الشافعية فقه - القضاء-الاجتهاد -القضاء -الرشوة ج 37
وإذا استشم إمام المسلمين بوادر الخيانة في صفوف المهادنين ، أي لاحظ مجرد مقدمات لها ، دون أن يعثر على خيانة مادية يمكن الاعتماد عليها في إنهاء عقد الهدنة ، لم يكن له نقض الهدنة إلا بعد أن يعلن عليهم جميعاً أن المسلمين مقدمون على إلغاء الهدنة التي بينهم وبين
المسلمين ، بسبب ما قد بدر من دلائل الخيانة في صفوفهم .
ويستدل على ما ذكرنا بقول الله عز وجل : { َمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } ( سورة التوبة : 7 ) ، وقلوه تبارك وتعالي : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ } ( سورة الأنفال : 58 ) .
[ فانبذ إليهم على سواء : أي اطرح إليهم عهدهم على علم منك ومنهم ] .
فإذا أعلمهم ببوادر خيانتهم ، وطرح لهم عهدهم حل للمسلمين قتالهم على الشكل الذي أرشدهم الله عز وجل إليه . قال الله تعالي :? {الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }( الأنفال 56-57)
[ تثقفنهم : تجدنهم وتدركنهم . فشرد بهم من خلفهم : فرق بهم من خلفهم من المحاربين بالتنكيل بهم والعقوبة لهم ]
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على سواء " . ( رواه الترمذي [1580] في السير ، باب : ما جاء في الغدر ، وأبو داود [2759] في الجهاد باب : في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه ) .
ب- يجب على المسلمين الوفاء كل شرط تحملوه للطرف الآخر ، إلا شرطاً أحل حراماً ، أو حرم حلالاً ، فلا يجوز الوفاء به ، بل لا يجوز إقحامه في عقد الهدنة
مثال الشروط الصحيحة التي يجب الوفاء بها : أن يشترط العدو على المسلمين إيواء من يصل إليهم من المرتدين الذين كانوا عندنا مسلمين ، أو نرد إليهم من جاءنا مسلماً منهم لأن سهيل بن عمرو شرط ذلك على المسلمين في صلح الحديبية فوافقه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ، وقد سبق تخريج حديث صلح الحديبية .
ومثال الشروط الباطلة : أن يشترطوا على المسلمين إعادة النساء المسلمات اللائي يأتين إلينا من قبلهم ، لأن الله عز وجل ، نهى عن ذلك بقوله : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ? ( سورة الممتحنة : 10).
ج- عقد الهدنة يصبح عقداً لازماً بعد وجوده مستوفي الشروط والأركان فلا يجوز للمسلمين نقضه بدون موجب إلي أن تنتهي المدة المضروبة له .
ثانياً : الآثار والالتزامات المترتبة على إعطاء الأمان :
وهذه الالتزامات نُجملها فيما يلي :
يجب على المسلمين جميعاً كف الأذى عمن أعطي الأمان ، بقطع النظر ـ كما قلنا ـ عن الشخص الذي أجاره وأعطاه الأمان ، ودون تفريق بين كونه ذكراً أو أنثي ، بشرط أن يكون مسلماً ، إلا إذا علم أنه عين للكافرين علينا ، أو غلب على الظن ذلك فيلغي أمانه .
ب - إذا انتهت مدة الأمان ، أو أراد المستأمن أن يخرج عن جوار المسلمين قبل انتهائها ، وجب على الحاكم أن يبلغه مأمنه ، أي المكان الذي يطمئن فيه من العدوان على حياته وماله ، ويستطيع أن يأخذ فيه حذره من أي شر قد يصيبه ، وذلك لصريح قول الله تعالي : ? َإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ? ( سورة التوبة : 6 ) .
ج - إذا أصبح الكافر الحربي مستأمناً في جوار المسلمين ، كان ذلك بمثابة العقد اللازم ، فليس لمن أجاره وأمنه أن يعود ، فكيف عن ذلك بدافع ندم ، أو نحوه ما لم يصدر من المستأمن ما يستدعي إلغاء جواره .
الباب الثالث
الفتوة وأحكامها
المسابقة
تعريف المسابقة :
المسابقة لغة : مفاعلهس من السبق ،وهو التقدم على الغير ، والمسابقة أيضاً : اختبار يجري لأشخاص للحصول على عمل ينتقي أفضلهم .
والمقصود بالمسابقة هنا أن يتباري اثنان فأكثر في ركض الدواب التي تصلح للكر والفر : كالخيل والإبل ، على أن تكون من نوع واحد .
والسبق : اسم للمال الذي يرصد للمسابقة .
حكم المسابقة ودليل مشروعيتها :
المسابقة سنة موروثة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وعمل مشروع ، والأصل الأول في مشروعيتها واستحبابها : قول الله تبارك وتعالى : ? وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُون? ( سورة الأنفال : 60 ) .
وخبر ابن عمر رضي الله عنه : " وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سابق الخيل التي قد ضمرت ، من الحيفاء إلي ثنية الوداع ، وبين الخيل التي لم تضمر ، من الثنية إلي مسجد بني زريق " . ( رواه البخاري [410] في المساجد ، باب : هل يقال مسجد بني فلان ، ومسلم [1870] في الإمارة ، باب : المسابقة بين الخيل وتضميرها ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ) .
[أضمرت ، وضمرت : سمنت أولاً ، ثم قلل علفها وأدخلت مكاناً وجللت حتى يكثر عرقها ويجف فيذهب رهلها ويقوي لحمها ويشتد . الحيفاء : موضع قرب المدينة . الثنية : ثنية الوداع في المدينة ] .
هذا إذا قصد بالمسابقة التأهب للجهاد ، وإعداد القوة له ، أما إذا قصد بها الفخر والخيلاء كانت حراماً ، لأن الأمور بمقاصدها ، أما إذا لم يقصد بها هذا ولا ذاك فهي مباحة ولأنها من الرياضيات المفيدة للجسم ، والمقوية للشكيمة .
أنواع المسابقة :
للمسابقة صور مختلفة ، بعضها مشروع وبعضها محرم ، ونحن نستعرض أولاً هذه الصور كلها ، ثم نوضح المحرم والمشروع منها :
الصورة الأولي : أن يتسابق الطرفان ، ويقرر مال معين للسابق منهما ، على أن يكون الدفع من الحاكم ، أو من شخص آخر ، خارج عن الاشتراك في عملية السباق ، بأن يقول هذا الشخص : من سبق منكما فله مني كذا .. ، ويجوز أن يقوم بالتسابق أكثر من اثنين .
الصورة الثانية : أن يلتزم أحد المتسابقين دفع المال لزميله إن هو سبقه ، ولا يلتزم زميله شيئاً عن هو سبق ، بأن يقول الأول : أن سبقتني فلك على كذا ، أو سبقتك ، فلا شيء لي عليك .
الصورة الثالثة : أن يلتزم كل منهما دفع مبلغ من المال لمن سبقه ، فأيهما تخلف يلتزم بإعطاء المبلغ المتفق عليه للسابق .
الصورة الرابعة : كالصورة الثالثة ، على أن يضاف إليهما محلل ، وهو عنصر ثالث مسابق ، فرسه كفء لفرسيهما . فإن سبقهما أخذ المالين من كل منهما ، وإن سبقاه ، وجاءا معاً ، فلا شيء لأحد على الآخر ، لأن المتراهنين وصلا معاً ، ولأن المحلل لم يلتزم شيئاً عن التخلف ، وإن وصل المحلل مع أحدهما أولاً ، وتخلف الثاني عنهما ، فمال الأول منهما مع المحلل يبقي له ، ومال المتأخر منهما يوزع بالتساوي بين المحلل والذي وصل معه .
بيان الجائز والمحرم من هذه الأنواع :
إذا تصورت هذه الأنواع من المسابقة ، وأدركت الفرق بينها ، فأعلم أن صورة واحدة منها هي المحرمة ، لها حكم الميسر ، وهو القمار ، وهي الصورة الثالثة ، أما الصور : الأولي والثانية والرابعة فهي مشروعة لا مانع منها .
وإنما سمي العنصر الثالث في الصورة الرابعة محللاً ، لأنه إذا دخل في الصورة الثالثة مشتركاً بالشكل الذي ذكرناه حولها من الحرمة إلي الحل . فالصورة الرابعة هي عين الثالثة مضافاً إليها هذا المحلل .
شروط المسابقة :
وأيا كانت صورة المسابقة ، فلا بد فيها من توفر شروط معينة ، نلخصها فيما يلي :
الشرط الأول : علم المتسابقين بالمنطلق الذي يبدؤون منه الجري ، وبالغاية التي يتوقف الجري عندها ، ولا بد أن يكون المبدأ والمنتهي للجميع واحداً .
الشرط الثاني : تعيين الأفراس ، أو الإبل مثلاً ، فإذا تعينت وعرفت ، لم يجز استبدال فرس بأخر ، فإن استبدل أحدهم بفرسه غيره فسدت المسابقة .
الشرط الثالث : أن تكون الأفراس بحالة يمكن معها السبق والتخلف ، فإن كان فيها ضعيف يقطع العقل بتخلفه ، أو فاره يجزم العقل بتقدمه لم يجز السباق .
الشرط الرابع : أن يعلم الكل مبلغ المال المشروط للسابق الأول ، والثاني ، وهكذا . فلو كان فيهم من لم يعلم بالمال ، أو كميته لم يصح السباق .
الشرط الخامس : أن يكون المال من يد أجنبي غير مشتركة بالسباق ، بأن يكون من الدولة ، أو من أحد الأثرياء مثلاً ، فإن كان من أحد المشتركين جاز بشرط أن لا يلزم الآخرون بالدفع عند تخلفهم ، فإن ألزموا بذلك كان لابد من أن يشترك معهما أو معهم عنصر محلل ، ينسق بينهم المال بالطريقة التي شرحناها .
أثر دخول عنصر المال في السباق :
مما ذكرنا يتبين لك أن دخول عنصر المال في السباق لا يمنع مشروعيته ولا يؤثر فيه بأي فساد ، بل هو مما يرغب فيه ، لتحقيق المزيد من التشجيع .
إلا أن عنصر المال يفسد السباق في حكم الشريعة الإسلامية ، عندما يكون أخذاً وعطاءً من الطرفين ، بأن يقال : السابق منكما يأخذ ، والمتخلف منكما يدفع . وسبب الفساد أن عنصر المال بهذه الصورة يأخذ ، والمتخلف منكما يدفع .
وسبب الفساد أن عنصر المال بهذه الصورة يأخذ محور الميسر تماماً ، وقد حرمه الله تعالي بصريح تبيانه قال عز وجل : ? ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ? ( سورة المائدة : 90) .
[ الخمر : كل مسكر . الميسر : القمار . الأنصاب : الأصنام . الأزلام : قداح الاستقسام ، التي كانوا يطلبون معرفة ما هو مقسوم لهم بواسطتها . رجس : خبيث مستقذر ] .
ما تجوز به المسابقة :
وتجوز المسابقة بكل الدواب التي تصلح للحرب والكر والفر ، مثل الخيل والبغال والجمال ، وما لا يصلح شيء منها لذلك ، فلا تجوز المسابقة به كالبقر ، والطيور وغيرها .
ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا سبق إلا في خف ، او حافر ، أو نصل " ( رواه أبو داود [2574] في الجهاد ، باب : في السبق ، والترمذي [700] في الجهاد ، باب : ما جاء في الرهان والسبق ) .
[ خف : أي ذي خف ، والمراد الإبل . حافر : أي ذي حافر ، والمراد الخيل وما يلحق بها . نصل : القسم الذي يخرج من السيف والرمح والسهم ونحوها والمراد الرمي بها ]
وقد كانت هذه هي آلة الحرب وعدته يومها ، فيلحق بها كل ما كان كذلك حسب الزمان والمكان ، مما يصلح في الحرب ، ويستعمل في نكاية العدو .
المناضلة بالسهام والأسلحة المختلفة
تعريف المناضلة :
المناضلة : مفاعلة ، من النضل ، وهو الرمي ، وتناضل القوم : تراموا لتظهر مهارة كل منهم في الرمي ، وهي والمكافحة والمقاومة بمعني واحد .
والنضال بالسهام أو السلاح ، يراد به استعمالها على الوجه الصحيح في نضال الأعداء .
والمناضلة شرعاً : تنافس متشاركين فأكثر على البراعة في استعمال السلاح ، ورمي الهدف على مال بشروط معينة .
حكم المناضلة ، ودليله :
المناضلة سنة ، كما قلنا في المسابقة ، مادام الغرض منها الإعداد للجهاد ، ومقارعة الأعداء ، فإذا كان الغرض منها المفاخرة ، أو العدوان على الأبرياء انقلبت إلي معصية عملاً بالقاعدة : الأمور بمقاصدها . ويستدل على مشروعية المناضلة ، والترغيب فيها ، بقول الله عز وجل : ? َأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ? ( سورة الأنفال : 60) .
فقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - القوة في الآية بالرمي ، فقال : " ألا إن القوة الرمي " ( رواه مسلم [1917] في كتاب الإمارة ، باب : فضل الرمي والحث عليه ، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه ) .
وروي البخاري [2743] في الجهاد ، باب : التحريض على الرمي ، عن سلمة بن الأكوع رض الله عنه قال : مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفر من أسلم ينتضلون ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " ارموا بني إسماعيل ، فإن أباكم كان رامياً ، ارموا وأنا مع بني فلان " ، قا : فأمسك أحد الفريقين بأيديهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما لكم لا ترمون " ؟ قالوا : كيف نرمي وأنت معهم ؟ قال " ارموا ، فأنا معكم كلكم " .
وروي أبو داود [2574] والترمذي [1700] وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل " .وقد سبق تخريج الحديث في المسابقة .
فأما الخف والحافر ، فكناية عن البعير والفرس ، وأما النصل ، فكناية عن السهام ، وما يدخل في حكمها من الأسلحة الأخرى المختلفة .
أنواع المناضلة :
تتنوع المناضلة بالسلاح ، كما تنوعت المسابقة على الخيل ، إلي الصور الأربعة المذكورة .
وتبطل منها هنا الصورة الثالثة أيضاً ، وهي أن يتراهن المتناضلان كل منهما يدفع المال للأول في الإصابة ، فهي قمار باطل ، وهي من الميسر الذي نهي الله عنه وسماه رجساً .
شروط المناضلة :
يشترط في المناضلة مراعاة الأمور التالية :
أولاً : إذا كان النضال بالسهام ونحوها ، فإنه يشترط أن يبين المتناضلان كون الرمي المطلوب مجرد قرع للهدف ، أو خرقاً ، فإن أطلقا ، ولم يبينا صحت المناضلة على الوجه الصحيح ، وحمل الرمي المطلوب على القرع .
ثانياً : يشترط اتحاد جنس السلاح من بندقية وغيرها ، فلا تصح المناضلة ببندقيتين مختلفتي الجنس ولو رضي الطرفان بذلك .
ثالثاً : يشترط تعيين الرماة والهدف المطلوب تعييناً دقيقاً ، وتعيين الموقف الذي يلتزمونه ، وتعيين عدد الرشقات .
رابعاً : العلم بالمال وقدره ، ووجود محلل إن كانت المناضلة من النوع الثالث المحرم الذي مر ذكره في المسابقة .
مالا تجوز المناضلة فيه :
اعلم أن القاعدة العامة فيما تجوز فيه المناضلة ( أي المناضلة على مال ) كل أداة نافعة في الحرب ، فكل ما لم يكن له فائدة أو شأن في الحرب لا تجوز المناضلة به على مال .
فلا تجوز المناضلة على الكرة بأشكالها وأنواعها المختلفة ، ولا علي سباحة ولعب شطرنج ، ووقوف على رجل واحدة مثلاً ، والسباق الزوارق الصغيرة التي لا شأن لها بالحرب .
ذلك لأن شيئاً من هذه الألعاب لا تفيد بالحرب ، فهي وإن كانت جائزة ، بل منها ما هو مستحب ومندوب إليه كالسباحة ، إلا أنه لا يجوز النضال بها على مال .
عقد المسابقة والمناضلة عقد لازم :
إذا تم التعاقد على مسابقة أو مناضلة على مال مشروط ، بالنحو الذي ذكرناه ، فإن العقد يصبح عندئذ لازماً في حق من التزم العوض ، فليس له أن يفسخه أو أن يترك العمل .
ومعني العقد اللازم أنه لا يملك طرف واحد فسخه إلا بموافقة الآخر ، كالبيع والإجارة .
فإن لم تقم المسابقة والمناضلة على مال مشروط ، فهي عقد جائز كل من الطرفين أن يستقل بفسخه .
الباب الرابع
أصْنَاف اللّهو الجَائِزةَ والمحرمَة
أصناف اللهو الجائزة والمحرمة
معني اللهو :
اللهو : هو كل ما يشغل الإنسان عن المزعجات ، والأفكار ، والمؤرقات المختلفة ، دون أن تكون له حقيقة ثابتة ، كاللعب ، وأحاديث الفكاهة والأسمار ، والغناء ونحو ذلك .
أصناف اللهو :
ثم أن اللهو ، إما أن ينقضي دون أن يترك وراءه أثراً من نفع أو ضرر ، إلا أنه يشغل الفكر عن الجد في الأمور ، والمهمات من الشؤون ، وإما أن يترك ـ علاوة على ذلك ـ أثراً ضاراً في النفس : كأن يتعود على الدعة والانصراف عن القيام بواجبات الحياة ، وعزائم الأمور ، وإما أن يترك أثراً مفيداً فيها : كأن يعودها على بعض أعمال الخير ، ويسهل عليها اقتحام بعض الشدائد .
فاللهو إذا يتفرع حسب ما ذكرنا إلي ثلاثة أصناف .
حكم كل صنف من هذه الأصناف :
ـ أما الصنف الأول : وهو ما لا يترك أثراً في الحياة نافعاً أو ضاراً ، فهو مكروه : كالاسترسال في المجالس التي يشيع فيها المزاح والفكاهات التي لا فائدة منها ، بحيث ينقضي الوقت فيها دون فائدة .
ـ وأما الصنف الثاني : وهو ما يعقب أثاراً ضارة في النفس والمجتمع ، فهو محرم ، ولا يجوز تعاطيه مقاله : الصنف الأول ذاته ، إذا زاد استرسال الإنسان فيه ، بحيث أصبح يفوت عليه واجباته ، من عبادات مفروضة ، أو سعي من أجل المعيشة ، أو يوجد في طبيعة سيئة : كالكذب ، والتهاون في علاقاته الأخلاقية مع الناس .
ومثاله أيضاً : مجالس الغناء المقرونة بالمعازف والآلات المحرمة ، أو المقرونة بنساء ، أو غلمان .
- وأما الصنف الثالث : وهو ما أعقب فائدة للنفس والمجتمع ، فهو مباح وقد يسمو إلي درجة الاستحباب ، حسب مدي أهمية الفائدة الناجمة عنه .
مثاله : ما ذكرناه من السباق والرمي ، والألعاب المفيدة للحرب ولغيرها مما يعتد به في ميزان الحكم الإنساني .
تطبيق هذه الأحكام على مزيد من الأمثلة :
أولاً : الألعاب الهادئة الشائعة بين الناس ، كالشطرنج ، والنرد ، وما يسمى بالشدة ، أي الورق ، ونحوها وهذه الألعاب تقوم أحكامها على أساس القاعدة التالية :
كل ما كان من هذه الألعاب قائماً على التفكير والتدبير والنظر في العواقب ، فهو جائز ، ثم هو يدور بين الإباحة والكراهة حسب مدى انصراف اللاعب إليها ، وانشغاله بها . من هذه الألعاب الشطرنج ، فهو قائم على تشغيل الذهن ، وتحريك العقل والفكر . ولا ريب أنه لا يخلو عن فائدة للذهن والعقل ، فإن عكف عليه زيادة عما تقتضيه هذه الفائدة ، فهو مكروه ، فإن زاد عكوفه حتى فوت بسببه بعض الواجبات عاد محرماً .
وكل ما كان قائماً على المصادفة ، وإغماض الفكر والعقل ، كالنرد ، والورق ، ونحوهما فهو محرم ، وذلك لأن مثل هذه الألعاب يعود النفس على الركون إلي معني المصادفة في تقلبات الأحوال والأمور ، ويجعل العقل يتخيل المصادفة هي العامل الأول في الكون وحركته ، فهو من اللهو الذي يترك أثراً ضاراً في النفس .
ثانياً : اللهو بالحيوانات : كتحريش الديكة على بعضها ، ودفع المواشي إلي التناطح وكالذي يسمي اليوم بمصارعة الثيران، فهو محرم ، قولاً واحداً ، لما يترك من الآثار الضارة على حياة البهائم أو الإنسان .
ثالثاً : المصارعة ، وهي كما تعلم أصناف كثيرة :
فكل ما لم يعقب أثراً ضاراًَ في الجسم ، وكان من شأنه أن يعود الإنسان على القوة ، وفنون القتال ، والدفاع عن النفس ، فهو مباح ، وربما مستحباً ود صارع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركانة وغلبه .
وكل ما كان من شأنه أن يعقب أثراً ضاراً في الجسم ، كجرح أو تهشيم عظم أو تشويه طرف ، فهو محرم : كالمصارعة الحرة ، والملائكة ، ونحوهما ، إلا أن تكون المصارعة على نحو وبوسائل تضمن عدم الإضرار بأحد الطرفين ، فيصبح حكمها حكم النوع الذي قبلها : مباحاً أو مستحباً ، حسب ما بينا .
لا يجوز شيء من اللهو على مال مشروط :
ثم أعلم أن شيئاً من أصناف اللهو واللعب التي ذكرناها ، لا يجوز على المال ، سواء كان من طرف واحد أو طرفين ، أو من أجنبي عنهما . وكل مال يدخل في شيء من اللهو الذي ذكرنا ، فهو من الميسر الذي يحرم تعاطيه ، إلا أن في شرط المال في المصارعة المباحة ، وجهاً عند الشافعية ، فهي ـ على هذا الوجه ـ تتبع السباق والرمي اللذين مضي حكمهما .
دليل هذا الوجه : ما رواه أو داود في مراسليه : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صارع ركانة ، إذ كان مشركاً ، على شياه " . والصحيح في المذهب أنه لا يجوز شرط المال في شيء غير السباق والرمي ، من أصناف اللعب واللهو المباحة ، وإن كان مصارعة .
أما الاستدلال بحديث أبي داود ، فيجاب عنه بما يلي :
أولاً : الحديث ضعيف لكونه مرسلاً .
ثانياً : على فرض صحته فإنما كان ذلك قبل إسلام ركانة . ولتلك الحالة شأن آخر ، والدليل على ذلك أن ركانة لما أسلم بعد ذلك أعاد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - الشياه .
البَاب الخامس
القًضَاء
القضاء
تعريف القضاء :
القضاء في اللغة له معانٍ عدة ، منها :
الحكم ، يقال : قضى قضاء : أي حكم حكماً . ومنه قول الله تبارك وتعالى : ? وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً? ( الإسراء : 32 ) أي : حكم .
الفراغ والانتهاء من الشيء ، يقال : قضى حاجته إذا فرغ منها . ومن ذلك قوله تبارك وتعالى : ? فوكزه موسى فقضي عليه ? ( القصص : 15) أي : قتله وفرغ منه . [ وكزه : ضربه بجمع كفه ] .
الأداء والانتهاء ، يقال : قضى دينه إذا أداه ، وأنهي ما عليه قال تعالى : ? وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ? ( الحجر : 66 ) . [ أي أدينا إليه ، وأنهينا إلي عمله . دابر هؤلاء : آخرهم . مقطوع مصبحين : مستأصل في الصباح] .
الصنع والتقدير ، يقال : هذا شيء قضاه : أي صنعه . وعليه قول الله تبارك وتعالي : ? فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ? ( فصلت : 12 )
[ أي صنعهن وقدرهن وسواهن ] .
والقضاء شرعاً : فصل الخصومة بين اثنين فأكثر بحكم الله عز وجل .
فالقضاء إذاً هو الحكم بين الناس ، وتسوية الخلاف بينهم . بإعادة الحقوق إلي أصحابها.
وسمي القضاء حكماً لما فيه من الحكمة التي هي وضع الشيء في محله فهو يكف الظالم عن ظلمه وينصف المظلوم من ظالمه .
مشروعية القضاء :
القضاء مشروع في الإسلام ومطلوب ، ويدل على مشروعيته الكتاب ، والسنة والإجماع ،والعقل .
أما الكتاب الكريم فآيات ، منها :
قول الله عز وجل : ? وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ? ( المائدة : 49) .
وقوله تبارك وتعالي : ? وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ? ( النساء : 58)
وقوله سبحانه وتعالي : ? إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً? ( النساء : 105) .
[خصيماً : مخاصماً ومدافعاً عنهم ] .
وأما السنة المطهرة فأحاديث كثيرة منها :
ما رواه أبو داود [3582] في الأقضية ، باب : كيف القضاء ، عن على بن أبي طالب رضي الله عنه ،قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلي اليمن قاضياً ، فقلت يا رسول الله ، ترسلني وأنا حدث السن ، ولا علم لي بالقضاء ؟ فقال : " إن الله سيهدي قلبك ، ويثبت لسانك ، فإذا جلس بين يديك الخصمان ، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر ، كما سمعت من الأول ، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء " قال : فما زلت قاضياً ، أو ما شككت في قضاء بعد .
[ حديث السن : صغير السن . أحرى : أجدر و أعون ]
ومنها أيضاً : ما رواه البخاري [6919] في الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب : أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ، ومسلم [1716] في الأقضية ، باب : بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر " .
[اجتهد : بذل وسعه للتعرف على القضية ، ومعرفة الحق فيها . أصاب : وافق الواقع في حكمه . أخطأ : لم يصب الحق في حكمه ] .
أما الإجماع ، فهو منعقد على مشروعية القضاء ، وعلى فعله ، سلفاً وخلفاً لم يخالف في ذلك أحد ، وقد استقضي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده من الخلفاء إلي يومنا هذا من غير نكير من أحد .
وأما العقل ، فهو قاض بمشروعية القضاء وضرورته ، فطبائع البشر مختلفة ، والتظالم ومنع الحقوق واقع منهم ، وقل من ينصف من نفسه ، ولا يقدر الإمام أن يتولي فصل الخصومة بين كل الناس بنفسه ، فلذلك كانت الحاجة ماسة إلي تشريع القضاء ، ونصب القضاة ، ليحكموا بين الناس ، ويفصلوا في الخصومات .
حكمة تشريع القضاء :
وحكمة تشريع القضاء ، وجود الحاجة إليه ، وقيام المصالح به ، فالإنسان اجتماعي بطبعه ، وليس قادراً أن يعيش وحده ، بل لا بد أن يعيش مع الناس لينال حاجاته الضرورية ، بالتعاون معهم ، وإذا كان التعامل مع الناس ، والتعاون معهم أمراً ضرورياً ، كان لاجرم أنه ستقوم بين الناس خصومات ومنازعات بسبب تعارض مصالحهم ، وتضارب أهوائهم ، وطغيان بعضهم على بعض ،ومن هنا نشأت الحاجة إلي القضاء ، وكان لابد من قاض يرجع إليه الناس عند الاختلاف والنزاع ، والإسلام دين الفطرة السوية يدعو إلي رعايتها ، والمحافظة على نظافتها وحسن سيرها . قال تعالى : ? فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ? ( الروم:30) .
[أقم وجهك للدين : ألزمه ولا تحد عنه . حنيفاً : مائلاً إليه .فطرة الله خلقته . القيم : المستقيم ] .
أهمية منصب القضاء :
القضاء منصب عظيم تدعو إليه الحاجة ، وله مكانة عظيمة بين شرائع الإسلام ، وهو وظيفة الأنبياء والخلفاء والعلماء ،قال الله تبارك وتعالى لنبيه داود عليه السلام: ? َا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ? ( ص : 26 ) .
فمن ولي هذا المنصب فعدل وبر كان في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله .
وقد ولي هذا المنصب رجال عظام من سلف هذه الأمة ، أمثال عمر وعلى ومعاذ وأبي موسى الأشعري ، وشريح وأبي يوسف ، رضي الله عنهم جمعياً ، وضربوا أروع الأمثلة في العدل والورع والعلم والذكاء .
روي أبو داود [3592] في الأقضية ، باب : اجتهاد الرأي في القضاء ، والترمذي [1327] في الأحكام ، باب : ما جاء في القاضي كيف يقضي ، عن معاذاً إلي اليمن ، قال له : " كيف تقضي إذا عرض له قضاءٌ ؟ " قال " أقضي بكتاب الله . قال " فإن لم تجد في كتاب الله ؟ " قال أقضي بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال " فإن لم تجد في سنة رسول الله ؟" قال : أجتهد رأيي ، ولا آلُوا قال : فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره ، وقال : " الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يرضي رسول الله " .
[اجتهد رأيي : أبذل طاقتي ووسعي في طلب الحق والتعرف عليه . ولا آلوا : ولا أقصر في طلب الحق والبحث عنه ] .
خطورة منصب القضاء :
مع أهمية منصب القضاء ، فإنه منصب خطر في نفسه ، وفيه مسالك وعرة ، ومزالق صعبة ، والناجي فيه قليل ،والهالك كثير ، والمعصوم من عصمة الله تعالي .
روي أبو داود [3573] في الأقضية ، باب : في القاضي يخطيء ، عن بريدة بن الخصيب رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " القضاة ثلاثة : واحدٌ في الجنة واثنان في النار ، فأما الذي في الجنة ، فرجل عرف الحق وقضي به ، ورجل عرف الحق فجار في الحكم ، فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار " .
وروي أبو داود [ 3571] في الأقضية باب : في طلب القضاء ، والترمذي [1325] في الأحكام ، باب : ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القاضي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من جعل قاضياً بين الناس ، فقد ذبح بغير سكين "
[ذبح بغير سكين : المراد به : التحرز من طلب القضاء ، والإشفاق منه ]
وقال الله عز وجل : ? وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً? (الجن : 15)
[ القاسطون : الجائرون في حكمهم ] .
لذلك خشي هذا المنصب كثير من الصحابة والعلماء ، ,أعرضوا عنه ، خشية التقصير فيه .
حكم تولي القضاء :
وجود قاض في كل ناحية ، يقضي ين المتخاصمين ويرفع التظالم بينهم ، فرض كفاية في حق الصالحين له . أما كونه فرضاً ، فلوجود الأمر به في كتاب الله عز وجل . قال تبارك وتعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ? (النساء : 135) .
[قوامين : دائمي القيام . بالقسط : بالعدل ] .
وأما كونه فرض كفاية فلأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهما من فروض الكفاية .
وقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً رضي الله عنه قاضياً إلي اليمن ، كما ولي معاذ بن جبل أيضاً قضاء اليمن ، واستخلف عليه الصلاة والسلام عتاب بن أسيد على مكة والياً وقاضياً ، وقد بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسي الأشعري إلي البصرة قاضياً .
فلو كان القضاء فرض عين على كل من يصلح له لم يكف قاض واحد في كل ناحية .
فإذا قام بهذا الفرض من يصلح له سقط الفرض عن الباقين ، وإن امتنعوا ولم يقم به أحد أثموا جميعاً ، ووجب على الإمام أن يجبر أحد الصالحين للقضاء على تولي هذا المنصب ، والقيام بهذا الفرض .
لذلك قال علماء الشافعية : يجب على الإمام أن يولي في كل مسافة عدوي قاضياً ، كما يجب عليه أن يجعل في كل مسافة قصر مفتياً . ومسافة العدوى ، هي التي يرجع منها مبكر إلي موضعه ليلاً ، أي : إذا خرج من بيته في الصباح الباكر رجع إليه في الليل .
أما إذا تعين للقضاء واحد في ناحية ، وذلك بأن لم يصلح غيره ، وجب عليه ، وكان فرض عيه بالنسبة له ، ولزمه طلبه ، إن لم يدع إليه لوجود الحاجة إليه ،ولا يعذر في رفضه لخوف ميل منه ، بل يلزمه ، وتحرز من الميل والجور ، كسائر فروض الأعيان .
هذا ، وإذا عرض القضاء على من يصلح له ليتولاه ، وكان في ناحيته من هو أولي منه وأصلح ، ورضي أن يتولاه جاز له ، وإن كان هناك من هو أولي منه ، ما دام قد دعي إليه من غير طلب منه ، لأن وجود الأفضل لا يمنع تولي المفضول ، ما دام أهلاً له ن وقد ولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عتاب بن أسيد قضاء مكة ، ولم يكن أفضل الصحابة رضي الله عنهم .
طلب القضاء :
يكره طلب القضاء ، إذا كان في الناحية من هو مثله ، أو أفضل منه ، لورود النهي فيه ، والتحذير منه .
روي أبو داود [3578] في الأقضية ، باب : في طلب القضاء والتسرع إليه ، والترمذي [1324] في الأحكام ، باب : ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القاضي ، عن أنس رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من ابتغي القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلي نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكاً يسدده " .
وروي مسلم [1733] في الإمارة ، باب [النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها] عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنه ، قال : دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من بني عمي ، فقال أحد الرجلين : يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل ، وقال الآخر مثل ذلك . فقال : " إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله ، ولا أحداً حرص عليه " .
هذا ولقد استثني علماء الشافعية من هذه الكراهة ثلاث صور ، حكموا باستحباب طلب القضاء فيها :
الأولي : ما إذا كان العالم خاملاً غير مشهور بين الناس ، وكان يرجو في طلبه القضاء نشر العلم ، لتحصل المنفعة بنشره إذا عرف الناس فضله وعلمه ، فيكون لهم به نفع .
الثانية : أن يكون فقيراً محتاجاً إلي الرزق ، فإذا ولي القضاء حصل له كفايته من بيت مال المسلمين ، بسبب هو طاعة ، لما في العدل بين الناس من جزيل الأجر والثواب .
الثالثة : أن تكون الحقوق مضاعة لجور القضاة ، أو عجزهم عن إحقاق الحق ، فيقصد بطلبه القضاء تدارك ذلك .
وقد أخبر الله تبارك وتعالي عن نبيه يوسف عليه السلام أنه طلب الولاية على الأموال ، شفقة على الناس ، وإنصافاً لهم ، لا لحظ نفسه ، ولا لمنفعة تخصه . قال تعالي عنه : ? قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ? ( يوسف : 55) .
أما إذا كان قصده بطلب القضاء الانتقام من الأعداء ، أو التكسب بالارتشاء ، أو المباهاة والاستعلاء ، فإن طلب القضاء ، والحالة هذه حرام ، لكونه وسيلة إلي الظلم ، وفعل الحرام ، وللوسائل حكم المقاصد ، كما هو معروف .
روي الترمذي [1336] في الإحكام ، باب : ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي في الحكم " .
شروط القاضي :
يشترط فيمن يتولي القضاء حتى تصح توليته الشروط التالية :
الإسلام ، فلا يجوز شرعاً تولية الكافر القضاء : قال الله تعالى " ? وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ? (النساء : 141) ولا سبيل أعظم من القضاء ، لأنه ولاية وحكم وسبيل وسلطان على المسلمين .
وكذلك لا يجوز أن يلي القضاء كافر ، ليقضي بين الكفار في ديار المسلمين ، لأن الغرض من القضاء فصل الأحكام بين الناس بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام والكافر جاهل بهما ، وغير مأمون عليهما
التكليف ، أي أن يكون القاضي بالغاً عاقلاً ، فلا يجوز تولية صبي ولا مجنون ، وإن كان جنونه متقطعاً ، لنقص من وجدت فيه هذه الصفات .
ولا يكفي مجرد وجود العقل الذي يتعلق به التكليف ، بل يجب أن يكون القاضي صحيح الفكر ، جيد الفطنة ، بعيداً عن السهو والغفلة ، يتوصل بذكائه إلي وضوح المشكل ، وحل المعضل ، لأن عمله يتطلب كل هذا .
الحرية ، فلا يولي القضاء رقيق ، كله أو بعضه ، لفقدان ولايته أو نقصها .
الذكورة ، فلا يجوز أن تتولي امرأة القضاء مهما كانت كفاءتها .
روي البخاري [4163] في المغازي ، باب : كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي كسري وقيصر ، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة "
ولأن القضاء يتطلب الاجتماع بالرجال ، وفي اجتماع الرجال بالنساء لا تؤمن الفتنة .
وأيضاً في تولي النساء القضاء صرف لهن عن مهمتهن الأصلية ، وهي القيام بشؤون البيت والأولاد ، وكذلك يشترط للقضاء القوة والسطوة حتى لا يطمع الناس بجانب القاضي ، والمرأة قد يعوزها هذا الجانب .
العدالة ، فلا يولي فاسق القضاء ، لأنه لا يوق بقوله ، ولا يؤمن الجور في حكمه .
قال الله عز وجل : ? َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ? ( الحجرات : 6 ) .
والعدالة تعني :
تجنب الكبائر من الذنوب والكبائر : كل ما ورد فيه وعيد شديد في كتاب الله تعال أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ودل ارتكابه على تهاون في الدين : كشرف الخمر ، والتعامل بالربا .
وان يكون غير مصر على القليل من الصغائر ، والصغائر : هي ما لم ينطبق عليه تعريف الكبيرة : كالنظر المحرم ، وهجر المسلم فوق ثلاث ، ونحوهما .
وأن يكون سليم السريرة ، أي العقيدة محافظاً على مروءة مثله ، لأن من لا مروءة له لا حياء له ، ومن لا حياء له قال ما شاء . ومروءة مثله : أن يتخلق بأخلاق أمثاله من أبناء عصره ممن يراعون مناهج الشرع وآدابه في الزمان والمكان ، ويرجع في هذا غالباً إلي العرف .
وأن يكون مأموناً غير متهم من أن يتخذ منصبه لجر منفعة لنفسه أو دفع مصرة عنها من وجه شرعي .
هذا وقد قال علماء الشافعية : إنه لا يولي القضاء مبتدع ترد شهادته ، ولا من ينكر حجية الإجماع ، ولا من ينكر العمل بخبر الآحاد ، ولا من ينكر الاجتهاد المتضمن إنكاره إنكار القياس .
السمع ، ولو بصياح في أذنه ، فلا يجوز أن يتولي القضاء أصم لا يسمع أصلاً ، لأنه لا يمكنه والحالة هذه أن يفرق بين إقرار الخصوم وإنكارهم .
البصر ، فلا يولي أعمي قد فقد البصر كلياً ، ولا من يري الأشباح ، ولا يعرف الصور ، لأن الأعمى لا يستطيع أن يميز بين الخصوم ، ولا يعرف الطالب من المطلوب ، وهو إن ميز بين الناس فإنما يميز بينهم بالصوت ، والصوت قد يشتبه عليه .
أما ما قيل من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولي عبدالله بن أم مكتوم على المدينة ،وهو أعمي ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يوله الحكم والقضاء وإنما استخلفه ليؤم الناس في الصلاة .
النطق ، فلا يجوز تولية الأخرس ، وإن فهمت إشارته ، لعجزه عن تنفيذ الأحكام .
الكفاية للقيام بأمور القضاء ، فلا يولي مغفل مختل نظر ، بسبب كبر أو مرض .
وفسر بعض العلماء الكفاية اللائقة بالقضاء بأن يكون في القاضي قوة على تنفيذ الحق بنفسه ، فلا يكون ضعيف النفس جباناً ، فإن كثيراً من الناس يكون عالماً ديناً ، ونفسه ضعيفة عن التنفيذ والإلزام والسطوة فيطمع بعض الناس في جانبه بسبب ذلك .
قال ابن عبد السلام رحمه الله تعالى : للولاية شرطان : العلم بأحكامها ، والقدرة على تحصيل مصالحها وترك مفاسدها . فإذا فقد الشرطان حرمت الولاية .
روي مسلم [1826] في الإمارة ، باب : كراهة الإمارة بغير ضرورة، عن أبي ذر رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين ما يتيم " .
وروي مسلم أيضاً [1825] في نفس الكتاب والباب السابقين عن أبي ذر رضي الله عنه قال ك قلت : يا رسول الله ، ألا تستعملني ؟ قال : فضرب بيده على منكبي ، ثم قال : " يا أبا ذر إنك ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها وأدي الذي عليه فيها " .
الاجتهاد ، فلا يولي القضاء الجاهل بالأحكام الشرعية ، ولا المقلد فيها ، وهو من حفظ مذهب إمامه ، لكونه غير عارف بغوامضه ، وقاصر عن تقرير أدلته ، ولأن المقلد لا يصلح للفتوي ، فعدم صلاحيته للقضاء أولي .
والمجتهد هو من يعرف من الكتاب والسنة ما يتعلق بالأحكام ما يتعلق الأحكام ، ولا يشترط حفظ تلك الأدلة عن ظهر قلب ، بل يكفي ان يعرف مظانها في أبوابها ، فيراجعها وقت الحاجة ، ويعرف خاص الأدلة وعامها ، ومجملها ومبينها ، وناسخها ومنسوخها ، ومتواتر السنة وآحادها ، والمتصل والمرسل ، وحال الرواة قوة وضعفاً ، ويعرف لسان العرب لغة ونحواً ، وما لا بد منه في فهم الكتاب والسنة ، لأنه لسان الشرع الذي نزل به الكتاب ، ونطقت به السنة . ويعرف أقوال العلماء من الصحابة ومن بعدهم إجماعاً واختلافاً ، ويعرف القياس بأنواعه .
هذا في المجتهد المطلق ، أما المجتهد المقيد ، فيشترط فيه معرفة مذهب إمامه .
والأصل في هذا الشرط ـ الاجتهاد ـ ما رواه أبو داود [3573] في الأقضية ، باب : القاضي يخطيء ، عن بريدة بن الخصيب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " القضاة ثلاثة : واحد في الجنة ، واثنان في النار ، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضي به ، ورجل عرف الحق فجار في الحكم ، فهو في النار ، ورجل قضي للناس على جهل فهو في النار " .
ويدل على هذا الشرط أيضاً ما رواه البخاري [6919] في الاعتصام بالكتاب والسنة باب : أجر الحاكم إذا الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ، ومسلم [1716] في الأقضية : باب : بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب ، أو أخطأ ، ومسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ،قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ن وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر " .
فقد دل هذا الحديث على أن القاضي الذي يصح أن يحكم بين الناس ، ويمضي حكمه هو الذي لديه أهلية الاجتهاد ولا تتوفر تلك الأهلية إلا إذ تحقق الشرط السابق الذي ذكرناه بكل تفصيلاته .
قال الإمام النووي رحمه الله تعالي في " شرحه على مسلم " [12/13] " ( قال العلماء : أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم ، فإن أصاب فله أجران : أجر باجتهاده ، وأجر بإصابته ، وإن أخطأ فله أجر اجتهاده ، فأما من ليس بأهل الحكم ، فا يحل له الحكم ، فإن حكم فلا أجر له ن بل هو آثم ، ولا ينفذ حكمه ، سواء وافق الحق أم لا ، لأن إصابته اتفاقية ـ أي عن غير قصد ـ وليست صادرة عن أصل شرعي ، فهو عاص في جميع أحكامه ، سواء وافق الصواب أم لا ، وهي مردودة كلها ، ولا يعذر في شيء من ذلك ، وقد جاء في السنن : القضاة ثلاثة ) ... ثم ساق حديث أبي داود السابق ز
فإن تعذر في رجل جمع تلك الشروط السابقة في القاضي ، فولي سلطان له شوكة قاضياً مسلماً فاسقاً أو مقلداً ، نفذ قضاؤه للضرورة ، لئلا تتعطل مصالح الناس .
وواجب الإمام أن يبحث عن حال القاضي قبل توليته ، ويسأله ليعرف أهليته للقضاء ، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما ولي معاذ بن جبل رضي الله عنه قضاء اليمن . فقال له : " كيف تقضي إذا عرض لك قضاءٌ "؟ قال : أقضي بكتاب الله قال " فإن لم تجد في كتاب الله " ؟ قال " أقضي بسنة رسول الله . قال : " فإن لم تجد في سنة رسول الله "؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو . قال : فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره ، وقال : " الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله " . ( رواه ابو داود [3592] في الاقضية ، باب : اجتهاد الرأي في القضاء ، والترمذي [1327] في الأحكام ، باب : ما جاء في القاضي كيف يقضي ) .
فإذا ولي الإمام من لا يصلح للقضاء مع وجود الصالح له والعلم بالحال أثم المولي والمولي ، ولا ينفذ قضاؤه وإن أصاب فيه .
ما يستحب أن يكون عليه القاضي من الصفات :
ويندب أن يكون من يتولي القضاء من قريش ، ومراعاة العلم والتقي أولي من مراعاة النسب ، وأن يكون ذا حلم وتثبت ولين وفطنة ويقظة ، وصحة حواس وأعضاء ، وأن يكون عارفاً بلغة البلد الذي يقضي لأهله ، قنوعاً سليماً من الشحناء ، صدوقاً وافر العقل ذا وقار وسكينة .
قال مزاحم بن زافر : قال لنا عمر بن عبدالعزيز : خمس إذا أخطأ القاضي منهن خطة كانت فيه وصمة : أن يكون فهماً حليماً عفيفاً صليباً عالماً سؤولاً عن العلم . ( رواه البخاري في الأحكام ، باب : متي يستوجب الرجل القضاء ) لأن هذه الصفات تزيده بصيرة في القضاء ،ومحبة من العامة وثقة في نفوس الناس .
ثبوت تولية القاضي :
إذا نصب الإمام قاضياً ثبتت توليته بشهادة شاهدين يخرجان معه إلي محل ولايته يخبران بتنصيبه قاضياً ، وكذلك تثبت توليته باستفاضة خبر تعينه ، واشتهار تنصيبه . ويسن أن يكتب له الإمام كتاباً بالتولية ، إتباعا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد كتب لعمرو بن حزم لما بعثه إلي اليمن كتاباً ،وهو ابن سبع عشرة سنة ، رواه مالك في الموطأ [1545] في كتاب العقول . وكتب أبو بكر رضي الله عنه كتاباً لأنس لما بعثه إلي البحرين ، وختمه بخاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( رواه البخاري [1318] في الزكاة ، باب : العرض في الزكاة ) .
ويستحب أن يكتب إليه في كتاب التولية ما يحتاج إلي القيام به ، ويعظه فيه ويوصيه بتقوى الله تعالى ، ومشاورة أهل العلم ، وتفقد الشهود ، وغير ذلك وإنما لم يكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ رضي الله عنه ، لما أرسله إلي اليمن ، لبيان الجواز وعدم الوجوب .
ولا شك أن ولاية القاضي تثبت اليوم بالطرق المتبعة لدي الحكومات ، من إصدار قرار بتوظيفه ونشره في الصحف وتسليمه نسخة منه .
وتبدأ وظيفته ويستحق الأجر على عمله من حين مباشرته مهام عمله ويسن للقاضي أن يدخل بلد قضائه يوم الاثنين ، فإن تعذر ، فالخميس ، فإن تعذر فالسبت للإتباع في ذلك .
كما يسن له أيضا أن يبحث عن علماء البلد الذي عين فيه ، وعن عدوله قبل دخوله إليه ، ليدخل على بصيرة بحال من فيه من الناس .
وظيفة القاضي :
وظيفة القاضي كبيرة ، وكثيرة الجوانب والواجبات ، فهو يقضي في فصل الخصومات بين الناس بالحكم ، أو بالإصلاح عن تراض ، والحبس والتعزيز وإقامة الحدود ، وتزويج من لا ولي لها ، والولاية على مال الصغار والمجانين والسفهاء ، وبيع التركة للدين وحفظ مال الغائب ، وبيع مال لا يتعين تاركه وحفظ ثمنه ، او صرفه في المصالح ، والنظر في الوقف وإيصال غلته إلي مصارفه والنظر في الوصايا ، والمنع من التعدي بالأبنية ، ونصب المفتين والمحتبسين ، واخذ الزكاة وقسمة التركات ، ونصب الأئمة في المساجد ، وغير ذلك مما هو داخل في اختصاصه .
وواجب القاضي أن يحكم في كل ما ذكر وغيره بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما أجمع عليه المسلمون ، ويقيس الأمور بعضها على بعض ، فيحكم بأقربها إلي الحق ، ويبذل جهده في معرفة حكم الله تعالى في كل قضية ومستند ذلك حديث معاذ رضي الله عنه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً إلي اليمن ، فقال : كيف تقضي ؟ فقال أقضي بما في كتاب الله ، قال : فإن لم يكن في كتاب الله ؟ قال فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فإن لم يكن في سنة رسول الله ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره ، وقال : " الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " . ( رواه أبو داود [3592، 3593] في الأقضية ، باب : اجتهاد الرأي في القضاء ، والترمذي [1327،1328] في الأحكام باب : ما جاء في القاضي كيف يقضي ) .
وروي النسائي [8/320] في القضاء ، باب : الحكم باتفاق أهل العلم ، عن عبد الرحمن بن زيد ، قال : أكثروا على عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ذات يوم ن فقال عبدالله : إنه آتي علينا زمان ، ولسنا نقضي ، ولسنا هنالك ، ثم إن الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون ، فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم ، فليقض بما في كتاب الله فإن جاء أمر ليس في كتاب فليقض بما في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فإن جاء أمراً ليس في كتاب الله ولا قضي به نبيه - صلى الله عليه وسلم - فليقض بما قضي به الصالحون ، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ، ولا قضي به نبيه ولا قضي به الصالحون فليجتهد رايه ن ولا يقل : إني أخاف ، فالحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور متشابهات ، فدع ما يريبك إلي ما لا يريبك .
وروي النسائي أيضا [8/231] في القضاء باب : الحكم باتفاق أهل العلم ، عن عبدالرحمن بن زيد قال : أكثروا على عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ذات يوم ، فقال عبدالله : إنه قد أتي علينا زمان ، ولسنا نقضي ، ولسنا هنالك ، ثم إن الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون ، فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم ،فليقض بما في كتاب الله فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ، فإن جاء أمر ليس في كتاب ، فليقض بما في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولا قضي به نبيه - صلى الله عليه وسلم - فليقض بما قضي به الصالحون فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ، ولا قضي به نبيه ، ولا قضي به الصالحون فليجتهد رأيه ، ولا يقل : إني أخاف فالحلال بين والحرام بين ، وبين ذلك أمور متشابهات فدع ما يريبك إلي ما لا يريبك .
وروي النسائي أيضا [8/231] في القضاء باب : الحكم باتفاق أهل العلم عن شُريح أنه كتب إلي عمر رضي الله عنه يسأله ، فكتب إليه : ( أن اقض بما في كتاب الله ، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن في كتاب الله تعالي ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقض بما قضي به الصالحون فإن لم يكن في كتاب الله تعالى ، ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقض به الصالحون ، فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ولا أري التأخر إلا خيراً لك والسلام )
[فتقدم : أي اقض . باجتهادك . فتأخر : توقف لتراجعني وتري رأيي ]
والأحاديث واضحة في أن القاضي يلتزم في قضائه بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ، وما أجمع عليه علماء المسلمين ، ثم يعم رأيه بعد ذلك لاستخراج الحكم الصحيح والوصول إلي الحق الواضح .
مكان جلوس القاضي ونزوله :
ويستحب للقاضي أن ينزل وسط البلد إذا ما وصل إليه ، ليتساوي أهله في القرب إليه ، ويسهل عليهم الرجوع إليه ، إذا كان هناك متسع لذلك ، وإلا نزل حيث تيسر له ، هذا إذا لم يكن في البلد موضع معين لنزول القاضي ،والجلوس فيه .
كما يسن للقاضي أن يدخل البلد نهاراًَ ويقصد الجامع فيصلي فيه ركعتين ، ثم يذهب إلي مكان عمله ، ويرسل منادياً ينادي : من كانت له حاجة فإن القاضي قد حضر ، فينظر بعدئذ ما يرفع إليه من الأمور ، وبهذا يكون قد أخذ في العمل واستحق رزقه .
فيم ينظر القاضي أولاً ؟
ـ ينظر القاضي أولاً في أمر المسجونين ، لأن الحبس والسجن عذاب ، فينظر في أمرهم هل يستحقون السجن ، أو لا ؟
وكيفية النظر في أمر المسجونين أن يعلم الناس أنه ينظر في أمرهم يوم كذا ، وقد كان قديماً يرسل منادياً ينادي في البلد : الا إن القاضي فلاناً ينظر في أمر المسجونين يوم كذا ، فمن كان له محبوس فليحضر .
فمن قال من أهل الحبس : حبست بحق ، أو ثبت له أنه حبس حق ، فعل به ما يقتضي ذلك الحق ، فإن كان الحق حداً أقامه عليه ، وأطلق سراحه ، وإن كان تعزيزاً فعل به ما يري ، وإن كان مالاً أمره بأدائه .
ومن قال حُبست ظلماً طلب من خصمه الحجة ، فإن لم يقم الحجة صدق المحبوس بيمينه وأطلق سراحه .
ـ ثم ينظر في حال الأوصياء على الأطفال ، والمجانين والسفهاء ، لأنهم يتصرفون في حق من لا يملك المطالبة ماله ، فكان تقديمهم أولي مما بعدهم فمن وجده منهم عدلاً قوياً اقره ، ومن وجده فاسقاً أخذ المال منه وجوباً ووضعه عند غيره ومن وجده عدلاً ضعيفاً عضده وقواه بمعين .
ـ ثم يبحث عن أمناء القاضي المنصوبين على الأطفال وتفرقة الوصايا فيعزل من فسق منهم ، وبعين الضعيف بآخر .
ـ ثم يبحث عن الأوقاف العامة وعن متوليها ، وعن الأوقاف الخاصة أيضا .
ـ ويرتب بعد هذا أموره ، ويقدم من القضايا الأهم فالأهم ، والقاضي بعد هذا مؤتمن على مصالح الناس وحقوقهم على أن يبذل جهده ، ويقوم بمهام عمله على وجه السرعة ، والعدل وليحذر من الإهمال والتسويف والظلم والتساهل في حقوق الناس ومصالحهم . روي الترمذي [1330] في الأحكام ، باب : ما جاء في الإمام العادل ، عن عبدالله بن أبي أوفي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله مع القاضي ما لم يجر ، فإذا جار تخلي عنه ولزمه الشيطان " .
وروي البخاري [6731] في الأحكام ، باب : من استرعي رعية فلم ينصح ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من عبد يسترعيه الله رعية ، فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة " .
اتخاذ القاضي مزكيين :
ويتخذ القاضي ندباً مزكيين ، ليعرفاه حال من يجهل من الشهود ، لأنه لا يمكنه البحث عنهم بنفسه ، فاحتاج إلي من يعاونه في ذلك ويشترط في المزكي :
أن يكون عارفاً بالجرح والتعديل ، لئلا يجرح العدل ، ويزكي الفاسق .
معرفة ماضي من يزكيه بصحبة أو جوار أو معاملة .
كما يشترط في المزكي أيضاً أن يكون مسلماً عاقلاً بالغاً عدلاً ، حتى يورث قوله طمأنينة ، ويوثق بقوله وتزكيته .
اتخاذ كاتب :
ويسن للقاضي أن يتخذ كاتباً ، لوجود الحاجة إليه إذ القاضي مشغول بالحكم والاجتهاد ، والكتابة تشغله عن ذلك ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاب يكتبون له ن وربما زادوا على الأربعين .
شروط الكاتب :
ويشترط في الكاتب أن يكون :
مسلماً عدلاً حراً ذكراً ، لتؤمن خيانته ، ويوثق بكتابته ، إذ قد يغفل القاضي أو يشغل عن قراءة ما يكتبه .
عارفاً بكتابة المحاضر : هي ما يكتب فيها ما جري للمتحاكمين في المجلس والسجلات ، : وهي ما كتب فيها الحكم وتنفيذه زيادة على ما كتب في المحاضر .
ما يستحب في الكاتب :
ويستحب أن يكون الكاتب :
فقيهاً ، لئلا يؤتي من قبل جهله .
موفور العقل ، لئلا يخدع ويدلس عليه .
جيد الخط ، لئلا يقع في الغلط والالتباس . قال على رضي الله عنه : الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً .
حاسباً ، للحاجة لذلك في قسمة المواريث ، وتوزيع الوصايا .
فصيحاً عالماً بلغات المتخاصمين .
وينبغي للقاضي أن يجعل الكاتب بين يديه ليملي عليه ما يريد ، ويري ما يكتبه ، فيكون على علم به .
اتخاذ مترجم :
ويندب للقاضي أن يتخذ مترجماً يفسر له لغة المتخاصمين ، لأن القاضي قد لا يعرف لغاتهم ، فيحتاج إلي من يطلعه على ذلك .
قال خارجه بن زيد بن ثابت : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يتعلم كتاب اليهود حتى كتبت للنبي - صلى الله عليه وسلم - كتبه ، وأقرأته كتبهم إذا كتبوا . وقال أبو جمرة : كنت أترجم بين ابن عباس رضي الله عنه ، وبين الناس . ( رواه البخاري في الأحكام ، باب : ترجمة الحكام ) .
شروط المترجم :
ويشترط في المترجم : الإسلام والحرية ، والعدالة ، ليحصل الاطمئنان لما يقول .
اتخاذ درة وسجن :
ويتخذ القاضي درة للتأديب ، اقتداء بعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقد كان يتخذ درة ، وقيل هو أو من اتخذها .
قال الشعبي رحمه الله تعالي : كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج . ويتخذ سجناً أيضاً ، لأداء حق الله ، أو حق الناس ، أو لتعزيز من يستحق ذلك ، لأن عمر رضي الله عنه اشترى داراً بمكة بأربعة آلاف درهم ، وجعلها سجناً .رواه البيهقي . وفي البخاري : بأربع مائة [2/853] في الخصومات ، باب : الربط والحبس في الحرم .
مجلس القاضي :
ويستحب أن يكون مجلس القاضي فسيحاً ، لأن الضيق يتأذي منه الخصوم ، وأن يكون بارزاً ظاهراً ليعرفه من أراده من مستوطن وغريب ، مصوناً من أذي حر وبرد ، لائقاً بالوقت والقضاء ، فيجلس في كل فصل من الصيف والشتاء بما يناسبه ، كيلا يتأذي القاضي والخصوم .
كراهة الجلوس للقضاء في المسجد :
يكره للقاضي أن يجلس للقضاء في المسجد صوناً له عن الصياح واللغط والخصومات ، إذ مجلس القاضي لا يخلو غالباً من ذلك ، على أنه قد يحتاج أن يحضر مجلس القضاء من ليس لهم أن يمكثوا في المسجد ، كالحيض ، ومن لا يليق دخولهم بالمسجد : كالصغار والمجانين والكفار .
ومن الأدب أن يجلس القاضي على مكان مرتفع كمنصة ليسهل عليه النظر إلي الناس ، وأن يستقبل القبلة ، لأنها اشرف الجهات ، وأن يدعو عقب جلوسه بالتوفيق والتسديد ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج من بيته قال : " بسم الله توكلت على الله ، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل ، أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي " . ( رواه الترمذي [3423] في الدعوات ، باب : التعوذ من أن نجهل أو يجهل علينا ، وغيره ، عن أم سلمه رضي الله عنها ) .
كراهة اتخاذ الحاجب ، وجواز اتخاذ المحضر :
الحاجب : هو البواب الذي يحجب الناس عن القاضي ، ويمنعهم من الدخول إليه في وقت جلوسه للحكم ، فيكره للقاضي ان يتخذ هذا الحاجب ، بل يترك بابه مفتوحاً للمراجعين ، إلا أن يكون هناك ازدحام على بابه ، فلا مانع أن يقف هذا البواب لينظم دخول الناس على القاضي .
روي أبو داود [2948] في الخراج والإمارة ،باب : فيما يلزم الإمام من أمر الرعية ، عن أبي مريم رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين ، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة " .
وروي الترمذي [1332،1333] في الأحكام ، باب : ما جاء في إمام الرعية ، عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله أبوب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته " .
أما المحضر ، فهو الذي يرتب الخصوم ، وينادي عليهم ، وكان يسمي النقيب ، فلا بأس أن يتخذه القاضي لوجود الحاجة إليه .
مشاورة الفقهاء :
ويندب للقاضي عند اختلاف وجهات النظر ، وتعارض الأدلة في الحكم أن يشاور أهل الفقه والبصر بالدين ، لقول الله عز وجل : ? وشاورهم في الأمر ? ( سورة آل عمران :519)
التسوية بين الخصوم :
ويسوي القاضي وجوباً بين الخصمين في أمور ثلاثة :
في الدخول عليه ، فلا يجوز أن يقوم لأحدهما ، ولا يقوم للآخر ، لأن ذلك ينافي العدل ، ويكسر قلب من لم يقم له ، فإما أن يقوم لهما ، أو لا يقوم لأحد .
في الاستماع لهما ، وطلاقة الوجه معهما ، ورد السلام عليهما ، وذلك لتحقيق العدل معهما ، ولئلا ينكسر قلب أحدهما ، إذا ما خص أحدهما بلفظ أو لحظ لم يعامل الثاني منهما بمثله .
وفي المجلس بين يديه ، وذلك بأن يجلسهما أمامه ، وبين يديه ، أو أحدهما عن يمينه ، والآخر عن شماله ، ليطيب بذلك قلبهما ، ويعدل بينهما.
والأصل في هذا ما رواه الدارقطني [4/205] عن أم سلمه رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من ابتلي بالقضاء بين الناس فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ، ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين ، مالا يعرفه على الأخر"
وروي أبو داود [3588] في الأقضية : باب كيف يجلس الخصمان بين يدي القاضي ، عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنه قال : قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الخصمين يقعدان بين يدي الحكم .
هذا ولا يجوز للقاضي أن يسال المدعى عليه ، إلا بعد فراغ المدعي من بيان دعواه ، ولا يحلف المدعي عليه إلا بعد أن يطلب المدعي من القاضي أن يحلفه لأن استيفاء اليمين من المدعي عليه حق للمدعي فيتوقف على إذنه وطلبه ، ولا يلقن خصماً حجة ، ولا يفهمه كلاماً يعرف به كيفية الدعوى أو الجواب ، أو كيف ينكر أو يقر ، لما في ذلك من إظهار الميل له والإضرار بخصمه ، وهذا حرام ، ولا يتعنت بالشهداء فيشق عليهم ، ولا يؤذيهم بالقول ونحوه ، كأن يهزأ بهم أو يعارضهم في أقوالهم ، لأن مثل هذا ينفر من الشهادة وتحملها وأدائها ، والناس في حاجة إليها ، قال الله تعالى : ? وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ? ( سورة البقرة : 282) . ولا يقبل الشهادة إلا ممن ثبتت عدالته ، بمعرفة القاضي له ، أو بتزكية عدلين له عنده ، ولا يقبل شهادة عدو على عدوه ، ولا شهادة والد لولده ، ولا ولد لوالده ، وذلك لوجود تهمة التحامل على العدو ، والمحاباة للوالد ، أو الولد ، والأصل في رد مثل هذه الشهادة ما رواه الترمذي [2299] في الشهادات ، باب : فيمن لا تجوز شهادته ، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلا : " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنه ولا زانٍ ولا زانية ولا ذي عمر على أخيه " .
[ الغمر : الحقد والغل والشحناء ]
وروي مالك في الموطأ [ 2/720 ] في الأقضية ، باب : ما جاء في الشهادات ، قال : بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ( لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين )
[ الظنين : المتهم ]
الحالات التي يتجنب فيها القاضي القضاء :
ويتجنب القاضي القضاء في عشرة مواضع : عند الغضب ، والجوع والعطش ، وشدة الشهوة ، والحزن والفرح المفرط ، وعند المرض ، ومدافعة الأخبثين ـ البول والغائط وعند النعاس ، وشدة البرد والحر . ويلحق بهذه الأحوال ما كان مثلها من كل ما يورث اضطراباً في النفس وسواء في الخلق ، وخللاً في الفكر .
والأصل في هذا ما رواه البخاري [6739] في الأحكام ، باب : هل يقضى القاضي أو يفتي وهو غضبان ، ومسلم [1717] في الأقضية ، باب : كراهة قضاء القاضي وهو غضبان ، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ولا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان ] .
والنهي في الحديث محمول على الكراهة فلو قضي في حال منها نفذ حكمه
شراء وبيع القاضي بنفسه :
يندب للقاضي أن لا يشتري ، وأن لا يبيع بنفسه ، لئلا يشتغل قلبه عما هو بصدده ، ولأنه قد يحابي ، فيميل قلبه إلي من يحابيه ، إذا وقع بينه وبين غيره خصومة .
حكم القاضي لنفسه أو شريكه وأصله وفرعه :
لا يجوز للقاضي أن يحكم لنفسه ، ولا ينفذ حكمه في ذلك لوجود التهمة في حكمه ، وخوف الميل لمصلحته .
ولا يحكم أيضاً لشريكه في المال المشترك بينهما ، للتهمة أيضاً ، وخشية الميل والمحاباة .
وكذلك لا يجوز له أن يحكم لأصله ، ولا لفرعه ، ولا ينفذ حكمه لكل منهما ، لاحتمال التهمة والمحاباة .
أما إذا حكم على من ذكرنا سابقاً ، فإنه يجوز حكمه ، وينفذ ، لعدم التهمة في ذلك .
هـ ولا يجوز للقاضي أيضاً أن يحكم على عدون ، لوجود التهمة ، ويجوز أن يحكم له لانتفائها .
وإذا امتنع حكم القاضي لمن ذكرنا سابقاً ، فإنه يحكم لهم الإمام ، أو يحكم لهم قاضٍ آخر ، لانتفاء التهمة في حكمه .
الهدية إلي القاضي :
ـ لا يجوز للقاضي أن يقبل الهدية من الذين يرجعون إليه في حل خصوماتهم والفصل في منازعاتهم ، مهما قلت تلك الهدية ، أو زادت ، وسواء كانوا يهدون إليه قبل ولاية القضاء ، أو لم يكونوا ، وسواء كانوا من محل ولايته ، أو كانوا من غيرها ، لأن قبول مثل هذه الهدايا من أولئك الذين لهم خصومات عنده يدعو إلي الميل والمحاباة غالباً . وقد أمر الدين بسد الذرائع التي قد يفضي الولوج منها إلي محرم .
ـ وكذلك لا يجوز له قبول الهدية من كل شخص لم يعتد أن يهدي إليه قبل ولايته القضاء ، ولو لم يكن له عنده خصومة ، لاحتمال حصول الخصومة في المستقبل ، وليس من عادته أن يهدى إليه قبل الولاية ، فيحمل عمله ذلك على أن سببه القضاء غالباً .
والأصل في هذا ما رواه البخاري [6260] في الإيمان والنذور ، باب : كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومسلم [1832] في الإمارة ، باب : تحريم هدايا العمال ، عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل عاملاً ، فجاءه العامل حين فرغ من عمله ، فقال : يا رسول الله ، هذا لكم وهذا أهدي لي ، فقال له : " أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك ، فنظرت أيهدي لك أم لا ؟! " ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية بعد الصلاة ، فتشهد وأثني على الله بما هو أهله ، ثم قال : " أما بعد فما بال العامل نستعمله ، فيأتينا فيقول : هذا من عملكم ، وهذا أهدى لي ، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر : هل يهدي له أم لا ؟! فو الذي نفس محمد بيده ، لا يغل أحدكم منا شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه : إن كان بعيراً جاء به له رغاء ، وإن كانت بقرة جاء بها لها خوار ، وإن كانت شاة جاء بها تيعر ، قد بلغت " ثم رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه حتى إنا للنظر إلي عُفرة إبطيه .
وفي رواية عند أحمد [5/424] عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " هدايا العمال غُلُولٌ " .
[استعمل : وظفه على جمع الزكاة . لا يغل : من الغلول ، والغلول في الأصل : الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها ، وسميت هدية العامل غولاً ، بجامع أن كلاً منهما فيه خيانة ، وإخلال بالأمانة ، لأن الهدية غالباً ما تحمل العامل على ذلك ولذلك هي حرام كالغلول . رغاء : صوت الإبل . خوار : صوت البقر تيعر : من اليعار وهو صوت الغنم والمعز عُفرة إبطيه : باطنهما ، من شدة رفعه ليديه ، والعفرة في الأصل : بياض يخالطه لون كلون التراب ، وكذلك لون باطن الإبط ]
هذا كله إذا كانت الهدية للقاضي ممن له عنده خصومة ، أو قضية ينظر فيها أو ممن لم تسبق له عادة في إهدائه قبل توليته القضاء ، فإن كانت ممن له عادة في إهدائه وليس له خصومة عنده ، جاز له قبولها ، إن لم يزد فيها عن القدر المعتاد ، كماً وكيفاً ، فإن زاد فيها نظر ، فإن كانت الزيادة لها أثر ظاهر لم تقبل ، وإلا قبلت ومما ينبغي الانتباه إليه : هو أن الكلام في الهدية إذا لم يكن هناك قصد ظاهر ، فإن كانت بقصد أن يحكم بغير الحق ، أو ليمتنع من الحكم بالحق ، فهي رشوة ، وهي من الكبائر ، ويأثم القاضي بقبولها ، كما يأثم الباذل لها والساعي في شأنها .
روي الترمذي [2336] في الأحكام ، باب : ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم ، وأبو داود [3580] في الأقضية ، باب : في كراهية الرشوة ، عن ابي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن الراشي والمرتشي في الحكم . وعند أحمد [5/279] عن ثويان رضي الله عنه ، قال : لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي ، والرائش بينهما .
[ الرائش : الذي يمشي بين الراشي والمرتشي ] .
ملك الهدية :
إذا قبل القاضي الهدية ، في الصور المحرمة التي مر ذكرها ، فإنه لا يملكها ، ويجب عليه ردها إلي صحابها ، فإن تعذر ردها إلي صاحبها وضعها في بيت مال المسلمين ، لأنها كسب غير مشروع ، فلا يملكها .
حضور الولائم :
لا يجوز للقاضي حضور وليمة أحد الخصمين ، حال الخصومة ، ولا يقبل ضيافة أحد منهما ولو كانا في غير محل ولايته ، لخوف الميل والمحاباة .
ويجوز له حضور وليمة غير المتخاصمين ، إذا جرت عادته قبل الولاية ، لعدم التهمة في ذلك .
ويندب له إجابة دعوة غير المتخاصمين ، ولو من غير عادة ، إذا كانت وليمة عامة ، كوليمة العرس ، والختان ، وقد عمم صاحبها الدعوة ، لانتفاء التهمة في ذلك ، ولأن فيها تطيب قلوب أصحاب الدعوة ، شريطة أن لا يشغله ذلك عن أعمال القضاء .
يجوز للقاضي عيادة المريض ، وشهود الجنائز ، لأن في ذلك قربة ، ولا تهمة فيه .
رجوع القاضي عن الاجتهاد الذي قضى به ، وما يترتب عليه :
إذا قضي القاضي في قضية من القضايا ، ثم تغير اجتهاده فيها ، فهل ينقض الحكم الأول ، أم ينفذ حكمه على ما قضاه ، ويكون رجوعه سارياً فيما يجد من القضايا والأحكام ؟
في الإجابة على ذلك تفصيل نذكره فيما يلي :
إذا حكم القاضي باجتهاده ، ثم بان له أن حكمه كان خلاف نص الكتاب أو خلاف السنة المتواترة أو الآحاد الصحيحة ، أو كان خلاف الإجماع ، أو القياس الجلي ، وهو ما يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع ، نقول : إذا كان حكمه خلاف أصل من هذه الأصول ، وجب نقضه من قبل القاضي نفسه ، أو من قبل غيره .
ويترتب على ذلك رد ما قضى به ، وإعادته إلي ما يوافق الكتاب والسنة ، أو الإجماع والقياس ، وتصحيح الآثار التي ترتبت على ذلك الحكم . ودليل ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد " . ( أخرجه البخاري [2550] في البيوع ، باب : النجش ، تعليقاً ووصله في الصلح باب : إذا اصطلحوا علي صلح جور فالصلح مرود ، ومسلم [1718] في الاقضية ، باب : نقض الأحكام الباطلة ، ورواه غيرهما عن عائشة رضي الله عنها ) .
والأمثلة على ذلك كثيرة في أقضية الصحابة ومن بعدهم ، منها :
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفاضل بين الأصابع في الدية ، لتفاوت منافعها ، حتى روي له الخبر في التسوية بينها ، فنقض حكمه ، ورجع عنه . رواه الخطابي في "المعالم " .
المسلمين ، بسبب ما قد بدر من دلائل الخيانة في صفوفهم .
ويستدل على ما ذكرنا بقول الله عز وجل : { َمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } ( سورة التوبة : 7 ) ، وقلوه تبارك وتعالي : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ } ( سورة الأنفال : 58 ) .
[ فانبذ إليهم على سواء : أي اطرح إليهم عهدهم على علم منك ومنهم ] .
فإذا أعلمهم ببوادر خيانتهم ، وطرح لهم عهدهم حل للمسلمين قتالهم على الشكل الذي أرشدهم الله عز وجل إليه . قال الله تعالي :? {الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }( الأنفال 56-57)
[ تثقفنهم : تجدنهم وتدركنهم . فشرد بهم من خلفهم : فرق بهم من خلفهم من المحاربين بالتنكيل بهم والعقوبة لهم ]
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على سواء " . ( رواه الترمذي [1580] في السير ، باب : ما جاء في الغدر ، وأبو داود [2759] في الجهاد باب : في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه ) .
ب- يجب على المسلمين الوفاء كل شرط تحملوه للطرف الآخر ، إلا شرطاً أحل حراماً ، أو حرم حلالاً ، فلا يجوز الوفاء به ، بل لا يجوز إقحامه في عقد الهدنة
مثال الشروط الصحيحة التي يجب الوفاء بها : أن يشترط العدو على المسلمين إيواء من يصل إليهم من المرتدين الذين كانوا عندنا مسلمين ، أو نرد إليهم من جاءنا مسلماً منهم لأن سهيل بن عمرو شرط ذلك على المسلمين في صلح الحديبية فوافقه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ، وقد سبق تخريج حديث صلح الحديبية .
ومثال الشروط الباطلة : أن يشترطوا على المسلمين إعادة النساء المسلمات اللائي يأتين إلينا من قبلهم ، لأن الله عز وجل ، نهى عن ذلك بقوله : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ? ( سورة الممتحنة : 10).
ج- عقد الهدنة يصبح عقداً لازماً بعد وجوده مستوفي الشروط والأركان فلا يجوز للمسلمين نقضه بدون موجب إلي أن تنتهي المدة المضروبة له .
ثانياً : الآثار والالتزامات المترتبة على إعطاء الأمان :
وهذه الالتزامات نُجملها فيما يلي :
يجب على المسلمين جميعاً كف الأذى عمن أعطي الأمان ، بقطع النظر ـ كما قلنا ـ عن الشخص الذي أجاره وأعطاه الأمان ، ودون تفريق بين كونه ذكراً أو أنثي ، بشرط أن يكون مسلماً ، إلا إذا علم أنه عين للكافرين علينا ، أو غلب على الظن ذلك فيلغي أمانه .
ب - إذا انتهت مدة الأمان ، أو أراد المستأمن أن يخرج عن جوار المسلمين قبل انتهائها ، وجب على الحاكم أن يبلغه مأمنه ، أي المكان الذي يطمئن فيه من العدوان على حياته وماله ، ويستطيع أن يأخذ فيه حذره من أي شر قد يصيبه ، وذلك لصريح قول الله تعالي : ? َإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ? ( سورة التوبة : 6 ) .
ج - إذا أصبح الكافر الحربي مستأمناً في جوار المسلمين ، كان ذلك بمثابة العقد اللازم ، فليس لمن أجاره وأمنه أن يعود ، فكيف عن ذلك بدافع ندم ، أو نحوه ما لم يصدر من المستأمن ما يستدعي إلغاء جواره .
الباب الثالث
الفتوة وأحكامها
المسابقة
تعريف المسابقة :
المسابقة لغة : مفاعلهس من السبق ،وهو التقدم على الغير ، والمسابقة أيضاً : اختبار يجري لأشخاص للحصول على عمل ينتقي أفضلهم .
والمقصود بالمسابقة هنا أن يتباري اثنان فأكثر في ركض الدواب التي تصلح للكر والفر : كالخيل والإبل ، على أن تكون من نوع واحد .
والسبق : اسم للمال الذي يرصد للمسابقة .
حكم المسابقة ودليل مشروعيتها :
المسابقة سنة موروثة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وعمل مشروع ، والأصل الأول في مشروعيتها واستحبابها : قول الله تبارك وتعالى : ? وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُون? ( سورة الأنفال : 60 ) .
وخبر ابن عمر رضي الله عنه : " وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سابق الخيل التي قد ضمرت ، من الحيفاء إلي ثنية الوداع ، وبين الخيل التي لم تضمر ، من الثنية إلي مسجد بني زريق " . ( رواه البخاري [410] في المساجد ، باب : هل يقال مسجد بني فلان ، ومسلم [1870] في الإمارة ، باب : المسابقة بين الخيل وتضميرها ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ) .
[أضمرت ، وضمرت : سمنت أولاً ، ثم قلل علفها وأدخلت مكاناً وجللت حتى يكثر عرقها ويجف فيذهب رهلها ويقوي لحمها ويشتد . الحيفاء : موضع قرب المدينة . الثنية : ثنية الوداع في المدينة ] .
هذا إذا قصد بالمسابقة التأهب للجهاد ، وإعداد القوة له ، أما إذا قصد بها الفخر والخيلاء كانت حراماً ، لأن الأمور بمقاصدها ، أما إذا لم يقصد بها هذا ولا ذاك فهي مباحة ولأنها من الرياضيات المفيدة للجسم ، والمقوية للشكيمة .
أنواع المسابقة :
للمسابقة صور مختلفة ، بعضها مشروع وبعضها محرم ، ونحن نستعرض أولاً هذه الصور كلها ، ثم نوضح المحرم والمشروع منها :
الصورة الأولي : أن يتسابق الطرفان ، ويقرر مال معين للسابق منهما ، على أن يكون الدفع من الحاكم ، أو من شخص آخر ، خارج عن الاشتراك في عملية السباق ، بأن يقول هذا الشخص : من سبق منكما فله مني كذا .. ، ويجوز أن يقوم بالتسابق أكثر من اثنين .
الصورة الثانية : أن يلتزم أحد المتسابقين دفع المال لزميله إن هو سبقه ، ولا يلتزم زميله شيئاً عن هو سبق ، بأن يقول الأول : أن سبقتني فلك على كذا ، أو سبقتك ، فلا شيء لي عليك .
الصورة الثالثة : أن يلتزم كل منهما دفع مبلغ من المال لمن سبقه ، فأيهما تخلف يلتزم بإعطاء المبلغ المتفق عليه للسابق .
الصورة الرابعة : كالصورة الثالثة ، على أن يضاف إليهما محلل ، وهو عنصر ثالث مسابق ، فرسه كفء لفرسيهما . فإن سبقهما أخذ المالين من كل منهما ، وإن سبقاه ، وجاءا معاً ، فلا شيء لأحد على الآخر ، لأن المتراهنين وصلا معاً ، ولأن المحلل لم يلتزم شيئاً عن التخلف ، وإن وصل المحلل مع أحدهما أولاً ، وتخلف الثاني عنهما ، فمال الأول منهما مع المحلل يبقي له ، ومال المتأخر منهما يوزع بالتساوي بين المحلل والذي وصل معه .
بيان الجائز والمحرم من هذه الأنواع :
إذا تصورت هذه الأنواع من المسابقة ، وأدركت الفرق بينها ، فأعلم أن صورة واحدة منها هي المحرمة ، لها حكم الميسر ، وهو القمار ، وهي الصورة الثالثة ، أما الصور : الأولي والثانية والرابعة فهي مشروعة لا مانع منها .
وإنما سمي العنصر الثالث في الصورة الرابعة محللاً ، لأنه إذا دخل في الصورة الثالثة مشتركاً بالشكل الذي ذكرناه حولها من الحرمة إلي الحل . فالصورة الرابعة هي عين الثالثة مضافاً إليها هذا المحلل .
شروط المسابقة :
وأيا كانت صورة المسابقة ، فلا بد فيها من توفر شروط معينة ، نلخصها فيما يلي :
الشرط الأول : علم المتسابقين بالمنطلق الذي يبدؤون منه الجري ، وبالغاية التي يتوقف الجري عندها ، ولا بد أن يكون المبدأ والمنتهي للجميع واحداً .
الشرط الثاني : تعيين الأفراس ، أو الإبل مثلاً ، فإذا تعينت وعرفت ، لم يجز استبدال فرس بأخر ، فإن استبدل أحدهم بفرسه غيره فسدت المسابقة .
الشرط الثالث : أن تكون الأفراس بحالة يمكن معها السبق والتخلف ، فإن كان فيها ضعيف يقطع العقل بتخلفه ، أو فاره يجزم العقل بتقدمه لم يجز السباق .
الشرط الرابع : أن يعلم الكل مبلغ المال المشروط للسابق الأول ، والثاني ، وهكذا . فلو كان فيهم من لم يعلم بالمال ، أو كميته لم يصح السباق .
الشرط الخامس : أن يكون المال من يد أجنبي غير مشتركة بالسباق ، بأن يكون من الدولة ، أو من أحد الأثرياء مثلاً ، فإن كان من أحد المشتركين جاز بشرط أن لا يلزم الآخرون بالدفع عند تخلفهم ، فإن ألزموا بذلك كان لابد من أن يشترك معهما أو معهم عنصر محلل ، ينسق بينهم المال بالطريقة التي شرحناها .
أثر دخول عنصر المال في السباق :
مما ذكرنا يتبين لك أن دخول عنصر المال في السباق لا يمنع مشروعيته ولا يؤثر فيه بأي فساد ، بل هو مما يرغب فيه ، لتحقيق المزيد من التشجيع .
إلا أن عنصر المال يفسد السباق في حكم الشريعة الإسلامية ، عندما يكون أخذاً وعطاءً من الطرفين ، بأن يقال : السابق منكما يأخذ ، والمتخلف منكما يدفع . وسبب الفساد أن عنصر المال بهذه الصورة يأخذ ، والمتخلف منكما يدفع .
وسبب الفساد أن عنصر المال بهذه الصورة يأخذ محور الميسر تماماً ، وقد حرمه الله تعالي بصريح تبيانه قال عز وجل : ? ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ? ( سورة المائدة : 90) .
[ الخمر : كل مسكر . الميسر : القمار . الأنصاب : الأصنام . الأزلام : قداح الاستقسام ، التي كانوا يطلبون معرفة ما هو مقسوم لهم بواسطتها . رجس : خبيث مستقذر ] .
ما تجوز به المسابقة :
وتجوز المسابقة بكل الدواب التي تصلح للحرب والكر والفر ، مثل الخيل والبغال والجمال ، وما لا يصلح شيء منها لذلك ، فلا تجوز المسابقة به كالبقر ، والطيور وغيرها .
ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا سبق إلا في خف ، او حافر ، أو نصل " ( رواه أبو داود [2574] في الجهاد ، باب : في السبق ، والترمذي [700] في الجهاد ، باب : ما جاء في الرهان والسبق ) .
[ خف : أي ذي خف ، والمراد الإبل . حافر : أي ذي حافر ، والمراد الخيل وما يلحق بها . نصل : القسم الذي يخرج من السيف والرمح والسهم ونحوها والمراد الرمي بها ]
وقد كانت هذه هي آلة الحرب وعدته يومها ، فيلحق بها كل ما كان كذلك حسب الزمان والمكان ، مما يصلح في الحرب ، ويستعمل في نكاية العدو .
المناضلة بالسهام والأسلحة المختلفة
تعريف المناضلة :
المناضلة : مفاعلة ، من النضل ، وهو الرمي ، وتناضل القوم : تراموا لتظهر مهارة كل منهم في الرمي ، وهي والمكافحة والمقاومة بمعني واحد .
والنضال بالسهام أو السلاح ، يراد به استعمالها على الوجه الصحيح في نضال الأعداء .
والمناضلة شرعاً : تنافس متشاركين فأكثر على البراعة في استعمال السلاح ، ورمي الهدف على مال بشروط معينة .
حكم المناضلة ، ودليله :
المناضلة سنة ، كما قلنا في المسابقة ، مادام الغرض منها الإعداد للجهاد ، ومقارعة الأعداء ، فإذا كان الغرض منها المفاخرة ، أو العدوان على الأبرياء انقلبت إلي معصية عملاً بالقاعدة : الأمور بمقاصدها . ويستدل على مشروعية المناضلة ، والترغيب فيها ، بقول الله عز وجل : ? َأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ? ( سورة الأنفال : 60) .
فقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - القوة في الآية بالرمي ، فقال : " ألا إن القوة الرمي " ( رواه مسلم [1917] في كتاب الإمارة ، باب : فضل الرمي والحث عليه ، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه ) .
وروي البخاري [2743] في الجهاد ، باب : التحريض على الرمي ، عن سلمة بن الأكوع رض الله عنه قال : مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفر من أسلم ينتضلون ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " ارموا بني إسماعيل ، فإن أباكم كان رامياً ، ارموا وأنا مع بني فلان " ، قا : فأمسك أحد الفريقين بأيديهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما لكم لا ترمون " ؟ قالوا : كيف نرمي وأنت معهم ؟ قال " ارموا ، فأنا معكم كلكم " .
وروي أبو داود [2574] والترمذي [1700] وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل " .وقد سبق تخريج الحديث في المسابقة .
فأما الخف والحافر ، فكناية عن البعير والفرس ، وأما النصل ، فكناية عن السهام ، وما يدخل في حكمها من الأسلحة الأخرى المختلفة .
أنواع المناضلة :
تتنوع المناضلة بالسلاح ، كما تنوعت المسابقة على الخيل ، إلي الصور الأربعة المذكورة .
وتبطل منها هنا الصورة الثالثة أيضاً ، وهي أن يتراهن المتناضلان كل منهما يدفع المال للأول في الإصابة ، فهي قمار باطل ، وهي من الميسر الذي نهي الله عنه وسماه رجساً .
شروط المناضلة :
يشترط في المناضلة مراعاة الأمور التالية :
أولاً : إذا كان النضال بالسهام ونحوها ، فإنه يشترط أن يبين المتناضلان كون الرمي المطلوب مجرد قرع للهدف ، أو خرقاً ، فإن أطلقا ، ولم يبينا صحت المناضلة على الوجه الصحيح ، وحمل الرمي المطلوب على القرع .
ثانياً : يشترط اتحاد جنس السلاح من بندقية وغيرها ، فلا تصح المناضلة ببندقيتين مختلفتي الجنس ولو رضي الطرفان بذلك .
ثالثاً : يشترط تعيين الرماة والهدف المطلوب تعييناً دقيقاً ، وتعيين الموقف الذي يلتزمونه ، وتعيين عدد الرشقات .
رابعاً : العلم بالمال وقدره ، ووجود محلل إن كانت المناضلة من النوع الثالث المحرم الذي مر ذكره في المسابقة .
مالا تجوز المناضلة فيه :
اعلم أن القاعدة العامة فيما تجوز فيه المناضلة ( أي المناضلة على مال ) كل أداة نافعة في الحرب ، فكل ما لم يكن له فائدة أو شأن في الحرب لا تجوز المناضلة به على مال .
فلا تجوز المناضلة على الكرة بأشكالها وأنواعها المختلفة ، ولا علي سباحة ولعب شطرنج ، ووقوف على رجل واحدة مثلاً ، والسباق الزوارق الصغيرة التي لا شأن لها بالحرب .
ذلك لأن شيئاً من هذه الألعاب لا تفيد بالحرب ، فهي وإن كانت جائزة ، بل منها ما هو مستحب ومندوب إليه كالسباحة ، إلا أنه لا يجوز النضال بها على مال .
عقد المسابقة والمناضلة عقد لازم :
إذا تم التعاقد على مسابقة أو مناضلة على مال مشروط ، بالنحو الذي ذكرناه ، فإن العقد يصبح عندئذ لازماً في حق من التزم العوض ، فليس له أن يفسخه أو أن يترك العمل .
ومعني العقد اللازم أنه لا يملك طرف واحد فسخه إلا بموافقة الآخر ، كالبيع والإجارة .
فإن لم تقم المسابقة والمناضلة على مال مشروط ، فهي عقد جائز كل من الطرفين أن يستقل بفسخه .
الباب الرابع
أصْنَاف اللّهو الجَائِزةَ والمحرمَة
أصناف اللهو الجائزة والمحرمة
معني اللهو :
اللهو : هو كل ما يشغل الإنسان عن المزعجات ، والأفكار ، والمؤرقات المختلفة ، دون أن تكون له حقيقة ثابتة ، كاللعب ، وأحاديث الفكاهة والأسمار ، والغناء ونحو ذلك .
أصناف اللهو :
ثم أن اللهو ، إما أن ينقضي دون أن يترك وراءه أثراً من نفع أو ضرر ، إلا أنه يشغل الفكر عن الجد في الأمور ، والمهمات من الشؤون ، وإما أن يترك ـ علاوة على ذلك ـ أثراً ضاراً في النفس : كأن يتعود على الدعة والانصراف عن القيام بواجبات الحياة ، وعزائم الأمور ، وإما أن يترك أثراً مفيداً فيها : كأن يعودها على بعض أعمال الخير ، ويسهل عليها اقتحام بعض الشدائد .
فاللهو إذا يتفرع حسب ما ذكرنا إلي ثلاثة أصناف .
حكم كل صنف من هذه الأصناف :
ـ أما الصنف الأول : وهو ما لا يترك أثراً في الحياة نافعاً أو ضاراً ، فهو مكروه : كالاسترسال في المجالس التي يشيع فيها المزاح والفكاهات التي لا فائدة منها ، بحيث ينقضي الوقت فيها دون فائدة .
ـ وأما الصنف الثاني : وهو ما يعقب أثاراً ضارة في النفس والمجتمع ، فهو محرم ، ولا يجوز تعاطيه مقاله : الصنف الأول ذاته ، إذا زاد استرسال الإنسان فيه ، بحيث أصبح يفوت عليه واجباته ، من عبادات مفروضة ، أو سعي من أجل المعيشة ، أو يوجد في طبيعة سيئة : كالكذب ، والتهاون في علاقاته الأخلاقية مع الناس .
ومثاله أيضاً : مجالس الغناء المقرونة بالمعازف والآلات المحرمة ، أو المقرونة بنساء ، أو غلمان .
- وأما الصنف الثالث : وهو ما أعقب فائدة للنفس والمجتمع ، فهو مباح وقد يسمو إلي درجة الاستحباب ، حسب مدي أهمية الفائدة الناجمة عنه .
مثاله : ما ذكرناه من السباق والرمي ، والألعاب المفيدة للحرب ولغيرها مما يعتد به في ميزان الحكم الإنساني .
تطبيق هذه الأحكام على مزيد من الأمثلة :
أولاً : الألعاب الهادئة الشائعة بين الناس ، كالشطرنج ، والنرد ، وما يسمى بالشدة ، أي الورق ، ونحوها وهذه الألعاب تقوم أحكامها على أساس القاعدة التالية :
كل ما كان من هذه الألعاب قائماً على التفكير والتدبير والنظر في العواقب ، فهو جائز ، ثم هو يدور بين الإباحة والكراهة حسب مدى انصراف اللاعب إليها ، وانشغاله بها . من هذه الألعاب الشطرنج ، فهو قائم على تشغيل الذهن ، وتحريك العقل والفكر . ولا ريب أنه لا يخلو عن فائدة للذهن والعقل ، فإن عكف عليه زيادة عما تقتضيه هذه الفائدة ، فهو مكروه ، فإن زاد عكوفه حتى فوت بسببه بعض الواجبات عاد محرماً .
وكل ما كان قائماً على المصادفة ، وإغماض الفكر والعقل ، كالنرد ، والورق ، ونحوهما فهو محرم ، وذلك لأن مثل هذه الألعاب يعود النفس على الركون إلي معني المصادفة في تقلبات الأحوال والأمور ، ويجعل العقل يتخيل المصادفة هي العامل الأول في الكون وحركته ، فهو من اللهو الذي يترك أثراً ضاراً في النفس .
ثانياً : اللهو بالحيوانات : كتحريش الديكة على بعضها ، ودفع المواشي إلي التناطح وكالذي يسمي اليوم بمصارعة الثيران، فهو محرم ، قولاً واحداً ، لما يترك من الآثار الضارة على حياة البهائم أو الإنسان .
ثالثاً : المصارعة ، وهي كما تعلم أصناف كثيرة :
فكل ما لم يعقب أثراً ضاراًَ في الجسم ، وكان من شأنه أن يعود الإنسان على القوة ، وفنون القتال ، والدفاع عن النفس ، فهو مباح ، وربما مستحباً ود صارع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركانة وغلبه .
وكل ما كان من شأنه أن يعقب أثراً ضاراً في الجسم ، كجرح أو تهشيم عظم أو تشويه طرف ، فهو محرم : كالمصارعة الحرة ، والملائكة ، ونحوهما ، إلا أن تكون المصارعة على نحو وبوسائل تضمن عدم الإضرار بأحد الطرفين ، فيصبح حكمها حكم النوع الذي قبلها : مباحاً أو مستحباً ، حسب ما بينا .
لا يجوز شيء من اللهو على مال مشروط :
ثم أعلم أن شيئاً من أصناف اللهو واللعب التي ذكرناها ، لا يجوز على المال ، سواء كان من طرف واحد أو طرفين ، أو من أجنبي عنهما . وكل مال يدخل في شيء من اللهو الذي ذكرنا ، فهو من الميسر الذي يحرم تعاطيه ، إلا أن في شرط المال في المصارعة المباحة ، وجهاً عند الشافعية ، فهي ـ على هذا الوجه ـ تتبع السباق والرمي اللذين مضي حكمهما .
دليل هذا الوجه : ما رواه أو داود في مراسليه : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صارع ركانة ، إذ كان مشركاً ، على شياه " . والصحيح في المذهب أنه لا يجوز شرط المال في شيء غير السباق والرمي ، من أصناف اللعب واللهو المباحة ، وإن كان مصارعة .
أما الاستدلال بحديث أبي داود ، فيجاب عنه بما يلي :
أولاً : الحديث ضعيف لكونه مرسلاً .
ثانياً : على فرض صحته فإنما كان ذلك قبل إسلام ركانة . ولتلك الحالة شأن آخر ، والدليل على ذلك أن ركانة لما أسلم بعد ذلك أعاد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - الشياه .
البَاب الخامس
القًضَاء
القضاء
تعريف القضاء :
القضاء في اللغة له معانٍ عدة ، منها :
الحكم ، يقال : قضى قضاء : أي حكم حكماً . ومنه قول الله تبارك وتعالى : ? وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً? ( الإسراء : 32 ) أي : حكم .
الفراغ والانتهاء من الشيء ، يقال : قضى حاجته إذا فرغ منها . ومن ذلك قوله تبارك وتعالى : ? فوكزه موسى فقضي عليه ? ( القصص : 15) أي : قتله وفرغ منه . [ وكزه : ضربه بجمع كفه ] .
الأداء والانتهاء ، يقال : قضى دينه إذا أداه ، وأنهي ما عليه قال تعالى : ? وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ? ( الحجر : 66 ) . [ أي أدينا إليه ، وأنهينا إلي عمله . دابر هؤلاء : آخرهم . مقطوع مصبحين : مستأصل في الصباح] .
الصنع والتقدير ، يقال : هذا شيء قضاه : أي صنعه . وعليه قول الله تبارك وتعالي : ? فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ? ( فصلت : 12 )
[ أي صنعهن وقدرهن وسواهن ] .
والقضاء شرعاً : فصل الخصومة بين اثنين فأكثر بحكم الله عز وجل .
فالقضاء إذاً هو الحكم بين الناس ، وتسوية الخلاف بينهم . بإعادة الحقوق إلي أصحابها.
وسمي القضاء حكماً لما فيه من الحكمة التي هي وضع الشيء في محله فهو يكف الظالم عن ظلمه وينصف المظلوم من ظالمه .
مشروعية القضاء :
القضاء مشروع في الإسلام ومطلوب ، ويدل على مشروعيته الكتاب ، والسنة والإجماع ،والعقل .
أما الكتاب الكريم فآيات ، منها :
قول الله عز وجل : ? وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ? ( المائدة : 49) .
وقوله تبارك وتعالي : ? وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ? ( النساء : 58)
وقوله سبحانه وتعالي : ? إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً? ( النساء : 105) .
[خصيماً : مخاصماً ومدافعاً عنهم ] .
وأما السنة المطهرة فأحاديث كثيرة منها :
ما رواه أبو داود [3582] في الأقضية ، باب : كيف القضاء ، عن على بن أبي طالب رضي الله عنه ،قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلي اليمن قاضياً ، فقلت يا رسول الله ، ترسلني وأنا حدث السن ، ولا علم لي بالقضاء ؟ فقال : " إن الله سيهدي قلبك ، ويثبت لسانك ، فإذا جلس بين يديك الخصمان ، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر ، كما سمعت من الأول ، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء " قال : فما زلت قاضياً ، أو ما شككت في قضاء بعد .
[ حديث السن : صغير السن . أحرى : أجدر و أعون ]
ومنها أيضاً : ما رواه البخاري [6919] في الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب : أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ، ومسلم [1716] في الأقضية ، باب : بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر " .
[اجتهد : بذل وسعه للتعرف على القضية ، ومعرفة الحق فيها . أصاب : وافق الواقع في حكمه . أخطأ : لم يصب الحق في حكمه ] .
أما الإجماع ، فهو منعقد على مشروعية القضاء ، وعلى فعله ، سلفاً وخلفاً لم يخالف في ذلك أحد ، وقد استقضي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده من الخلفاء إلي يومنا هذا من غير نكير من أحد .
وأما العقل ، فهو قاض بمشروعية القضاء وضرورته ، فطبائع البشر مختلفة ، والتظالم ومنع الحقوق واقع منهم ، وقل من ينصف من نفسه ، ولا يقدر الإمام أن يتولي فصل الخصومة بين كل الناس بنفسه ، فلذلك كانت الحاجة ماسة إلي تشريع القضاء ، ونصب القضاة ، ليحكموا بين الناس ، ويفصلوا في الخصومات .
حكمة تشريع القضاء :
وحكمة تشريع القضاء ، وجود الحاجة إليه ، وقيام المصالح به ، فالإنسان اجتماعي بطبعه ، وليس قادراً أن يعيش وحده ، بل لا بد أن يعيش مع الناس لينال حاجاته الضرورية ، بالتعاون معهم ، وإذا كان التعامل مع الناس ، والتعاون معهم أمراً ضرورياً ، كان لاجرم أنه ستقوم بين الناس خصومات ومنازعات بسبب تعارض مصالحهم ، وتضارب أهوائهم ، وطغيان بعضهم على بعض ،ومن هنا نشأت الحاجة إلي القضاء ، وكان لابد من قاض يرجع إليه الناس عند الاختلاف والنزاع ، والإسلام دين الفطرة السوية يدعو إلي رعايتها ، والمحافظة على نظافتها وحسن سيرها . قال تعالى : ? فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ? ( الروم:30) .
[أقم وجهك للدين : ألزمه ولا تحد عنه . حنيفاً : مائلاً إليه .فطرة الله خلقته . القيم : المستقيم ] .
أهمية منصب القضاء :
القضاء منصب عظيم تدعو إليه الحاجة ، وله مكانة عظيمة بين شرائع الإسلام ، وهو وظيفة الأنبياء والخلفاء والعلماء ،قال الله تبارك وتعالى لنبيه داود عليه السلام: ? َا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ? ( ص : 26 ) .
فمن ولي هذا المنصب فعدل وبر كان في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله .
وقد ولي هذا المنصب رجال عظام من سلف هذه الأمة ، أمثال عمر وعلى ومعاذ وأبي موسى الأشعري ، وشريح وأبي يوسف ، رضي الله عنهم جمعياً ، وضربوا أروع الأمثلة في العدل والورع والعلم والذكاء .
روي أبو داود [3592] في الأقضية ، باب : اجتهاد الرأي في القضاء ، والترمذي [1327] في الأحكام ، باب : ما جاء في القاضي كيف يقضي ، عن معاذاً إلي اليمن ، قال له : " كيف تقضي إذا عرض له قضاءٌ ؟ " قال " أقضي بكتاب الله . قال " فإن لم تجد في كتاب الله ؟ " قال أقضي بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال " فإن لم تجد في سنة رسول الله ؟" قال : أجتهد رأيي ، ولا آلُوا قال : فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره ، وقال : " الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يرضي رسول الله " .
[اجتهد رأيي : أبذل طاقتي ووسعي في طلب الحق والتعرف عليه . ولا آلوا : ولا أقصر في طلب الحق والبحث عنه ] .
خطورة منصب القضاء :
مع أهمية منصب القضاء ، فإنه منصب خطر في نفسه ، وفيه مسالك وعرة ، ومزالق صعبة ، والناجي فيه قليل ،والهالك كثير ، والمعصوم من عصمة الله تعالي .
روي أبو داود [3573] في الأقضية ، باب : في القاضي يخطيء ، عن بريدة بن الخصيب رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " القضاة ثلاثة : واحدٌ في الجنة واثنان في النار ، فأما الذي في الجنة ، فرجل عرف الحق وقضي به ، ورجل عرف الحق فجار في الحكم ، فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار " .
وروي أبو داود [ 3571] في الأقضية باب : في طلب القضاء ، والترمذي [1325] في الأحكام ، باب : ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القاضي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من جعل قاضياً بين الناس ، فقد ذبح بغير سكين "
[ذبح بغير سكين : المراد به : التحرز من طلب القضاء ، والإشفاق منه ]
وقال الله عز وجل : ? وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً? (الجن : 15)
[ القاسطون : الجائرون في حكمهم ] .
لذلك خشي هذا المنصب كثير من الصحابة والعلماء ، ,أعرضوا عنه ، خشية التقصير فيه .
حكم تولي القضاء :
وجود قاض في كل ناحية ، يقضي ين المتخاصمين ويرفع التظالم بينهم ، فرض كفاية في حق الصالحين له . أما كونه فرضاً ، فلوجود الأمر به في كتاب الله عز وجل . قال تبارك وتعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ? (النساء : 135) .
[قوامين : دائمي القيام . بالقسط : بالعدل ] .
وأما كونه فرض كفاية فلأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهما من فروض الكفاية .
وقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً رضي الله عنه قاضياً إلي اليمن ، كما ولي معاذ بن جبل أيضاً قضاء اليمن ، واستخلف عليه الصلاة والسلام عتاب بن أسيد على مكة والياً وقاضياً ، وقد بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسي الأشعري إلي البصرة قاضياً .
فلو كان القضاء فرض عين على كل من يصلح له لم يكف قاض واحد في كل ناحية .
فإذا قام بهذا الفرض من يصلح له سقط الفرض عن الباقين ، وإن امتنعوا ولم يقم به أحد أثموا جميعاً ، ووجب على الإمام أن يجبر أحد الصالحين للقضاء على تولي هذا المنصب ، والقيام بهذا الفرض .
لذلك قال علماء الشافعية : يجب على الإمام أن يولي في كل مسافة عدوي قاضياً ، كما يجب عليه أن يجعل في كل مسافة قصر مفتياً . ومسافة العدوى ، هي التي يرجع منها مبكر إلي موضعه ليلاً ، أي : إذا خرج من بيته في الصباح الباكر رجع إليه في الليل .
أما إذا تعين للقضاء واحد في ناحية ، وذلك بأن لم يصلح غيره ، وجب عليه ، وكان فرض عيه بالنسبة له ، ولزمه طلبه ، إن لم يدع إليه لوجود الحاجة إليه ،ولا يعذر في رفضه لخوف ميل منه ، بل يلزمه ، وتحرز من الميل والجور ، كسائر فروض الأعيان .
هذا ، وإذا عرض القضاء على من يصلح له ليتولاه ، وكان في ناحيته من هو أولي منه وأصلح ، ورضي أن يتولاه جاز له ، وإن كان هناك من هو أولي منه ، ما دام قد دعي إليه من غير طلب منه ، لأن وجود الأفضل لا يمنع تولي المفضول ، ما دام أهلاً له ن وقد ولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عتاب بن أسيد قضاء مكة ، ولم يكن أفضل الصحابة رضي الله عنهم .
طلب القضاء :
يكره طلب القضاء ، إذا كان في الناحية من هو مثله ، أو أفضل منه ، لورود النهي فيه ، والتحذير منه .
روي أبو داود [3578] في الأقضية ، باب : في طلب القضاء والتسرع إليه ، والترمذي [1324] في الأحكام ، باب : ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القاضي ، عن أنس رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من ابتغي القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلي نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكاً يسدده " .
وروي مسلم [1733] في الإمارة ، باب [النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها] عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنه ، قال : دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من بني عمي ، فقال أحد الرجلين : يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل ، وقال الآخر مثل ذلك . فقال : " إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله ، ولا أحداً حرص عليه " .
هذا ولقد استثني علماء الشافعية من هذه الكراهة ثلاث صور ، حكموا باستحباب طلب القضاء فيها :
الأولي : ما إذا كان العالم خاملاً غير مشهور بين الناس ، وكان يرجو في طلبه القضاء نشر العلم ، لتحصل المنفعة بنشره إذا عرف الناس فضله وعلمه ، فيكون لهم به نفع .
الثانية : أن يكون فقيراً محتاجاً إلي الرزق ، فإذا ولي القضاء حصل له كفايته من بيت مال المسلمين ، بسبب هو طاعة ، لما في العدل بين الناس من جزيل الأجر والثواب .
الثالثة : أن تكون الحقوق مضاعة لجور القضاة ، أو عجزهم عن إحقاق الحق ، فيقصد بطلبه القضاء تدارك ذلك .
وقد أخبر الله تبارك وتعالي عن نبيه يوسف عليه السلام أنه طلب الولاية على الأموال ، شفقة على الناس ، وإنصافاً لهم ، لا لحظ نفسه ، ولا لمنفعة تخصه . قال تعالي عنه : ? قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ? ( يوسف : 55) .
أما إذا كان قصده بطلب القضاء الانتقام من الأعداء ، أو التكسب بالارتشاء ، أو المباهاة والاستعلاء ، فإن طلب القضاء ، والحالة هذه حرام ، لكونه وسيلة إلي الظلم ، وفعل الحرام ، وللوسائل حكم المقاصد ، كما هو معروف .
روي الترمذي [1336] في الإحكام ، باب : ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي في الحكم " .
شروط القاضي :
يشترط فيمن يتولي القضاء حتى تصح توليته الشروط التالية :
الإسلام ، فلا يجوز شرعاً تولية الكافر القضاء : قال الله تعالى " ? وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ? (النساء : 141) ولا سبيل أعظم من القضاء ، لأنه ولاية وحكم وسبيل وسلطان على المسلمين .
وكذلك لا يجوز أن يلي القضاء كافر ، ليقضي بين الكفار في ديار المسلمين ، لأن الغرض من القضاء فصل الأحكام بين الناس بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام والكافر جاهل بهما ، وغير مأمون عليهما
التكليف ، أي أن يكون القاضي بالغاً عاقلاً ، فلا يجوز تولية صبي ولا مجنون ، وإن كان جنونه متقطعاً ، لنقص من وجدت فيه هذه الصفات .
ولا يكفي مجرد وجود العقل الذي يتعلق به التكليف ، بل يجب أن يكون القاضي صحيح الفكر ، جيد الفطنة ، بعيداً عن السهو والغفلة ، يتوصل بذكائه إلي وضوح المشكل ، وحل المعضل ، لأن عمله يتطلب كل هذا .
الحرية ، فلا يولي القضاء رقيق ، كله أو بعضه ، لفقدان ولايته أو نقصها .
الذكورة ، فلا يجوز أن تتولي امرأة القضاء مهما كانت كفاءتها .
روي البخاري [4163] في المغازي ، باب : كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي كسري وقيصر ، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة "
ولأن القضاء يتطلب الاجتماع بالرجال ، وفي اجتماع الرجال بالنساء لا تؤمن الفتنة .
وأيضاً في تولي النساء القضاء صرف لهن عن مهمتهن الأصلية ، وهي القيام بشؤون البيت والأولاد ، وكذلك يشترط للقضاء القوة والسطوة حتى لا يطمع الناس بجانب القاضي ، والمرأة قد يعوزها هذا الجانب .
العدالة ، فلا يولي فاسق القضاء ، لأنه لا يوق بقوله ، ولا يؤمن الجور في حكمه .
قال الله عز وجل : ? َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ? ( الحجرات : 6 ) .
والعدالة تعني :
تجنب الكبائر من الذنوب والكبائر : كل ما ورد فيه وعيد شديد في كتاب الله تعال أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ودل ارتكابه على تهاون في الدين : كشرف الخمر ، والتعامل بالربا .
وان يكون غير مصر على القليل من الصغائر ، والصغائر : هي ما لم ينطبق عليه تعريف الكبيرة : كالنظر المحرم ، وهجر المسلم فوق ثلاث ، ونحوهما .
وأن يكون سليم السريرة ، أي العقيدة محافظاً على مروءة مثله ، لأن من لا مروءة له لا حياء له ، ومن لا حياء له قال ما شاء . ومروءة مثله : أن يتخلق بأخلاق أمثاله من أبناء عصره ممن يراعون مناهج الشرع وآدابه في الزمان والمكان ، ويرجع في هذا غالباً إلي العرف .
وأن يكون مأموناً غير متهم من أن يتخذ منصبه لجر منفعة لنفسه أو دفع مصرة عنها من وجه شرعي .
هذا وقد قال علماء الشافعية : إنه لا يولي القضاء مبتدع ترد شهادته ، ولا من ينكر حجية الإجماع ، ولا من ينكر العمل بخبر الآحاد ، ولا من ينكر الاجتهاد المتضمن إنكاره إنكار القياس .
السمع ، ولو بصياح في أذنه ، فلا يجوز أن يتولي القضاء أصم لا يسمع أصلاً ، لأنه لا يمكنه والحالة هذه أن يفرق بين إقرار الخصوم وإنكارهم .
البصر ، فلا يولي أعمي قد فقد البصر كلياً ، ولا من يري الأشباح ، ولا يعرف الصور ، لأن الأعمى لا يستطيع أن يميز بين الخصوم ، ولا يعرف الطالب من المطلوب ، وهو إن ميز بين الناس فإنما يميز بينهم بالصوت ، والصوت قد يشتبه عليه .
أما ما قيل من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولي عبدالله بن أم مكتوم على المدينة ،وهو أعمي ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يوله الحكم والقضاء وإنما استخلفه ليؤم الناس في الصلاة .
النطق ، فلا يجوز تولية الأخرس ، وإن فهمت إشارته ، لعجزه عن تنفيذ الأحكام .
الكفاية للقيام بأمور القضاء ، فلا يولي مغفل مختل نظر ، بسبب كبر أو مرض .
وفسر بعض العلماء الكفاية اللائقة بالقضاء بأن يكون في القاضي قوة على تنفيذ الحق بنفسه ، فلا يكون ضعيف النفس جباناً ، فإن كثيراً من الناس يكون عالماً ديناً ، ونفسه ضعيفة عن التنفيذ والإلزام والسطوة فيطمع بعض الناس في جانبه بسبب ذلك .
قال ابن عبد السلام رحمه الله تعالى : للولاية شرطان : العلم بأحكامها ، والقدرة على تحصيل مصالحها وترك مفاسدها . فإذا فقد الشرطان حرمت الولاية .
روي مسلم [1826] في الإمارة ، باب : كراهة الإمارة بغير ضرورة، عن أبي ذر رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين ما يتيم " .
وروي مسلم أيضاً [1825] في نفس الكتاب والباب السابقين عن أبي ذر رضي الله عنه قال ك قلت : يا رسول الله ، ألا تستعملني ؟ قال : فضرب بيده على منكبي ، ثم قال : " يا أبا ذر إنك ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها وأدي الذي عليه فيها " .
الاجتهاد ، فلا يولي القضاء الجاهل بالأحكام الشرعية ، ولا المقلد فيها ، وهو من حفظ مذهب إمامه ، لكونه غير عارف بغوامضه ، وقاصر عن تقرير أدلته ، ولأن المقلد لا يصلح للفتوي ، فعدم صلاحيته للقضاء أولي .
والمجتهد هو من يعرف من الكتاب والسنة ما يتعلق بالأحكام ما يتعلق الأحكام ، ولا يشترط حفظ تلك الأدلة عن ظهر قلب ، بل يكفي ان يعرف مظانها في أبوابها ، فيراجعها وقت الحاجة ، ويعرف خاص الأدلة وعامها ، ومجملها ومبينها ، وناسخها ومنسوخها ، ومتواتر السنة وآحادها ، والمتصل والمرسل ، وحال الرواة قوة وضعفاً ، ويعرف لسان العرب لغة ونحواً ، وما لا بد منه في فهم الكتاب والسنة ، لأنه لسان الشرع الذي نزل به الكتاب ، ونطقت به السنة . ويعرف أقوال العلماء من الصحابة ومن بعدهم إجماعاً واختلافاً ، ويعرف القياس بأنواعه .
هذا في المجتهد المطلق ، أما المجتهد المقيد ، فيشترط فيه معرفة مذهب إمامه .
والأصل في هذا الشرط ـ الاجتهاد ـ ما رواه أبو داود [3573] في الأقضية ، باب : القاضي يخطيء ، عن بريدة بن الخصيب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " القضاة ثلاثة : واحد في الجنة ، واثنان في النار ، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضي به ، ورجل عرف الحق فجار في الحكم ، فهو في النار ، ورجل قضي للناس على جهل فهو في النار " .
ويدل على هذا الشرط أيضاً ما رواه البخاري [6919] في الاعتصام بالكتاب والسنة باب : أجر الحاكم إذا الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ، ومسلم [1716] في الأقضية : باب : بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب ، أو أخطأ ، ومسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ،قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ن وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر " .
فقد دل هذا الحديث على أن القاضي الذي يصح أن يحكم بين الناس ، ويمضي حكمه هو الذي لديه أهلية الاجتهاد ولا تتوفر تلك الأهلية إلا إذ تحقق الشرط السابق الذي ذكرناه بكل تفصيلاته .
قال الإمام النووي رحمه الله تعالي في " شرحه على مسلم " [12/13] " ( قال العلماء : أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم ، فإن أصاب فله أجران : أجر باجتهاده ، وأجر بإصابته ، وإن أخطأ فله أجر اجتهاده ، فأما من ليس بأهل الحكم ، فا يحل له الحكم ، فإن حكم فلا أجر له ن بل هو آثم ، ولا ينفذ حكمه ، سواء وافق الحق أم لا ، لأن إصابته اتفاقية ـ أي عن غير قصد ـ وليست صادرة عن أصل شرعي ، فهو عاص في جميع أحكامه ، سواء وافق الصواب أم لا ، وهي مردودة كلها ، ولا يعذر في شيء من ذلك ، وقد جاء في السنن : القضاة ثلاثة ) ... ثم ساق حديث أبي داود السابق ز
فإن تعذر في رجل جمع تلك الشروط السابقة في القاضي ، فولي سلطان له شوكة قاضياً مسلماً فاسقاً أو مقلداً ، نفذ قضاؤه للضرورة ، لئلا تتعطل مصالح الناس .
وواجب الإمام أن يبحث عن حال القاضي قبل توليته ، ويسأله ليعرف أهليته للقضاء ، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما ولي معاذ بن جبل رضي الله عنه قضاء اليمن . فقال له : " كيف تقضي إذا عرض لك قضاءٌ "؟ قال : أقضي بكتاب الله قال " فإن لم تجد في كتاب الله " ؟ قال " أقضي بسنة رسول الله . قال : " فإن لم تجد في سنة رسول الله "؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو . قال : فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره ، وقال : " الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله " . ( رواه ابو داود [3592] في الاقضية ، باب : اجتهاد الرأي في القضاء ، والترمذي [1327] في الأحكام ، باب : ما جاء في القاضي كيف يقضي ) .
فإذا ولي الإمام من لا يصلح للقضاء مع وجود الصالح له والعلم بالحال أثم المولي والمولي ، ولا ينفذ قضاؤه وإن أصاب فيه .
ما يستحب أن يكون عليه القاضي من الصفات :
ويندب أن يكون من يتولي القضاء من قريش ، ومراعاة العلم والتقي أولي من مراعاة النسب ، وأن يكون ذا حلم وتثبت ولين وفطنة ويقظة ، وصحة حواس وأعضاء ، وأن يكون عارفاً بلغة البلد الذي يقضي لأهله ، قنوعاً سليماً من الشحناء ، صدوقاً وافر العقل ذا وقار وسكينة .
قال مزاحم بن زافر : قال لنا عمر بن عبدالعزيز : خمس إذا أخطأ القاضي منهن خطة كانت فيه وصمة : أن يكون فهماً حليماً عفيفاً صليباً عالماً سؤولاً عن العلم . ( رواه البخاري في الأحكام ، باب : متي يستوجب الرجل القضاء ) لأن هذه الصفات تزيده بصيرة في القضاء ،ومحبة من العامة وثقة في نفوس الناس .
ثبوت تولية القاضي :
إذا نصب الإمام قاضياً ثبتت توليته بشهادة شاهدين يخرجان معه إلي محل ولايته يخبران بتنصيبه قاضياً ، وكذلك تثبت توليته باستفاضة خبر تعينه ، واشتهار تنصيبه . ويسن أن يكتب له الإمام كتاباً بالتولية ، إتباعا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد كتب لعمرو بن حزم لما بعثه إلي اليمن كتاباً ،وهو ابن سبع عشرة سنة ، رواه مالك في الموطأ [1545] في كتاب العقول . وكتب أبو بكر رضي الله عنه كتاباً لأنس لما بعثه إلي البحرين ، وختمه بخاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( رواه البخاري [1318] في الزكاة ، باب : العرض في الزكاة ) .
ويستحب أن يكتب إليه في كتاب التولية ما يحتاج إلي القيام به ، ويعظه فيه ويوصيه بتقوى الله تعالى ، ومشاورة أهل العلم ، وتفقد الشهود ، وغير ذلك وإنما لم يكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ رضي الله عنه ، لما أرسله إلي اليمن ، لبيان الجواز وعدم الوجوب .
ولا شك أن ولاية القاضي تثبت اليوم بالطرق المتبعة لدي الحكومات ، من إصدار قرار بتوظيفه ونشره في الصحف وتسليمه نسخة منه .
وتبدأ وظيفته ويستحق الأجر على عمله من حين مباشرته مهام عمله ويسن للقاضي أن يدخل بلد قضائه يوم الاثنين ، فإن تعذر ، فالخميس ، فإن تعذر فالسبت للإتباع في ذلك .
كما يسن له أيضا أن يبحث عن علماء البلد الذي عين فيه ، وعن عدوله قبل دخوله إليه ، ليدخل على بصيرة بحال من فيه من الناس .
وظيفة القاضي :
وظيفة القاضي كبيرة ، وكثيرة الجوانب والواجبات ، فهو يقضي في فصل الخصومات بين الناس بالحكم ، أو بالإصلاح عن تراض ، والحبس والتعزيز وإقامة الحدود ، وتزويج من لا ولي لها ، والولاية على مال الصغار والمجانين والسفهاء ، وبيع التركة للدين وحفظ مال الغائب ، وبيع مال لا يتعين تاركه وحفظ ثمنه ، او صرفه في المصالح ، والنظر في الوقف وإيصال غلته إلي مصارفه والنظر في الوصايا ، والمنع من التعدي بالأبنية ، ونصب المفتين والمحتبسين ، واخذ الزكاة وقسمة التركات ، ونصب الأئمة في المساجد ، وغير ذلك مما هو داخل في اختصاصه .
وواجب القاضي أن يحكم في كل ما ذكر وغيره بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما أجمع عليه المسلمون ، ويقيس الأمور بعضها على بعض ، فيحكم بأقربها إلي الحق ، ويبذل جهده في معرفة حكم الله تعالى في كل قضية ومستند ذلك حديث معاذ رضي الله عنه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً إلي اليمن ، فقال : كيف تقضي ؟ فقال أقضي بما في كتاب الله ، قال : فإن لم يكن في كتاب الله ؟ قال فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فإن لم يكن في سنة رسول الله ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره ، وقال : " الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " . ( رواه أبو داود [3592، 3593] في الأقضية ، باب : اجتهاد الرأي في القضاء ، والترمذي [1327،1328] في الأحكام باب : ما جاء في القاضي كيف يقضي ) .
وروي النسائي [8/320] في القضاء ، باب : الحكم باتفاق أهل العلم ، عن عبد الرحمن بن زيد ، قال : أكثروا على عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ذات يوم ن فقال عبدالله : إنه آتي علينا زمان ، ولسنا نقضي ، ولسنا هنالك ، ثم إن الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون ، فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم ، فليقض بما في كتاب الله فإن جاء أمر ليس في كتاب فليقض بما في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فإن جاء أمراً ليس في كتاب الله ولا قضي به نبيه - صلى الله عليه وسلم - فليقض بما قضي به الصالحون ، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ، ولا قضي به نبيه ولا قضي به الصالحون فليجتهد رايه ن ولا يقل : إني أخاف ، فالحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور متشابهات ، فدع ما يريبك إلي ما لا يريبك .
وروي النسائي أيضا [8/231] في القضاء باب : الحكم باتفاق أهل العلم ، عن عبدالرحمن بن زيد قال : أكثروا على عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ذات يوم ، فقال عبدالله : إنه قد أتي علينا زمان ، ولسنا نقضي ، ولسنا هنالك ، ثم إن الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون ، فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم ،فليقض بما في كتاب الله فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ، فإن جاء أمر ليس في كتاب ، فليقض بما في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولا قضي به نبيه - صلى الله عليه وسلم - فليقض بما قضي به الصالحون فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ، ولا قضي به نبيه ، ولا قضي به الصالحون فليجتهد رأيه ، ولا يقل : إني أخاف فالحلال بين والحرام بين ، وبين ذلك أمور متشابهات فدع ما يريبك إلي ما لا يريبك .
وروي النسائي أيضا [8/231] في القضاء باب : الحكم باتفاق أهل العلم عن شُريح أنه كتب إلي عمر رضي الله عنه يسأله ، فكتب إليه : ( أن اقض بما في كتاب الله ، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن في كتاب الله تعالي ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقض بما قضي به الصالحون فإن لم يكن في كتاب الله تعالى ، ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقض به الصالحون ، فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ولا أري التأخر إلا خيراً لك والسلام )
[فتقدم : أي اقض . باجتهادك . فتأخر : توقف لتراجعني وتري رأيي ]
والأحاديث واضحة في أن القاضي يلتزم في قضائه بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ، وما أجمع عليه علماء المسلمين ، ثم يعم رأيه بعد ذلك لاستخراج الحكم الصحيح والوصول إلي الحق الواضح .
مكان جلوس القاضي ونزوله :
ويستحب للقاضي أن ينزل وسط البلد إذا ما وصل إليه ، ليتساوي أهله في القرب إليه ، ويسهل عليهم الرجوع إليه ، إذا كان هناك متسع لذلك ، وإلا نزل حيث تيسر له ، هذا إذا لم يكن في البلد موضع معين لنزول القاضي ،والجلوس فيه .
كما يسن للقاضي أن يدخل البلد نهاراًَ ويقصد الجامع فيصلي فيه ركعتين ، ثم يذهب إلي مكان عمله ، ويرسل منادياً ينادي : من كانت له حاجة فإن القاضي قد حضر ، فينظر بعدئذ ما يرفع إليه من الأمور ، وبهذا يكون قد أخذ في العمل واستحق رزقه .
فيم ينظر القاضي أولاً ؟
ـ ينظر القاضي أولاً في أمر المسجونين ، لأن الحبس والسجن عذاب ، فينظر في أمرهم هل يستحقون السجن ، أو لا ؟
وكيفية النظر في أمر المسجونين أن يعلم الناس أنه ينظر في أمرهم يوم كذا ، وقد كان قديماً يرسل منادياً ينادي في البلد : الا إن القاضي فلاناً ينظر في أمر المسجونين يوم كذا ، فمن كان له محبوس فليحضر .
فمن قال من أهل الحبس : حبست بحق ، أو ثبت له أنه حبس حق ، فعل به ما يقتضي ذلك الحق ، فإن كان الحق حداً أقامه عليه ، وأطلق سراحه ، وإن كان تعزيزاً فعل به ما يري ، وإن كان مالاً أمره بأدائه .
ومن قال حُبست ظلماً طلب من خصمه الحجة ، فإن لم يقم الحجة صدق المحبوس بيمينه وأطلق سراحه .
ـ ثم ينظر في حال الأوصياء على الأطفال ، والمجانين والسفهاء ، لأنهم يتصرفون في حق من لا يملك المطالبة ماله ، فكان تقديمهم أولي مما بعدهم فمن وجده منهم عدلاً قوياً اقره ، ومن وجده فاسقاً أخذ المال منه وجوباً ووضعه عند غيره ومن وجده عدلاً ضعيفاً عضده وقواه بمعين .
ـ ثم يبحث عن أمناء القاضي المنصوبين على الأطفال وتفرقة الوصايا فيعزل من فسق منهم ، وبعين الضعيف بآخر .
ـ ثم يبحث عن الأوقاف العامة وعن متوليها ، وعن الأوقاف الخاصة أيضا .
ـ ويرتب بعد هذا أموره ، ويقدم من القضايا الأهم فالأهم ، والقاضي بعد هذا مؤتمن على مصالح الناس وحقوقهم على أن يبذل جهده ، ويقوم بمهام عمله على وجه السرعة ، والعدل وليحذر من الإهمال والتسويف والظلم والتساهل في حقوق الناس ومصالحهم . روي الترمذي [1330] في الأحكام ، باب : ما جاء في الإمام العادل ، عن عبدالله بن أبي أوفي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله مع القاضي ما لم يجر ، فإذا جار تخلي عنه ولزمه الشيطان " .
وروي البخاري [6731] في الأحكام ، باب : من استرعي رعية فلم ينصح ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من عبد يسترعيه الله رعية ، فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة " .
اتخاذ القاضي مزكيين :
ويتخذ القاضي ندباً مزكيين ، ليعرفاه حال من يجهل من الشهود ، لأنه لا يمكنه البحث عنهم بنفسه ، فاحتاج إلي من يعاونه في ذلك ويشترط في المزكي :
أن يكون عارفاً بالجرح والتعديل ، لئلا يجرح العدل ، ويزكي الفاسق .
معرفة ماضي من يزكيه بصحبة أو جوار أو معاملة .
كما يشترط في المزكي أيضاً أن يكون مسلماً عاقلاً بالغاً عدلاً ، حتى يورث قوله طمأنينة ، ويوثق بقوله وتزكيته .
اتخاذ كاتب :
ويسن للقاضي أن يتخذ كاتباً ، لوجود الحاجة إليه إذ القاضي مشغول بالحكم والاجتهاد ، والكتابة تشغله عن ذلك ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاب يكتبون له ن وربما زادوا على الأربعين .
شروط الكاتب :
ويشترط في الكاتب أن يكون :
مسلماً عدلاً حراً ذكراً ، لتؤمن خيانته ، ويوثق بكتابته ، إذ قد يغفل القاضي أو يشغل عن قراءة ما يكتبه .
عارفاً بكتابة المحاضر : هي ما يكتب فيها ما جري للمتحاكمين في المجلس والسجلات ، : وهي ما كتب فيها الحكم وتنفيذه زيادة على ما كتب في المحاضر .
ما يستحب في الكاتب :
ويستحب أن يكون الكاتب :
فقيهاً ، لئلا يؤتي من قبل جهله .
موفور العقل ، لئلا يخدع ويدلس عليه .
جيد الخط ، لئلا يقع في الغلط والالتباس . قال على رضي الله عنه : الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً .
حاسباً ، للحاجة لذلك في قسمة المواريث ، وتوزيع الوصايا .
فصيحاً عالماً بلغات المتخاصمين .
وينبغي للقاضي أن يجعل الكاتب بين يديه ليملي عليه ما يريد ، ويري ما يكتبه ، فيكون على علم به .
اتخاذ مترجم :
ويندب للقاضي أن يتخذ مترجماً يفسر له لغة المتخاصمين ، لأن القاضي قد لا يعرف لغاتهم ، فيحتاج إلي من يطلعه على ذلك .
قال خارجه بن زيد بن ثابت : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يتعلم كتاب اليهود حتى كتبت للنبي - صلى الله عليه وسلم - كتبه ، وأقرأته كتبهم إذا كتبوا . وقال أبو جمرة : كنت أترجم بين ابن عباس رضي الله عنه ، وبين الناس . ( رواه البخاري في الأحكام ، باب : ترجمة الحكام ) .
شروط المترجم :
ويشترط في المترجم : الإسلام والحرية ، والعدالة ، ليحصل الاطمئنان لما يقول .
اتخاذ درة وسجن :
ويتخذ القاضي درة للتأديب ، اقتداء بعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقد كان يتخذ درة ، وقيل هو أو من اتخذها .
قال الشعبي رحمه الله تعالي : كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج . ويتخذ سجناً أيضاً ، لأداء حق الله ، أو حق الناس ، أو لتعزيز من يستحق ذلك ، لأن عمر رضي الله عنه اشترى داراً بمكة بأربعة آلاف درهم ، وجعلها سجناً .رواه البيهقي . وفي البخاري : بأربع مائة [2/853] في الخصومات ، باب : الربط والحبس في الحرم .
مجلس القاضي :
ويستحب أن يكون مجلس القاضي فسيحاً ، لأن الضيق يتأذي منه الخصوم ، وأن يكون بارزاً ظاهراً ليعرفه من أراده من مستوطن وغريب ، مصوناً من أذي حر وبرد ، لائقاً بالوقت والقضاء ، فيجلس في كل فصل من الصيف والشتاء بما يناسبه ، كيلا يتأذي القاضي والخصوم .
كراهة الجلوس للقضاء في المسجد :
يكره للقاضي أن يجلس للقضاء في المسجد صوناً له عن الصياح واللغط والخصومات ، إذ مجلس القاضي لا يخلو غالباً من ذلك ، على أنه قد يحتاج أن يحضر مجلس القضاء من ليس لهم أن يمكثوا في المسجد ، كالحيض ، ومن لا يليق دخولهم بالمسجد : كالصغار والمجانين والكفار .
ومن الأدب أن يجلس القاضي على مكان مرتفع كمنصة ليسهل عليه النظر إلي الناس ، وأن يستقبل القبلة ، لأنها اشرف الجهات ، وأن يدعو عقب جلوسه بالتوفيق والتسديد ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج من بيته قال : " بسم الله توكلت على الله ، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل ، أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي " . ( رواه الترمذي [3423] في الدعوات ، باب : التعوذ من أن نجهل أو يجهل علينا ، وغيره ، عن أم سلمه رضي الله عنها ) .
كراهة اتخاذ الحاجب ، وجواز اتخاذ المحضر :
الحاجب : هو البواب الذي يحجب الناس عن القاضي ، ويمنعهم من الدخول إليه في وقت جلوسه للحكم ، فيكره للقاضي ان يتخذ هذا الحاجب ، بل يترك بابه مفتوحاً للمراجعين ، إلا أن يكون هناك ازدحام على بابه ، فلا مانع أن يقف هذا البواب لينظم دخول الناس على القاضي .
روي أبو داود [2948] في الخراج والإمارة ،باب : فيما يلزم الإمام من أمر الرعية ، عن أبي مريم رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين ، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة " .
وروي الترمذي [1332،1333] في الأحكام ، باب : ما جاء في إمام الرعية ، عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله أبوب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته " .
أما المحضر ، فهو الذي يرتب الخصوم ، وينادي عليهم ، وكان يسمي النقيب ، فلا بأس أن يتخذه القاضي لوجود الحاجة إليه .
مشاورة الفقهاء :
ويندب للقاضي عند اختلاف وجهات النظر ، وتعارض الأدلة في الحكم أن يشاور أهل الفقه والبصر بالدين ، لقول الله عز وجل : ? وشاورهم في الأمر ? ( سورة آل عمران :519)
التسوية بين الخصوم :
ويسوي القاضي وجوباً بين الخصمين في أمور ثلاثة :
في الدخول عليه ، فلا يجوز أن يقوم لأحدهما ، ولا يقوم للآخر ، لأن ذلك ينافي العدل ، ويكسر قلب من لم يقم له ، فإما أن يقوم لهما ، أو لا يقوم لأحد .
في الاستماع لهما ، وطلاقة الوجه معهما ، ورد السلام عليهما ، وذلك لتحقيق العدل معهما ، ولئلا ينكسر قلب أحدهما ، إذا ما خص أحدهما بلفظ أو لحظ لم يعامل الثاني منهما بمثله .
وفي المجلس بين يديه ، وذلك بأن يجلسهما أمامه ، وبين يديه ، أو أحدهما عن يمينه ، والآخر عن شماله ، ليطيب بذلك قلبهما ، ويعدل بينهما.
والأصل في هذا ما رواه الدارقطني [4/205] عن أم سلمه رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من ابتلي بالقضاء بين الناس فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ، ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين ، مالا يعرفه على الأخر"
وروي أبو داود [3588] في الأقضية : باب كيف يجلس الخصمان بين يدي القاضي ، عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنه قال : قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الخصمين يقعدان بين يدي الحكم .
هذا ولا يجوز للقاضي أن يسال المدعى عليه ، إلا بعد فراغ المدعي من بيان دعواه ، ولا يحلف المدعي عليه إلا بعد أن يطلب المدعي من القاضي أن يحلفه لأن استيفاء اليمين من المدعي عليه حق للمدعي فيتوقف على إذنه وطلبه ، ولا يلقن خصماً حجة ، ولا يفهمه كلاماً يعرف به كيفية الدعوى أو الجواب ، أو كيف ينكر أو يقر ، لما في ذلك من إظهار الميل له والإضرار بخصمه ، وهذا حرام ، ولا يتعنت بالشهداء فيشق عليهم ، ولا يؤذيهم بالقول ونحوه ، كأن يهزأ بهم أو يعارضهم في أقوالهم ، لأن مثل هذا ينفر من الشهادة وتحملها وأدائها ، والناس في حاجة إليها ، قال الله تعالى : ? وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ? ( سورة البقرة : 282) . ولا يقبل الشهادة إلا ممن ثبتت عدالته ، بمعرفة القاضي له ، أو بتزكية عدلين له عنده ، ولا يقبل شهادة عدو على عدوه ، ولا شهادة والد لولده ، ولا ولد لوالده ، وذلك لوجود تهمة التحامل على العدو ، والمحاباة للوالد ، أو الولد ، والأصل في رد مثل هذه الشهادة ما رواه الترمذي [2299] في الشهادات ، باب : فيمن لا تجوز شهادته ، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلا : " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنه ولا زانٍ ولا زانية ولا ذي عمر على أخيه " .
[ الغمر : الحقد والغل والشحناء ]
وروي مالك في الموطأ [ 2/720 ] في الأقضية ، باب : ما جاء في الشهادات ، قال : بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ( لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين )
[ الظنين : المتهم ]
الحالات التي يتجنب فيها القاضي القضاء :
ويتجنب القاضي القضاء في عشرة مواضع : عند الغضب ، والجوع والعطش ، وشدة الشهوة ، والحزن والفرح المفرط ، وعند المرض ، ومدافعة الأخبثين ـ البول والغائط وعند النعاس ، وشدة البرد والحر . ويلحق بهذه الأحوال ما كان مثلها من كل ما يورث اضطراباً في النفس وسواء في الخلق ، وخللاً في الفكر .
والأصل في هذا ما رواه البخاري [6739] في الأحكام ، باب : هل يقضى القاضي أو يفتي وهو غضبان ، ومسلم [1717] في الأقضية ، باب : كراهة قضاء القاضي وهو غضبان ، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ولا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان ] .
والنهي في الحديث محمول على الكراهة فلو قضي في حال منها نفذ حكمه
شراء وبيع القاضي بنفسه :
يندب للقاضي أن لا يشتري ، وأن لا يبيع بنفسه ، لئلا يشتغل قلبه عما هو بصدده ، ولأنه قد يحابي ، فيميل قلبه إلي من يحابيه ، إذا وقع بينه وبين غيره خصومة .
حكم القاضي لنفسه أو شريكه وأصله وفرعه :
لا يجوز للقاضي أن يحكم لنفسه ، ولا ينفذ حكمه في ذلك لوجود التهمة في حكمه ، وخوف الميل لمصلحته .
ولا يحكم أيضاً لشريكه في المال المشترك بينهما ، للتهمة أيضاً ، وخشية الميل والمحاباة .
وكذلك لا يجوز له أن يحكم لأصله ، ولا لفرعه ، ولا ينفذ حكمه لكل منهما ، لاحتمال التهمة والمحاباة .
أما إذا حكم على من ذكرنا سابقاً ، فإنه يجوز حكمه ، وينفذ ، لعدم التهمة في ذلك .
هـ ولا يجوز للقاضي أيضاً أن يحكم على عدون ، لوجود التهمة ، ويجوز أن يحكم له لانتفائها .
وإذا امتنع حكم القاضي لمن ذكرنا سابقاً ، فإنه يحكم لهم الإمام ، أو يحكم لهم قاضٍ آخر ، لانتفاء التهمة في حكمه .
الهدية إلي القاضي :
ـ لا يجوز للقاضي أن يقبل الهدية من الذين يرجعون إليه في حل خصوماتهم والفصل في منازعاتهم ، مهما قلت تلك الهدية ، أو زادت ، وسواء كانوا يهدون إليه قبل ولاية القضاء ، أو لم يكونوا ، وسواء كانوا من محل ولايته ، أو كانوا من غيرها ، لأن قبول مثل هذه الهدايا من أولئك الذين لهم خصومات عنده يدعو إلي الميل والمحاباة غالباً . وقد أمر الدين بسد الذرائع التي قد يفضي الولوج منها إلي محرم .
ـ وكذلك لا يجوز له قبول الهدية من كل شخص لم يعتد أن يهدي إليه قبل ولايته القضاء ، ولو لم يكن له عنده خصومة ، لاحتمال حصول الخصومة في المستقبل ، وليس من عادته أن يهدى إليه قبل الولاية ، فيحمل عمله ذلك على أن سببه القضاء غالباً .
والأصل في هذا ما رواه البخاري [6260] في الإيمان والنذور ، باب : كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومسلم [1832] في الإمارة ، باب : تحريم هدايا العمال ، عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل عاملاً ، فجاءه العامل حين فرغ من عمله ، فقال : يا رسول الله ، هذا لكم وهذا أهدي لي ، فقال له : " أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك ، فنظرت أيهدي لك أم لا ؟! " ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية بعد الصلاة ، فتشهد وأثني على الله بما هو أهله ، ثم قال : " أما بعد فما بال العامل نستعمله ، فيأتينا فيقول : هذا من عملكم ، وهذا أهدى لي ، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر : هل يهدي له أم لا ؟! فو الذي نفس محمد بيده ، لا يغل أحدكم منا شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه : إن كان بعيراً جاء به له رغاء ، وإن كانت بقرة جاء بها لها خوار ، وإن كانت شاة جاء بها تيعر ، قد بلغت " ثم رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه حتى إنا للنظر إلي عُفرة إبطيه .
وفي رواية عند أحمد [5/424] عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " هدايا العمال غُلُولٌ " .
[استعمل : وظفه على جمع الزكاة . لا يغل : من الغلول ، والغلول في الأصل : الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها ، وسميت هدية العامل غولاً ، بجامع أن كلاً منهما فيه خيانة ، وإخلال بالأمانة ، لأن الهدية غالباً ما تحمل العامل على ذلك ولذلك هي حرام كالغلول . رغاء : صوت الإبل . خوار : صوت البقر تيعر : من اليعار وهو صوت الغنم والمعز عُفرة إبطيه : باطنهما ، من شدة رفعه ليديه ، والعفرة في الأصل : بياض يخالطه لون كلون التراب ، وكذلك لون باطن الإبط ]
روي الترمذي [2336] في الأحكام ، باب : ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم ، وأبو داود [3580] في الأقضية ، باب : في كراهية الرشوة ، عن ابي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن الراشي والمرتشي في الحكم . وعند أحمد [5/279] عن ثويان رضي الله عنه ، قال : لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي ، والرائش بينهما .
[ الرائش : الذي يمشي بين الراشي والمرتشي ] .
ملك الهدية :
إذا قبل القاضي الهدية ، في الصور المحرمة التي مر ذكرها ، فإنه لا يملكها ، ويجب عليه ردها إلي صحابها ، فإن تعذر ردها إلي صاحبها وضعها في بيت مال المسلمين ، لأنها كسب غير مشروع ، فلا يملكها .
حضور الولائم :
لا يجوز للقاضي حضور وليمة أحد الخصمين ، حال الخصومة ، ولا يقبل ضيافة أحد منهما ولو كانا في غير محل ولايته ، لخوف الميل والمحاباة .
ويجوز له حضور وليمة غير المتخاصمين ، إذا جرت عادته قبل الولاية ، لعدم التهمة في ذلك .
ويندب له إجابة دعوة غير المتخاصمين ، ولو من غير عادة ، إذا كانت وليمة عامة ، كوليمة العرس ، والختان ، وقد عمم صاحبها الدعوة ، لانتفاء التهمة في ذلك ، ولأن فيها تطيب قلوب أصحاب الدعوة ، شريطة أن لا يشغله ذلك عن أعمال القضاء .
يجوز للقاضي عيادة المريض ، وشهود الجنائز ، لأن في ذلك قربة ، ولا تهمة فيه .
رجوع القاضي عن الاجتهاد الذي قضى به ، وما يترتب عليه :
إذا قضي القاضي في قضية من القضايا ، ثم تغير اجتهاده فيها ، فهل ينقض الحكم الأول ، أم ينفذ حكمه على ما قضاه ، ويكون رجوعه سارياً فيما يجد من القضايا والأحكام ؟
في الإجابة على ذلك تفصيل نذكره فيما يلي :
إذا حكم القاضي باجتهاده ، ثم بان له أن حكمه كان خلاف نص الكتاب أو خلاف السنة المتواترة أو الآحاد الصحيحة ، أو كان خلاف الإجماع ، أو القياس الجلي ، وهو ما يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع ، نقول : إذا كان حكمه خلاف أصل من هذه الأصول ، وجب نقضه من قبل القاضي نفسه ، أو من قبل غيره .
ويترتب على ذلك رد ما قضى به ، وإعادته إلي ما يوافق الكتاب والسنة ، أو الإجماع والقياس ، وتصحيح الآثار التي ترتبت على ذلك الحكم . ودليل ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد " . ( أخرجه البخاري [2550] في البيوع ، باب : النجش ، تعليقاً ووصله في الصلح باب : إذا اصطلحوا علي صلح جور فالصلح مرود ، ومسلم [1718] في الاقضية ، باب : نقض الأحكام الباطلة ، ورواه غيرهما عن عائشة رضي الله عنها ) .
والأمثلة على ذلك كثيرة في أقضية الصحابة ومن بعدهم ، منها :
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفاضل بين الأصابع في الدية ، لتفاوت منافعها ، حتى روي له الخبر في التسوية بينها ، فنقض حكمه ، ورجع عنه . رواه الخطابي في "المعالم " .
الكلمات المفتاحية :
الفقه الشافعي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: