سليمة وعلوم مستقيمة , فالفيصل في ذلك الإستدلال والإجماع ...
نحن لو نظرنا في معنى مدلول الفِرَقِ الإسلامية لوصلنا إلى عدّة مفاهيم وحقائق ربّما تكون غائبة عنّا فبالنسبة للتصوّف ما كان في يوم من الأيّام فرقة إسلامية بالمعنى السياسي الذي نعرفه اليوم عن الفرق الإسلامية فلو عدنا إلى صدر التاريخ الإسلامي وبحثنا في أسباب نشوء الفرق الإسلامية لوجدنا أنّ أوّل بزوغ لتلك الفرق الإسلامية كان منشؤها سياسيا بحتا .
فلمّا كان القوم مجمعين على إمام الإمام علي ابن أبي طالب كرّم الله تعالى وجهه هناك بارزه ونازعه الخلافة من ليس هو من أهلها بحجج مختلفة واهمة أو مرضية .فمنهم من تمسّك بتأويلات دينية لا اساس لها من الصحّة كالخوارج ومنهم من تمسّك بتأويلات عصبية ليس لها علاقة بمفهوم الدين ومنهم من تمسّك بتأويلات التشيّع ولكن تبقى الخلاصة أنّ أغلب الفرق التي حدثت في صدر الإسلام إنّما أحدثتها التجاذبات السياسية خاصّة أمّا الفرق التي نشأت عن تجاذبات دينية فقد أحدثتها العصبيات الدينية فكما أراد الفريق الأوّل الإستئثار بالسياسة أراد الفريق الثاني الإستئثار بالدين ...
فالتشيّع مثلا هو مذهب سياسي بالاساس هو محبّة آل البيت وكذلك الخوارج فمذهبهم سياسي لهذا أقام الصفويون حكمهم فيما تمكّنوا منه من البلاد كبلد العراق وإيران في العصر الحديث , كذلك أقام الخوارج حكمهم فيما وقع تحت سيطرتهم من البلاد كبلاد ( عُمان ) كما أقام الوهابيون دولتهم اليوم في أرض نجد والحجاز وقد أقام أيضا المعتزلة دولتهم في عهد المأمون ..
فهذه فرق أنتجها الصراع السياسي تحت غطاء الدين ومظلّته فالشيعة مثلا لا يقبلون في دولتهم إلاّ ما كان يناسب مذهبهم السياسي الديني وكذلك الوهابيون في دولتهم لا يسمحون إلاّ لمنهجهم كما فعل في القديم المعتزلة فقد نفوا كلّ رأي يخالف رايهم حتى حبسوا الإمام أحمد ابن حنبل في فتنته الشهيرة رضي الله تعالى عنه فإنّ هذه الفرق جميعها إستعملت السيف والعنف واستعبدت رقاب الناس بقوّة السطوة والقهر ... فكان الخلاف صعبا والصراع أشدّ في هذه الأمّة التي كان بأسها فيما بينها شديد ...
نعود لنقول :
التصوّف ما كان في يوم ما مذهب سياسي ولا قام بالسيف ولا كانت له دوله قطّ لأنّه الدين لا أكثر ولا أقلّ .. فهل سمعتم في يوم من الأيام أو قرأتم أنّ هناك دولة ( الصوفية ) كما نرى ونشاهد في الحديث وكذلك كما قرأنا في القديم عن وجود دول : دولة الوهابية دولة الشيعة دولة الخوارج ...واليوم أيضا .. دولة الإخوان المسلمين بصدد التأسيس ..
الدين متى تأسس على مناهج السياسة والسياسيين ضاع واندثر ...
سيّدنا محمّد رسول الله عليه الصلاة والسلام ما كان سياسيا في يوم من الايام بالصورة المتعارف عليها اليوم لأنّه قال ( تكون فيكم النبوّة ما شاء الله لها أن تكون ثمّ يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ) فقد كانت فينا نبوّة وما كانت فينا سياسة ثمّ كانت فينا خلافة راشدة وما كانت فينا سياسة .. ولكن السياسة حدثت بعد الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية ..لهذا قال عليه الصلاة والسلام ( ثمّ يكون ملك عاضّا ..ثمّ ملك جبريا ... ) فلاحظ كيف أخرج الدين حينما ذكر الملك العاض والملك الجبري ...
فما كانت دولة محمّد صلى الله عليه وسلّم دولة دينية بالمعنى الذي نفهمه اليوم بل كانت دولة نبوّة كما كانت من بعده دولة خلافة على منهاج النبوّة ..فإذا علمت أنّ ما نشاهده اليوم ليس هو بدولة نبوّة ولا هو دولة خلافة فما بقي ؟ الجواب : بقي الملك سواء أكان الملك العضود أم الملك الجبري .. فلا يمكن نعت الملك بالخلافة إلاّ متى كان الخليفة عادلا عدلا تاما لهذا عدّوا عمر بن عبد العزيز بالخليفة الخامس ... رغم تقدّم ملوك قبله من بني أميّة كمعاوية بن أبي سفيان وإبنه يزيد فلم يطلق عليهما هذا الوصف ..
فالتصوّف ليس هو بمذهب سياسي بل هو مدرسة دينية فيها يتعلّم الدين الصحيح الحقيقي ومنها يتخرّج الخلفاء فمن يستقرئ السيرة الذاتية لسيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مثلا لا يشكّ لحظة في كونه رجلا صوفيا ليس بالمعنى الإسمي المشتقّ ولكن بمعنى مضامين ذلك الإسم ومعانيه وهو التربية والسلوك الرباني ..
هنا يصحّ قول من قال ومنهم الإمام الغزالي رضي الله عنه ( التصوّف فرض عين على كلّ مسلم ومسلمة ) وكذلك قال فيما معناه الشيخ زرّوق رضي الله عنه لذا قال العارفون : لا يهمّ من القادم علينا ولكن المهمّ أن يكون قاصدا نحو الله تعالى طالبا قربه سائلا محبّته ..
لقد ورث الصوفية علومهم وسلوكهم ومقاماتهم وأحوالهم عن الخلفاء وعن آل البيت فهم باب الله تعالى أسانيدهم موصولة غير مقطوعة ونعني هنا بالاسانيد الوصلة القلبية والروحية التي عليها مدار واساس الأمر كلّه ..
فالذي أحببت أن أقوله في هذه المقدّمة المتناثرة التي لا أتقيّد فيها بتأصيل أكاديمي فهذا لا أحسنه ولا أستطيعه أنّ موضوع التصوّف هو ( معرفة الله تعالى ) وقد نصّ الإمام العارف سيدي ابن عجيبة الحسني تعاريف التصوّف في مقدّمة كتابه شرح الحكم ...
فما كان قطّ التصوّف فرقة إسلامية بالمعنى المتعارف عليه حتّى عدّوه من الفرق الإثنتين والسبعين فهذا غلط بل التصوّف هو الدين وهو الإسلام لا أكثر ... لهذا أوصانا عليه الصلاة والسلام بأن نعتزل جميع تلك الفرق في آخر الزمان ...
الكلمات المفتاحية :
التربية و السلوك
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: