باب الغيرة
قَالَ
اللَّه تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33]
أَخْبَرَنَا
أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُبْدُوسٍ الْمُزَكِّيُّ قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَمْزَةُ بْنُ
الْعَبَّاسِ الْبَزَّازُ بِبَغْدَادَ
قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفُرَاتِ , عَنْ
إِبْرَاهِيمَ الْهَجَرِيِّ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَحَدٌ أَغْيَرُ
مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ غِيرَتِهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَمَا بَطَنَ
أَخْبَرَنَا
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ
الصَّفَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ بُنَانْ قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ
قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَي بْنُ أَبِي كثير عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُمْ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ
يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنَ مَا
حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ.
قَالَ
الأستاذ: الغيرة كراهية مشاركة الغير، وإذا وصف الحق سبحانه بالغير فمعناه أَنَّهُ
لا يرضى بمشاركة الغيرة مَعَهُ فيما هُوَ حق لَهُ من طاعة عبده
حكى عَنِ
السرى أَنَّهُ قرئ بَيْنَ يديه: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا
بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا}
[الإسراء: 45] فَقَالَ السري لأَصْحَابه: أتدرون مَا هَذَا الحجاب؟ هَذَا حجاب
الغيرة ولا أحد أغير من اللَّه تَعَالَى ومعنى قَوْله هَذَا حجاب الغيرة، يَعْنِي
أَنَّهُ لَمْ يجعل الكافرين أهلا لمعرفة صدق الدين.
وَكَانَ
الأستاذ أَبُو عَلِي الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: إِن أَصْحَاب الكسل عَن
عبادته هُم الَّذِينَ ربط الحق بأقدامهم مثقلة الخذلان فاختار لَهُم البعد عَنْهُ
وأخرهم عَن محل القرب ولذلك تأخروا وَفِي معناه أنشدوا: أناصب لمن هويت ولكن مَا
احتيالي بسوء رأي الموالي وَفِي معناه أَيْضًا قَالُوا:
سقيم لَيْسَ
يعاد ... ومريد لا
يراد
سمعت
الأستاذ أبا عَلِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: سمعت الْعَبَّاس الزوزني يَقُول:
كَانَ لي بداية حسنة وكنت أعرف كم بقى بيني وبين الوصول إِلَى مقصودي من الظفر
بمرادي، فرأيت ليلة من الليالي فِي المنام كأنني أتدهده من حالق جبل فأردت الوصول
إِلَى ذروته قَالَ: فحزنت فأخذني اليوم فرأيت قائلا يَقُول: يا عَبَّاس الحق لَمْ
يرد منك أَن تصل إِلَى مَا كنت تطلب ولكنه فتح عَلَى لسانك الحكمة، قَالَ: فأصبحت
وَقَدْ ألهمت كلمات الحكمة.
وسمعت
الأستاذ أبا عَلِي يَقُول: كَانَ شيخ من الشيوخ لَهُ حال ووقت مَعَ اللَّه فخفي
مدة لَمْ ير بَيْنَ الفقراء، ثُمَّ إنه ظهر بَعْد ذَلِكَ لا عَلَى مَا كَانَ
عَلَيْهِ من الوقت فسئل عَنْهُ فَقَالَ: آه وقع حجاب.
وَكَانَ
الأستاذ أَبُو عَلِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا وقع شَيْء فِي خلال المجلس
يشوش قلوب الحاضرين يَقُول: هَذَا من غيرة الحق سبحانه يريد أَن لا يجري من صفاء
هَذَا الوقت وأنشدوا فِي معناه:
همت
بإتياننا حَتَّى إِذَا نظرت ... إِلَى المرأة نهاها وجهها الْحَسَن
وقيل
لبعضهم: تريد أَن تراه؟ فَقَالَ: لا , فقيل: لَمْ؟ فَقَالَ: أنزه ذَلِكَ الجمال
عَن نظر مثلى , وفى معناه أنشدوا:
إني لأحسد
ناظري عليكا ... حَتَّى أغض
إِذَا نظرت إليكا
وأراك تخطر
فِي شمائلك الَّتِي ... هِيَ
فتنتي أغار منك عليكا
وسئل الشبلي
مَتَى تستريح فَقَالَ: إِذَا لَمْ أر لَهُ ذاكرا.
سمعت
الأستاذ أبا عَلِي يَقُول فِي قَوْل النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي مبايعته فرسا من أعرابي وأنه استقاله فأقاله فَقَالَ الأعرابي: عمرك اللَّه
تَعَالَى مِمَّن أَنْتَ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: امرؤ من قريش، فَقَالَ بَعْض أَصْحَابه من الحاضرين للأعرابي: كفاك
جفاء أَن لا تعرف نبيك، فكان رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول: إِنَّمَا قَالَ
امرؤ من قريش غيرة وإلا كَانَ واجبا عَلَيْهِ التعرف إِلَى كُل أحد أَنَّهُ من
هُوَ ثُمَّ إِن اللَّه سبحانه أجرى عَلَى لسان ذَلِكَ الصحابي التعريف للأعرابي
بقوله: كفاك جفاء أَن لا تعرف نبيك.
ومن النَّاس
من قَالَ: إِن الغيرة من صفات أهل البداية، وإن الموحد لا يشهد الغيرة ولا يتصف
بالاختيار، وليس لَهُ فيما يجري فِي المملكة تحكم، بَل الحق سبحانه أولى بالأشياء
فيما يقضى عَلَى مَا يقضي: سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان المغربي يَقُول: الغيرة عمل المريدين فأما أهل الحقائق
فلا.
وسمعته
يَقُول: سمعت أبا نصر الأَصْبَهَانِي يَقُول: سمعت الشبلي يَقُول: الغيرة غيرتان:
غيرة البشرية عَلَى النفوس، وغيرة الإلهية عَلَى القلوب.
وَقَالَ
الشبلي أَيْضًا: غيرة الإلهية عَلَى الأنفاس أَن تضيع فيما سِوَى اللَّه تَعَالَى،
والواجب أَن يقال: الغيرة غيرتان: غيرة الحق سبحانه عَلَى العبد وَهُوَ أَن لا
يجعله للخلق فيضن بِهِ عَلَيْهِم , وغيرة العبد للحق وَهُوَ أَن لا يجعل شَيْئًا
من أحواله وأنفاسه لغير الحق تَعَالَى , فلا يقال أنا أغار عَلَى اللَّه تَعَالَى
ولكن يقال: أنا أغار لِلَّهِ تَعَالَى، فإذن الغيرة عَلَى اللَّه جهل، وربما تؤدي
إِلَى ترك الدين، والغيرة لِلَّهِ تَعَالَى توجب تعظيم حقوقه وتصفية الأعمال لَهُ.
واعلموا أَن
من سنة الحق تَعَالَى مَعَ أوليائه أنهم إِذَا ساكنوا غَيْر أَوْ لاحظوا شَيْئًا
أَوْ ضاجعوا بقلوبهم شَيْئًا شوش عَلَيْهِم ذَلِكَ فيغار عَلَى قلوبهم بأن يعيدها
خالصة لنفسه فارغة عما ساكنوه أَوْ ضاجعوه، كآدم عَلَيْهِ السَّلام لما وطن نَفْسه
عَلَى الخلود فِي الْجَنَّة أَخْرَجَهُ منها،
وإبراهيم
عَلَيْهِ السَّلام لما أعجبه إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلام أمره بذبحه حَتَّى
أَخْرَجَهُ من قلبه {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]
وصفا سره منه أمره بالفداء عَنْهُ.
سمعت الشيخ
أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا زَيْد الفقيه المروزي يَقُول: سمعت
إِبْرَاهِيم بْن شيبان يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن حسان يَقُول: بينا أنا أدور ففي
جبل لبنان إذ خرج عَلَيْنَا رجل شاب قَدْ أحرقته السموم والرياح، فلما نظر إلي ولى
هاربا فتبعته وقلت: تعظني بكلمة فَقَالَ: احذر فَإِنَّهُ غيور لا يحب أَن يرى فِي
قلب عبده سواه.
سمعت الشيخ
أبا عَبْد الرَّحْمَنِ يَقُول: قَالَ النصرأباذي: الحق تَعَالَى غيور ومن غيرته،
أَنَّهُ لَمْ يجعل إِلَيْهِ طريقا سواه.
وقيل: أوحى
اللَّه تَعَالَى إِلَى بَعْض أنبيائه إِن لفلان إلي حاجة ولي أَيْضًا إِلَيْهِ
حاجة، فَإِن قضى حاجتي قضيت حاجته، فَقَالَ ذَلِكَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مناجاته: إلهي كَيْفَ يَكُون لَك حاجة؟ فَقَالَ: إنه ساكن
بقلبه غيرى، فليفرغ قلبه عَنْهُ أقض حاجته.
وقيل: إِن
أبا يَزِيد البسطامي رأى جَمَاعَة من الحور العين فِي منامه فنظر إليهن فسلب وقته
أياما ثُمَّ إنه رأى فِي منامه جَمَاعَة منهن فلم يلتف إليهن وَقَالَ: إنكن شواغل،
وقيل: مرضت رابعة العدوية فقيل لَهَا: مَا سبب علتك؟ فَقَالَتْ: نظرت بقلبي إِلَى
الْجَنَّة فأدبني فله العتبى لا أعود ويحكى عَنِ السري أَنَّهُ قَالَ: كنت أطلب
رجلا صديقا لي مدة من الأوقات، فمررت فِي بَعْض الجبال فَإِذَا أنا بجماعة زمنى
وعميان ومرضى فسألت عَن حالهم فَقَالُوا: ههنا رجل يخرج من السنة مرة يدعو لَهُمْ
فيجدون الشفاء، فصبرت حَتَّى خرج ودعا لَهُمْ فوجدوا الشفاء فقفوت أثره وتعلقت
بِهِ وقلت لَهُ: بي علة باطنة فَمَا دواؤها؟ فَقَالَ: يا سري خل عنى فَإِنَّهُ
غيور لا يراك تساكن غيره فتسقط من عينه.
قَالَ
الأستاذ: وَمِنْهُم من غيرته حِينَ يرى النَّاس يذكرونه تَعَالَى بالغفلة فلا
يمكنه رؤية ذَلِكَ ويشق عَلَيْهِ.
سمعت
الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: لما دَخَلَ الأعرابي مَسْجِد رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبال فِيهِ وتبادر إِلَيْهِ الصَّحَابَة
لإخراجه قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّمَا أساء الأعرابي الأدب ولكن الخجل وقع
عَلَى الصَّحَابَة والمشقة حصلت لَهُمْ حِينَ رأوا من وضع حشمته كَذَلِكَ العبد
إِذَا عرف جلال قدره سبحانه شق عَلَيْهِ سماع ذكره من يذكره بالغفلة وطاعة من لا
يعبده بالحرمة.
حكى أَن
الشبلي مَات لَهُ ابْن كَانَ اسمه أبا الْحَسَن فجزعت أمه عَلَيْهِ وقطعت شعر
رأسها فدخل الشبلي الحمام وتنور بلحيته فَكُل من أتاه معزيا قَالَ: إيش هَذَا يا
أبا بَكْر فكان يَقُول: موافقة لأهلي، فَقَالَ لَهُ بَعْضهم: أخبرني يا أبا بَكْر
لَمْ فعلت هَذَا؟ فَقَالَ: علمت أنهم يعزونني عَلَى الغفلة ويقولون آجرك اللَّه
تَعَالَى ففديت ذكرهم لِلَّهِ تَعَالَى بالغفلة بلحيتي، وسمع النوري رجلا يؤذن
فَقَالَ: طعنة وسم الْمَوْت، وسمع كلبا ينبح فَقَالَ: لبيك وسعديك فقيل لَهُ إِن
هَذَا ترك للدين فَإِنَّهُ يَقُول للمؤمن فِي تشهده طعنة وسم الْمَوْت ويلبي
عِنْدَ نباح الكلب، فسئل عَن ذَلِكَ فَقَالَ: أما ذَلِكَ فكان ذكره لِلَّهِ عَلَى
رأس الغفلة، وَأَمَّا الكلب فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] وأذن الشبلي مرة فلما انتهى إِلَى الشهادتين قَالَ:
لولا أنك أمرتني مَا ذكرت معك غيرك وسمع رجلا يَقُول:. . اللَّه فَقَالَ لَهُ: أحب
أَن تجله عَن هَذَا.
سمعت بَعْض
الفقراء يَقُول: سمعت أبا الْحَسَن الخزفاني رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول لا
اللَّه إلا اللَّه من داخل القلب مُحَمَّد رَسُول اللَّهِ من القرط ومن نظر إِلَى
ظاهر هَذَا اللفظ توهم أَنَّهُ استصغر الشرع ولا كَمَا يخطر بالبال إذ الأخطار
للأغيار بالإضافة إِلَى قدر الحق سبحانه متصاغرة فِي التحقيق.
الكلمات المفتاحية :
التربية و السلوك
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: