أسرار الغبار النجمي
إن حبيبات الغبار الدقيقة السابحة في الفضاء ما بين النجوم غيَّرت تاريخ مجرتنا جذريا.
انظر إلى السماء في أي ليلة صافية، سوف ترى رقعات داكنة في درب التبانة
(درب اللبانة)، ذلك الحزام الزغبي من الضوء الذي تولده بلايين النجوم في مجرتنا. لقد ظن الفلكي الإنكليزي <W. هرشل> في
القرن الثامن عشر أن الرقعات الداكنة هي حقا سحب هائلة من الغبار الذي يحجب ضوء النجوم الواقعة خلفها. إن جسيمات
الغبار الكوني صغيرة للغاية، فحجم الحبيبة الواحدة منها يقل عن واحد من مئة من حجم جسيمات الغبار التي تكنسها بوساطة الممسحة. ومع ذلك، فلقد أثرت حبيبات الغبار الدقيقة هذه في تطور مجرتنا وفي تشكل النجوم في الكون تأثيرا كبيرا.
لقد اعتبر كثير من الفلكيين حتى خمسينات القرن العشرين هذا الغبار شيئا مزعجا لأنه منعهم من رؤية النجوم. إلا أن الباحثين في السنوات الأخيرة سلطوا الضوء على حبيبات الغبار الكوني، وقاسوا توزيعها وتركيبها الكيميائي باستخدام المقاريب الأرضية والفضائية. ولقد مكَّنت المعلومات الجديدة الغزيرة من تطوير فرضيات مقبولة عن الكيفية التي نشأ بها الغبار النجمي ذلك. وقد اقترحتُ مع تلميذي <A. لي> [وهو الآن طالب في مرحلة ما بعد الدكتوراه في جامعة پرينستون] نظرية أسميناها نموذج الغبار الموحد unified dust model. وعلى الرغم من أن الباحثين الآخرين ناصروا نظريات بديلة فإننا نعتقد أن نموذجنا يوفر أفضل تفسير للأرصاد الجديدة.
تتركز سحب الغبار في مجرة درب التبانة في المستوى المجري، وعلى وجه الخصوص على امتداد الحافات الداخلية لأذرع المجرة الحلزونية. إن هذه المناطق تبدو شديدة التلطخ، حيث تنتشر حشود كثيفة من النجوم ضمن سحب الغبار. إن السحب تخفِّض شدة ضوء النجوم في أجزاء الطيف الزرقاء وفوق البنفسجية على نحو أشد مما تفعله في المجالين الأحمر وتحت الأحمر. لذلك تبدو النجوم للفلكيين الذين ينظرون إليها عبر الغبار أكثر حمرة مما هي فعلا. ويشابه هذا حال شمسنا الذي يميل لونها إلى الاحمرار عندما تكون بالقرب من الأفق، لأن الغبار والغاز في جو الأرض يبعثران ضوءها.
سديم رأس الحصان (في الصفحة المقابلة) هو سحابة ضخمة من الغبار والغاز في كوكبة الجبار على بعد نحو 1000 سنة ضوئية من الأرض. والنجم الساطع في الأعلى هو ريتا أوريونيس، النجم الأقصى شرق حزام الجبار.
لقد ثبت أن حجم أكبر حبيبات الغبار البيننجمي (ما بين النجوم) يقارب حجم الجسيمات في دخان السيجارة. ويبين منحنى الإخماد extinction الخاص بالغبار البيننجمي والذي يعبر عن انخفاض شدة الضوء عند كل طول موجي، أنه ينبغي أن تكون هناك ثلاثة أنواع من حبيبات الغبار [انظر الأشكال في الصفحة 58]. إن الجسيمات التي تحجب الضوء في المجال المرئي من الطيف هي حبيبات متطاولة يبلغ عرضها نحو 0.2 ميكرون ويساوي طولها ضعف عرضها تقريبا. وتمثل هذه الجسيمات نحو 80 في المئة من الكتلة الكلية للغبار البيننجمي. وتحوي كل حبيبة نواة صخرية يحيط بها دثار مكون من مواد عضوية وجليد. وتشير حدبة في الجزء فوق البنفسجي من منحني الإخماد إلى وجود جسيمات أصغر (ذات قطر طوله نحو 0.005 ميكرون) تمثل نحو 10 في المئة من كتلة الغبار الكلية. وهذه الحبيبات، على الأرجح، مواد صلبة غنية بالكربون غير متبلورة وقد تحتوي على بعض الهدروجين مع قليل من الآزوت أو الأكسجين أو لا شيء منهما. أما الجسيمات الأصغر من ذلك، والتي يساوي قطرها نحو 0.002 ميكرون، فهي مسؤولة عن حجب الضوء في منطقة الأشعة فوق البنفسجية البعيدة. ويُعتقد أن هذه الجسيمات الضئيلة التي تمثل العشرة في المئة الباقية من كتلة الغبار هي جزيئات كبيرة مشابهة للهدروكربونات المتعددة اللفائف (الحلقات) العطرية Polycyclic aromatic hydrocarbons PAHs التي تصدر عن عادم السيارة.
وبسبب بُعد حبيبات الغبار عن النجوم، فإنها باردة جدا، حيث تصل حرارتها إلى 268- درجة سيلزية، أي إلى خمس درجات فقط فوق الصفر المطلق. وفي أربعينات القرن العشرين خرج الفلكي الهولندي الشهير <H. ڤان دي هولسْت> [أستاذي وصديقي العزيز] بنظرية مفادها أن بعض الذرات التي يُعرف أنها موجودة في الفضاء البيننجمي ـ هدروجين، أكسجين، كربون، آزوت ـ يمكن أن تلتصق بسطوح حبيبات الغبار وتشكل دثارا من الماء المتجمد والميثان والأمونيا. ولقد أطلق على تلك النظرية فيما بعد نموذج «الجليد القذر».
إلا أن الفلكيين لم يحصلوا على دليل قوي على النظرية إلا في بداية سبعينات القرن العشرين. فبينما كان الباحثون يدرسون الطيف دون الأحمر في ضوء النجوم الآتي عبر سحب الغبار البيننجمي، اكتشفوا خطوط الامتصاص المميزة للسيليكات المركبة من السيليكون والمغنيزيوم والحديد. وتكون السيليكات النوى الصخرية لحبيبات الغبار. وفي الوقت نفسه تقريبا، رصد العلماء أيضا خطوط الامتصاص الخاصة بالماء المتجمد في الطيف دون الأحمر. وأشارت الأرصاد اللاحقة إلى وجود أحادي أكسيد الكربون وثنائي أكسيد الكربون والفورمالديهيد وكثير من المركبات الأخرى أيضا. وتوصف هذه المواد بأنها طيارة، أي إنها تتجمد لدى تماسها مع حبيبات الغبار الباردة، لكنها تتبخر إذا حدثت تدفئة للغبار. وعلى النقيض من ذلك، توصف نوى حبيبات الغبار بأنها مقاومة للحرارة فهي تظل صلبة عند درجات الحرارة الأعلى.
ويمثل الغبار البيننجمي نحو واحد من ألف من كتلة درب التبانة، وهذا مقدار ربما يزيد على مئات أضعاف الكتلة الكلية لجميع كواكب المجرة. إن جسيمات الغبار منتشرة بكثافة منخفضة، إذ يوجد في المتوسط حبيبة غبار واحدة في كل مليون متر مكعب من الفضاء. لكن لما كان ضوء النجوم ينتشر عبر آلاف السنين الضوئية من الغبار، فإنه حتى هذه الكثافة المنخفضة تستطيع أن تكون فعالة في إخماد الإشعاع. والسؤال الآن هو: كيف أصبحت مجرتنا على هذه الحالة المغبرَّة؟
من غبار إلى غبار(1)
في الحقبة المبكرة من الكون، أي قبل نحو 15 بليون سنة، لم يكن هناك غبار. وعلى غرار المجرات المبكرة الأخرى كافة، تكونت درب التبانة من الهدروجين والهليوم ونزر يسير من العناصر الخفيفة الأخرى التي تولدت في الانفجار الأعظم. وأثناء تلك الحقبة، لم يكن ممكنا إلا لسحب الهدروجين والهليوم الهائلة الكتلة أن تنكمش وتتحول إلى نجوم، بسبب الحاجة إلى قدر عظيم حقا من التجاذب الثقالي الذي يستطيع التغلب على الضغط الناجم عن حركة الغاز الديناميكية الحرارية. وبذلك كانت مجرتنا تحت هيمنة نجوم عملاقة من النوعين(2) O، Bالتي انفجرت على شكل مستعرات أعظمية supernovae بعد ولادتها ببضعة ملايين من السنين فقط. وتولد الغبار الأول من تلك المستعرات الأعظمية، ويرى العلماء دليلا عليه في المجرات الأقدم التي ترصد بوساطة مقاريب الأشعة تحت الحمراء البعيدة، أي المقاريب التي تتحسس الموجات التي تقل أطوالها عن مليمتر. لكن هذا الغبار لم يدم طويلا في الوسط البيننجمي، فالموجات الصدمية الصادرة عن المستعرات الأعظمية اللاحقة دمرت الجسيمات بعد تكونها بفترة وجيزة.
وبعد مضي نحو خمسة بلايين سنة، خمدت عاصفة المستعرات الأعظمية، ودخلت النجوم التي لم تكن كتلها كبيرة جدا طور العملاق الأحمر من مراحل حياتها الزمنية. ومع انخفاض حرارة تلك النجوم وتمددها، تشكلت جسيمات السيليكات الصخرية في أجوائها وتطايرت في الفضاء البيننجمي. ودخلت بعض جسيمات السيليكات تلك سحب الغاز الجزيئي التي كانت تتحرك باستمرار بين النجوم. وفي ظروف الحرارة المنخفضة داخل السحب، تجمدت كل ذرة أو جزيء تلاقت مع حبيبة سيليكات والتصقت فورا بسطحها، مثلما تتجمد قطرات بخار الماء على زجاج النافذة البارد. وعلى هذا النحو، نما دثار جليدي حول كل نواة سيليكاتية.
وبتكاثف الغبار في السحب الجزيئية ارتفعت كثافة الحبيبات إلى عشرات آلاف أضعاف الكثافة خارج السحب وبذلك أصبح الغبار كثيفا إلى الحد الذي يكفي تقريبا لمنع الإشعاعات كافة من دخول السحب، وهذا الأمر أدى إلى انخفاض إضافي في درجة حرارتها. ولما كانت السحب قد غدت أبرد من ذي قبل، لم تكن هناك حاجة إلى كتل كبيرة من أجل التغلب على ضغط الغاز بها. عندئذ تمكنت سحب غازية صغيرة نسبيا من الانكماش، وبذلك أمكن تولد نجوم صغيرة مشابهة لشمسنا. لقد غيَّر وجود الغبار تركيب درب التبانة جذريا بتخفيفه القيود المفروضة على تشكُّل النجوم.
مجرتنا المغبرَّة(3)
إن سحب الغبار كتلك الموجودة في سديم روزيت Rosette Nebula (في اليسار) هي بيوت حضانة نجمية. تحجز حبيبات الغبار الإشعاع داخل السحب الغازية، وهذا ما يسهل انهيار تلك السحب وتشكيلها للنجوم. وفي هذه العملية، يتطاير معظم الغبار بعيدا إلى مناطق من الفضاء أشد خلاء، وتشير قياسات إخماد ضوء النجوم المار عبر هذه المناطق المنخفضة الكثافة (في الأسفل) إلى وجود ثلاثة أنواع من الغبار: حبيبات ذوات نوى ودثارات، ومواد صلبة غنية بالكربون غير متبلورة، وجزيئات كبيرة شبيهة بالهدروكربونات المتعددة اللفائف العطرية (PAHs). وتستطيع الحبيبات ذوات النوى والدثارات تفسير استقطاب ضوء النجوم عند جميع الأطوال الموجية.
والأكثر من ذلك هو أن غبار مجرتنا يخضع إلى التدوير على نحو دائم. فعندما تنكمش سحابة من الغاز والغبار لتشكل نجما، تتبخر حبيبات الغبار الأقرب إلى منطقة تشكل النجم. (ويصبح السيليكون والعناصر الأخرى الناتجة من حبيبات الغبار تلك إما جزءا من النجم أو أنها تتكاثف لتشكل كواكب صخرية أو كويكبات). لكن معظم الغبار ينتشر بعيدا على هيئة سحب منخفضة التركيز، أي مناطق من الفضاء ذات غاز كثافته قليلة بدرجة كبيرة. وفي هذه البيئة الجافة، لا تتوقف الدثارات الجليدية في حبيبات الغبار عن النمو فحسب، بل تتحطم أو تتآكل بوساطة الإشعاع فوق البنفسجي وبالتصادم مع الجسيمات والجبهات الصدمية للمستعرات الأعظمية. لكن الحبيبات لا تؤول إلى نواها السيليكاتية على كل حال، فتحت الدثار الجليدي هناك دثار داخلي مكون من مواد عضوية معقدة.
لقد اقترحتُ وجود هذا الدثار العضوي قبل ثلاثة عقود؛ لأنني قررت أن السيليكات لا تستطيع وحدها أن تفسر مقدار اضمحلال الضوء الذي ينجم عن الغبار في السحب القليلة الكثافة. فقد افترضت أن طبقة المادة الغنية بالكربون على حبيبة الغبار تنجم عن تآثرات كيميائية في الدثار الجليدي، تلك التي تبدأ عندما تكون الحبيبة لاتزال في سحابة كثيفة من الغاز الجزيئي. وطبقا لنظريتي، عندما تضرب فوتونات الأشعة فوق البنفسجية العالية الطاقة الدثار الجليدي، تتحلل جزيئات الماء والميثان والأمونيا إلى جذور حرة تتحد فيما بعد لتشكل جزيئات عضوية مثل الفورمالديهيد. ويؤدي الإشعاع فوق البنفسجي المستمر في نهاية المطاف إلى نشوء مركبات أكثر تعقيدا تعرف بالجيل الأول من المواد العضوية. وتبقى هذه المواد العضوية كرواسب على نواة السيليكات حتى بعد أن تترك حبيبة الغبار السحابة الجزيئية وتحطم الدثار الجليدي. وفي الحقيقة، يساعد الدثار العضوي على وقاية نواة السيليكات من صدمات المستعرات الأعظمية حامية بذلك حبيبة الغبار إلى أن تعود إلى مأوى في سحابة غاز كثيفة أخرى.
خامات صفراء وبنية(4)
ولاختبار هذه النظرية، بدأت بإجراء تجارب مختبرية تحاكي الظروف التي تؤثر في الدثار الجليدي. وبدأ هذا العمل في جامعة ولاية نيويورك عام 1970 واستمر في جامعة ليدن بهولندا عام 1975. لقد قام فريقنا البحثي بتعريض خلائط مختلفة من الجليد لإشعاع فوق بنفسجي عند درجة حرارة مقدارها 263- درجة مئوية، ثم دفَّأناها. وكانت النتيجة راسبا أصفر اللون أسميناه «الخام الأصفر»، وكانت تسمية ملائمة بدرجة كافية. واحتوى الراسب على الگليسرول والگليسراميد وعدة أحماض أمينية (ومنها الگليسين والسيرين والألانين)، وحشد من الجزيئات المعقدة الأخرى.
وفي الوقت نفسه تقريبا، اكتشف الفلكيون دليلا على وجود مركبات عضوية معقدة في سحب الغبار المنخفضة الكثافة من خلال قياس امتصاص ضوء النجوم المار عبرها. ولم تتفق نتائجنا المختبرية مع خطوط الامتصاص في الطيف دون الأحمر تماما، وكان علينا ألا نندهش بهذا التناقض. ففي البيئة المفتوحة لسحب الغبار المنخفضة الكثافة، تتعرض حبيبات الغبار إلى إشعاع فوق بنفسجي تساوي شدته عشرة آلاف ضعف من تلك الموجودة في السحب الجزيئية. ويحوِّل هذا الإشعاع المادة الموجودة في الدثارات الداخلية إلى مواد عضوية من الجيل الثاني. وكان من الصعب علينا مختبريا توليد التأثير الزائد الناجم عن هذا الإشعاع فوق البنفسجي الزائد في شدته.
ومن حسن الطالع، أن الفرصة أتت لتدق باب المختبر. ففي أواخر ثمانينات القرن العشرين، دعانا <G. هورنك> [الذي يعمل في وكالة الفضاء الألمانية] إلى استخدام منصة قمر صنعي تسمى مجموعة الإشعاع الحيوي الخارجي Exobiology Radiation Assembly التي كانت قد صممت في الأصل من أجل تعريض العينات الحيوية للإشعاع فوق البنفسجي الطويل الأمد. وكانت المجموعة ملائمة تماما من أجل المعالجة فوق البنفسجية «للخام الأصفر»، وحضَّرت مجموعتنا التي ضمت <M. دي گرووت> و <C. مندوزا-گومز> و<W. شوت> و<P. وبر> الرواسب العضوية وأرسلتها إلى المدار الفضائي على القمر الصنعي المسمى الحامل الأوروبي القابل للاستعادة (European Retrievable Carrier (EURECA الذي أطلق بوساطة المكوك الفضائي عام 1992.
وبعد سنة (في الواقع بعد أربعة أشهر من التعرض للإشعاع الشمسي فوق البنفسجي)، استعاد المكوك القمر الصنعي، وأُعيدت العينات إلينا. وما ذهب إلى الفضاء أصفر اللون عاد بنيّا. ودل تغير اللون على أن المادة غدت أغنى بالكربون. وعندما درسنا «الخام البني» بوساطة مقياس الطيف دون الأحمر وجدنا نفس المنظومات تماما من خطوط الامتصاص التي كانت قد اكتشفت في أرصاد الأشعة تحت الحمراء الخاصة بالغبار البيننجمي. وعلى الرغم من أن تعرض العينات للإشعاع لم يتجاوز عُشر القيمة العظمى لما تتعرض له حبيبات الغبار في السحب المنخفضة الكثافة، فقد قاربت عيناتنا إلى حد بعيد المواد العضوية المنيعة الموجودة في الغبار الكوني.
لقد أرست هذه التجارب حجر الأساس للعمل من أجل نموذج الغبار الموحد الذي بنيته مع لي. إن النظرية تفترض أن النوعين الأصغرين من حبيبات الغبار البيننجمي ـ الجسيمات الغنية بالكربون غير المتبلورة والجزيئات الشبيهة بالهدروكربونات المتعددة اللفائف العطرية PAHs ـ ينجمان عن المعالجة فوق البنفسجية للمواد العضوية في حبيبات الغبار الكبيرة نسبيا والتي لها نوى ودثارات. وجلبنا عينتنا من «الخام البني» إلى <S. جيلت> [في جامعة ستانفورد] من أجل تحليلها باستخدام التقانات المتقدمة لقياس الكتلة الطيفي التي طورها الكيميائي في ستانفورد <R. زير>. ووجد جيلت أن العينة غنية جدا بالهدروكربونات PAHs. إن نموذج الغبار الموحد يوحي بأن المعالجة الكيميائية للحبيبات من ذوات النوى والدثارات يمكن أن تكون مسؤولة عن وجود الجسيمات الصغيرة الغنية بالكربون والجزيئات الشبيهة بالهدروكربونات PAHs في الغبار البيننجمي. ففي سحب الغاز المنخفضة الكثافة تتفتت جسيمات صغيرة من الدثارات العضوية عندما تشطر موجات المستعرات الأعظمية حبيبات الغبار الأكبر نسبيا [انظر الشكل في الصفحة 60]. وكل جسيم ذي نواة ودثار يولِّد سربا من مئات الآلاف من الحبيبات الدقيقة.
وفي نهاية الأمر، يُؤسر تجمع الغبار برمته من قبل سحابة جزيئات كثيفة. وداخل السحابة، تغدو التصادمات بين جسيمات الغبار وذرات الغاز وجزيئاته أكثر تكرارا.
وبعد مليون سنة أو نحوها، تلتحم الحبيبات الأكبر للغاز مع دثار جليدي يهيمن فيه الماء المتجمد وأحادي أكسيد الكربون. لقد أشارت أرصاد الغبار في السحب العالية الكثافة حول النجوم إلى وجود هذه المركبات إلى جانب مقادير صغيرة من ثنائي أكسيد الكربون والفورمالديهيد والأمونيا. وعلى الرغم من أن أحدًا لم يرصد مباشرة ما يحصل للجسيمات الغنية بالكربون وما يحصل للجزيئات الشبيهة بالهدروكربونات PAH في سحابة جزيئية، فمن المحتَّم أنها سوف تلتصق بالحبيبات الأكبر وتندمج في الدثارات الجليدية. ثم تُعاد معالجة الجزيئات العضوية بالإشعاع فوق البنفسجي، وتبدأ الدورة من جديد.
اقترح علماء آخرون نماذج بديلة تستطيع تفسير تأثيرات الاضمحلال الإشعاعي بوساطة الغبار البيننجمي دون الحاجة إلى الدثارات العضوية حول حبيبات الغبار الكبيرة. فعلى سبيل المثال، افترض <S .J. ماثيس> [من جامعة ويسكونسن ـ ماديسون] أن الحبيبات الأكبر هي تكتلات مخلخلة من جسيمات الگرافيت والسيليكات الصغيرة. لكن هذه النماذج تعجز عن تقديم تفسير مناسب لأثر آخر من آثار الغبار البيننجمي: وهو كيف يستقطب الغبار الضوء المار خلاله، أي كيف يوجه الموجات الكهرمغنطيسية في اتجاه معين. ولتفسير هذه الظاهرة، نحن نعرف أن كل واحدة من حبيبات الغبار الكبيرة ينبغي أن تشكَّل تقريبا على هيئة أسطوانة أو شكل كروي تقريبا، وأن تدور في حركة مغزلية حول محورها الأصغر مثل عصا المايسترو. إضافة إلى ذلك، نحن نعرف أن محاور دوران حبيبات الغبار جميعها يجب أن تكون متجهة في اتجاه واحد لكي تستقطب الضوء. (يُعتقد أن الحقول المغنطيسية في سحابة الغبار توازي محاور الدوران). إن الإنجاز الفريد لنموذج الغبار الموحد هو أن الجسيمات المفترضة من ذوات النوى والدثارات تستطيع تفسير الاستقطاب المرصود عند كافة الأطوال الموجية.
دورة الغبار(5)
من الغبار إلى المذنبات(6)
تُعد المذنبات الأشياء الأكثر نقاء بين ما تبقى من السديم الشمسي الأولي، أي سحابة الغاز والغبار التي ولد منها نظامنا الشمسي. فكلما حقق الفلكيون اكتشافات جديدة حول التركيب الكيميائي لكل من المذنبات والغبار البيننجمي، أصبحوا أشد اقتناعا بأن المذنبات تشكلت في الأصل على شكل تجمعات من حبيبات الغبار. ولذلك نجد أن هناك إجماعا على أن أرصاد المذنبات ستوفر لنا مزيدا من المعلومات عن الغبار.
عندما ولدت الكواكب والمذنبات مع الشمس قبل نحو 4.6 بليون سنة، يمكن أن تكون حبيبات الغبار ذوات النوى والدثارات في السحابة الشمسية الأولية قد امتصَّت، باحتمال عال، الجسيمات الصغيرة الغنية بالكربون والجزيئات الشبيهة بالهدروكربونات PAH، إضافة إلى غاز أحادي أكسيد الكربون والمكونات الطيارة الأخرى في الغاز. ولم يبق حرا إلا الهدروجين والهليوم. وتصادمت حبيبات الغبار معا على نحو متكرر، الأمر الذي كان كافيا لتكوين تكتلات مخلخلة التماسك. إن النظرية السائدة اليوم هي أن هذه التجمعات «الزغبية» من جسيمات الغبار البيننجمي تطورت لتشكل نوى المذنبات. وكل نواة يمكن أن تكون مخلخلة جدا، أي إنها يمكن أن تحتوي على كثير من الفضاء الخالي. إن النموذج الذي وضعتُه بخصوص قطعة من نواة المذنب يحوي 100 حبيبة غبار شمسي أولي متوسطة الحجم مختلطة معا في تجمع باتساع ثلاثة ميكرونات ويشكل الفضاء الخالي فيه 80 في المئة [انظر الشكل في هذه الصفحة].
تدور المذنبات منذ نشأتها في مدار حول الشمس في مناطق من سحابة أورت Oort Cloud وحزام كويپرKuiper Belt على مسافات بعيدة عن مدارات الكواكب. إلا أن الاضطرابات التثاقلية تدفع أحيانا بالمذنبات إلى مدارات تقترب بها من الشمس. لقد حصلت ثورة في فهمنا للمذنبات عام 1986 عندما اقترب المسباران الفضائيان جيوتو Giotto وفيگا Vega 1 و 2 من مذنب هالي الذي يقترب من الشمس كل 76 سنة. كانت كل من السفن الفضائية الثلاث تحمل مقياسَ إشعاعٍ طيفي من أجل قياس كتل الجسيمات وتركيبها الكيميائي في ذؤابة هالي، أي سحابة الغبار والغاز المحيطة بالنواة. لقد تصادمت الجسيمات بمكشاف المقياس بسرعة 80 كيلومترا في الثانية وانشطرت إلى مكوناتها الذرية. وكشفت الأجهزة سلسلة واسعة من كتل الجسيمات، ومنها الكتلة 14-10 غرام المتوقعة لحبيبة الغبار ذات النواة والدثار والكتلة 18-10 غرام المميزة للجسيمات الكربونية الصغيرة.
وفيما بعد أكد كل من <J. كسَّل> [من معهد ماكس پلانك للفيزياء فيما بعد النطاقات الأرضية في گارشينگ الألمانية] و<R .F. كرويگر> [من مكتب كرويگر الهندسي في دار مشتادت] و<K .E. جسبّورگر> [من جامعة مونستر] أن الغبار المأخوذ من مذنب هالي يتكون من تكتلات جسيمات لها نوى من السيليكا ودثارات عضوية منيعة، وهذا يتطابق تماما مع ما تنبأت به نظريتي الأصلية حول المذنبات. وقد استندت استنتاجاتهم إلى حقيقة أن ذرات الأكسجين والكربون والآزوت المنطلقة من الدثارات العضوية تصادمت بمكاشيف السفن الفضائية تماما قبل أن تتصادم بها ذرات السيليكون والمغنيزيوم والحديد المنطلقة من النوى.
نموذج لغبار المذنب الذي شكّله المؤلف من مئة حبيبة ذات نواة ودثار في تجمع مخلخل اتساعه ثلاثة ميكرونات. ولكون هذه التكتلات غنية بالمركبات العضوية، يمكن أن تكون قد نثرت بذور الحياة على الأرض.
ما هو عمر الغبار الموجود في مذنب هالي وفي المذنبات الأخرى؟ نحن نعلم أن عمر الغبار قبل تكتله لتشكيل المذنبات كان نحو خمسة بلايين سنة، لأن حبيبة الغبار تبقى في الفضاء البيننجمي طوال ذلك الوقت قبل أن تلتهم في عملية تكوين نجم. ولما كان عمر المذنبات نفسها يبلغ 4.6 بليون سنة، فإن تشكل الغبار قد يعود إلى ما قبل نحو عشرة بلايين سنة. لذلك يسمح لنا تحليل مادة المذنبات باستقصاء طفولة درب التبانة.
ويمكن لغبار المذنبات أن يكون قد أدى دورا أيضا في وضع بذور الحياة على الأرض. فكل تجمع مخلخل من غبار المذنبات لا يحتوي على مواد عضوية فحسب، بل يمتلك أيضا بنية مثالية للتطور الكيميائي عندما يُغمس في الماء. لقد بيَّن كسَّل وكرويگر أن الجزيئات تستطيع بسهولة اختراق التجمع من الخارج، لكن الجزيئات الكبيرة تبقى محتجزة في الداخل. ويمكن لمثل هذه البنية أن تحفز إنتاج جزيئات أكبر فأكبر وأشد تعقيدا، مؤدية بذلك ربما دور الحاضنة الدقيقة لأشكال الحياة البدائية الأولى. ويمكن لمذنب واحد أن يكون قد نثر ما يصل إلى 1025 من هذه «البذور» على الأرض الفتية.
إن الوكالة (ناسا) ووكالة الفضاء الأوروبية (إيسا) تتوليان تنفيذ مهام ستكشف المزيد عن طبيعة المذنبات والغبار البيننجمي. فقد أطلقت ناسا في عام 1999 سفينة غبار النجوم Stardust craft التي بُرمجت لملاقاة المذنب وايلد Wild-2 عام 2004 ولجلب عينة من غبار ذؤابته إلى الأرض. وأثناء الرحلة، سوف يقوم هذا المسبار بجمع عينات من الغبار البيننجمي المتدفق عبر نظامنا الشمسي. أما مهمة إيسا فهي أكثر طموحا؛ فالمركبة (رشيد) المزمع إطلاقها عام 2003 ستتخذ مدارا حول نواة مذنب فيرتانن Wirtanen وسوف ترسِل مسبارا ليهبط على سطح جسمه المخلخل. وسوف تقوم منظومة من الأجهزة العلمية المحمولة على المسبار بتحليل دقيق لبنية المذنب الفيزيائية وتركيبه الكيميائي بالتفصيل. وستشارك مجموعة البحث التابعة لي في الجهود المبذولة من خلال تحضير عينات مختبرية من المواد العضوية من أجل المقارنة بالمواد المرصودة في نواة فيرتانن وغباره.
إن هذه الرحلات الفضائية سوف تؤدي، دون شك، إلى اتجاهات جديدة في الأبحاث. ولن يعتبر الفلكيون بعد اليوم الغبار البيننجمي أمرا مزعجا، بل مصدرا رئيسيا للمعلومات عن ولادة النجوم والكواكب والمذنبات وقد يكون حاملا لدلالات عن أصل الحياة ذاتها.
انظر إلى السماء في أي ليلة صافية، سوف ترى رقعات داكنة في درب التبانة
(درب اللبانة)، ذلك الحزام الزغبي من الضوء الذي تولده بلايين النجوم في مجرتنا. لقد ظن الفلكي الإنكليزي <W. هرشل> في
القرن الثامن عشر أن الرقعات الداكنة هي حقا سحب هائلة من الغبار الذي يحجب ضوء النجوم الواقعة خلفها. إن جسيمات
الغبار الكوني صغيرة للغاية، فحجم الحبيبة الواحدة منها يقل عن واحد من مئة من حجم جسيمات الغبار التي تكنسها بوساطة الممسحة. ومع ذلك، فلقد أثرت حبيبات الغبار الدقيقة هذه في تطور مجرتنا وفي تشكل النجوم في الكون تأثيرا كبيرا.
لقد اعتبر كثير من الفلكيين حتى خمسينات القرن العشرين هذا الغبار شيئا مزعجا لأنه منعهم من رؤية النجوم. إلا أن الباحثين في السنوات الأخيرة سلطوا الضوء على حبيبات الغبار الكوني، وقاسوا توزيعها وتركيبها الكيميائي باستخدام المقاريب الأرضية والفضائية. ولقد مكَّنت المعلومات الجديدة الغزيرة من تطوير فرضيات مقبولة عن الكيفية التي نشأ بها الغبار النجمي ذلك. وقد اقترحتُ مع تلميذي <A. لي> [وهو الآن طالب في مرحلة ما بعد الدكتوراه في جامعة پرينستون] نظرية أسميناها نموذج الغبار الموحد unified dust model. وعلى الرغم من أن الباحثين الآخرين ناصروا نظريات بديلة فإننا نعتقد أن نموذجنا يوفر أفضل تفسير للأرصاد الجديدة.
تتركز سحب الغبار في مجرة درب التبانة في المستوى المجري، وعلى وجه الخصوص على امتداد الحافات الداخلية لأذرع المجرة الحلزونية. إن هذه المناطق تبدو شديدة التلطخ، حيث تنتشر حشود كثيفة من النجوم ضمن سحب الغبار. إن السحب تخفِّض شدة ضوء النجوم في أجزاء الطيف الزرقاء وفوق البنفسجية على نحو أشد مما تفعله في المجالين الأحمر وتحت الأحمر. لذلك تبدو النجوم للفلكيين الذين ينظرون إليها عبر الغبار أكثر حمرة مما هي فعلا. ويشابه هذا حال شمسنا الذي يميل لونها إلى الاحمرار عندما تكون بالقرب من الأفق، لأن الغبار والغاز في جو الأرض يبعثران ضوءها.
سديم رأس الحصان (في الصفحة المقابلة) هو سحابة ضخمة من الغبار والغاز في كوكبة الجبار على بعد نحو 1000 سنة ضوئية من الأرض. والنجم الساطع في الأعلى هو ريتا أوريونيس، النجم الأقصى شرق حزام الجبار.
لقد ثبت أن حجم أكبر حبيبات الغبار البيننجمي (ما بين النجوم) يقارب حجم الجسيمات في دخان السيجارة. ويبين منحنى الإخماد extinction الخاص بالغبار البيننجمي والذي يعبر عن انخفاض شدة الضوء عند كل طول موجي، أنه ينبغي أن تكون هناك ثلاثة أنواع من حبيبات الغبار [انظر الأشكال في الصفحة 58]. إن الجسيمات التي تحجب الضوء في المجال المرئي من الطيف هي حبيبات متطاولة يبلغ عرضها نحو 0.2 ميكرون ويساوي طولها ضعف عرضها تقريبا. وتمثل هذه الجسيمات نحو 80 في المئة من الكتلة الكلية للغبار البيننجمي. وتحوي كل حبيبة نواة صخرية يحيط بها دثار مكون من مواد عضوية وجليد. وتشير حدبة في الجزء فوق البنفسجي من منحني الإخماد إلى وجود جسيمات أصغر (ذات قطر طوله نحو 0.005 ميكرون) تمثل نحو 10 في المئة من كتلة الغبار الكلية. وهذه الحبيبات، على الأرجح، مواد صلبة غنية بالكربون غير متبلورة وقد تحتوي على بعض الهدروجين مع قليل من الآزوت أو الأكسجين أو لا شيء منهما. أما الجسيمات الأصغر من ذلك، والتي يساوي قطرها نحو 0.002 ميكرون، فهي مسؤولة عن حجب الضوء في منطقة الأشعة فوق البنفسجية البعيدة. ويُعتقد أن هذه الجسيمات الضئيلة التي تمثل العشرة في المئة الباقية من كتلة الغبار هي جزيئات كبيرة مشابهة للهدروكربونات المتعددة اللفائف (الحلقات) العطرية Polycyclic aromatic hydrocarbons PAHs التي تصدر عن عادم السيارة.
وبسبب بُعد حبيبات الغبار عن النجوم، فإنها باردة جدا، حيث تصل حرارتها إلى 268- درجة سيلزية، أي إلى خمس درجات فقط فوق الصفر المطلق. وفي أربعينات القرن العشرين خرج الفلكي الهولندي الشهير <H. ڤان دي هولسْت> [أستاذي وصديقي العزيز] بنظرية مفادها أن بعض الذرات التي يُعرف أنها موجودة في الفضاء البيننجمي ـ هدروجين، أكسجين، كربون، آزوت ـ يمكن أن تلتصق بسطوح حبيبات الغبار وتشكل دثارا من الماء المتجمد والميثان والأمونيا. ولقد أطلق على تلك النظرية فيما بعد نموذج «الجليد القذر».
إلا أن الفلكيين لم يحصلوا على دليل قوي على النظرية إلا في بداية سبعينات القرن العشرين. فبينما كان الباحثون يدرسون الطيف دون الأحمر في ضوء النجوم الآتي عبر سحب الغبار البيننجمي، اكتشفوا خطوط الامتصاص المميزة للسيليكات المركبة من السيليكون والمغنيزيوم والحديد. وتكون السيليكات النوى الصخرية لحبيبات الغبار. وفي الوقت نفسه تقريبا، رصد العلماء أيضا خطوط الامتصاص الخاصة بالماء المتجمد في الطيف دون الأحمر. وأشارت الأرصاد اللاحقة إلى وجود أحادي أكسيد الكربون وثنائي أكسيد الكربون والفورمالديهيد وكثير من المركبات الأخرى أيضا. وتوصف هذه المواد بأنها طيارة، أي إنها تتجمد لدى تماسها مع حبيبات الغبار الباردة، لكنها تتبخر إذا حدثت تدفئة للغبار. وعلى النقيض من ذلك، توصف نوى حبيبات الغبار بأنها مقاومة للحرارة فهي تظل صلبة عند درجات الحرارة الأعلى.
ويمثل الغبار البيننجمي نحو واحد من ألف من كتلة درب التبانة، وهذا مقدار ربما يزيد على مئات أضعاف الكتلة الكلية لجميع كواكب المجرة. إن جسيمات الغبار منتشرة بكثافة منخفضة، إذ يوجد في المتوسط حبيبة غبار واحدة في كل مليون متر مكعب من الفضاء. لكن لما كان ضوء النجوم ينتشر عبر آلاف السنين الضوئية من الغبار، فإنه حتى هذه الكثافة المنخفضة تستطيع أن تكون فعالة في إخماد الإشعاع. والسؤال الآن هو: كيف أصبحت مجرتنا على هذه الحالة المغبرَّة؟
من غبار إلى غبار(1)
في الحقبة المبكرة من الكون، أي قبل نحو 15 بليون سنة، لم يكن هناك غبار. وعلى غرار المجرات المبكرة الأخرى كافة، تكونت درب التبانة من الهدروجين والهليوم ونزر يسير من العناصر الخفيفة الأخرى التي تولدت في الانفجار الأعظم. وأثناء تلك الحقبة، لم يكن ممكنا إلا لسحب الهدروجين والهليوم الهائلة الكتلة أن تنكمش وتتحول إلى نجوم، بسبب الحاجة إلى قدر عظيم حقا من التجاذب الثقالي الذي يستطيع التغلب على الضغط الناجم عن حركة الغاز الديناميكية الحرارية. وبذلك كانت مجرتنا تحت هيمنة نجوم عملاقة من النوعين(2) O، Bالتي انفجرت على شكل مستعرات أعظمية supernovae بعد ولادتها ببضعة ملايين من السنين فقط. وتولد الغبار الأول من تلك المستعرات الأعظمية، ويرى العلماء دليلا عليه في المجرات الأقدم التي ترصد بوساطة مقاريب الأشعة تحت الحمراء البعيدة، أي المقاريب التي تتحسس الموجات التي تقل أطوالها عن مليمتر. لكن هذا الغبار لم يدم طويلا في الوسط البيننجمي، فالموجات الصدمية الصادرة عن المستعرات الأعظمية اللاحقة دمرت الجسيمات بعد تكونها بفترة وجيزة.
وبعد مضي نحو خمسة بلايين سنة، خمدت عاصفة المستعرات الأعظمية، ودخلت النجوم التي لم تكن كتلها كبيرة جدا طور العملاق الأحمر من مراحل حياتها الزمنية. ومع انخفاض حرارة تلك النجوم وتمددها، تشكلت جسيمات السيليكات الصخرية في أجوائها وتطايرت في الفضاء البيننجمي. ودخلت بعض جسيمات السيليكات تلك سحب الغاز الجزيئي التي كانت تتحرك باستمرار بين النجوم. وفي ظروف الحرارة المنخفضة داخل السحب، تجمدت كل ذرة أو جزيء تلاقت مع حبيبة سيليكات والتصقت فورا بسطحها، مثلما تتجمد قطرات بخار الماء على زجاج النافذة البارد. وعلى هذا النحو، نما دثار جليدي حول كل نواة سيليكاتية.
وبتكاثف الغبار في السحب الجزيئية ارتفعت كثافة الحبيبات إلى عشرات آلاف أضعاف الكثافة خارج السحب وبذلك أصبح الغبار كثيفا إلى الحد الذي يكفي تقريبا لمنع الإشعاعات كافة من دخول السحب، وهذا الأمر أدى إلى انخفاض إضافي في درجة حرارتها. ولما كانت السحب قد غدت أبرد من ذي قبل، لم تكن هناك حاجة إلى كتل كبيرة من أجل التغلب على ضغط الغاز بها. عندئذ تمكنت سحب غازية صغيرة نسبيا من الانكماش، وبذلك أمكن تولد نجوم صغيرة مشابهة لشمسنا. لقد غيَّر وجود الغبار تركيب درب التبانة جذريا بتخفيفه القيود المفروضة على تشكُّل النجوم.
مجرتنا المغبرَّة(3)
إن سحب الغبار كتلك الموجودة في سديم روزيت Rosette Nebula (في اليسار) هي بيوت حضانة نجمية. تحجز حبيبات الغبار الإشعاع داخل السحب الغازية، وهذا ما يسهل انهيار تلك السحب وتشكيلها للنجوم. وفي هذه العملية، يتطاير معظم الغبار بعيدا إلى مناطق من الفضاء أشد خلاء، وتشير قياسات إخماد ضوء النجوم المار عبر هذه المناطق المنخفضة الكثافة (في الأسفل) إلى وجود ثلاثة أنواع من الغبار: حبيبات ذوات نوى ودثارات، ومواد صلبة غنية بالكربون غير متبلورة، وجزيئات كبيرة شبيهة بالهدروكربونات المتعددة اللفائف العطرية (PAHs). وتستطيع الحبيبات ذوات النوى والدثارات تفسير استقطاب ضوء النجوم عند جميع الأطوال الموجية.
والأكثر من ذلك هو أن غبار مجرتنا يخضع إلى التدوير على نحو دائم. فعندما تنكمش سحابة من الغاز والغبار لتشكل نجما، تتبخر حبيبات الغبار الأقرب إلى منطقة تشكل النجم. (ويصبح السيليكون والعناصر الأخرى الناتجة من حبيبات الغبار تلك إما جزءا من النجم أو أنها تتكاثف لتشكل كواكب صخرية أو كويكبات). لكن معظم الغبار ينتشر بعيدا على هيئة سحب منخفضة التركيز، أي مناطق من الفضاء ذات غاز كثافته قليلة بدرجة كبيرة. وفي هذه البيئة الجافة، لا تتوقف الدثارات الجليدية في حبيبات الغبار عن النمو فحسب، بل تتحطم أو تتآكل بوساطة الإشعاع فوق البنفسجي وبالتصادم مع الجسيمات والجبهات الصدمية للمستعرات الأعظمية. لكن الحبيبات لا تؤول إلى نواها السيليكاتية على كل حال، فتحت الدثار الجليدي هناك دثار داخلي مكون من مواد عضوية معقدة.
لقد اقترحتُ وجود هذا الدثار العضوي قبل ثلاثة عقود؛ لأنني قررت أن السيليكات لا تستطيع وحدها أن تفسر مقدار اضمحلال الضوء الذي ينجم عن الغبار في السحب القليلة الكثافة. فقد افترضت أن طبقة المادة الغنية بالكربون على حبيبة الغبار تنجم عن تآثرات كيميائية في الدثار الجليدي، تلك التي تبدأ عندما تكون الحبيبة لاتزال في سحابة كثيفة من الغاز الجزيئي. وطبقا لنظريتي، عندما تضرب فوتونات الأشعة فوق البنفسجية العالية الطاقة الدثار الجليدي، تتحلل جزيئات الماء والميثان والأمونيا إلى جذور حرة تتحد فيما بعد لتشكل جزيئات عضوية مثل الفورمالديهيد. ويؤدي الإشعاع فوق البنفسجي المستمر في نهاية المطاف إلى نشوء مركبات أكثر تعقيدا تعرف بالجيل الأول من المواد العضوية. وتبقى هذه المواد العضوية كرواسب على نواة السيليكات حتى بعد أن تترك حبيبة الغبار السحابة الجزيئية وتحطم الدثار الجليدي. وفي الحقيقة، يساعد الدثار العضوي على وقاية نواة السيليكات من صدمات المستعرات الأعظمية حامية بذلك حبيبة الغبار إلى أن تعود إلى مأوى في سحابة غاز كثيفة أخرى.
خامات صفراء وبنية(4)
ولاختبار هذه النظرية، بدأت بإجراء تجارب مختبرية تحاكي الظروف التي تؤثر في الدثار الجليدي. وبدأ هذا العمل في جامعة ولاية نيويورك عام 1970 واستمر في جامعة ليدن بهولندا عام 1975. لقد قام فريقنا البحثي بتعريض خلائط مختلفة من الجليد لإشعاع فوق بنفسجي عند درجة حرارة مقدارها 263- درجة مئوية، ثم دفَّأناها. وكانت النتيجة راسبا أصفر اللون أسميناه «الخام الأصفر»، وكانت تسمية ملائمة بدرجة كافية. واحتوى الراسب على الگليسرول والگليسراميد وعدة أحماض أمينية (ومنها الگليسين والسيرين والألانين)، وحشد من الجزيئات المعقدة الأخرى.
وفي الوقت نفسه تقريبا، اكتشف الفلكيون دليلا على وجود مركبات عضوية معقدة في سحب الغبار المنخفضة الكثافة من خلال قياس امتصاص ضوء النجوم المار عبرها. ولم تتفق نتائجنا المختبرية مع خطوط الامتصاص في الطيف دون الأحمر تماما، وكان علينا ألا نندهش بهذا التناقض. ففي البيئة المفتوحة لسحب الغبار المنخفضة الكثافة، تتعرض حبيبات الغبار إلى إشعاع فوق بنفسجي تساوي شدته عشرة آلاف ضعف من تلك الموجودة في السحب الجزيئية. ويحوِّل هذا الإشعاع المادة الموجودة في الدثارات الداخلية إلى مواد عضوية من الجيل الثاني. وكان من الصعب علينا مختبريا توليد التأثير الزائد الناجم عن هذا الإشعاع فوق البنفسجي الزائد في شدته.
ومن حسن الطالع، أن الفرصة أتت لتدق باب المختبر. ففي أواخر ثمانينات القرن العشرين، دعانا <G. هورنك> [الذي يعمل في وكالة الفضاء الألمانية] إلى استخدام منصة قمر صنعي تسمى مجموعة الإشعاع الحيوي الخارجي Exobiology Radiation Assembly التي كانت قد صممت في الأصل من أجل تعريض العينات الحيوية للإشعاع فوق البنفسجي الطويل الأمد. وكانت المجموعة ملائمة تماما من أجل المعالجة فوق البنفسجية «للخام الأصفر»، وحضَّرت مجموعتنا التي ضمت <M. دي گرووت> و <C. مندوزا-گومز> و<W. شوت> و<P. وبر> الرواسب العضوية وأرسلتها إلى المدار الفضائي على القمر الصنعي المسمى الحامل الأوروبي القابل للاستعادة (European Retrievable Carrier (EURECA الذي أطلق بوساطة المكوك الفضائي عام 1992.
وبعد سنة (في الواقع بعد أربعة أشهر من التعرض للإشعاع الشمسي فوق البنفسجي)، استعاد المكوك القمر الصنعي، وأُعيدت العينات إلينا. وما ذهب إلى الفضاء أصفر اللون عاد بنيّا. ودل تغير اللون على أن المادة غدت أغنى بالكربون. وعندما درسنا «الخام البني» بوساطة مقياس الطيف دون الأحمر وجدنا نفس المنظومات تماما من خطوط الامتصاص التي كانت قد اكتشفت في أرصاد الأشعة تحت الحمراء الخاصة بالغبار البيننجمي. وعلى الرغم من أن تعرض العينات للإشعاع لم يتجاوز عُشر القيمة العظمى لما تتعرض له حبيبات الغبار في السحب المنخفضة الكثافة، فقد قاربت عيناتنا إلى حد بعيد المواد العضوية المنيعة الموجودة في الغبار الكوني.
لقد أرست هذه التجارب حجر الأساس للعمل من أجل نموذج الغبار الموحد الذي بنيته مع لي. إن النظرية تفترض أن النوعين الأصغرين من حبيبات الغبار البيننجمي ـ الجسيمات الغنية بالكربون غير المتبلورة والجزيئات الشبيهة بالهدروكربونات المتعددة اللفائف العطرية PAHs ـ ينجمان عن المعالجة فوق البنفسجية للمواد العضوية في حبيبات الغبار الكبيرة نسبيا والتي لها نوى ودثارات. وجلبنا عينتنا من «الخام البني» إلى <S. جيلت> [في جامعة ستانفورد] من أجل تحليلها باستخدام التقانات المتقدمة لقياس الكتلة الطيفي التي طورها الكيميائي في ستانفورد <R. زير>. ووجد جيلت أن العينة غنية جدا بالهدروكربونات PAHs. إن نموذج الغبار الموحد يوحي بأن المعالجة الكيميائية للحبيبات من ذوات النوى والدثارات يمكن أن تكون مسؤولة عن وجود الجسيمات الصغيرة الغنية بالكربون والجزيئات الشبيهة بالهدروكربونات PAHs في الغبار البيننجمي. ففي سحب الغاز المنخفضة الكثافة تتفتت جسيمات صغيرة من الدثارات العضوية عندما تشطر موجات المستعرات الأعظمية حبيبات الغبار الأكبر نسبيا [انظر الشكل في الصفحة 60]. وكل جسيم ذي نواة ودثار يولِّد سربا من مئات الآلاف من الحبيبات الدقيقة.
وفي نهاية الأمر، يُؤسر تجمع الغبار برمته من قبل سحابة جزيئات كثيفة. وداخل السحابة، تغدو التصادمات بين جسيمات الغبار وذرات الغاز وجزيئاته أكثر تكرارا.
وبعد مليون سنة أو نحوها، تلتحم الحبيبات الأكبر للغاز مع دثار جليدي يهيمن فيه الماء المتجمد وأحادي أكسيد الكربون. لقد أشارت أرصاد الغبار في السحب العالية الكثافة حول النجوم إلى وجود هذه المركبات إلى جانب مقادير صغيرة من ثنائي أكسيد الكربون والفورمالديهيد والأمونيا. وعلى الرغم من أن أحدًا لم يرصد مباشرة ما يحصل للجسيمات الغنية بالكربون وما يحصل للجزيئات الشبيهة بالهدروكربونات PAH في سحابة جزيئية، فمن المحتَّم أنها سوف تلتصق بالحبيبات الأكبر وتندمج في الدثارات الجليدية. ثم تُعاد معالجة الجزيئات العضوية بالإشعاع فوق البنفسجي، وتبدأ الدورة من جديد.
اقترح علماء آخرون نماذج بديلة تستطيع تفسير تأثيرات الاضمحلال الإشعاعي بوساطة الغبار البيننجمي دون الحاجة إلى الدثارات العضوية حول حبيبات الغبار الكبيرة. فعلى سبيل المثال، افترض <S .J. ماثيس> [من جامعة ويسكونسن ـ ماديسون] أن الحبيبات الأكبر هي تكتلات مخلخلة من جسيمات الگرافيت والسيليكات الصغيرة. لكن هذه النماذج تعجز عن تقديم تفسير مناسب لأثر آخر من آثار الغبار البيننجمي: وهو كيف يستقطب الغبار الضوء المار خلاله، أي كيف يوجه الموجات الكهرمغنطيسية في اتجاه معين. ولتفسير هذه الظاهرة، نحن نعرف أن كل واحدة من حبيبات الغبار الكبيرة ينبغي أن تشكَّل تقريبا على هيئة أسطوانة أو شكل كروي تقريبا، وأن تدور في حركة مغزلية حول محورها الأصغر مثل عصا المايسترو. إضافة إلى ذلك، نحن نعرف أن محاور دوران حبيبات الغبار جميعها يجب أن تكون متجهة في اتجاه واحد لكي تستقطب الضوء. (يُعتقد أن الحقول المغنطيسية في سحابة الغبار توازي محاور الدوران). إن الإنجاز الفريد لنموذج الغبار الموحد هو أن الجسيمات المفترضة من ذوات النوى والدثارات تستطيع تفسير الاستقطاب المرصود عند كافة الأطوال الموجية.
دورة الغبار(5)
من الغبار إلى المذنبات(6)
تُعد المذنبات الأشياء الأكثر نقاء بين ما تبقى من السديم الشمسي الأولي، أي سحابة الغاز والغبار التي ولد منها نظامنا الشمسي. فكلما حقق الفلكيون اكتشافات جديدة حول التركيب الكيميائي لكل من المذنبات والغبار البيننجمي، أصبحوا أشد اقتناعا بأن المذنبات تشكلت في الأصل على شكل تجمعات من حبيبات الغبار. ولذلك نجد أن هناك إجماعا على أن أرصاد المذنبات ستوفر لنا مزيدا من المعلومات عن الغبار.
عندما ولدت الكواكب والمذنبات مع الشمس قبل نحو 4.6 بليون سنة، يمكن أن تكون حبيبات الغبار ذوات النوى والدثارات في السحابة الشمسية الأولية قد امتصَّت، باحتمال عال، الجسيمات الصغيرة الغنية بالكربون والجزيئات الشبيهة بالهدروكربونات PAH، إضافة إلى غاز أحادي أكسيد الكربون والمكونات الطيارة الأخرى في الغاز. ولم يبق حرا إلا الهدروجين والهليوم. وتصادمت حبيبات الغبار معا على نحو متكرر، الأمر الذي كان كافيا لتكوين تكتلات مخلخلة التماسك. إن النظرية السائدة اليوم هي أن هذه التجمعات «الزغبية» من جسيمات الغبار البيننجمي تطورت لتشكل نوى المذنبات. وكل نواة يمكن أن تكون مخلخلة جدا، أي إنها يمكن أن تحتوي على كثير من الفضاء الخالي. إن النموذج الذي وضعتُه بخصوص قطعة من نواة المذنب يحوي 100 حبيبة غبار شمسي أولي متوسطة الحجم مختلطة معا في تجمع باتساع ثلاثة ميكرونات ويشكل الفضاء الخالي فيه 80 في المئة [انظر الشكل في هذه الصفحة].
تدور المذنبات منذ نشأتها في مدار حول الشمس في مناطق من سحابة أورت Oort Cloud وحزام كويپرKuiper Belt على مسافات بعيدة عن مدارات الكواكب. إلا أن الاضطرابات التثاقلية تدفع أحيانا بالمذنبات إلى مدارات تقترب بها من الشمس. لقد حصلت ثورة في فهمنا للمذنبات عام 1986 عندما اقترب المسباران الفضائيان جيوتو Giotto وفيگا Vega 1 و 2 من مذنب هالي الذي يقترب من الشمس كل 76 سنة. كانت كل من السفن الفضائية الثلاث تحمل مقياسَ إشعاعٍ طيفي من أجل قياس كتل الجسيمات وتركيبها الكيميائي في ذؤابة هالي، أي سحابة الغبار والغاز المحيطة بالنواة. لقد تصادمت الجسيمات بمكشاف المقياس بسرعة 80 كيلومترا في الثانية وانشطرت إلى مكوناتها الذرية. وكشفت الأجهزة سلسلة واسعة من كتل الجسيمات، ومنها الكتلة 14-10 غرام المتوقعة لحبيبة الغبار ذات النواة والدثار والكتلة 18-10 غرام المميزة للجسيمات الكربونية الصغيرة.
وفيما بعد أكد كل من <J. كسَّل> [من معهد ماكس پلانك للفيزياء فيما بعد النطاقات الأرضية في گارشينگ الألمانية] و<R .F. كرويگر> [من مكتب كرويگر الهندسي في دار مشتادت] و<K .E. جسبّورگر> [من جامعة مونستر] أن الغبار المأخوذ من مذنب هالي يتكون من تكتلات جسيمات لها نوى من السيليكا ودثارات عضوية منيعة، وهذا يتطابق تماما مع ما تنبأت به نظريتي الأصلية حول المذنبات. وقد استندت استنتاجاتهم إلى حقيقة أن ذرات الأكسجين والكربون والآزوت المنطلقة من الدثارات العضوية تصادمت بمكاشيف السفن الفضائية تماما قبل أن تتصادم بها ذرات السيليكون والمغنيزيوم والحديد المنطلقة من النوى.
نموذج لغبار المذنب الذي شكّله المؤلف من مئة حبيبة ذات نواة ودثار في تجمع مخلخل اتساعه ثلاثة ميكرونات. ولكون هذه التكتلات غنية بالمركبات العضوية، يمكن أن تكون قد نثرت بذور الحياة على الأرض.
ما هو عمر الغبار الموجود في مذنب هالي وفي المذنبات الأخرى؟ نحن نعلم أن عمر الغبار قبل تكتله لتشكيل المذنبات كان نحو خمسة بلايين سنة، لأن حبيبة الغبار تبقى في الفضاء البيننجمي طوال ذلك الوقت قبل أن تلتهم في عملية تكوين نجم. ولما كان عمر المذنبات نفسها يبلغ 4.6 بليون سنة، فإن تشكل الغبار قد يعود إلى ما قبل نحو عشرة بلايين سنة. لذلك يسمح لنا تحليل مادة المذنبات باستقصاء طفولة درب التبانة.
ويمكن لغبار المذنبات أن يكون قد أدى دورا أيضا في وضع بذور الحياة على الأرض. فكل تجمع مخلخل من غبار المذنبات لا يحتوي على مواد عضوية فحسب، بل يمتلك أيضا بنية مثالية للتطور الكيميائي عندما يُغمس في الماء. لقد بيَّن كسَّل وكرويگر أن الجزيئات تستطيع بسهولة اختراق التجمع من الخارج، لكن الجزيئات الكبيرة تبقى محتجزة في الداخل. ويمكن لمثل هذه البنية أن تحفز إنتاج جزيئات أكبر فأكبر وأشد تعقيدا، مؤدية بذلك ربما دور الحاضنة الدقيقة لأشكال الحياة البدائية الأولى. ويمكن لمذنب واحد أن يكون قد نثر ما يصل إلى 1025 من هذه «البذور» على الأرض الفتية.
إن الوكالة (ناسا) ووكالة الفضاء الأوروبية (إيسا) تتوليان تنفيذ مهام ستكشف المزيد عن طبيعة المذنبات والغبار البيننجمي. فقد أطلقت ناسا في عام 1999 سفينة غبار النجوم Stardust craft التي بُرمجت لملاقاة المذنب وايلد Wild-2 عام 2004 ولجلب عينة من غبار ذؤابته إلى الأرض. وأثناء الرحلة، سوف يقوم هذا المسبار بجمع عينات من الغبار البيننجمي المتدفق عبر نظامنا الشمسي. أما مهمة إيسا فهي أكثر طموحا؛ فالمركبة (رشيد) المزمع إطلاقها عام 2003 ستتخذ مدارا حول نواة مذنب فيرتانن Wirtanen وسوف ترسِل مسبارا ليهبط على سطح جسمه المخلخل. وسوف تقوم منظومة من الأجهزة العلمية المحمولة على المسبار بتحليل دقيق لبنية المذنب الفيزيائية وتركيبه الكيميائي بالتفصيل. وستشارك مجموعة البحث التابعة لي في الجهود المبذولة من خلال تحضير عينات مختبرية من المواد العضوية من أجل المقارنة بالمواد المرصودة في نواة فيرتانن وغباره.
إن هذه الرحلات الفضائية سوف تؤدي، دون شك، إلى اتجاهات جديدة في الأبحاث. ولن يعتبر الفلكيون بعد اليوم الغبار البيننجمي أمرا مزعجا، بل مصدرا رئيسيا للمعلومات عن ولادة النجوم والكواكب والمذنبات وقد يكون حاملا لدلالات عن أصل الحياة ذاتها.
الكلمات المفتاحية :
عجائب الله في السموات
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: