الفقه الحنبلي - الصلاة
(مسألة) (وان بذلت له سترة لزمه قبولها إذا كانت عارية) لان المنة لا تكثر في العارية فيكون قادرا على ستر عورته بما لا ضرر فيه.
وان كانت هبة لا يلزمه قبولها لان المنة تكثر فيها.
قال شيخنا ويحتمل أن يلزمه لان العار في كشف عورته أكثر من الضرر فيما يلحقه من المنة.
وان وجد من يبيعه سترة أو يؤجره بثمن المثل أو زيادة يسيرة وقدر على العوض لزمه وان كانت كثيرة لا تجحف بماله فهو كما لو قدر على شراء الماء بذلك وفيه وجهان مضى توجيههما (مسألة) (فان عدم بكل حال صلى جالسا يومئ ايماء وان صلى قائما جاز، وعنه أنه يصلي قائما ويسجد بالارض) لا تسقط الصلاة عن العريان بغير خلاف علمناه لانه شرط عجز عنه فلم تسقط الصلاة بعجزه عنه كالاستقبال ويصلي جالسا يومئ بالركوع والسجود وهو قول أبي حنيفة، وقال مالك والشافعي وابن المنذر يصلي قائما كغير العريان لقوله صلى الله عليه وسلم " صلى قائما فان لم تستطع فقاعدا " رواه البخاري ولانه قادر على القيام من غير ضرر فلم يجز له تركه كالقادر على الستر ولنا ما روي عن ابن عمر أن قوما انكسرت بهم مركبهم فخرجوا عراة قال يصلون جلوسا
يومئون إيماء برؤوسهم ولم ينقل خلافه ولان الستر آكد من القيام لامرين (أحدهما) أنه لا يسقط مع القدرة بحال والقيام يسقط في النافلة (والثاني) أن الستر لا يختص الصلاة بخلاف القيام فإذا لم يكن بد من أحدهما فترك الاخف أولى، فان قيل فلا يحصل الستر كله مع فوات أركان ثلاثة القيام والركوع والسجود.
فالجواب أنا إذا قلنا العورة الفرجان فقد حصل سترهما وان قلنا هما بعض العورة فهما آكدها وجوبا وأفحشها في النظر فكان سترهما أولى ولا تجب عليه إعادة لانه صلى كما أمر أشبه ما لو صلى إلى غير القبلة عند العجز فان صلى قائما جاز لما ذكرنا.
وقد روي عنه أنه يصلي جالسا ويسجد بالارض لان السجود آكد من القيام لكونه مقصودا في نفسه ولا يسقط فيما يسقط فيه القيام وهو النفل.
والاولى الايماء بالسجود لان القيام سقط عنهم لحفظ العورة وهي في حال السجود أفحش فكان سقوطه أولى وان صلى قائما وركع وسجد بالارض جاز في ظاهر كلام أحمد وقول أصحاب الرأي لانه لابد من ترك أحد الواجبين فأيهما ترك فقد أتى بالآخر وعلى أي حال صلى فانه يتضام ولا يتجافى،
قيل لابي عبد الله يتضامون أم يتربعون؟ قال بل يتضامون، وقد قيل انهم يتربعون في حال القيام كصلاة النافلة قاعدا والاول أولى.
(فصل) فإذا وجد العريان جلدا طاهرا أو ورقا يمكن خصفه عليه أو حشيشا يمكن ربطه عليه فيستتر لزمه لانه قادر على ستر عورته بطاهر لا يضره فقد ستر النبي صلى الله عليه وسلم رجلي مصعب بن عمير بالاذخر لما لم يجد سترة.
وان وجد طينا يطلي به جسده لم يلزمه لانه يتناثر إذا جف وفيه مشقة ولا يغيب الخلقة، وقال ابن عقيل يلزمه لانه يستر وما تناثر سقط حكمه واستتر بما بقي وهو قول بعض الشافعية وان وجد ماء لم يلزمه النزول فيه وان كان كدرا لان عليه فيه مشقة وضررا لا يحتمل.
وان وجد حفرة لم يلزمه النزول فيها لانها لا تلصق بجسده فهي كالجدار وان وجد سترة تضر به كبارية ونحوها لم يلزمه الاستتار بها لما فيها من الضرر والمنع من اكمال الركوع والسجود
(مسألة) (وان وجد السترة قريبة منه في أثناء الصلاة ستر وبني وان كانت بعيدة ستر وابتدأ) وجملة ذلك أن العريان متى قدر على السترة في أثناء الصلاة وأمكنه من غير زمن طويل ولا عمل كثير ستر وبنى على ما مضى من الصلاة كاهل قباء لما علموا بتحويل القبلة استداروا إليها وأتموا صلاتهم.
وان لم يمكن الستر الا بعمل كثير أو زمن طويل بطلت الصلاة لانه لا يمكنه المضي فيها الا بما ينافيها من العمل الكثير أو فعلها بدون شرطها والمرجع في ذلك إلى العرف لانه لا تقدير فيه توقيفا وذكر القاضي فيمن وجدت السترة احتمالا أن صلاتها لا تبطل بانتظارها وان طال لانه انتظار واجب ولا يصح ذلك لانها صلت في زمن طويل عارية مع امكان الستر فلا تصح كالصلاة كلها وما ذكروه يبطل بما لو أتمت صلاتها في حال انتظارها وانتظرت من يأتي فيناولها وقياس الكثير على اليسير فاسد لما ثبت في الشرع من العفو عن اليسير دون الكثير في مواضع كثيرة (فصل) فان صلى عريانا ثم بان معه ستارة أنسبها أعاد لانه مفرط كما قلنا في الماء (مسألة) (ويصلي العراة جماعة وامامهم في وسطهم) الجماعة تشرع للعراة كغيرهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " صلاة الرجل في الجميع تفضل على صلاته وحده بسبع وعشرين درجة " وهذا قول
قتادة، وقال مالك والاوزاعي وأصحاب الرأي يصلون فرادى، قال مالك ويتباعد بعضهم من بعض وان كانوا في ظلمة صلوا جماعة ويتقدمهم امامهم وبه قال الشافعي في القديم، وقال في موضع الجماعة والافراد سواء لان في الجماعة الاخلال بسنة الموقف وفي الانفراد الاخلال بفضيلة الجماعة ووافقنا أن امامهم يقوم وسطهم وعلى مشروعية الجماعة للنساء العراة لان امامتهن تقوم في وسطهن فلا يحصل الاخلال في حقهن بفضيلة الموقف: ولنا الحديث الذي ذكرنا ولانهم قدروا على الجماعة من غير عذر أشبهوا المستترين ولا تسقط الجماعة لفوات السنة في الموقف كما لو كانوا في ضيق لا يمكن تقديم أحدهم، وإذا شرعت الجماعة حال الخوف مع تعذر الاقتداء بالامام في بعض الصلاة والحاجة إلى مفارقته وفعل ما يبطل الصلاة في غير
تلك الحال فأولى أن تشرع ههنا.
إذا ثبت هذا فان امامهم يكون في وسطهم ويصلون صفا واحدا لانه أستر لهم فان لم يسعهم صف واحد وقفوا صفوفا وغضوا أبصارهم وإن صلى كل صف جماعة فهو أحسن (مسألة) (وإن كانوا رجالا ونساء صلى كل نوع لانفسهم) لئلا يرى بعضهم عوراة بعض وإن كانوا في ضيق صلى الرجال واستدبرهم النساء ثم صلى النساء واستدبرهم الرجال لئلا ينظر بعضهم إلى بعض (فصل) (فان كان مع العراة واحد له سترة لزمه الصلاة فيها) فان أعارها وصلى عريانا لم تصح لانه قادر على السترة، وإذا صلى فيه استحب أن يعيره لقول الله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى) ولا يجب ذلك بخلاف ما لو كان معه طعام فاضل عن حاجته ووجد مضطرا فانه يلزمه اعطاؤه.
وإذا بذله لهم صلى فيه واحد بعد واحد ولم يجز لهم الصلاة عراة لقدرتهم على الستر، إلا أن يخافوا ضيق الوقت فيصلون عراة جماعة لانهم لو كانوا في سفينة لا يمكن جميعهم الصلاة قياما صلى واحد بعد واحد إلا أن يخافوا فوت الوقت فيصلي واحد قائما والباقون قعودا كذلك هذا ولان هذا يحصل به ادراك الوقت والجماعة وذاك انما يحصل به الستر خاصة.
ويحتمل أن ينتظروا الثوب وإن فات الوقت لانه قدر على شرط الصلاة فلم تصح صلاته بدونه كواجد الماء لا يتيمم وإن خاف فوت الوقت.
قال شيخنا: وهذا أقيس عندي، فان امتنع صاحب الثوب من إعارته فالمستحب أن يؤمهم ويقف بين
أيديهم، فان كان أميا وهم قراء صلى العراة جماعة وصاحب الثوب وحده لانه لا يجوزه أن يؤمهم لكونه أميا ولا يأتم بهم لكونهم عراة وهو مستتر، وان صلى وبقي وقت صلاة واحدة استحب أن يعيره لمن يصلح لامامتهم وإن عاره لغيره جاز وصار حكمه حكم صاحب الثوب، فان استووا ولم يكن الثوب لواحد منهم أقرع بينهم فيكون من تقع له القرعة أحق به وإلا قدم من تستحب البداية بعاريته وإن كانوا رجالا ونساء فالنساء أحق لان عورتهن أفحشن وسترها آكد وإذا صلين فيه أخذه الرجال (مسألة) (ويكره في الصلاة السدل) وهو أن يطرح على كتفيه ثوبا ولا يرد أحد طرفيه على الكتف الآخر، وهذا قول ابن مسعود والثوري والشافعي لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة، رواه أبو داود.
فان فعل فلا اعادة عليه، وقال ابن أبي موسى: يعيد الصلاة في إحدى الروايتين للنهي عنه.
فأما إن رد أحد طرفيه على الكتف الاخرى أو ضم طرفيه بيديه لم يكره لزوال السدل.
وقد روي عن جابر وابن عمر الرخصة في السدل، قال ابن المنذر: لا أعلم فيه حديثا يثبت، وحكاه الترمذي عن أحمد (مسألة) (ويكره اشتمال الصماء وهو أن يضطبع بثوب ليس عليه غيره) لما روى أبو هريرة
وأبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبستين اشتمال الصماء وأن يحتبي الرجل بثوب ليس بين فرجيه وبين السماء شئ أخرجه الخباري، ومعنى الاضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت عاتقه الايمن وطرفيه على عاتقه الايسر كلبسة المحرم وهذا هو اشتمال الصماء ذكره بعض أصحابنا وجاء مفسرا في حديث أبي سعيد بذلك من رواية إسحاق عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أظن عن عطاء ابن يزيد عن أبي سعيد.
وانما كره لانه إذا فعل ذلك وليس عليه ثوب غيره بدت عورته كذلك رواه حنبل عن أحمد، أما إذا كان عليه غيره فتلك لبسة المحرم وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا ينبغي أن يكون اشتمال الصماء محرما لافضائه إلى كشف العوره، وروى أبو بكر باسناده عن ابن مسعود قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبس الرجل ثوبا واحدا يأخذ بجوانبه على منكبيه فتدعى تلك الصماء وقال بعض أصحاب الشافعي اشتمال الصماء أن يلتحف بالثوب ثم يخرج يديه من قبل صدره فتبدو
عورته وهو في معنى تفسير أصحابنا.
وقال أبو عبيد اشتمال الصماء عند العرب أن يشتمل الرجل بثوب يخلل به جسده كله ولا يرفع منه جانبا يخرج منه يده كأنه يذهب به إلى أنه لعله يصيبه شئ يريد الاحتراس منه فلا يقدر عليه.
قال شيخنا والفقهاء أعلم بالتأويل (وعنه يكره وان كان عليه غيره) روي عن أحمد رحمه الله كراهة ذلك مطلقا لعموم النهي ولان كل ما نهي عنه من اللباس في الصلاة لم يفرق بين أن يكون عليه ثوب غيره أو لم يكن كالسدل والاسبال (مسألة) (ويكره تغطية الوجه والتلثم على الفم والانف) لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغطي الرجل فاه رواه أبو داود، ففي هذا تنبيه على كراهية تغطية الوجه لاشتماله على تغطية الفم ويكره تغطية الانف قياسا على الفم، روي ذلك عن ابن عمر وفيه رواية أخرى لا يكره لان تخصيص الفم بالنهي يدل على إباحة غيره.
(مسألة) (ويكره لف الكم) لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف شعرا ولا ثوبا " متفق عليه (مسألة) (ويكره شد الوسط بما يشبه شد الزنار) لما فيه من التشبه بأهل الكتاب وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم فقال " لا تشتملوا اشتمال اليهود " رواه أبو داود، فاما شد الوسط بمئزر أو حبل أو نحوهما مما لا يشبه شد الزنار فلا يكره.
قال أحمد لا بأس به أليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يصلي أحدكم إلا وهو محتزم " وقال أبو طالب سألت أحمد عن الرجل يصلي وعليه القميص يأتزر بالمنديل فوقه؟ قال نعم فعل ذلك ابن عمر.
وعن الشعبي قال كان يقال: شد
حقوك في الصلاة ولو بعقال رواه الخلال، وعن يزيد بن الاصم مثله (مسألة) (ويكره اسبال شئ من ثيابه خيلاء) يكره اسبال القميص والازار مطلقا وكذلك السراويل لان النبي صلى الله عليه وسلم أمر برفع الازار فان فعله خيلاء فهو حرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه " متفق عليه، وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله جل ذكره في حل ولا حرام " رواه أبو داود
(فصل) ولا يجوز لبس ما فيه صورة حيوان في أحد الوجهين.
اختاره أبو الخطاب لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة " متفق عليه (والثاني) لا يحرم قاله ابن عقيل لقول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الخبر " الا رقما في ثوب " متفق عليه، ولانه يباح إذا كان مفروشا أو يتكأ عليه فكذلك إذا كان يلبس، ويكره التصليب في ا لثوب لقول عائشة رضى الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يترك في بيته شيئا فيه تصليب الا قضبه.
رواه أبو داود (مسألة) (ولا يجوز للرجل لبس ثياب الحرير ولا ما غالبه الحرير ولا افتراشه الا من ضرورة) يحرم على الرجل لبس ثياب الحرير في الصلاة وغيرها في غير حال العذر اجماعا حكاه ابن عبد البر لما روى أبو موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لاناثهم " أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تلبسوا الحرير فانه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " متفق عليه والافتراش كاللبس لما روى حذيفة قال: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وأن نلبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه.
رواه البخاري، فأما المنسوج من الحرير وغيره فان كان الاغلب الحرير حرم لعموم الخبر، وإن كان الاغلب غيره حل لان الحكم للاغلب والقليل مستهلك فيه أشبه الضبة من الفضة والعلم في الثوب.
وقال ابن عبد البر مذهب ابن عباس وجماعة من أهل العلم أن المحرم الحرير الصافي الذي لا يخالطه غيره.
قال ابن عباس انما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير أما العلم وسدى الثوب فليس به بأس.
رواه أبو داود والاثرم (مسألة) فان استوى هو وما نسج معه فعلى وجهين (أحدهما) يباح لحديث ابن عباس ولان الحرير ليس بأغلب أشبه الاقل (والثاني) يحرم.
قال ابن عقيل: هو الاشبه لعموم الخبر
(مسألة) ويحرم لبس المنسوج بالذهب والمموه به لما ذكرنا من حديث أبي موسى، فان استحال لونه فعلى وجهين (أحدهما) يحرم للحديث (والثاني) يباح لزوال علة التحريم من السرف
والخيلاء وكسر قلوب الفقراء (مسألة) (وإن لبس الحرير لمرض أو حكة أو في الحرب أو ألبسه الصبي فعلى روايتين) متى احتاج إلى لبس الحرير لمرض أو حكة أو من أجل القمل جاز في ظاهر المذهب، لان أنسا روى أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم القمل فرخص لهما في قميص الحرير في غزاة لهما.
وفي رواية شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القمل فرخص لهما في قميص الحرير ورأيته عليهما.
متفق عليه، وما يثبت في حق صحابي يثبت في حق غيره ما لم يقم على اختصاصه دليل فثبت بالحديث في القمل وقسنا عليه غيره مما ينفع فيه لبس الحرير.
وعن أحمد رواية أخرى لا يباح وهو قول مالك لعموم الخبر المحرم والرخصة يحتمل أن تكون خاصة لهما (فصل) وفي لبسه في الحرب لغير حاجة روايتان (احداهما) الاباحة وهو ظاهر كلامه أحمد قال الاثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن لبس الحرير في الحرب؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأس وهو قول عروة وعطاء، وكان لعروة يملق من ديباج بطانته من سندس محشو قزا يلبسه في الحرب ولان المنع من لبسه لما فيه من الخيلاء وذلك غير مذموم في الحرب، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى بعض أصحابه يمشي بين الصفين قال " انها لمشية يبغضها الله الا في هذا الموطن " (والثانية) يحرم لعموم الخبر، فأما إن احتاج إليه مثل أن يكون بطانة لبيضة أو درع أو نحوه أبيح.
قال بعض أصحابنا يجوز مثل ذلك من الذهب كدرع مموه من الذهب لا يستغني عن لبسه وهو محتاج إليه (فصل) وهل يجوز لولي الصبي أن يلبسه الحرير؟ على روايتين (احداهما) تحريمه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " حرام على ذكور أمتي " وعن جابر قال: كنا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري رواه أبو داود وقدم حذيفة من سفر فوجد على صبيانه قمصا من حرير فمزقها عن الصباين وتركها على الجواري رواه الاثرم، وروي نحو ذلك عن عبد الله بن مسعود (والثانية) يباح لانهم غير مكلفين أشبهوا البهائم ولانهم محل للزينة أشبهوا النساء.
والاول أولى لظاهر الخبر وفعل الصحابة، ويتعلق التحريم بالمكلفين بتمكينهم من الحرام كتمكينهم من شرب الخمر وغيره من المحرمات وكونهم محل الزينة مع تحريم الاستمتاع أبلغ في التحريم ولذلك حرم على النساء التبرج بالزينة للاجانب
(مسألة) (ويباح حشو الجباب والفرش به ويحتمل أن يحرم) ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لانه لا خيلاء فيه، ويحتمل أن يحرم لعموم الخبر ولان فيه سرفا أشبه مالو جعل البطانة حريرا (فصل) (ولا بأس بلبس الخز) ص عليه وقد روي عن عمران بن حصين والحسن بن علي وأنس بن مالك وأبي هريرة وابن عباس وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم أنهم لبسوا الخز وعن عبد الله ابن سعد عن أبيه سعد قال: رأيت رجلا ببخارى على بغلة بيضاء عليه عمامة خز سوداء فقال: كسانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود، وقال ابن عقيل في الخز: ان كان فيه وبر وكان الوبر أكثر من القز صحت الصلاة فيه.
وان كان أكثره القز لم تصح الصلاة فيه في الصحيح.
وان استويا احتمل وجهين فجعله كغيره من الثياب المنسوجة من الحرير وغيره (مسألة) (ويباح العلم الحرير في الثوب إذا كان أربع أصابع فما دون) لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع، رواه مسلم وقال أبو بكر في التنبيه: يباح وان كان مذهبا لانه يسير أشبه الحرير ويسير الفضة وكذلك الرقاع ولبنة الجيب وسجف الفراء لدخوله فيما استثناه في الحديث (مسألة) (ويكره للرجل لبس المزعفر والمعصفر) لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجال عن التزعفر متفق عليه، وعن علي قال: نهاني النبي صلى الله عليه وسلم عن لباس المعصفر، رواه مسلم ولا بأس بلبسه للنساء لان تخصيص النهي بالرجل دليل على إباحته للنساء (فصل) فأما لبس الاحمر غير المزعفر فقال أصحابنا: يكره وهو مذهب ابن عمر فروي عنه أنه اشترى ثوبا فرأى فيه خيطا أحمر فرده، وروي عن عبد الله بن عمرو قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل عليه بردان أحمران فسلم فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وعن رافع بن خديج قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على رواحلنا أكسية فيها خيوط عهن أحمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم " فقمنا سراعا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نفر بعض ابلنا وأخذنا الاكسية فنزعناها عنها رواهما أبو داود، والصحيح أنه لا بأس بها لما روى أبو جحيفة قال:
خرج النبي صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء الحديث، وقال البراء: ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، متفق عليهما (1) وعن هلال بن عامر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على بغلة وعليه برد أحمر رواه أبو داود، وقال أنس: كان أحب اللباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبرة،
__________
1) لا نعلمه بهذا اللفظ في الصحيحين فيراجع
متفق عليه وهي التي فيها حمرة وبياض.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم بينا هو يخطب إذ رأى الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فأخذهما ولم ينكر ذلك ولانها لون أشبهت سائر الالوان فأما أحاديثهم فحديث رافع في إسناده رجل مجهول ويحتمل أنها كانت معصفرة فلذلك كرهها ولو قدر التعارض كانت أحاديث الاباحة أصح وأثبت فهي أولى.
(فصل) فأما غير الحمرة من الالوان فلا يكره فقد قال صلى الله عليه وسلم " البسوا من ثيابكم البياض فانها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم " وعن ابن عمر انه قيل له: لم تصبغ بالصفرة؟ فقال: اني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها، رواهما أبو داود وعن أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت عليه بردين أخضرين ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء، متفق عليهما والله أعلم.
(باب اجتناب النجاسات) (وهو الشرط الرابع) - فمتى لاقى بثوبه أو بدنه نجاسة غير معفو عنها أو حملها لم تصح صلاته) وجمله ذلك أن الطهارة من النجاسة في بدن المصلي وثوبه شرط لصحة الصلاة في قول أكثر أهل العلم منهم ابن عباس وسعيد بن المسيب وقتادة ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن ابن عباس أنه قال: ليس على ثوب جنابة ونحوه عن أبي مجلز وسعيد بن جبير والنخعي وقال الحارث العكلي وابن أبي ليلى: ليس في ثوب اعادة.
وسئل سعيد بن جبير عن الرجل يرى في ثوبه الاذى وقد صلى قال: اقرأ علي الآية التي فيها غسل الثياب ولنا قول الله تعالى (وثيابك فطهر) قال ابن سيرين هو الغسل بالماء.
وعن أسماء بنت أبي بكر
الصديق قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يكون في الثوب قال " اقرصيه وصلي فيه " وفي لفظ قالت سمعت امرأة تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تصنع احدانا
بثوبها إذا رأت الطهر أتصلي فيه؟ قال " تنظر فيه فان رأت فيه دما فلتقزحه بشئ من الماء ولتنضح ما لم تر ولتصل فيه " رواه أبو داود وحديث النبي صلى الله عليه وسلم حين مر بالقبرين فقال " انهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول " متفق عليه وفي رواية - لا يستنزه من بوله - ولانها احدى الطهارتين فكانت شرطا للصلاة كطهارة الحدث (فصل) ويشترط طهارة موضع الصلاة أيضا وهو الموضع الذي تقع عليه ثيابه وأعضاؤه التي عليه قياسا على طهارة البدن والثياب، فان كان على رأسه طرف عمامته وطرفها الآخر وقع على نجاسة لم تصع صلاته كما لو وقع عليها شئ من بدنه، وذكر ابن عقيل احتمالا فيما يقع عليه ثيابه خاصة أنه لا تشترط طهارته لانه يباشرها بما هو منفصل عن ذاته أشبه مالو كان بجانبه انسان نجس الثوب فالتصق به ثوبه.
والمذهب الاول لان سترته تابعة له فهي كأعضاء سجوده، فأما إذا كان ثوبه يمس شيئا نجسا كثوب من يصلي وبجانبه حائط لا يستند إليه قال ابن عقيل لا تفسد صلاته بذلك لانه ليس بمحل لبدنه ولا سترته.
ويحتمل أن تفسد لان سترته ملاقية لنجاسة أشبه ما لو وقعت عليها، وان كانت النجاسة محاذية لجسمه في حال سجوده بحيث لا يلتصق بها شئ من بدنه ولا ثيابه لم تبطل الصلاة لانه لم يباشر النجاسة أشبه مالو خرجت عن محاذاته وذكر ابن عقيل وجها انها تبطل كما لو باشر بها أعضاءه وهو قول الشافعي وأبي ثور (فصل) وإن حمل النجاسة في الصلاة لم تصح صلاته كما لو كانت على بدنه أو ثوبه فان حمل حيوانا طاهرا أو صبيا لم تبطل صلاته لان النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو حامل امامة بنت أبي العاص متفق عليه ولان ما في الحيوان من النجاسة في معدنها فهي كالنجاسة في جوف المصلي، ولو حمل قارورة مسدودة فيها نجاسة لم تصح صلاته.
وقال بعض اصحاب الشافعي تصح لان النجاسة لا تخرج عنها فهي كالحيوان وليس بصحيح لانه حامل نجاسة غير معفو عنها في غير معدنها أشبه حملها في كمه (مسألة) (وان طين الارض النجسة أو بسط عليها شيئا طاهرا صحت صلاته عليها مع الكراهة)
هذا ظاهر كلام أحمد وهو قول مالك والاوزاعي والشافعي واسحاق، وذكر أصحابنا رواية أخرى أنه لا يصح لانه مدفن للنجاسة أشبه المقبرة ولانه معتمد على النجاسة أشبه ملاقاتها.
والاول أولى لان الطهارة انما تشترط في بدن المصلي وثوبه وموضع صلاته وقد وجد ذلك كله والعلة في الاصل غير مسلمة بدليل عدم صحة الصلاة بين القبور وليس مدفنا للنجاسة، وقال ابن أبي موسى ان كانت النجاسة المبسوط عليها رطبة لم تصح الصلاة وإلا صحت
(فصل) ويكره تطيين المسجد بطين نجس وبناؤه بلبن نجس أو تطبيقه بطوابيق نجسة فان فعل وباشر النجاسة لم تصح صلاته، فأما الآجر المعجون بالنجاسة فهو نجس لان النار لا تطهر لكن إذا غسل طهر ظاهر.
لان النار أكلت أجزاء النجاسة الظاهرة وبقي الاثر فطهر بالغسل كالارض النجسة ويبقى الباطن نجسا لان الماء لا يصل إليه فان صلى عليه بعد الغسل فهي كالمسألة قبلها.
وكذلك الحكم في البساط الذي باطنه نجس وظاهره طاهر ومتى انكسر من الآجر النجس قطعة فظهر بعض باطنه فهو نجس لا تصح الصلاة عليه (فصل) ولا بأس بالصلاة على الحصير والبسط من الصوف والشعر والوبر والثياب من القطن والكتان وسائر الطاهرات في قول عوام أهل العلم.
فروي عن ابن عمر أنه صلى على عبقري وابن عباس على طنفسة وزيد بن ثابت على حصير وابن عباس وعلي وابن مسعود وأنس على المسوح، وروي عن جابر أنه كره الصلاة على كل شئ من الحيوان واستحب الصلاة على كل شئ من نبات الارض ونحوه عن مالك الا انه قال في بساط الصوف والشعر إذا كان سجوده على الارض لم أر بالقيام عليه بأسا - والصحيح قول الجمهور فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على حصير في بيت أنس وعتبان بن مالك متفق عليه وروى عنه المغيرة بن شعبة أنه كان يصلي على الحصر والفرو المدبوغة، وروى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ملتفا بكساء يضع يديه عليه إذا سجد، ولان ما لم تكره الصلاة فيه لم تكره الصلاة عليه كالكتان والخوص، وتصح الصلاة على ظهر الحيوان إذا أمكنه استيفاء الاركان عليه والنافلة في السفر، وان كان الحيوان نجسا وعليه بساط طاهر كالحمار صحت الصلاة عليه في أصح الروايتين لان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمار (والثانية) لا تصح كالارض النجسة إذا بسط عليها شيئا طاهرا، وتصح على
العجلة إذا أمكنه ذلك لانه محل تستقر عليه أعضاؤه فهي كغيرها، وقال ابن عقيل: لا تصح لان ذلك ليس بمستقر عليه فهي كالصلاة في الارجوحة (فصل) ولا تصح صلاة المعلق في الهواء الا أن يكون مضطرا كالمصلوب وكذلك الارجوحة لانه ليس بمستقر القدمين على الارض فلم تصح صلاته كما لو سجد على بعض أعضاء السجود وترك الباقي معلقا، ذكره ابن عقبل (مسألة) (وإن صلى على مكان طاهر من بساط طرفه نجس صحت صلاته الا أن يكون متعلقا به بحيث ينجر معه إذا مشى فلا يصح) متى صلى على منديل طرفه نجس أو كان تحت قدمه حبل مشدود في نجاسة وما يصلي عليه طاهر فصلاته صحيحة سواء تحرك النجس بحركته أو لم يتحرك
لانه ليس بحامل للنجاسة ولا مصل عليها وانما اتصل مصلاه بها أشبه إذا صلى على أرض طاهرة متصلة بأرض نجسة، وقال بعض أصحابنا إذا كان النجس يتحرك بحركته لم تصح صلاته، قال شيخنا: والصحيح ما ذكرنا فأما ان كان الحبل أو المنديل متعلقا به ينجر معه إذا مشى لم تصح لانه مستتبع لها فهو كحاملها ولو كان في يده أو وسطه حبل مشدود في نجاسة أو حيوان نجس أو سفينة صغيرة فيها نجاسة تنجر معه إذا مشى لم تصح صلاته لانه مستتبع لها وان كانت السفينة أو الحيوان كبيرا لا يقدر على جره إذا استعصى عليه صحت لانه ليس بمستتبع لها.
قال القاضي: هذا إذا كان الشد في موضع طاهر فان كان في موضع نجس فسدت صلاته لانه حامل لما هو ملاق للنجاسة والاول أولى لانه لا يقدر على استتباع الملاقي للنجاسة أشبه مالو أمسك غصنا من شجرة عليها نجاسة أو سفينة عظيمة فيها نجاسة.
(مسألة) (ومتى وجد عليه نجاسة لا يعلم هل كانت في الصلاة أو لا فصلاته صحيحة لان لاصل عدمها في الصلاة وان علم أنها كانت في الصلاة لكنه جهلها أو نسيها فعلى روايتين) متى صلى وعليه نجاسة لا يعلم بها حتى فرغ من صلاته ففيه روايتان (احداهما) لا تفسد صلاته اختارها شيخنا، وهذا قول ابن عمر وعطاء وسعيد ابن المسيب ومجاهد واسحاق وابن المنذر (والثانية) يعيد وهو قول أبي
قلابة والشافعي لانها طهارة مشترطة للصلاة فلم تسقط بالجهل كطهارة الحدث، وقال ربيعة ومالك: يعيد ما دام في الوقت، ووجه الاولى ما روى أبو سعيد قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فخلع الناس نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال " ما حملكم على القائكم نعالكم؟ " قالوا: انا رأيناك القيت نعالك فألقينا نعالنا قال " ان جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا " رواه أبو داود، ولو كانت الطهارة شرطا مع عدم العلم بها لزمه استئناف الصلاة ويفارق طهارة الحدث لانها آكد لكونها لا يعفى عن يسيرها.
فأما ان كان قد علم بالنجاسة ثم أنسيها فقال القاضي: حكى أصحابنا في المسئلتين روايتين، وذكر هو في مسألة النسيان أن الصلاة باطلة لانه منسوب إلى التفريط بخلاف الجاهل، وقال الآمدي يعيد إذا كان قد توانى رواية واحدة، قال شيخنا: والصحيح التسوية بينهما لان ما عذر فيه بالجهل عذر فيه النسيان بل النسيان أولى لورود النص بالعفو عنه (فصل) فان علم بالنجاسة في أثناء الصلاة فان قلنا لا يعذر بالجهل والنسيان فصلاته باطلة، وان قلنا يعذر فهي صحيحة، ثم ان أمكنه ازالة النجاسة من غير زمن طويل ولا عمل كثير أزالها وبنى
كما خلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه، وان احتاج إلى أحد هذين بطلت صلاته لافضائه إلى أحد أمرين إما استصحاب النجاسة في الصلاة زمنا طويلا أو أن يعمل فيها عملا كثيرا فصار كالعريان يجد السترة بعيدة منه.
(فصل) وإذا سقطت عليه نجاسة ثم زالت عنه أو أزالها في الحال لم تبطل صلاته لما ذكرنا من حديث أبي سعيد، ولان النجاسة يعفى عن يسيرها فعفي عن يسير زمنها ككشف العورة وهذا مذهب الشافعي (مسألة) (وإذا جبر ساقه بعظم نجس فجبر لم يلزمه قلعه إذا خاف الضرر) وتصح صلاته لانه يباح له ترك الطهارة من الحدث بذلك وهي آكد وان لم يخف لزمه قلعه فان صلى معه لم تصح صلاته لانه صلى مع النجاسة وهو قادر على إزالتها من غير ضرر، ويحتمل أن يلزمه قلعه إذا لم يخف التلف لانه غير خائف للتلف أشبه إذا لم يخف الضرر، والاول أولى وان سقطت سنة فاعادها بحرارتها فثبتت
فهي طاهرة ولان حكم ابعاض الآدمي حكم جملته سواء انفصلت في حياته أو بعد موته لانها أجزاء من جملة فكان حكمها كسائر الحيوانات الطاهرة والنجسة، وعنه انها نجسة اختاره القاضي لانها لا حرمة لها بدليل أنه لا يصلي عليها، فعلى هذا يكون حكمها حكم العظم النجس على ما بنيا (مسألة) (ولا تصح الصلاة في المقبرة والحمام والحش وأعطان الابل وهي التي تقيم فيها وتأوي إليها والموضع المغصوب، وعنه تصح مع التحريم) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في الصلاة في هذه المواضع.
فروي عنه أن الصلاة لا تصح فيها بحال - رويت كراهة الصلاة في المقبرة عن علي وابن عباس وابن عمر وعطاء والنخعي وابن المنذر، وممن قال لا يصلي في مبارك الابل ابن عمر وجابر بن سمرة والحسن ومالك واسحاق وأبو ثور.
وعن أحمد أن الصلاة في هذه صحيحة ما لم تكن نجسة وهو مذهب الشافعي وابي حنيفة لقوله صلى الله عليه وسلم " جعلت لي الارض مسجدا وطهورا " وفي لفظ " فحيثما أدركتك الصلاة فصل فانه مسجد " متفق عليه، ولانه موضع طاهر فصحت الصلاة فيه كالصحراء، والاولى ظاهر المذهب لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الارض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة " رواه أبو داود، وعن جابر بن سمرة أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتصلي في مرابض الغنم؟ قال " نعم " قال أتصلي في مبارك الابل؟ قال " لا " رواه مسلم وهذه الاحاديث خاصة مقدمة على عموم أحاديثهم (فصل) فأما الحش فثبت الحكم فيه بالتنبيه لانه إذا منع من الصلاة في هذه المواضع لكونها
مظان النجاسة فالحش أولى لكونه معدا للنجاسة ومقصودا لها ولانه قد منع من ذكر الله تعالى والكلام فيه فمنع الصلاة فيه أولى.
قال شيخنا ولا أعلم فيه نصا.
وقال بعض أصحابنا إن كان المصلي عالما بالنهي لم تصح صلاته فيها لانه عاص بالصلاة فيها والمعصية لا تكون قربة ولا طاعة وإن كان جاهلا ففيه روايتان (احداهما) لا تصح لانها لا تصح مع العلم فلم تصح مع الجهل كالصلاة في محل نجس (والثانية) تصح لانه معذور (فصل) ذكر القاضي ان المنع من الصلاة في هذه المواضع تعبد فعلى هذا يتناول النهي كل ما يقع عليه الاسم فلا فرق في المقبرة بين الحديثة والقديمة وما تقلبت أتربتها أو لم تتقلب، فأما إن كان فيها
قبر أو قبران لم يمنع من الصلاة فيها لانه لا يتناولها الاسم، وان نقلت القبور منها جازت الصلاة فيها لزوال الاسم ولان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فيه قبور المشركين فنبشت متفق عليه.
ولا فرق في الحمام بين مكان الغسل والمسلخ والاتون وكل ما يغلق عليه باب الحمام لتناول الاسم له.
وأعطان الابل هي التي تقيم فيها وتأوي إليها، وقيل هي المواضع التي تناخ فيها إذا وردت، والاول أجود لانه جعله في مقابلة مراح الغنم، والحش الذى يتخذ للغائط والبول فيمنع من الصلاة فيما هو داخل بابه، قال شخينا: ويحتمل أن المنع من الصلاة في هذه المواضع معلل بكونها مظان للنجاسات فان المقبرة تنبش ويظهر التراب الذي فيه دماء الموتى وصديدهم، ومعاطن الابل يبال فيها فان البعير البارك كالجدار يستتر به ويبول، كما روي عن ابن عمر ولا يتحقق هذا في غيرها والحمام موضع الاوساخ والبول.
فنهي عن الصلاة فيها لذلك وان كانت طاهرة لان المظنة يتعلق الحكم بها وإن خفيت الحكمة ومتى أمكن تعليل الحكم كان أولى من قهر التعبد، ويدل على هذا تعدية الحكم إلى الحش المسكوت عنه بالتنبيه ولابد في التنبيه من وجود معنى المنطوق وإلا لم يكن تنبيها، فعلى هذا يمكن قصر الحكم على ما هو مظنة منها فلا يثبت الحكم في موضع المسلخ من الحمام ولا في سطحه لعدم المظنة فيه وكذلك ما أشبهه والله أعلم (فصل) ولا تصح الصلاة في الموضع المغصوب في أظهر الروايتين، وأحد قولي الشافعي.
والرواية الثانية يصح، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والقول الثاني للشافعي لان النهي لا يعود إلى الصلاة فلم يمنع صحتها كما لو صلى وهو يرى غريقا يمكنه انقاذه فلم ينقذه أو مطل غريمه الذي يمكن ايفاؤه وصلى ووجه الاولى ان الصلاة عبادة أتى بها على الوجه المنهي عنه فلم تصح كصلاة الحائض فان حركاته من القيام والركوع والسجود أفعال اختيارية هو منهي عنها عاص بها فكيف يكون مطيعا بما
هو عاص به.
فأما من رأى الغريق فليس بمنهي عن الصلاة انما هو مأمور بالصلاة وانقاذ الغريق وأحدهما آكد من الآخر، أما في مسئلتنا فان أفعال الصلاة في نفسها منهي عنها.
إذا ثبت هذا فلا فرق بين غصبه لرقبة الارض ودعواه ملكيتها وبين غصبه منافعها بأن يدعي اجارتها ظالما أو يضع
يده عليها مدة أو يخرج ساباطا في موضع لا يحل له أو يغصب راحلة ويصلي عليها أو سفينة ويصلي فيها أو لوحا فيجعله سفينة ويصلي عليه كل ذلك حكمه في الصلاة حكم الدار المغصوبة على ما بيناه (فصل) قال أحمد يصلي الجمعه في موضع الغصب يعني إذا كان الجامع أو بعضه مغصوبا صحت الصلاة فيه لان الجمعة تختص ببقعة فإذا صلاها الامام في الموضع المغصوب فامتنع الناس من الصلاة فيه فاتتهم الجمعة وكذلك من امتنع فاتته ولذلك أبيحت خلف الخوارج والمبتدعة وصحت في الطرق لدعاء الحاجة إليها وكذلك الاعياد والجنازة (فصل) ويكره في موضع الخسف قاله أحمد لانه موضع مسخوط عليه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لاصحابه يوم مر بالحجر " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم " ولا بأس بالصلاة في الكنيسة النظيفة روي ذلك عن عمر وأبي موسى وهو قول الحسن وعمر بن عبد العزيز والشعبي والاوزاعي.
وكره ابن عباس ومالك الكنائس لاجل الصور، وقال ابن عقيل: تكره الصلاة فيها لانه كالتعظيم والتبجيل لها وقيل لانه يضر بهم ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة وفيها صور ثم قد دخلت في عموم قوله صلى الله عليه وسلم " فأينما أدركتك الصلاة فصل فانه مسجد " متفق عليه (مسألة) (وقال بعض أصحابنا حكم المجزرة والمزبلة وقارعة الطريق وأسطحتها كذلك) لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " سبع مواطن لا يجوز فيها الصلاة: ظهر بيت الله، والمقبرة، والمزبلة، والمجزرة، والحمام، وعطن الابل، ومحجة الطريق " رواه ابن ماجه، وقال الحكم في هذه المواضع الثلاثة كالحكم في الاربعة ولان هذه المواضع مظان للنجاسات فعلق الحكم عليها وإن لم توجد الحقيقة كما انتقضت الطهارة بالنوم ووجب الغسل بالتقاء الختانين.
قال شيخنا والصحيح جواز الصلاة فيها وهو قول أكثر أهل العلم ويحتمله اختيار الخرقي لانه لم يذكرها لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " جعلت لي الارض مسجدا " متفق عليه.
واستثنى منه المقبرة والحمام ومعاطن الابل بأحاديث صحيحة ففيما عدا ذلك يبقى على العموم، وحديث ابن عمر يرويه العمري وزيد بن جبيرة وقد تكلم فيهما من قبل حفظهما فلا يترك به الحديث الصحيح.
وأكثر أصحابنا على القول الاول ومعنى
محجة الطريق الجادة المسلوكة في السفر وقارعة الطريق التي تقرعها الاقدام مثل الاسواق والمشارع ولا بأس بالصلاة فيما علا منها يمنة ويسرة وكذلك الصلاة في الطريق التي يقل سالكها كطريق الابيات اليسيرة فان بني مسجد في طريق وكان الطريق ضيقا بحيث يستضر المارة ببنائه لم يجز بناؤه ولا الصلاة فيه، وإن كان واسعا لا يضر بالمارة جاز وهل يشترط اذن الامام؟ على روايتين ذكره القاضي.
والمجزرة التي يذبح فيها الناس المعدة لذلك ولا فرق في هذه المواضع بين الطاهر والنجس ولا في المعاطن بين أن يكون فيها إبل في ذاك الوقت أو لا، فأما المواضع التي تبيت فيها الابل في سيرها أو تناخ فيها لعلفها أو ورودها فلا تمنع الصلاة فيها.
قال الاثرم سئل أبو عبد الله عن الصلاة في موضع فيه أبعار الابل فرخص فيه ثم قال إذا لم يكن من معاطن الابل الذي نهي عن الصلاة فيها التي تأوي إليها (فصل) فأما أسطحة هذه المواضع فقال القاضي وابن عقيل حكمها حكم السفل لان الهواء تابع للقرار ولذلك لو حلف لا يدخل دارا فدخل سطحها حنث والصحيح إن شاء الله قصر النهي على ما تناوله النص وأن الحكم لا يعدى إلى غيره ذكره شيخنا لان الحكم إن كان تعبدا لم يقس عليه وإن علل فانما يعلل بمظنة النجاسة ولا يتخيل هذا في أسطحتها، أما إن بنى على طريق ساباطا أو جناحا وكان ذلك مباحا له مثل أن يكون في درب غير نافذ باذن أهله أو مستحقا له فلا بأس بالصلاة عليه وإن كان على طريق نافذ فالمصلي فيه كالمصلي في الموضع المغصوب.
وإن كان الساباط على نهر تجري فيه السفن فهو كالساباط على الطريق وهذا فيما إذا كان السطح حادثا على موضع النهي فان كان المسجد سابقا فحدث تحته طريق أو عطن أو غيرهما من مواضع النهي أو حدثت المقبرة حوله لم تمنع الصلاة فيه بغير خلاف لانه يتبع ما حدث بعده.
وذكر القاضي فميا إذا حدث تحت المسجد طريق وجها في الصلاة فيه والاول أولى، فأما إن بني مسجد في مقبرة بين القبور فحكمه حكمها لانه لا يخرج بذلك عن أن يكون في المقبرة، وقد روى قتادة أن أنسا مر على مقبرة وهم يبنون فيها مسجدا فقال كان يكره أن يبنى مسجدا في وسط القبور (مسألة) (وتصح الصلاة إليها الا المقبرة والحش في قول ابن حامد) كره الصلاة إلى هذه المواضع فان فعل صحت صلاته نص عليه أحمد في رواية أبي طالب، وقال أبو بكر يتوجه في الاعادة قولان (أحدهما)
يعيد لموضع النهي وبه أقول (والثاني) يصح لعدم تناول النهي له، وقال ابن حامد إن صلى إلى المقبرة والحش فهو كالمصلي فيها إذا لم يكن بينه وبينها حائل كما روى أبو مرثد الغنوي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها " متفق عليه، قال القاضي وفي هذا تنبه على
المواضع التي نهي عن الصلاة فيها وذكر القاضي في المجرد قال: إن صلى إلى العطن فصلاته صحيحة بخلاف ما قلناه في الصلاة إلى المقبرة والحش.
قال شيخنا والصحيح أنه لا بأس بالصلاة إلى شئ من هذه المواضع الا المقبرة لورود النهي فيها وذلك لعموم قوله عليه السلام " جعلت لي الارض مسجدا وطهورا " فانه يتناول الذي يصلي فيه إلى هذه المواضع وقياس ذلك على المقبرة لا يصح إن كان النهي عن الصلاة إليها تعبدا وكذلك إن كان لمعنى اختص بها وهو اتخاذ القبور مسجدا تشبها بمن يعظمها وكذلك قال عليه السلام " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر مثل ما صنعوا متفق عليه والله أعلم (مسألة) ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا على ظهرها، وقال الشافعي وأبو حنيفة تصح لانه مسجد ولانه محل لصلاة النفل فكان محلا للفرض كخارجها ولنا قوله تعالى (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) والمصلي فيها أو على سطحها غير مستقبل لجهتها فأما النافلة فمبناها على التخفيف والمسامحة بدليل صحتها قاعدا وإلى غير القبلة في السفر على الراحلة (مسألة) (وتصح النافلة إذا كان بين يديه شئ منها) لا نعلم في ذلك خلافا لان النبي صلى الله عليه وسلم صلى في البيت ركعتين الا أنه ان توجه إلى الباب أو على ظهرها أو كان بين يديه شئ من الكعبة متصل بها صحت صلاته وإن لم يكن بين يديه شئ شاخص منها أو كان بين يديه آجر معبى وغير مبني أو خشب غير مسمر فقال أصحابنا لا تصح صلاته لانه غير مستقبل لشئ منها.
قال شيخنا والاولى أنه لا يشترط كون شئ منها بين يديه لان الواجب استقبال موضعها وهوائها دون حيطانها بدليل مالو انهدمت، وكذلك لو صلى على جبل عال يخرج عن مسامة البنيان صحت صلاته إلى هوائها كذلك ههنا (باب استقبال القبلة) (وهو الشرط الخامس) لصحة الصلاة لقول الله تعالى (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره)
أي نحوه، وقال علي رضي الله عنه شطره قبله، وروي عن البراء قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم انه وجه إلى الكعبة فمر رجل صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من الانصار فقال ان رسول اله صلى الله عليه وسلم قد وجه إلى الكعبة فانحرفوا إلى الكعبة.
أخرجه النسائي (مسألة) قال (الا في حال العجز عنه.
والنافلة على الراحلة في السفر الطويل والقصير) وجملة ذلك أن الاستقبال يسقط في ثلاثة مواضع (أحدها) في حال العجز عنه لكونه مربوطا إلى غير القبلة ونحوه فيصلي على حسب حاله لانه شرط لصحة الصلاة عجز عنه أشبه القيام (الثاني) إذا اشتد الخوف
كحال التحام الحرب وسنذكره في موضعه ان شاء الله (الثالث) في النافلة على الراحلة ولا نعلم في اباحة التطوع على الراحلة إلى غير القبلة في السفر الطويل خلافا بين أهل العلم.
قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه جائز لكل من سافر سفرا تقصر فيه الصلاة أن يتطوع على دابته حيثما توجهت به يومئ بالركوع والسجود ويجعل السجود أخفض من الركوع، وهل السفر القصير حكم الطويل في ذلك؟ وهو قول الاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وقال مالك: لا يباح لانه رخصة سفر فاختص بالطويل لا القصير ولنا قول الله تعالى (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) قال ابن عمر: نزلت هذه الآية في التطوع خاصة حيث توجه بك بعيرك، وعن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجه يومئ برأسه متفق عليه، وللبخاري الا الفرائض، ولم يفرق بين قصير السفر وطويله ولان إباحة التطوع على الراحلة تخفيف كيلا يؤدي إلى تقليله وقطعه وهذا يستوي فيه الطويل والقصير.
والفطر والقصر تراعى فيه المشقة وإنما توجد غالبا في الطويل.
قال القاضي: الاحكام التي يستوي فيها السفر الطويل والقصير ثلاث: التيمم وأكل الميتة في المخمصة والتطوع على الراحلة وبقية الرخص تختص الطويل وهي القصر والجمع والمسح ثلاثا (فصل) ويجعل سجوده أخفض من ركوعه.
قال جابر بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع.
رواه أبو داود، ويصلى على البعير والحمار وغيرهما، قال ابن عمر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو متوجه إلى
خيبر، رواه أبو داود والنسائي، لكن إذا قلنا بنجاسة الحمار فلابد أن يكون تحته سترة طاهرة، فان كان على الراحلة في مكان واسع كالمنفرد في العمارية يدور فيها كيف شاء ويتمكن من الصلاة إلى القبلة والركوع والسجود بالارض لزمه ذلك كراكب السفينة وان قدر على الاستقبال دون الركوع والسجود لزمه الاستقبال وأومأ بهما نص عليه.
وقال أبو الحسن الآمدي: يحتمل أن لا يلزمه شئ من ذلك كغيره لان الرخصة العامة يسوى فيها من وجدت فيه المشقة وغيره كالقصر والجمع، وان عجز عن ذلك سقط بغير خلاف
(فصل) وقبلة هذا المصلي حيث كانت وجهته فان عدل عنها إلى جهة الكعبة جاز لانها الاصل وانما سقط للعذر، وإن عدل إلى غيرها عمدا فسدت صلاته لانه ترك قبلته عمدا، وإن كان مغلوبا أو نائما أو ظنا منه أنها جهة سيره فهو على صلاته ويرجع إلى جهة سيره إذا أمكنه فان تمادى به ذلك
بعد زوال عذره فسدت صلاته لتركه الاستقبال عمدا.
ولا فرق بين جميع التطوعات في هذه النوافل المطلقة والسنن الرواتب والوتر وسجود التلاوة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر على بعيره متفق عليه (مسألة) (وهل يجوز ذلك للماشي؟) على روايتين (احداهما) لا يجوز وهو ظاهر كلام الخرقي ومذهب أبي حنيفة لعموم قوله تعالى (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) والنص انما ورد في الراكب فلا يصح قياس الماشي عليه لانه يحتاج إلى عمل كثير ومشي متتابع ينافي الصلاة فلم يصح الالحاق (والثانية) يجوز ذلك للماشي نقلها عنه المثنى بن جامع واختاره القاضي، فعلى هذا يستقبل القبلة لافتتاح الصلاة ثم ينحرف إلى جهة سيره ويقرأ وهو ماش ويركع ثم يسجد بالارض، وهذا قول عطاء والشافعي لان الركوع والسجود ممكن من غير انقطاعه عن جهة سيره فلزمه كالواقف.
وقال الآمدي: يومئ بالركوع والسجود كالراكب قياسا عليه.
ووجه هذه الرواية أن الصلاة أبيحت للراكب كيلا ينقطع عن القافلة في السفر وهو موجود في الماشي ولانها إحدى حالتي السفر أشبه الراكب (فصل) وإذا دخل المصلي بلدا ناويا للاقامة فيه لم يصل بعد دخوله إليه إلا صلاة المقيم.
وإن كان مجتازا غير ناو للاقامة أو نوى الاقامة مدة لا يلزمه فيها اتمام الصلاة استدام الصلاة مادام سائرا فإذا
نزل فيه صلى إلى القبلة وبنى على ما مضى من صلاته كالخائف إذا أمن في أثناء صلاته.
ولو ابتدأها وهو نازل إلى القبلة ثم أراد الركوب أتم صلاته ثم يركب وقيل يركب في الصلاة ويتمها إلى جهة سيره، كالآمن إذا خاف في صلاته والاولى أولى، والفرق بينهما أن حالة الخوف حالة ضرورة أبيح فيها ما يحتاج إليه من العمل وهذه رخصة من غير ضرورة فلا يباح فيها غير ما نقل ولم يرد باباحة الركوب الذي يحتاج إلى عمل وتوجه إلى غير جهة القبلة ولا جهة سيره سنة فيبقى على الاصل والله سبحانه وتعالى أعلم (مسألة) (فان أمكنه افتتاح الصلاة إلى القبلة فهل يلزمه ذلك؟ على روايتين) متى عجز عن استقبال القبلة في ابتداء صلاته كراكب راحلة لا تطيعه أو جمل مقطور لم يلزمه لانه عاجز عنه أشبه الخائف إذا عجز عن ذلك، وقال القاضي يحتمل أن يلزمه، وإن أمكنه ذلك كراكب راحلة منفردة تطيعه فهل يلزمه افتتاح الصلاة إلى القبلة؟ على روايتين (إحداهما) يلزمه لما روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث كان وجهة ركابه، رواه الامام أحمد وأبو داود، ولانه أمكنه ابتداء الصلاة إلى القبلة فلزمه كالصلاة كلها وهذا اختيار الخرقي (والثانية) لا يلزمه لحديث ابن عمر اختاره أبو بكر ولانه جزء من أجزاء الصلاة أشبه بقية أجزائها ولان ذلك لا يخلو من مشقة فسقط، وخبر النبي صلى الله عليه وسلم يحمل على
الفضيلة والندب والله أعلم.
(مسألة) (والفرض في القبلة اصابة العين لمن قرب منها واصابة الجهة لمن بعد عنها) الناس في القبلة على ضربين (أحدهما) يلزمه اصابة عين الكعبة وهو من كان معاينا لها ومن كان يمكنه من أهلها أو نشأ فيها أو أكثر مقامه فيها أو كان قريبا منها من وراء حائل يحدث كالحيطان والبيوت ففرضه التوجه إلى عين الكعبه وهكذا ان كان بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لانه متيقن صحة قبلته فان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على الخطأ، وقد روى أسامة ان النبي صلى الله عليه وسلم ركع ركعتين قبل القبلة وقال " هذه القبلة " كذلك ذكره أصحابنا، وفي ذلك نظر لان صلاة الصف المستطيل في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم صحيحة مع خروج بعضهم عن استقبال عين الكعبة لكن الصف
أطول منها.
وقولهم انه عليه السلام لا يقر على الخطأ صحيح لكن انما الواجب عليه استقبال الجهة وقد فعله وهذا الجواب عن الخبر المذكور، وان كان أعمى من أهل مكة أو كان غريبا وهو غائب عن الكعبة ففرضه الخبر عن يقين أو مشاهدة مثل أن يكون من وراء حائل وعلى الحائل من يخبره أو أخبره أهل الدار أنه متوجه إلى عين الكعبة فلزمه الرجوع إلى قولهم وليس له الاجتهاد كالحاكم إذا وجد النص، قال ابن عقيل: لو خرج ببعض بدنه عن مسامتة الكعبة لم تصح صلاته (الثاني) من فرضه اصابة الجهة وهو البعيد عن الكعبه فليس عليه اصابة العين، قال أحمد: ما بين المشرق والمغرب قبلة فان انحرف عن القبلة قليلا لم يعد ولكن يتحرى الوسط وهذا قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر: تلزمه اصابة العين لقول الله (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) وقياسا على القريب وقد روي ذلك عن أحمد وهو اختيار أبى الخطاب ولنا قوله عليه السلام " ما بين المشرق والمغرب قبلة " رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ولانا أجمعنا على صحة صلاة الاثنين المتباعدين يستقبلان قبلة واحدة وعلى صحة صلاة الصف الطويل على خط مستو لا يمكن أن يصيب عين الكعبة إلا من كان بقدرها فان قيل مع البعد يتسع المحاذي قلنا انما يتسع مع التقوس واما مع عدمه فلا (1) والله أعلم (مسألة) (فان أمكنه ذلك بخبر ثقة عن يقين أو استدلال بمحاريب المسلمين لزمه العمل به وإن وجد محاريب لا يعلم هل هي للمسلمين أو لا لم يلتفت إليها) متى أخبره ثقة عن يقين لزمه قبول خبره لما ذكرنا، وإن كان في مصر أو قرية من قرى المسلمين ففرضه التوجه إلى محاريبهم لان هذه القبلة ينصبها أهل الخبرة والمعرفة فجرى ذلك مجرى الخبر فأغنى عن الاجتهاد، وإن أخبره مخبر من
__________
1) قال هذا تبعا للمغني وفي اطلاقه والحق القول بالاتساع والتقوس في حال البعد هو الذي يقتضي الخروج عن المحاذاة
أهل المعرفة بالقبلة من أهل البلد أو من غيره صار إلى خبره وليس له الاجتهاد كالحاكم يقبل النص من الثقة ولا يجتهد.
ويحتمل أنه انما يلزمه الرجوع إلى الخبر والى المحاريب في حق القريب الذي يخبر
عن التوجه إلى عين الكعبة، أما في حق من يلزمه قصد الجهة فان كان أعمى أو من فرضه التقليد لزمه الرجوع إلى ذلك وإن كان مجتهدا جاز له الرجوع لما ذكرنا كما يجوز له الرجوع في الوقت إلى قول المؤذن ولا يلزمه ذلك بل يجوز له الاجتهاد إن شاء إذا كانت الادلة على القبلة ظاهرة لان المخبر والذي نصب المحاريب انما يبني على الادلة وقد ذكر ابن الزاغوني في كتاب الاقناع قال: إذا دخل رجل إلى مسجد قديم مشهور في بلد معروف كبغداد فهل يلزمه الاجتهاد أم يجزئه التوجه إلى القبلة؟ فيه روايتان عن أحمد (احداهما) يلزمه الاجتهاد لان المجتهد لا يجوز له أن يقلد في مسائل الفقه (والثانية) لا يلزمه لان اتفاقهم عليها مع تكرر الاعصار إجماع عليها ولا يجوز مخالفتها باجتهاده.
فإذا قلنا يجب الاجتهاد في سائر البلاد ففي مدينة النبي صلى الله عليه وسلم روايتان (احداهما) يتوجه إليها بلا اجتهاد لانه عليه الصلاة والسلام لا يداوم عليها إلا وهي مقطوع بصحتها فهو كما لو كان مشاهدا للبيت (والثانية) هي كسائر البلاد يلزمه الاجتهاد فيها لانها نازحة عن مكة فهي كغيرها (فصل) ولا يجوز الاستدلال بمحاريب الكفار لان قولهم لا يجوز الرجوع إليه فمحاريهم أولى إلا أن تعلم قبلتهم كالنصارى فإذا رأى محاريبهم في كنائسهم على أنها مستقبلة المشرق فان وجد محاريب لا يعلم هل هي للمسلمين أو الكفار لم يجز الاستدلالل بها لكونها لا دلالة فيها، وكذلك لو رأى على المحراب آثار الاسلام لجواز أن يكون الباني مشركا عمله ليغر به المسلمين إلا أن يكون مما لا يتطرق إليه هذا الاحتمال ويحصل له العلم أنه محاريب المسلمين فيستقبله.
(فصل) وإذا صلي على موضع عال يخرج عن مسامتة الكعبة أو في مكان ينزل عن مسامتتها صحت صلاته لان الواجب استقبالها وما حاذاها من فوقها وتحتها لانها زالت صحت الصلاة إلى موضع جدارها والله أعلم (مسألة) (وان اشتبهت عليه في السفر اجتهد في طلبها بالدلائل وأثبتها بالقطب إذا جعله وراء ظهره كان مستقبلا الكعبة) (1) متى اشتبهت القبلة في السفر وكان مجتهدا وجب عليه الاجتهاد في طلبها بالادلة لان ما وجب عليه اتباعه عند وجوده وجب الاستدلال عليه عند خفائه كالحكم في الحادثة.
والمجتهد هو العالم بأدلة القبلة وإن جهل أحكام الشرع لان كل من علم أدلة شئ كان مجتهدا فيه لانه
__________
1) أي في المدينة المنورة وسورية وامثالهما من البلاد الشمالية كما سيأتي
يتمكن من استقبالها بدليله والجاهل الذي لا يعرف أدلة القبلة وان كان فقيها وكذلك الاعمى فهذان فرضهما التقليد، وأوثق أدلتها النجوم قال الله تعالى (وبالنجم هم يهتدون) وقال (لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) وآكدها القطب وهو نجم خفي شمالي حوله أنجم دائرة في أحد طرفيها الجدي وفي الآخر الفرقدان وبين ذلك ثلاثة أنجم من فوق وثلاثة من أسفل تدور هذه الفراشة حول القطب كدوران الرحا حول سفودها في كل يوم وليلة دورة وقريب منها بنات نعش مما يلي الفرقدين تدور حولها والقطب لا يتغير من مكانه في جميع الازمان وقيل انه يتغير تغيرا يسيرا لا يؤثر وهو خفي يظهر لحديد النظر في غير ليالي القمر متى استدبرته في الارض الشامية كنت مستقبلا للكعبة، وقيل انه ينحرف في دمشق وما قاربها إلى المشرق قليلا وكلما قرب إلى المغرب كان انحرافه أكثر.
وإن كان بحران أو قريبا منها جعل القطب خلف ظهره معتدلا، وإن كان بالعراق جعل القطب حذاء أذنه اليمنى (1) على علوها ومتى استدبر الفرقدين والجدي في حال علو أحدهما ونزول الآخر على الاعتدال فهو كاستدبار القطب وان استدبره في غير هذه الحال كان مستقبلا للجهة فان استدبر الغربي كان منحرفا إلى الشرق وبالعكس وان استدبر بنات نعش فكذلك الا أن انحرافه أكثر (فصل) والشمس والقمر ومنازلهما وهي ثمانية وعشرون منزلا، الشرطان، والبطين، والثريا والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصدفة، والعواء والسماك، والغفر، والزبانا، والاكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الاخبية، والفرع المقدم، والفرع المؤخر، وبطن الحوت، منها أربعة عشر شامية تطلع من وسط المشرق مائلة إلى الشمال قليلا أولها الشرطان وآخرها السماك، والباقي يمانية تطلع من المشرق مائلة إلى التيامن، أولها الغفر وآخرها بطن الحوت، وينزل القمر كل ليلة بمنزل أو قريبا منه، ثم ينتقل الليلة الثانية إلى الذي يليه.
والشمس تنزل بكل منزل منها ثلاثة عشر يوما فيكون عودها إلى المنزل الذي نزلت به عند تمام سنة شمسية.
وهذه المنازل يكون منها فيما بين طلوع الشمس وغروبها أربعة عشر منزلا ومثلها من غروبها إلى طلوع وقت الفجر، منها منزلان
وقت المغرب منزل وهو نصف سدس سواد الليل، وكلها تطلع من المشرق عن يسرة المصلي وتغرب
__________
1) وفي مصر بالعكس
عن يمينه في المغرب الا أن أوائل الشامية وأواخر اليمانية وأول اليمانية وآخر الشامية تطلع من وسط المشرق أو قريبا منه بحيث إذا جعل الطالع منها محاذيا لكتفه الايسر كان مستقبلا للكعبة.
والمتوسط من الشامية وهو الذراع وما يليه من الجانبين مطلعه إلى ناحية الشمال، والمتوسط من اليمانية كالبلدة وما هو من جانبها يميل مطلعه إلى التيامن، فاليماني منها يجعله أمام كتفه اليسرى، والشامي يجعله خلف كتفه، وكذلك الغارب عند الكتف الايمن، وإن عرف المتوسط منها بأن يرى بينه وبين أفق السماء سبعة من الجانبين.
ولكل نجم من هذه المنازل نجوم تقاربه وتقارنه حكمها حكمه ويستدل بها عليه كالنسرين والشعريين والسماك الرامح وغير ذلك، وسهيل نجم كبير يطلع نحوا من مهب الجنوب ثم يسير حتى يصير في قبلة المصلي ويتجاوزها ثم يغرب قريبا من مهب الدبور، والناقة تطلع في المحرم من مهب الصبا وتغيب في مهب الشمال (فصل) والشمس تختلف مطالعها ومغاربها على حسب اختلاف منازلها، تطلع من المشرق وتغرب في المغرب، والقمر يبدأ أول ليلة في المغرب ثم يتأخر كل ليلة منزلا حتى يكون في السابع وقت المغرب في قبلة المصلي مائلا عنها قليلا إلى الغرب.
ثم يطلع ليلة الرابعة عشرة من المشرق وليلة احدى وعشرين يكون في قبلة المصلي أو قريبا منها وقت الفجر وتختلف مطالعه باختلاف منازله (مسألة) والرياح الجنوب تهب مستقبلة لبطن كتف المصلي اليسرى مارة إلى يمينه من الزاوية التي بين القبلة والمشرق والشمال مقابلتها تهب إلى مهب الجنوب، والدبور تهب من الزاوية التي بين القبلة والمغرب مستقبلة شطر وجه المصلي الايمن.
والصبا مقابلتها تهب إلى مهبها، فهذه الرياح التي يستدل بها وتعرف بصفاتها وخصائصها وربما هبت هذه الرياح بين الحيطان والجبال فتدور فلا اعتبار بها، وبين كل ريحين منها ريح تسمى النكباء لتنكبها طريق الرياح المعروفة، فهذا أصح ما يستدل به على القبلة، وقد يهتدي أهل كل بلد على القبلة بأدلة تختص بها من جبالها وأنهارها وغير
ذلك، وذكر أصحابنا الاستدلال بالانهار الكبار وقالوا: كلها تجري عن يمنة المصلي إلى يسرته على انحراف قليل كدجلة والفرات والنهروان، ولا اعتبار بالانهار الصغار ولا المحدثة لانها بحسب الحاجات ما خلا نهرين (أحدهما) العاصي بالشام (والآخر) سيحون بالمشرق، قال شيخنا: وهذا لا ينضبط
فان الاردن بالشام نحو القبلة وكثير منها يجري نحو البحر يصب فيه والله أعلم (فصل) فان خفيت الادلة على المجتهد لغيم أو ظلمة تحرى وصلى وصحت صلاته لانه بذل وسعه في معرفة الحق مع علمه بأدلته، أشبه الحاكم إذا خفيت عليه النصوص.
وقد روى عبد الله بن عامر ابن ربيعة عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل منا حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل (فأينما تولوا فثم وجه الله) رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن الا أنه من حديث أشعث السمان وفيه ضعف (مسألة) (وإذا اختلف اجتهاد رجلين لم يتبع أحدهما صاحبه ويتبع الجاهل والاعمى أوثقهما في نفسه) متى اختلف مجتهدان ففرض كل واحد منهما الصلاة إلى الجهة التى يؤديه إليها اجتهاده فلا يسعه تركها ولا تقليد صاحبه وان كان أعلم منه كالعالمين يختلفان في الحادثة فان اجتهد أحدهما دون الآخر لم يجز له تقليد من اجتهد حتى يجتهد بنفسه وان ضاق الوقت كالحاكم لا يسعه تقليد غيره وقال القاضي: ظاهر كلام احمد في المجتهد انه يسعه تقليد غيره إذا ضاق الوقت عن اجتهاده قال لان أحمد قال فيمن هو في مدينة فتحرى فصلى لغير القبلة في بيت يعيد لان عليه أن يسأل.
قال شيخنا: وما استدل به لا دليل فيه وكلام أحمد انما دل على انه ليس لمن في المصر الاجتهاد لانه يمكنه التوصل إلى معرفة القبلة بالخبر وكذلك لم يفرق بين ضيق الوقت وسعته مع الاتفاق على أنه لا يجوز التقليد مع سعة الوقت (فصل) ومتى اختلف اجتهادهما لم يجز لاحدهما أن يؤم صاحبه لان كل واحد منهما يعتقد خطأ الآخر فلم يجز له الائتمام به كما لو خرجت من أحدهما ربح واعتقد كل واحد منهما أنها من الآخر.
قال شيخنا: وقياس المذهب جواز ذلك، وهو مذهب أبي ثور، لان كل واحد منهما يعتقد صحة صلاة
الآخر وان فرضه التوجه إلى ما توجه إليه فلم يمنع الاقتداء به اختلاف الجهة كالمصلين حول الكعبة وقد نص أحمد على صحة الصلاة خلف المصلي في جلود الثعالب إذا كان يعتقد صحة الصلاة فيها وفارق ما إذا اعتقد كل واحد منهما حدث صاحبه لانه يعتقد بطلان صلاته بحيث لو بان له يقينا حدث نفسه أعاد الصلاة بخلاف هذا، وهذا هو الصحيح ان شاء الله تعالى.
فأما ان مال أحدهما يمينا والآخر شمالا مع اتفاقهما في الجهة فلا يختلف المذهب في صحة ائتمام أحدهما بالآخر لاتفاقهما في
الجهة الواجب استقبالها (فصل) (ويتبع الجاهل والاعمى أو ثقهما في نفسه) متى اختلف مجتهدان وكان معهما أعمى أو جاهل لا يقدر على تعلم الادلة قبل خروج الوقت ففرضه تقليد أوثقهما في نفسه وأعلمهما وأكثرهما تحريا لان الصواب إليه أقرب.
فان قلد المفضول فظاهر كلامه ههنا أنه لا تصح صلاته لانه ترك ما يغلب على ظنه أنه الصواب فلم يجز له ذلك كالمجتهد يترك اجتهاده.
والاولى صحتها وهو مذهب الشافعي لانه أخذ بدليل له الاخذ به لو انفرد فكذلك إذا كان معه غيره كما لو استويا ولا عبرة بظنه فانه لو غلب على ظنه اصابة المفضول لم يمنع ذلك تقليد الافضل، فان استويا قلد من شاء منهما كالعامي مع العلماء في بقية الاحكام (فصل) والمقلد من لا تمكنه الضلاة باجتهاد نفسه، اما لعدم بصره أو بصيرته بحيث لا يمكنه التعلم قبل خروج وقت الصلاة فان أمكنه التعلم قبل خروج الوقت لزمه، فان صلى قبل ذلك لم تصح لانه قدر على الصلاة باجتهاده فلم يجز له التقليد كالمجتهد، ولا يلزم هذا على العامي حيث لم يلزمه تعلم الفقه لوجهين (أحدهما) أن الفقه ليس شرطا لصحة الصلاة (الثاني) أنه يشق ومدته تطول فان أخر هذا التعلم والصلاة حتى ضاق الوقت عن التعلم والاجتهاد أو عن أحدهما أحدهما صحت صلاته بالتقليد كالذي يقدر على تعلم الفاتحة فيضيق الوقت عن تعلمها.
وان كان بالمجتهد ما يمنعه رؤية الادلة كالرمد والمحبوس في مكان لا يرى فيه الادلة ولا يجد مخبرا الا مجتهدا فهو كالاعمى في جواز تقليده (فصل) فإذا شرع في الصلاة بتقليد مجتهد فقال له قائل قد أخطأت القبلة وكان يخبر عن يقين
كمن يقول قد رأيت الشمس ونحوها وتيقنت خطأك لزمه الرجوع إلى قوله لانه لو أخبر بذلك المجتهد الذي قلده الاعمى لزمه قبول خبره فالاعمى أولى.
وان أخبره عن اجتهاده أو لم يبين له ولم يكن في نفسه أوثق من الاول مضى على ما هو عليه لانه شرع في الصلاة بدليل يقيني فلا يزول عنه بالشك وان كان أوثق من الاول في نفسه وقلنا لا يلزمه تقليد الافضل فكذلك والارجع إلى قوله كالمجتهد إذا
تغير اجتهاده في أثناء صلاته.
(فصل) ولو شرع مجتهد في الصلاة باجتهاده فعمي فيها بنى على ما مضى من صلاته لانه يمكنه البناء على اجتهاد غيره فاجتهاد نفسه أولى فان استدار عن تلك الجهة بطلت صلاته وان أخبره مخبر يخطئه عن يقين رجع إليه وان كان عن اجتهاده لم يرجع إليه لما ذكرنا، وان شرع فيها وهو أعمى فابصر في أثنائها فشاهد ما يستدل به على صواب نفسه من العلامات مضى عليه لان الاجتهادين قد اتفقا وان بان له خطؤه استدار إلى الجهة التي أداه اجتهاده إليها وبنى كالمجتهد إذا تغير اجتهاده في أثناء الصلاة وإن لم يتبين له صواب ولا خطأ بطلت صلاته واجتهد لان فرضه الاجتهاد فلم يجز له أداء فرضه بالتقليد كما لو كان بصيرا في ابتدائها وإن كان مقلدا مضى في صلاته لانه ليس في وسعه الا الدليل الذى بدأ به فيها (مسألة) (وإذا صلى البصير في حضر فأخطأ أو صلى الاعمى بلا دليل أعاد) متى صلى البصير في الحضر ثم بان له الخطأ أعاد سواء صلى باجتهاده أو غيره لان الحضر ليس بمحل للاجتهاد لقدرة من فيه على الاستدلال بالمحاريب ونحوها ولانه يجد من يخبره عن يقين غالبا فلم يكن له الاجتهاد كواجد النص في سائر الاحكام، وان صلى من غير دليل أخطأ لتفريطه وان أخبره مخبر فأخطأ فقد تبين أن خبره ليس بدليل، فان كان محبوسا لا يجد من يخبره فقال أبو الحسن التميمي يصلي بالتحري ولا يعيد لانه عاجز عن الاستدلال بالخبر والمحاريب أشبه المسافر، وأما الاعمى فهو في الحضر كالبصير لقدرته على الاستدلال بالخبر والمحاريب فانه يعرف باللمس وكذلك يعلم أن باب المسجد إلى الشمال أو غيرها فيمكنه الاستدلال به فمتى أخطأ أعاد وكذلك حكم المقلد في هذا (مسألة) (فان لم يجد الاعمى من يقلده صلى وفي الاعادة روايتان) وقال ابن حامد ان أخطأ
أعاد وان أصاب فعلى وجهين وإذا كان الاعمى والمقلد في السفر ولم يجد مخبرا ولا مجتهدا يقلده فقال
أبو بكر يصلي على حسب حاله وفي الاعادة روايتان (إحداهما) يعيد بكل حال وهو ظاهر كلام الخرقي لانه صلى بغير دليل فلزمته الاعادة وان أصاب كالمجتهد إذا صلى بغير اجتهاد (والثانية) الاعادة عليه لانه أتى بما أمر به أشبه المجتهد ولانه عاجز عن غير ما أتى به فسقط عنه كسائر العاجزين عن الاستقبال ولانه عادم للدليل أشبه المجتهد في الغيم، وقال ابن حامد ان أخطأ أعاد لفوات الشرط وان أصاب فعلى وجهين وجههما كما ذكرنا.
وقد ذكرنا أن هذا حكم المقلد فاما ان وجد من يخبره أو يقلده فلم يفعل أو خالف المخبر أو المجتهد وصلى بطلت صلاته بكل حال وكذلك المجتهد إذا صلى من غير اجتهاد وأداه اجتهاده إلى جهة فخالفها لانه ترك ما أمر به أشبه التارك التوجه إلى الكعبة مع علمه بها (مسألة) (ومن صلى بالاجتهاد إلى جهة ثم علم أنه أخطأ القبلة فلا اعادة عليه) وكذلك حكم المقلد الذي صلى بتقليده، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وقال في الآخر تلزمه الاعادة لانه اخطأ في شرط من شروط الصلاة فلزمته الاعادة كما لو صلى ثم بان أنه أخطأ في الوقت أو بغير طهارة ولنا حديث عامر بن ربيعة الذي ذكرناه ولانه أتى بما أمر فخرج عن العهدة كالمصيب ولانه صلى إلى غير الكعبه للعذر أشبه الخائف ولانه شرط عجز عنه أشبه سائر الشروط، وأما المصلي قبل الوقت فانه لم يأت بما أمره به انما أمر بالصلاة في الوقت بخلاف مسئلتنا فانه مأمور بالصلاة بغير شك ولم يؤمر الا بهذه الصلاة لان غيرها محرمة عليه اجماعا وسائر الشروط إذا عجز عنها سقطت كذاههنا، ولا فرق بين كون الادلة ظاهرة فاشتبهت عليه أو مستورة بغيم أو ما يسترها عنه لما ذكرنا من الحديث فان الادلة استترت عنهم بالغيم ولانه أتى بما أمر في الحالين وعجز عن استقبال القبلة في الموضعين فاستويا في عدم الاعادة (فصل) وان بان له يقين الخطأ وهو في الصلاة استدار إلى جهة الكعبة وبنى على ما مضى من
صلاته لان ما مضى منها كان صحيحا فجاز البناء عليه كما لو لم يبن له الخطأ.
وان كانوا جماعة قد قدموا أحدهم ثم بان
لهم الخطأ في حال واحدة استداروا إلى الجهة التي بان لهم فيها الصواب لان أهل قباء بان لهم تحويل القبلة وهم في الصلاة واستداروا إلى جهة الكعبة وأتموا صلاتهم، وإن بان للامام وحده أو للمأمومين أو لبعضهم استدار من بان له الصواب ونوى بعضهم مفارقة بعض إلا على الوجه الذي قلنا ان لبعضهم الائتمام ببعض مع اختلاف الجهة، وإن كان فيهم مقلد تبع من قلده وانحرف بانحرافه وان قلد الجميع لم ينحرف إلا بانحراف الجميع لانه شرع بدليل يقيني فلا ينحرف بالشك الا من يلزمه تقليد الاوثق فانه ينحرف بانحرافه (مسألة) (فان أراد صلاة أخرى اجتهد لها فان تغير اجتهاده عمل بالثاني ولم يعد ما صلى بالاول) وجملته أن المجتهد متى صلى بالاجتهاد إلى جهة صلاة ثم أراد صلاة أخرى اجتهد لها كالحاكم إذا اجتهد في حادثة ثم حدث مثلها وهذا مذهب الشافعي، فان تغير اجتهاده عمل بالثاني ولم يعد ما صلى بالاول كالحاكم لو تغير اجتهاده في الحادثة الثانية عمل به ولم ينقض حكمه الاول وهذا لا نعلم فيه خلافا، فان تغير اجتهاده في الصلاة استدار وبنى على ما مضى.
نص عليه احمد، وقال ابن أبي موسى والآمدي لا ينتقل لئلا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد ولنا أنه مجتهد أداه اجتهاده إلى جهة فلم تجز له الصلاة إلى غيرها كما لو أراد صلاة أخرى وليس هذا نقضا للاجتهاد انما عمل به في المستقبل كما في الصلاة الاخرى.
وإنما يكون نقضا للاجتهاد إذا ألزمناه إعادة ما مضى من صلاته، فان لم يبق اجتهاده وظنه إلى الجهة الاولى ولم يؤده اجتهاده إلى جهة اخرى بنى على ما مضى لانه لم يظهر له جهة أخرى يتوجه إليها.
وان شك في اجتهاده لم يزل على جهته لان الاجتهاد ظاهر فلا يزول عنه بالشك، وان بان له الخطأ ولم يعرف جهة القبلة كمن كان يصلي إلى جهة فرأى بعض منازل القمر في قبلته ولم يدر أهو في الشرق أم في الغرب واحتاج إلى الاجتهاد بطلت صلاته لانه لا يمكنه استدامتها إلى غير القبلة وليست له جهة يتوجه إليها فبطلت لتعذر اتمامها والله أعلم (باب النية) (وهي الشرط السادس للصلاة على كل حال) النية هي القصد يقال نواك الله بخير أي قصدك ومحلها القلب فان لفظ بما نواه كان تأكيدا وإن سبق لسانه إلى غير ما نواه لم تفسد صلاته وان لم ينطق بلسانه أجزأ وهي واجبة لا نعلم فيه خلافا ولا تنعقد الصلاة الا بها ولا تسقط بحال لقول الله
تعالى (وما أمروا الا ليعبدوا الله مخصلين له الدين) والاخلاص عمل القلب وهو أن يقصد بعمله الله تعالى وحده غيره، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " انما الاعمال بالنيات وانما لامرئ ما نوى " متفق عليه (مسألة) (ويجب أن ينوي الصلاة بعينها ان كانت معينة والا أجزأته نية الصلاة) متى كانت الصلاة معينة لزمه شيئان: نية الفعل، والتعيين، فان كان فرضا ظهرا أو عصرا أو غيرهما لزمه تعيينها، وكذلك ان كانت نفلا معينة كالوتر وصلاة الكسوف والاستسقاء والسنن الرواتب لزمه التعيين أيضا لعوم الحديث، وإن كانت نافلة مطلقة كصلاة الليل أجزأته نية مطلق الصلاة لا غير لعدم التعيين فيها (مسألة) (وهل تشترط نية القضاء في الفائتة ونية الفرضية في الفرض؟ على وجهين) اختلف أصحابنا في نية الفرضية في الفرض فقال بعضهم: لا يجب لان التعيين يغني عنها لكون الظهر لا تكون من المكلف إلا ظهرا فرضا، وقال ابن حامد لابد منها لان المعينة قد تكون نفلا كظهر الصبي والمعادة فعلى هذا يحتاج إلى نية الفعل والتعيين والفرضية (فصل) وينوي الاداء في الحاضرة والقضاء في الفائتة، وهل يجب ذلك؟ على وجهين (أحدهما) يجب لقوله " وانما لامرئ، ما نوى " (والثاني) لا يجب وهو أولى لانه لا يختلف المذهب انه لو صلى ينويها أداء فبان أن وقتها قد خرج ان صلاته صحيحة ويقع قضاء وكذلك لو نواها قضاء ظنا ان الوقت قد خرج فبان فعلها في وقتها وقعت أداء من غير نيته كالاسير إذا تحرى وصام فبان أنه وافق الشهر أو ما بعده أجزأه، فأما ان ظن ان عليه ظهرا فائتة فقضاها في وقت ظهر اليوم ثم بان أنه لا قضاء عليه أجزأته في أحد الوجهين لان الصلاة معينة وانما أخطأ في نية الوقت فلم يؤثر كما إذا اعتقد أن الوقت قد خرج فبان أنه لم يخرج أو كما لو نوى ظهر أمس وعليه ظهر يوم قبله (والثاني) لا يجزئه لانه لم ينو عين الصلاة أشبه ما لو نوى قضاء عصر فانها لا تجزئه عن الظهر، ولو نوى ظهر اليوم في وقتها وعليه فائتة لم يجزئه عنها ويتخرج فيها كالتي قبلها، فأما ان كانت عليه فوائت فنوى صلاة غير معينة لم تجزئه عن واحدة منها لعدم التعيين (مسألة) (ويأتي بالنية عند تكبيرة الاحرام) لانه أول الصلاة لتكون الينة مقارنة للعبادة
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: