العلم والجهل
بسم الله الرحمان الرحيم العليّ العليم العظيم الكريم والصلاة والسلام على الفتى الرباني الأوحد الصمداني سيدنا ومولانا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين . أمّا بعد : فالكثير من الناس قد يلتبس عليهم تعريف العلم وكذلك تعريف الجهل , والذي يجب أن يعوّل عليه أنّ جميع التعريفات متى لم يكن مصدرها ودليلها من الكتاب والسنّة فلا يعتدّ بها ولا يلتفت إليها إلاّ متى وافقت الكتاب والسنّة ( إذن فهي منه ) كما قال عليه
الصلاة والسلام ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ ) أنظر قوله : ( ما ليس منه ) فليس الإنكار في حدّ ذاته على من أحدث أمرا و إنّما الإنكار متى كان ذلك الأمر ليس من الدين ولا تدلّ عليه مفاهيمه أمّا متى كان منه فلا حرج بدليل قوله : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ) أي فكأنّه يقول : ( من أحدث في أمرنا هذا ما هو منه فليس هو ردّ ). فليس النكران على الحدوث وإنّما الإنكار وقع على ( ما ليس منه ) ومن هنا قال العلماء بوجود البدعة الحسنة التي نصّ عليه خليفة المسلمين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وقد فصّل الأمر في ذلك سلطان العلماء سيدي العزّ بن عبد السلام رحمه الله تعالى ورضي عنه وغيره رضي الله عنهم أجمعين .. هذا ليس موضوعنا .. فنعود لأقول : أكثر الناس اليوم في زماننا هذا تعريفهم وفهمهم للعلم قاصر لا يؤدّي المطلوب ولا يقف على حقيقة الأشياء وسنفصّل أمر العلم والجهل بالمتاح من العلم ( ربّنا لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم ). الذي يجب أن يعلم بداية أنّ العلم له بداية وله وسط وله نهاية ( وأنّ إلى ربّك المنتهى ), كما قال ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه في حكمة من حكمه ( وصولك إلى الله هو وصولك إلى العلم به ... ) وهذا الوصول من حيث هو وصول ليست له نهاية من حيث العلم كما قال تعالى لسيّد المرسلين صلى الله عليه وسلّم ( وقل ربّ زدني علما ). وكما قال شيخنا إسماعيل رضي الله عنه في مناجاته مرآة الذاكرين ( إلهي إنّ كمال العارف بداية الكمال والوصول إلى نهاية نوالكم درجة لا تنال ... ) . بداية العلم : هو قوله تعالى ( إقرأ بإسم ربّك الذي خلق ) أي إقرأ بالإسم الذاتي الجامع الذي لا يدلّ إلا على الله تعالى فمتى قرأت بغير هذا الإسم وهو قولنا ( اللـــــــــــــــــــــــــــه ) فما هي بقراءة ولا تنتج علما بل تنتج جهلا فكلّ من لم يقرأ بالإسم الجامع في عرف العارفين فهو جاهل عندهم كان من كان ... قال تعالى : ( الرحمان علّم القرآن ) ثمّ قال ( خلق الإنسان علّمه البيان ) وعليه فهمنا أنّ تعليم القرآن الذي ما فرّط الله تعالى فيه من شيء ( ما فرّطنا في الكتاب من شيء ) يكون بداية تعليمه من مستوى إسمه ( الرحمان ) وهو الإسم الذاتي الثاني , قد يسأل سائل : ما الفرق بين القراءة و بين التعليم ؟ الجواب : القراءة هو قوله تعالى ( إقرأ بإسم ربّك الذي خلق ) أمّا التعليم فهو قوله تعالى ( ... الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم ) فنجد هنا : قراءتين وتعليمين : القراءة الأولى هو قوله تعالى ( إقرأ بإسم ربّك ) والقراءة الثانية هو قوله تعالى ( إقرأ وربّك الأكرم ). أمّا التعليم الأوّل فهو قوله تعالى ( الذي علّم بالقلم ) والتعليم الثاني قوله تعالى ( علّم الإنسان ما لم يعلم ). قال تعالى : ( الرحمان علّم القرآن ) هذا التعليم الأوّل ثمّ قال ( خلق الإنسان علّمه البيان ) وهو التعليم الثاني. فنجد في السورة الأولى الأمر صعودي أي قراءة ثمّ قراءة ثمّ تعليم ثمّ تعليم و في السورة الثانية تعليم ثمّ تعليم , فكانت سورة العلق للمبتدئين الذين أوذنوا بذكر الإسم المفرد فكأنّ الله تعالى يقول لهم : ( إقرأ بإسم ربّك الذي خلق ) أي إقرأ بإسمي كي أعرّفك بي في عالم الأكوان والخلق , ثمّ إقرأ بإسمي في عالم الملكوت والنور وهو مجال الكرم , ثمّ قال ( ... الذي علّم بالقلم ) أي بداية ثمّ نهاية . قال ( علّم الإنسان ما لم يعلم ) بعد القراءة وهو علوم الوهب كما قال تعالى للملائكة ( قال إنّي أعلم ما لا تعلمون ) فكأنّه تعالى يقول لهم : ( إني أعلم ما لا تعلمون فيما تعلمون ) وليس المراد بأنّه يقول لهم إنّي أعلم ما لا تعلمون بأنّه يقارن نفسه سبحانه بهم بل يعلم ما لا يعلمون فيما يعلمون لذا قالوا ( سبحانك لا علم لنا ) أي من شؤون آدم الخليفة ( إلاّ ما علّمتنا ) ممّا قلناه من حيث كشفنا وفراستنا فيه , فالموضوع مقيّد فيما صدر فيه الإخبار ودليل هذا قوله تعالى لهم بعد أنّ علّم آدم الأسماء كلّها قال تعالى ( قال ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ) أعلم ما تبدون من العلم وما كنتم تكتمون منه ممّا لا يفي بالغرض. فأشار لهم أنّ علوم الخلفية هي هذه التي جهلتموها ودليل هذا أنّ الذي تكلّمت فيه الملائكة هو من الغيب في السماوات والأرض بعد أن أخبرت بافساد آدم وذريته وسفكهم للدماء قبل تمام خلقه فقد علمت الملائكة هذا بمجرّد الإخبار بجعل آدم خليفة في الأرض كي تعلم يا وليّ أنّ الله تعالى متى كشف لك عن غيب من غيوبه ولو في المنام فأنت تعلم وجها فيه وليس لك الإحاطة فيه فقد كوشفت الملائكة بجانب غيبي في هذا الخليفة ولكنها ليس في علمها كلّ الجوانب الأخرى. وهكذا كي تعلم أنّ الله بكلّ شيء عليم وإنّما أخبرهم بصفة الإحاطة كي يعطيهم أنّ حقيقة العلم الذي يصلح أن يحتجّ به يجب أن تكون ظاهرة وباطنة في جميع ذرّات سريان الأزمان والأمكنة على وجه الإطلاق ... وهذا من إختصاص الله تعالى كما قال تعالى ( وما أؤتيتم من العلم إلاّ قليلا ) وإنّما يصحّ صدقك فيما تخبر به متى كنت مخلصا فيه ليس لتحاجج به وإنّما كي تغار لجناب التوحيد أن يثلمه أحد متى كنت من جند الله تعالى. فقوله تعالى ( وأعلم ما تبدون ) من الظاهر الذي ظهر في كشفكم وعلمكم ( وما كنتم تكتمون ) من الباطن الذي سيعلّمكم إياه آدم , فإبليس لعنه الله تعالى كان ممّا يكتمه من الغيب الذي هو فيه ولا يعلمه ما فعله وأساء الأدب فيه , فلن يظهر منك يا بني آدم إلاّ ما علمه الله تعالى فيك وإنّما تخرج من الغيب المتعلّق بك ممّا في باطنك من الذي كنت تكتمه عن نفسك ولا تدريه لذا كانت صفة النفس هي الجهل ويعلمه الله منك وفيك. بخلاف السورة الثانية فهي للعارفين بما أنّ مجالها تعليمي في مرتبتين : مرتبة أولى أصلية ونعني بالأصلية هو دوام نزول القرآن بمعنى عدم تناهي معلوماته بحسب كلّ تجلّي وفي كلّ وقت ومكان لذا قرن التعليم هنا بفعل إسمه الرحمان ومن بعضه كما يقولون ( هذا وارد رحماني ) فهو من علوم القرآن التي علّمها الرحمان ثمّ مرتبة ثانية نازلة كي تتحدّ السورتان وينقلب المشهدان فيصبح السلوك جذبا والجذب سلوكا لقوله تعالى (هل تَرَىَ فِي خَلْقِ الرّحْمَـَنِ مِن تَفَاوُتِ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىَ مِن فُطُورٍ ثُمّ ارجِعِ البَصَرَ كَرّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ). بعد هذا التمهيد الوجيز ندخل إن شاء الله تعالى في الموضوع المقصود وهو بيان مرتبة العلم وحقيقته وهو العلم النافع وهو العلم في مرتبة القلب وهو النور ثمّ نبيّن خلالها حيل إبليس لعنه الله تعالى في بثّ الجهل في القلوب لقوله ( لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم ) أي وسط الصراط الذي هو ( القلب ) . كي تعلم علم إبليس لعنه الله تعالى بالأمور فإنّي رأيت غالبية الأمّة الإسلامية اليوم جاهلة جهل قلوب لذا اتّبعت الشياطين في كلّ شيء لأنّ الدجّال آخّر خروجه إلى وقت جهل القلوب كي يتحقّق له الظاهرية التي لا يمكن نجاحها إلاّ بفصل الروح عن العقل ولا يكون هذا إلاّ بتجهيل القلب أكتب كلّ هذا حرصا على أمّة التوحيد أن تجهل دينها لقوله تعالى ( ... ورابطوا لعلّكم تفلحون )
روح كلّ شيء هو حقيقته وحقيقة كلّ شيء هي روحه وبما أنّ القرآن الكريم إجتمعت فيه جميع صفات الحسن التي منها : العلم والصدق والحقّ والنور ولكلّ من هذه الأصول دلائل من الكتاب والسنّة.
قال تعالى : من حيث العلم ( أنزله بعلمه ) وقال في الصدق ( ومن أصدق من الله حديثا ) و ( قيلا ) وقال في الحقّ ( الحقّ من ربّك ) وقال في النور ( لقد جاءكم من الله نور ) فمتى كان العلم وجب وجود النور إذ أنّه لازمه فكلّ علم بلا نور هو جهل حقيقة لأنّ النور هو الهدى في العلم فإنّ جميع حقائق الهداية لها تعلّق مباشر بالنور وهذا النور مكانه القلب وهو علمه فكلّ قلب ليس فيه نور هو قلب جاهل ثمّ سنذكر علامات النور خلال الحديث.
قال تعالى عن القرآن الكريم الذي هو الكتاب المبين ( يضلّ به كثيرا ويهدي به كثيرا ) أي عند البيان والأمثال وسبب هذا الضلال هو خلوّ ذلك العلم القرآني من نوره وهو نور القلب لذا قال تعالى مبيّنا هذا الأمر ( أنزله على قلبك ) فكلّ من لم ينزل القرآن على قلبه فلا بدّ أن يضلّ به لذا قال عليه الصلاة والسلام ( اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ) وقال أيضا سبحانه مبيّنا هذا ( أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) فما قصد غير القلب الذي عليه أنزل لذا قال إبليس لعنه الله تعالى ( لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم ) الذي هو القلب أي سأحجب عنهم نور التوجّه كي لا يغمرهم نور المواجهة لهذا قال تعالى في سورة الفاتحة ( اهدنا الصراط المستقيم ) فذكر أنّ سبيل الصراط المستقيم الذي قعد فيه الشيطان هو الهداية التي هي نور لذا يقال ( نور الهداية ).
و لذاك قال تعالى في سورة البقرة ( الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) وقال في عكس ذلك ( والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ) فهناك أمران : دخول وخروج , فإبليس لعنه الله تعالى مهمّته التي توعّد بها أنّه يخرج الذين كفروا من نور واحد إلى ظلمات كثيرة , أمّا الله تعالى فيخرج الذين آمنوا من ظلمات كثيرة إلى نور واحد , لذا وردت لفظة الظلمات متعدّدة وهي جمع ظلمة أمّا النور فورد مفردا نورا واحدا فلم يرد بلفظ الجمع ( أنوار ) لأنّ نور الله تعالى واحد أمّا ظلمات النفس والشيطان فهي كثيرة لذا خطّ رسول الله عليه الصلاة والسلام خطوطا كثيرة لمّا فسّر سبل الشيطان رسما بينما رسم خطّا واحد كناية عن الصراط المستقيم , فأنت تعلم أنّ النور محلّه القلب.
قال تعالى ( لقد جاءكم من الله نور ) أي يجب تلقّيه بالقلب لأنّ محلّ النور ومستقرّه هو القلب ثمّ قال ( وكتاب مبين ) أي مفسّرا ماهيات هذا النور فسبق النور الكتاب كي تقرأه بذلك النور فهو مصباحه الكاشف فلا يمكن أن يكون هناك كتاب مبين من دون نور يسبقه فكيف يكون مبينا ولا نور معه.
فاتّحد هنا العلم والنور فتلازما كما قال الشافعي الإمام رضي الله عنه شاكيا لشيخه وكيع ( فأخبرني أنّ العلم نور --- ونور الله لا يهدى لعاصي ) أو كما قال رضي الله عنه, وقد قال الإمام مالك رحمه الله تعالى ( ليس العلم بكثرة الرواية وإنّما العلم نور يقذفه الله في القلب ).
ثمّ تلازم الصدق مع الحقّ فكلّ صادق لا يقول إلاّ الحقيقة لذا قال تعالى للملائكة ( أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ) ولم يقل لهم إن كنتم عالمين لأنّ قول الحقّ يستوجب الصدق وليس العلم فمتى خلا العلم من الصدق لم ينطق صاحبه بالحقّ فإذا علمت مستوى علمك فأكيد أنّك تعلم مستوى صدقك ومتى علمت مستوى صدقك تعلم مستوى قولك الحق.
هذا إذا ما علمت ما أنت عليه من جهل و قصورعلم قال تعالى في الجهل ( إنه كان ظلوما جهولا ) وقال في قصور العلم ( وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا ) وقال في الصدق ( يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ) أنظر كيف قال : ما ليس في قلوبهم فكأنّ المقياس هو القلب دائما وقال في الحقّ ( يكتمون الحقّ وهم يعلمون ) وإنّما كتموا الحقّ بعد علمهم لعدم وجود النور في قلوبهم فكان هنا اللسان ترجمان العقل والفكر وليس ترجمان القلب فكلّ من لم يتكلّم من قلبه فهو كاذب في دين الله تعالى.
فكان العلم للعقل والصدق للقلب والحقّ للسان نتيجة النور.
قال تعالى : ( ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور ) وقال تعالى ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) والآيات كثيرة في هذا المعنى الأصلي من الدين ...
قال تعالى : (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم و يعلمهم الكتاب والحكمة ).
فلم يقل تعالى : هو الذي بعث في الأمّيين رسولا منهم يعلّمهم القراءة والكتابة فليس معنى الأمّية هنا عدم القراءة والكتابة لقوله تعالى ( أنزله على قلبك ) فالمقصود منهم هو القلب وليس مجرّد العقل , قال تعالى ( يتلو عليهم آياته ) وفي نفس الوقت ( يزكّيهم ) لأنّ التلاوة متى صدرت على حقيقتها بلسان قائلها وهو صاحب ( العلم والنور والصدق والحقّ ) فتسري تلك الأحوال والمعاني في قلب السامع لتلك التلاوة فتقع التزكية بذلك وهي تزكية القلوب ( تخلية القلب من الرذائل وتحليته بأنواع الفضائل ) حتّى يشرق فيه النور فمتى أشرق فيه النور يقع هنا التعليم وهو التعليم الصحيح.
( ويعلّمهم الكتاب ) وهي علوم الأحوال والمقامات بعد شروق النور وهو معنى التوجيه من شيخ التربية والوارث المحمّدي في زماننا هذا قال الشيخ إسماعيل رضي الله عنه لبعض الفقراء لمّا لقّنه الذكر بالإسم المفرد ( أذكر الله تعالى حتّى تشرق عليك الأنوار فحينها تعال كي أرتقي بك ) هذا معنى كلامه , وقد قال من قبله سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه لأحدهم ( أذكر الله تعالى حتّى تشرق عليك الأنوار فلا ترى غيرها فحينها تعال إليّ كي أسلك بك في ميادين المعارف ) هذا معنى كلامه رضي الله عنه وهو ما دلّت عليه الآيات لأنّ التزكية المحمّدية في الصدر الأوّل من الإسلام سهلة ميسّرة لوجود رسول الله عليه الصلاة والسلام كما قال عليه الصلاة والسلام ( تكون فيكم النبوّة ما شاء الله لها أن تكون ... ) أي أنّ وجود النبوّة مرتبة أعلى من وجود الخلافة والوراثة.
فاتّخذ أهل الله تعالى مناهجا وهي الطرق في هذا السلوك كما اتّخذ الفقهاء مذاهبا في الفقه الإسلامي ( وكلّهم من رسول الله ملتمس --- غرفا من البحر أو رشفا من الديم ) فعند شروق النور يقع وقتها التعليم بجدّ وحقيقة فالتعليم هنا مرتبتان : أوّلاهما : تعليم الكتاب والثاني تعليم الحكمة وقد يسأل سائل وكيف يكون تعليم الحكمة وهي موهوبة غيرمكتسبة؟
فالجواب :
أنّ الأمر هنا في ميادين النور وهو مجال القلب وليس الأمر في مجال العقل فهو تعليم نوراني.
لذا وردت هذه الآية تحديدا في سورة الجمعة لأنّها سورة الجمع على القلب وهو الجمع على سيّدنا محمّد رسول الله عليه الصلاة والسلام فمتى اجتمعنا عنده جمعنا على الله تعالى , فإنّ يوم الإثنين هو يومه عليه الصلاة والسلام أمّا يوم الجمعة فهو يومنا معه أو يومه معنا فهو لنا وهو عيد المسلمين وبما أنّه يومنا وفيه تقوم القيامة كنّا أوّل الأمم حسابا وأوّلها دخولا إلى الجنّة لأنّ الناس لا يمكنها أن تتقدّم عليك في يومك وهو يوم عيدك الذي فيه خلق آدم كي تعلم علاقة آدم معنا في يومه ويومنا فهو يومه من حيث الجمع فيه على سيدنا محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام لذا أشار إلى هذا عليه الصلاة والسلام ( آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة ) أو كما قال عليه الصلاة والسلام ولذا قال إبراهيم عليه السلام في ليلة الإسراء والمعراج للحبيب صلى الله عليه وسلّم ( إقرأ أمّتك منّي السلام ) فنقول : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا سيّدنا إبراهيم عليك السلام.
هذه مقدّمة أخرى وتمهيدا ثانيا للموضوع إن شاء الله تعالى ثمّ نشرع في تفصيل مقامات العلم والنور في القلب وسنذكر الكشف والفراسة النورانية وأنّ القلب ساحة الأحوال وأنّه مجال الإجتماع , إجتماع المعاني وهو من عالم الملكوت والنور فلغته لغة واحدة مهما تعدّدت اللهجات فإنّ العالم مفترق في عالم العقول مجموع في عالم القلب قال سيدي محمد المداني رضي الله عنه ( خض بحر المعاني --- فذاك بحر الله ) .
الصلاة والسلام ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ ) أنظر قوله : ( ما ليس منه ) فليس الإنكار في حدّ ذاته على من أحدث أمرا و إنّما الإنكار متى كان ذلك الأمر ليس من الدين ولا تدلّ عليه مفاهيمه أمّا متى كان منه فلا حرج بدليل قوله : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ) أي فكأنّه يقول : ( من أحدث في أمرنا هذا ما هو منه فليس هو ردّ ). فليس النكران على الحدوث وإنّما الإنكار وقع على ( ما ليس منه ) ومن هنا قال العلماء بوجود البدعة الحسنة التي نصّ عليه خليفة المسلمين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وقد فصّل الأمر في ذلك سلطان العلماء سيدي العزّ بن عبد السلام رحمه الله تعالى ورضي عنه وغيره رضي الله عنهم أجمعين .. هذا ليس موضوعنا .. فنعود لأقول : أكثر الناس اليوم في زماننا هذا تعريفهم وفهمهم للعلم قاصر لا يؤدّي المطلوب ولا يقف على حقيقة الأشياء وسنفصّل أمر العلم والجهل بالمتاح من العلم ( ربّنا لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم ). الذي يجب أن يعلم بداية أنّ العلم له بداية وله وسط وله نهاية ( وأنّ إلى ربّك المنتهى ), كما قال ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه في حكمة من حكمه ( وصولك إلى الله هو وصولك إلى العلم به ... ) وهذا الوصول من حيث هو وصول ليست له نهاية من حيث العلم كما قال تعالى لسيّد المرسلين صلى الله عليه وسلّم ( وقل ربّ زدني علما ). وكما قال شيخنا إسماعيل رضي الله عنه في مناجاته مرآة الذاكرين ( إلهي إنّ كمال العارف بداية الكمال والوصول إلى نهاية نوالكم درجة لا تنال ... ) . بداية العلم : هو قوله تعالى ( إقرأ بإسم ربّك الذي خلق ) أي إقرأ بالإسم الذاتي الجامع الذي لا يدلّ إلا على الله تعالى فمتى قرأت بغير هذا الإسم وهو قولنا ( اللـــــــــــــــــــــــــــه ) فما هي بقراءة ولا تنتج علما بل تنتج جهلا فكلّ من لم يقرأ بالإسم الجامع في عرف العارفين فهو جاهل عندهم كان من كان ... قال تعالى : ( الرحمان علّم القرآن ) ثمّ قال ( خلق الإنسان علّمه البيان ) وعليه فهمنا أنّ تعليم القرآن الذي ما فرّط الله تعالى فيه من شيء ( ما فرّطنا في الكتاب من شيء ) يكون بداية تعليمه من مستوى إسمه ( الرحمان ) وهو الإسم الذاتي الثاني , قد يسأل سائل : ما الفرق بين القراءة و بين التعليم ؟ الجواب : القراءة هو قوله تعالى ( إقرأ بإسم ربّك الذي خلق ) أمّا التعليم فهو قوله تعالى ( ... الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم ) فنجد هنا : قراءتين وتعليمين : القراءة الأولى هو قوله تعالى ( إقرأ بإسم ربّك ) والقراءة الثانية هو قوله تعالى ( إقرأ وربّك الأكرم ). أمّا التعليم الأوّل فهو قوله تعالى ( الذي علّم بالقلم ) والتعليم الثاني قوله تعالى ( علّم الإنسان ما لم يعلم ). قال تعالى : ( الرحمان علّم القرآن ) هذا التعليم الأوّل ثمّ قال ( خلق الإنسان علّمه البيان ) وهو التعليم الثاني. فنجد في السورة الأولى الأمر صعودي أي قراءة ثمّ قراءة ثمّ تعليم ثمّ تعليم و في السورة الثانية تعليم ثمّ تعليم , فكانت سورة العلق للمبتدئين الذين أوذنوا بذكر الإسم المفرد فكأنّ الله تعالى يقول لهم : ( إقرأ بإسم ربّك الذي خلق ) أي إقرأ بإسمي كي أعرّفك بي في عالم الأكوان والخلق , ثمّ إقرأ بإسمي في عالم الملكوت والنور وهو مجال الكرم , ثمّ قال ( ... الذي علّم بالقلم ) أي بداية ثمّ نهاية . قال ( علّم الإنسان ما لم يعلم ) بعد القراءة وهو علوم الوهب كما قال تعالى للملائكة ( قال إنّي أعلم ما لا تعلمون ) فكأنّه تعالى يقول لهم : ( إني أعلم ما لا تعلمون فيما تعلمون ) وليس المراد بأنّه يقول لهم إنّي أعلم ما لا تعلمون بأنّه يقارن نفسه سبحانه بهم بل يعلم ما لا يعلمون فيما يعلمون لذا قالوا ( سبحانك لا علم لنا ) أي من شؤون آدم الخليفة ( إلاّ ما علّمتنا ) ممّا قلناه من حيث كشفنا وفراستنا فيه , فالموضوع مقيّد فيما صدر فيه الإخبار ودليل هذا قوله تعالى لهم بعد أنّ علّم آدم الأسماء كلّها قال تعالى ( قال ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ) أعلم ما تبدون من العلم وما كنتم تكتمون منه ممّا لا يفي بالغرض. فأشار لهم أنّ علوم الخلفية هي هذه التي جهلتموها ودليل هذا أنّ الذي تكلّمت فيه الملائكة هو من الغيب في السماوات والأرض بعد أن أخبرت بافساد آدم وذريته وسفكهم للدماء قبل تمام خلقه فقد علمت الملائكة هذا بمجرّد الإخبار بجعل آدم خليفة في الأرض كي تعلم يا وليّ أنّ الله تعالى متى كشف لك عن غيب من غيوبه ولو في المنام فأنت تعلم وجها فيه وليس لك الإحاطة فيه فقد كوشفت الملائكة بجانب غيبي في هذا الخليفة ولكنها ليس في علمها كلّ الجوانب الأخرى. وهكذا كي تعلم أنّ الله بكلّ شيء عليم وإنّما أخبرهم بصفة الإحاطة كي يعطيهم أنّ حقيقة العلم الذي يصلح أن يحتجّ به يجب أن تكون ظاهرة وباطنة في جميع ذرّات سريان الأزمان والأمكنة على وجه الإطلاق ... وهذا من إختصاص الله تعالى كما قال تعالى ( وما أؤتيتم من العلم إلاّ قليلا ) وإنّما يصحّ صدقك فيما تخبر به متى كنت مخلصا فيه ليس لتحاجج به وإنّما كي تغار لجناب التوحيد أن يثلمه أحد متى كنت من جند الله تعالى. فقوله تعالى ( وأعلم ما تبدون ) من الظاهر الذي ظهر في كشفكم وعلمكم ( وما كنتم تكتمون ) من الباطن الذي سيعلّمكم إياه آدم , فإبليس لعنه الله تعالى كان ممّا يكتمه من الغيب الذي هو فيه ولا يعلمه ما فعله وأساء الأدب فيه , فلن يظهر منك يا بني آدم إلاّ ما علمه الله تعالى فيك وإنّما تخرج من الغيب المتعلّق بك ممّا في باطنك من الذي كنت تكتمه عن نفسك ولا تدريه لذا كانت صفة النفس هي الجهل ويعلمه الله منك وفيك. بخلاف السورة الثانية فهي للعارفين بما أنّ مجالها تعليمي في مرتبتين : مرتبة أولى أصلية ونعني بالأصلية هو دوام نزول القرآن بمعنى عدم تناهي معلوماته بحسب كلّ تجلّي وفي كلّ وقت ومكان لذا قرن التعليم هنا بفعل إسمه الرحمان ومن بعضه كما يقولون ( هذا وارد رحماني ) فهو من علوم القرآن التي علّمها الرحمان ثمّ مرتبة ثانية نازلة كي تتحدّ السورتان وينقلب المشهدان فيصبح السلوك جذبا والجذب سلوكا لقوله تعالى (هل تَرَىَ فِي خَلْقِ الرّحْمَـَنِ مِن تَفَاوُتِ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىَ مِن فُطُورٍ ثُمّ ارجِعِ البَصَرَ كَرّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ). بعد هذا التمهيد الوجيز ندخل إن شاء الله تعالى في الموضوع المقصود وهو بيان مرتبة العلم وحقيقته وهو العلم النافع وهو العلم في مرتبة القلب وهو النور ثمّ نبيّن خلالها حيل إبليس لعنه الله تعالى في بثّ الجهل في القلوب لقوله ( لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم ) أي وسط الصراط الذي هو ( القلب ) . كي تعلم علم إبليس لعنه الله تعالى بالأمور فإنّي رأيت غالبية الأمّة الإسلامية اليوم جاهلة جهل قلوب لذا اتّبعت الشياطين في كلّ شيء لأنّ الدجّال آخّر خروجه إلى وقت جهل القلوب كي يتحقّق له الظاهرية التي لا يمكن نجاحها إلاّ بفصل الروح عن العقل ولا يكون هذا إلاّ بتجهيل القلب أكتب كلّ هذا حرصا على أمّة التوحيد أن تجهل دينها لقوله تعالى ( ... ورابطوا لعلّكم تفلحون )
روح كلّ شيء هو حقيقته وحقيقة كلّ شيء هي روحه وبما أنّ القرآن الكريم إجتمعت فيه جميع صفات الحسن التي منها : العلم والصدق والحقّ والنور ولكلّ من هذه الأصول دلائل من الكتاب والسنّة.
قال تعالى : من حيث العلم ( أنزله بعلمه ) وقال في الصدق ( ومن أصدق من الله حديثا ) و ( قيلا ) وقال في الحقّ ( الحقّ من ربّك ) وقال في النور ( لقد جاءكم من الله نور ) فمتى كان العلم وجب وجود النور إذ أنّه لازمه فكلّ علم بلا نور هو جهل حقيقة لأنّ النور هو الهدى في العلم فإنّ جميع حقائق الهداية لها تعلّق مباشر بالنور وهذا النور مكانه القلب وهو علمه فكلّ قلب ليس فيه نور هو قلب جاهل ثمّ سنذكر علامات النور خلال الحديث.
قال تعالى عن القرآن الكريم الذي هو الكتاب المبين ( يضلّ به كثيرا ويهدي به كثيرا ) أي عند البيان والأمثال وسبب هذا الضلال هو خلوّ ذلك العلم القرآني من نوره وهو نور القلب لذا قال تعالى مبيّنا هذا الأمر ( أنزله على قلبك ) فكلّ من لم ينزل القرآن على قلبه فلا بدّ أن يضلّ به لذا قال عليه الصلاة والسلام ( اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ) وقال أيضا سبحانه مبيّنا هذا ( أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) فما قصد غير القلب الذي عليه أنزل لذا قال إبليس لعنه الله تعالى ( لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم ) الذي هو القلب أي سأحجب عنهم نور التوجّه كي لا يغمرهم نور المواجهة لهذا قال تعالى في سورة الفاتحة ( اهدنا الصراط المستقيم ) فذكر أنّ سبيل الصراط المستقيم الذي قعد فيه الشيطان هو الهداية التي هي نور لذا يقال ( نور الهداية ).
و لذاك قال تعالى في سورة البقرة ( الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) وقال في عكس ذلك ( والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ) فهناك أمران : دخول وخروج , فإبليس لعنه الله تعالى مهمّته التي توعّد بها أنّه يخرج الذين كفروا من نور واحد إلى ظلمات كثيرة , أمّا الله تعالى فيخرج الذين آمنوا من ظلمات كثيرة إلى نور واحد , لذا وردت لفظة الظلمات متعدّدة وهي جمع ظلمة أمّا النور فورد مفردا نورا واحدا فلم يرد بلفظ الجمع ( أنوار ) لأنّ نور الله تعالى واحد أمّا ظلمات النفس والشيطان فهي كثيرة لذا خطّ رسول الله عليه الصلاة والسلام خطوطا كثيرة لمّا فسّر سبل الشيطان رسما بينما رسم خطّا واحد كناية عن الصراط المستقيم , فأنت تعلم أنّ النور محلّه القلب.
قال تعالى ( لقد جاءكم من الله نور ) أي يجب تلقّيه بالقلب لأنّ محلّ النور ومستقرّه هو القلب ثمّ قال ( وكتاب مبين ) أي مفسّرا ماهيات هذا النور فسبق النور الكتاب كي تقرأه بذلك النور فهو مصباحه الكاشف فلا يمكن أن يكون هناك كتاب مبين من دون نور يسبقه فكيف يكون مبينا ولا نور معه.
فاتّحد هنا العلم والنور فتلازما كما قال الشافعي الإمام رضي الله عنه شاكيا لشيخه وكيع ( فأخبرني أنّ العلم نور --- ونور الله لا يهدى لعاصي ) أو كما قال رضي الله عنه, وقد قال الإمام مالك رحمه الله تعالى ( ليس العلم بكثرة الرواية وإنّما العلم نور يقذفه الله في القلب ).
ثمّ تلازم الصدق مع الحقّ فكلّ صادق لا يقول إلاّ الحقيقة لذا قال تعالى للملائكة ( أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ) ولم يقل لهم إن كنتم عالمين لأنّ قول الحقّ يستوجب الصدق وليس العلم فمتى خلا العلم من الصدق لم ينطق صاحبه بالحقّ فإذا علمت مستوى علمك فأكيد أنّك تعلم مستوى صدقك ومتى علمت مستوى صدقك تعلم مستوى قولك الحق.
هذا إذا ما علمت ما أنت عليه من جهل و قصورعلم قال تعالى في الجهل ( إنه كان ظلوما جهولا ) وقال في قصور العلم ( وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا ) وقال في الصدق ( يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ) أنظر كيف قال : ما ليس في قلوبهم فكأنّ المقياس هو القلب دائما وقال في الحقّ ( يكتمون الحقّ وهم يعلمون ) وإنّما كتموا الحقّ بعد علمهم لعدم وجود النور في قلوبهم فكان هنا اللسان ترجمان العقل والفكر وليس ترجمان القلب فكلّ من لم يتكلّم من قلبه فهو كاذب في دين الله تعالى.
فكان العلم للعقل والصدق للقلب والحقّ للسان نتيجة النور.
قال تعالى : ( ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور ) وقال تعالى ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) والآيات كثيرة في هذا المعنى الأصلي من الدين ...
قال تعالى : (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم و يعلمهم الكتاب والحكمة ).
فلم يقل تعالى : هو الذي بعث في الأمّيين رسولا منهم يعلّمهم القراءة والكتابة فليس معنى الأمّية هنا عدم القراءة والكتابة لقوله تعالى ( أنزله على قلبك ) فالمقصود منهم هو القلب وليس مجرّد العقل , قال تعالى ( يتلو عليهم آياته ) وفي نفس الوقت ( يزكّيهم ) لأنّ التلاوة متى صدرت على حقيقتها بلسان قائلها وهو صاحب ( العلم والنور والصدق والحقّ ) فتسري تلك الأحوال والمعاني في قلب السامع لتلك التلاوة فتقع التزكية بذلك وهي تزكية القلوب ( تخلية القلب من الرذائل وتحليته بأنواع الفضائل ) حتّى يشرق فيه النور فمتى أشرق فيه النور يقع هنا التعليم وهو التعليم الصحيح.
( ويعلّمهم الكتاب ) وهي علوم الأحوال والمقامات بعد شروق النور وهو معنى التوجيه من شيخ التربية والوارث المحمّدي في زماننا هذا قال الشيخ إسماعيل رضي الله عنه لبعض الفقراء لمّا لقّنه الذكر بالإسم المفرد ( أذكر الله تعالى حتّى تشرق عليك الأنوار فحينها تعال كي أرتقي بك ) هذا معنى كلامه , وقد قال من قبله سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه لأحدهم ( أذكر الله تعالى حتّى تشرق عليك الأنوار فلا ترى غيرها فحينها تعال إليّ كي أسلك بك في ميادين المعارف ) هذا معنى كلامه رضي الله عنه وهو ما دلّت عليه الآيات لأنّ التزكية المحمّدية في الصدر الأوّل من الإسلام سهلة ميسّرة لوجود رسول الله عليه الصلاة والسلام كما قال عليه الصلاة والسلام ( تكون فيكم النبوّة ما شاء الله لها أن تكون ... ) أي أنّ وجود النبوّة مرتبة أعلى من وجود الخلافة والوراثة.
فاتّخذ أهل الله تعالى مناهجا وهي الطرق في هذا السلوك كما اتّخذ الفقهاء مذاهبا في الفقه الإسلامي ( وكلّهم من رسول الله ملتمس --- غرفا من البحر أو رشفا من الديم ) فعند شروق النور يقع وقتها التعليم بجدّ وحقيقة فالتعليم هنا مرتبتان : أوّلاهما : تعليم الكتاب والثاني تعليم الحكمة وقد يسأل سائل وكيف يكون تعليم الحكمة وهي موهوبة غيرمكتسبة؟
فالجواب :
أنّ الأمر هنا في ميادين النور وهو مجال القلب وليس الأمر في مجال العقل فهو تعليم نوراني.
لذا وردت هذه الآية تحديدا في سورة الجمعة لأنّها سورة الجمع على القلب وهو الجمع على سيّدنا محمّد رسول الله عليه الصلاة والسلام فمتى اجتمعنا عنده جمعنا على الله تعالى , فإنّ يوم الإثنين هو يومه عليه الصلاة والسلام أمّا يوم الجمعة فهو يومنا معه أو يومه معنا فهو لنا وهو عيد المسلمين وبما أنّه يومنا وفيه تقوم القيامة كنّا أوّل الأمم حسابا وأوّلها دخولا إلى الجنّة لأنّ الناس لا يمكنها أن تتقدّم عليك في يومك وهو يوم عيدك الذي فيه خلق آدم كي تعلم علاقة آدم معنا في يومه ويومنا فهو يومه من حيث الجمع فيه على سيدنا محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام لذا أشار إلى هذا عليه الصلاة والسلام ( آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة ) أو كما قال عليه الصلاة والسلام ولذا قال إبراهيم عليه السلام في ليلة الإسراء والمعراج للحبيب صلى الله عليه وسلّم ( إقرأ أمّتك منّي السلام ) فنقول : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا سيّدنا إبراهيم عليك السلام.
هذه مقدّمة أخرى وتمهيدا ثانيا للموضوع إن شاء الله تعالى ثمّ نشرع في تفصيل مقامات العلم والنور في القلب وسنذكر الكشف والفراسة النورانية وأنّ القلب ساحة الأحوال وأنّه مجال الإجتماع , إجتماع المعاني وهو من عالم الملكوت والنور فلغته لغة واحدة مهما تعدّدت اللهجات فإنّ العالم مفترق في عالم العقول مجموع في عالم القلب قال سيدي محمد المداني رضي الله عنه ( خض بحر المعاني --- فذاك بحر الله ) .
الكلمات المفتاحية :
التربية و السلوك
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: