العلم والجهل 2
الباحث في الشأن القرآني هو على مستويين إمّا أنّه يبحث فيه بحثا ذهنيا أو أنّه يبحث فيه بحثا قلبيا ونحن في عرفنا لا يجوز بحث الظاهر من القرآن إلاّ بعد فهم الباطن منه لأنّ القرآن لم ينزل على الذهن بل نزل على القلب كما قال تعالى ( نزّله على قلبك ) وإنّما نسب فعل التنزيل لجبريل عليه السلام لأنّ القلب مرتبة وسطية بين الروح والعقل بمعنى أنّ عالم الملكوت وهو عالم النور هو الوسيلة لنزول القرآن على القلب وهو السبب فيه.
فلو لا أن أنزل القرآن على القلب وهو مرتبة وسطية لما أحسن أحد فهمه ولا سماعه من حيث حقائقه ولا أحسن أحد الإهتداء به في مرتبة العقل من حيث متشابهه أمّا من نزل القرآن على قلبه فهو لا يتبع متشابهه ولا يغلو في محكمه لذا قال تعالى ( فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ) فذكر هنا أنّ أصل العلّة كانت في القلب وهو الزيغ لأنّه لم ينزل على قلوبهم لعدم طهارتها كما نزل على النبيّ عليه الصلاة والسلام لذا قال تعالى في القرآن ( لا يمسّه إلاّ المطهّرون ) أي من تزكّى قلبه واطمأنّ. ثمّ أنّه سبحانه تعدّى إلى ذكر أمر آخر أعلى وأرقى فقال تعالى: ( والراسخون في العلم يقولون آمّنّا به كلّ من عند ربّنا ) فما قال ( والعلماء أو أهل العلم يقولون ) بل قال تعالى ( والراسخون في العلم ) فمعنى الرسوخ ليس هو بنفس معنى العلم مجرّدا فهذا المعنى هو رسوخ القَدَمِ في حضرة القِدَمِ فهو يدور مع الحقّ حيثما دار لأنّه راسخ في العلم لا تغيّره الأحوال ولا تثنيه المقامات أو تقيّده ومعنى الرسوخ هو الصراط المستقيم الذي لا نهاية له. يجب أن يعلم أنّ العلم القلبي هو علم بين علمين الأوّل علم الأذهان والثاني علم الروح فالقلب مرتبة علمية لها علاماتها وشروطها إنّما جعلها الله تعالى وفيها أنزل القرآن كي لا يضلّ به الإنسان فسبحان الله أحكم الحاكمين فكنّا نحن أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم أمّة قلوب إذ من معاني القلب ليلة القدر ومن معانيها يوم الجمعة ومن معانيها الإستقامة بين الأحوال والمقامات لا يغلب هذا ذاك فلا ينفرد الروح بالتفسير ولا يضلّ العقل بالتحليل فكان القلب جامعا بين العقل والروح وفيه وقع النزال بين لمّة الملك ووسواس الشيطان فهو ساحة المعركة والحرب. لذا كان إبليس لعنه الله تعالى عالما بجميع هذه المراتب بعد أن كابدها قبل أن يسلب ويطرد لذا قال ( لأغوينّهم أجمعين ) وما قال مثلا ( لأقتلنّهم أجمعين ) إذ ليس غايته القتل لمجرّد القتل فإنّ من يقتله الشيطان هو شهيد عند الله تعالى ولا يفرح إبليس لعنه الله تعالى لنا بالشهادة ولا بأيّة عبادة أو خصوصية ربانية وإنّما قصد الإغواء فهو كفيل بما يأتي كنتيجة كفتنة وقتل وحسد ...إلخ. لذا ورد في الحديث النبوي أنّ الشيطان واضع منخره على قلب الإنسان متى ذكر الله تعالى ذلك العبد خنس الشيطان ومتى غفل وسوس , فإذا علمت هذا تعلم أيضا أنّ القلب ليس المقصود به تلك المضغة الدموية بل المقصود به معناها لذا قال عليه الصلاة والسلام ( إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت ... الحديث ). لهذا شرّع الله تعالى سبلا وطرقا لحماية ذلك القلب وتطهيره وهي التزكية التي عمل على إحيائها أهل الله تعالى في كلّ مكان وزمان التي جاء بها الرسل عليهم الصلاة والسلام . فالرسل لم يأتوا في الحقيقة لقتال أو منازعة على حكم أو دنيا أو غير ذلك ممّا ليس هو من الدين وإنّما جاء الرسول عليه الصلاة والسلام كما في دعوة سيّدنا إبراهيم وهو قوله تعالى ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ). فإنّ ما فيه الأولياء اليوم وقبل اليوم هو الدين الذي أرسل الله به سيّد المرسلين عليه الصلاة والسلام وإنّما شرّع الجهاد والقتال لحماية هذا الدين لذا لمّا سأل جبريل النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عمر رضي الله عنه فما سأله عن الجهاد أو القتال مثلا بل سأله عن الدين ( فافهم ) فإنّه قال ( هذا جبريل أتى يعلّمكم دينكم ). فإنّ الدين هو كلّ ما له علاقة بالعبودية وإنّما فرض الجهاد وشرّع لحراسة هذه العبودية وتمكينها في الأرض لذا كان عليه الصلاة والسلام يقول وهو يدعو في غزوة بدر ( اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض بعد اليوم ) فما كانت غايته غير نشر العبودية لله تعالى وانقاض العباد من براثن الشيطان فالجهاد لم يشرّع لذاته بل هو لغيره, بخلاف الدين بأركانه الثلاث فهو مشرّع لذاته. لذا قال ساداتنا ومنهم سيدي ابن عجيبة الحسني رضي الله عنه أنّ العلوم الدينية المقصودة بالذات هي ثلاثة : علم الفقه وعلم الإيمان وعلم الإحسان أو تقول علوم الفقه وعلوم العقيدة وعلوم التصوّف أمّا خلاف هذا فهي علوم لغيرها وليست مقصودة لذاتها لذا ما سأل جبريل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلاّ عمّا هو مقصود بذاته من الدين وهي مراتبه الثلاث : مرتبته في مستوى الظاهر ومرتبته على مستوى القلب ثمّ في مستوى الروح . فإنّ من حيل إبليس لعنه الله تعالى هو قعوده صراط الله المستقيم وهو كما بينّا ( القلب ). وهناك واضعا منخره يبثّ ظلماته ويلقي وساوسه كما ألقاها للشعراء وإن كان من الشعر لحكمة كما ورد في الحديث ومن البيان لسحرا . فأوّل سبل العلم ليست فقط بالدراسة والقراءة والكتابة بل أوّل سبيل في عرف أهل الله تعالى للتعلّم هو سبيل تطهير القلب كي يتعلّم هذا القلب ويدرس فيدخل مستويات التعليم كلّها بداية من الإبتدائي فلمّا كان الأمر كذلك كان لا بدّ من وجود أساتذة في هذا المجال. وبما أنّ القلب جوهر لا ينقسم قيل بوجوب تعلّم هذا العلم على أستاذ واحد لأنّ عمليّة التعليم فيه تتغاير مع بقيّة التعاليم فإنّ الله تعالى لا يرسل غير رسول واحد يبلّغ ما يوحى إليه كما أرسل جبريل واحد لا كلّ الملائكة بالوحي لذا نبّهنا بقوله تعالى ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) إذ أنّ الجوف الواحد لا يحمل إلاّ قلبا واحدا وإنّما لم يتّخذ العبد إلاّ شيخا واحدا فلأنّ الجوهر لا يجوز فيه الإنقسام كالمرأة لا يجوز لها الزواج من زوجين في آن واحد. فإذا قلت كيف يكون ذلك والقلب متعدّد الأحوال والصفات لما قيّد بالشيخ الواحد ؟ فالجواب : ولله المثل الأعلى أنّ القلب كما قيل بيت الربّ وأنّ هذا الربّ سبحانه متعدّد التجليات والصفات والأسماء ولكنّه ربّ واحد غير متعدّد وإن تعدّدت صفاته فالقلب متى توجّه إلى الله لا يتوجّه إليه بشرك أي بإثنينية بل هي وسيلة واحدة وطريق واحد وشيخ واحد وتعليم واحد , وهذا بداية التعليم. بالنسبة للعلم فحقيقته أنّه للخصوصية للإستقامة في العبودية ولكن يجب مراعاة فهم العبودية في مراتب الخصوصية , وهكذا هو العلم فهو وإن كان يدلّ على المعلوم فهو يدلّ عليه من حيث مرتبتك عنده وهو التجلّي فإنّ العبودية أشمل معنى من مجرّد معنى العلم مهما تلوّن هذا العلم فكلّ علم أتحفك الله تعالى به فهو مقامك وهو مرتبتك فما عليك إلاّ بالعبودية فيه كما قال تعالى ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ). فأنت تعلم أنّ التفضيل من مراتب الخصوصية وليس هو من العبودية في شيء إلاّ متى قام صاحبه بحقّ الأدب فيه فهو عبودية وإلاّ كان مثل إبليس لعنه الله تعالى فإنّ من علمه أنّه قال ( أنظرني إلى يوم يبعثون ) كي تعلم أنّه علم ببعثنا قبل خلقنا ووجودنا على الأرض , فكان لا بدّ لك أن تعلم أنّ الله تعالى هو العليم وبهذه الصفة أحاط بكينونات الأشياء ظاهرا وباطنا في جميع أطوارها قبل وجودها وبعدها إلى ما لا نهاية. فلمّا علِمك قبل وجودك وبعده أضحيت في علم الله تسبح فكان لا بدّ لك من شعور بهذا العلم منه وهذا مقام جمالي وهو علمك المخصوص لك منه فهو مرتبتك فلا تتعدّاها بل قم بحقوق أوقات الآداب فيها لذا أشار سبحانه إلى هذا فقال تعالى: ( ولا تتمنّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض ) لأنّ الأماني لا تكون في عالم الخصوصيات وإنّما في عالم العبوديات تكون لهذا لم يقنطك أو يحرمك أو ينساك فأوصاك بسؤال الفضل منه فمازال متفضّلا كما قال سليمان عليه السلام بعد أن توجّه إليه سائلا من إسمه الوهّاب فقال ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي ) فسأل الغفران قبل السؤال كي تعلم معرفة سليمان بربّه ومستواها. ثمّ نشرع إن شاء الله تعالى في تفسير المرتبة الأولى من مراتب القلب وهو قوله تعالى: ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) فعيّن هنا سبحانه أنّ مرتبة القلب ليست خاصّة ببني البشر بل أيضا بالجنّ وأن سبب دخول نار جهنّم بداية هو شيء إسمه ( القلب ) لذا قال تعالى ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) فهذا السبب الرئيسي وهو السبب الجامع لأنّ القلب متى فقه فهو حتما سيرى لذا قال تعالى:( ولهم أعين لا يبصرون بها ) لأنّ العين الباصرة هي غير عين البصيرة لذا لم يقل سبحانه: ( ولهم عينان لا يبصرون بها ) بل قال ( أعين ) لأنّه القلوب متى ذكرت فلجمعها إمّا لتآلفها على حقّ واحد كقلب واحد أو تشابهها في أمراض كثيرة ذكرت العينان بصفة الجمع كذلك والأذنين ). وقد يقال: لماذا لم يذكر العقل في هذه الآية؟ الجواب: أنّ الأمر مترابط جدّا فلو ذكر العقل لذكر القياس وهو للفكر لأنّ السمع والبصر هما للمكالمة والمشاهدة والقلب هو العاكس لكليهما كي تعلم أنّ القرآن كلّه علم ونور وحكمة واعجاز من كل وجه وهو الحقيقة والصدق المطلق كما قال تعالى ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) وأنت تعلم أنّ مجال التدبّر هو القلب كما قال تعالى ( أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) فالقلب هو مفتاح التدبّر وهو بابه وعندها يتبع البصر والسمع. لهذا قال عليه الصلاة والسلام في قوم يخرجون آخر الزمان أنّ من صفاتهم ( فما ذكر غير الظاهر من صفاتهم وما ذكر منهم من الباطن في شيء ) أنّهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم أي حناجرهم وما أكثرهم في هذا الزمان فهي السلعة الرائجة اليوم. ومرّة كنت أقرأ كتابا في الرقائق لشيخ وهابي مشهور على الشاشات فحزنت كثيرا كثيرا كيف أنّ الدين وصل في عقولهم إلى هذا الحدّ من السطحية وقلّة الوعي والفهم وقلّة وجود النور والعلم فضلا عن الأحوال والمعارف والمقامات ثمّ يتصدّرون لقيادة الأمّة الإسلامية تحت راية الفصاحة والظواهر الصوتية الصورية. وفي هذا الباب سنذكر إن شاء الله تعالى : سبب دخول الخلق جهنّم من حيث القلب وكيف أنّ كثيرا من أهل القلوب من العوام هم أفضل بكثير ممّن يسمّونهم النخبة الدينية في الحقل الدعوي وأنّ كثيرا من الوزراء والإداريين في مجال الحكم أصحاب قلوب عزيزة طيّبة الناس يبغضونهم ترى هذا بعين بصيرتك متى رمته فهذا العبد الضعيف لا يحكم إلاّ بما تعطيه بصيرتي فإن أخطأت فذلك اجتهادها وإن أصابت فذلك من فضل الله تعالى وسأحاول بالقدر المستطاع أن أفهم بعضا ممّن يقرؤون لي بعض المفاهيم وكيفية تجلية العلم والفراسة بالقدر المستطاع. لهذا السبب وهو سبب مرض القلوب ألّف الإمام الحجّة سيدي أبو حامد الغزالي رضي الله عنه كتابه الإحياء الذي يعدّ آية من آيات الله تعالى فقال : لمّا رأيت الناس أصيبت في قلوبها ألّفت لهم كتاب الإحياء ( إحياء علوم الدين ) فما ذكر فيه إلاّ المقصود بالذات من الدين خاصّة. وما غايتي فيما أكتب إلاّ نفع أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم. هذا وليعلم الجميع أنّ العبد الضعيف لست عالما في اللغة العربية ولا لي فيها قدم وإنّما هي معان ترد على قلبي هكذا أجدها فأسطّرها كما هي فسواء عبّرت عنها باللغة الدارجة وهذا أستعمله كثيرا بين إخوة لي أمّا متى كتبت في المنتديات فأكتب بحسب طاقتي ونهاية ما أستطيعه لذا أرجو ممّن يتابع أن لا يقرأ لي ماسكا موضوعي بيده اليسرى وكتاب سيبويه باليمنى.
( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ). إنّما بدأ سبحانه وتعالى في هذه الآية بذكر القلوب وفقهها فسبّقه على ما جاء بعده لأنّ ما بعده من لوازمه كما قال تعالى ( وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) فما قال له ( ولكنّهم لا يرونك ) بل قال ( لا يبصرون ) رغم أنّهم ينظرون إليه أي يرونه في صورته الظاهرة فوقع عليه نظرهم ولم يقع عليه بصر قلوبهم في صورته الباطنة بمعنى أنّهم محجوبون عنه فعلمنا هنا أنّ ( لهم أعين لا يبصرون بها ) والسبب هنا هو عدم ( فقه القلب ) فلو فقه القلب لرأت تلك الأعين وأبصرت. حتّى أنّ إبليس لعنه الله تعالى سبقهم في النظر كما قال ( إنّي أرى ما لا ترون ) لمّا رأى جبريل مع مدد الملائكة كما سيرى الدجّال في آخر الزمان الملائكة على أبواب مكّة والمدينة فلا يستطيع دخولهما. فنحن اليوم في زمن يكذَّب فيه الأولياء عندما يخبرون بكشفهم وبرؤيتهم للأرواح والملائكة رغم تصديقهم أحاديث نبوية وحقّ لهم ذلك في أنّ إبليس والدجال لعنهما الله تعالى يرون جبريل وميكائيل والملائكة. فتبّا لعبد يصدّق برؤية إبليس والدجال للملائكة ويكذب أولياء أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم فيما يخبرون به بصدق وكشف, حتّى عدّ الوهابيون اليوم عالم الكشف من الخرافات والخزعبلات ثمّ يتصدّرون لنفع الناس بحسب زعمهم رغم أنّ جميع الصحابة ممّن حضر ذلك المجلس العلمي رأوا سيدنا جبريل في صورة إعرابي لمّا جاء يعلّمهم دينهم. وقد أخبرني أحد ساداتنا من العارفين أنّه إلتقى سيّدنا جبريل عليه السلام في الحرم المكّي فما تردّدت لحظة في تصديقه لما هو عليه من صلاح وتقوى ومخافة لله تعالى رآه في صورة أعرابي بعصاه إزاء الكعبة , وليس المقصود في هذا مجرّد الرؤية أو الكشف وإنّما المقصود أنّه كيف عرف أنّ هذا جبريل وأنّ ما رآه من صورة أخرى في مكان آخر هو شيطان فهذا ما نسمّيه بـــ ( فقه القلوب ) الذي أخبرت عنه الآية وعليه دلّت. لأنّ البصر والسمع لا يشتغلان حقيقة إلاّ متى فقه القلب أمر دينه وهو المعبّر عنه عند أهل الله تعالى بنور القلب الذي هو مزور القلب والعلم زائر فمن لم يسبق نوره علمه فلا يعتدّ به في طريق الله تعالى , لذا من سبق علمُه نورَه فلا يخلو علمه من كبوات وهذا للعلماء خاصة من أهل الظاهر ولو لا مخافة إساءة الأدب مع أهل الطريقة لذكرنا بعض مشائخ ممّن يسبق علمُهم نورهم , أمّا من سبق نوره علمه كسيدي ابن عباد وابن عجيبة وغيرهما رضي الله عنهما من كبار العارفين فعلمهم محمول وليس حاملا لأنّ العلم متى كان محمولا كان موهوبا. كما قال تعالى ( إقرأ ) أي إقرأ فقط ونحن نفسّر لك بما عندك من النور الذي لا نفاذ له لذا قال له ( وقل رب زدني علما ) أي كي يحمله نوري فأفهمه ولا أطغى به بما أنّه لا يدلّني إلاّ عليك ولا ينيخ بي المطايا إلاّ بين يديك كما قال في حقّ أهل النور ومنهم الخضر ( وعلّمناه من لدنّا علما ) فهؤلاء وغيرهم عليهم السلام علمهم محمول وليس حاملا أمّا من حمل علمُه نوره فقلّ أن تسلم بصيرته من العمى ( وأضلّه الله على علم ) بسبب فقدانه النور . لأنّ النور هو الإمام والعلم مأموم في هذا المقام من التعلّم فالعلم هو المصباح الكاشف ما أمامك في سيرك وإلاّ كبوت وسقطت في حفر الظلمة لذا قيل في الحكم العطائية مثلا بأنّها كادت أن تكون وحيا فسبب هذا القول أنّها نور على نور وكذلك قصيدة البوصيري المشهورة بالبردة و شروح أهل الله فهي نور على نور وذلك هو العلم النافع. لذا ذهب جماعة ومنهم الإمام الشافعي والإمام مالك وغيرهما أنّ العلم نور ولا يعنون به أنّهما شيء واحد بل يريدون أنّ العلم متى خلا من نوره فلا يعتبر علما , فسلب إبليس النور وأبقي عليه العلم وكذلك الدجال لهذا كان الصراع بين النور والظلمة فحين أستعمل العلم خاليا من نوره ترى اليوم ما وصل إليه العلم كما قال تعالى ( ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ) أي من علم السحر سواء في الباطن أو الظاهر . وإنّ من العلم الدنيوي ما هو نافع ومنه ما هو ضار فليس المنع في تعلّم العلم الظاهر من الصناعات وغيرها بل المحذور تعلّم ما يضرّ منه كصنع القنبلة النووية والقنابل العنقودية والكيميائية بأنواعها فهي فساد في الأرض والله لا يحبّ المفسدين لأنّ مؤسّس هذه العلوم كأنشتين وغيره من الفزيائيين ما هم إلاّ شياطين في الحقيقة وهم من اليهود وهذا ديدنهم ما عرفوا غير الفساد والإفساد ... لأنّ عليهم من الله غضبين. قال تعالى ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) فالآية صريحة في بابها من حيث أنّ القلب له فقه والفقه لا بدّ فيه من وجود الإدراك والعلم كما قال عليه الصلاة والسلام ( من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين ) لذا أفرغ اليوم معنى حقيقة الفقه من موضوعه فظنّوا أنّ الفقه بمعناه الخاص والعام ما هو إلاّ معرفة الأحكام الفقهية العملية والتوسّع فيها وقد ضلّوا في ذلك ضلالا كبيرا. لذا قال الله تعالى واصفا من لا فقه قلبي له في آخر الآية بأنّه ( أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) فشبّههم بالأنعام بل هم أضلّ منها ثمّ أوضح بيان الخلل ووصف العلّة فقال ( أؤلائك هم الغافلون ) فمن لا فقه قلبي له فهو كالبهيمة فمتى كان عالما فهو كالحمار يحمل أسفارا ... لأنّ القرآن وردت ألفاظه بحسب معنى كلّ حقيقة سواء في مستوى العقل أو القلب أو الروح, فمثلا إنّ ما يقابل العلم في مستوى العقل هو اليقظة في مستوى القلب , فعندما ترد لفظة ( الغفلة ) نعلم أنّها للقلب وعندما ترد لفظة ( الفقه ) في القرآن نعلم أنّها للقلب خاصّة أمّا متى وردت لفظة العلم فنعلم شموليتها وأنّها الحكم الجامع في المستويات الثلاثة العقل والقلب والروح وقد تأتي في مستوى بمفرده دون غيره كمستوى العقل وهي له خاصّة لأنّه الخليفة. فالعقل مجاله عالم الحكم والخلافة وهو عالم التخصيص والظاهر أمّا القلب فهو للعبودية خاصّة كالأحوال والمقامات وهي للحال لذا في عالم الخلافة لا بدّ من تقييد أحوال القلب بميزان علم العقل بنوره حتّى لا يصبح أهل الديانة كلّهم من المجاذيب فيصبح الدين جذبا وهو باب للدروشة ودخول الشيطنة فإنّ إبليس لا يأتيك إلاّ متى تجرّد عقلك عن قلبك ومتى تجرّد قلبك عن عقلك لذا نصب له الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه العداء لمّا أراد أن ينفرد بقلبه دون عقله فخاطبه الشيخ بالعقل مع وجود نور القلب فخنس وانطفأت تلك الأنوار الكاذبة وذلك الصوت السماوي الخادع ... فإذا علمت أنّ يوم القيامة هو يوم قلوب وهو يوم الحساب على المعاني قبل المباني تدرك أنّ ما كان باطنا هنا يكون ظاهرا هناك والعكس صحيح وقد أوضح النبيّ عليه الصلاة والسلام هذه الحقيقة الجامعة فقال ( إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب ) ومن جملة هذا الجسد العقل والعمل والفكر والحركات والسكنات لأنّ الأحاديث الشريفة قد تأتي على معنيين في نفس الوقت أي في الشريعة والحقيقة وهي هكذا غالبا لأنّها وحي والوحي أمره قلبي سماوي وروحي علوي وهكذا هو الدين. لذا نقول اليوم : أنّ العالم بأسره إلاّ من رحم الله تعالى هو في عصر جاهلية كبرى وفي تلك الجاهلية سيخرج عليهم الدجّال وهو عصر الظلمة الحالكة لأنّ معنى الجاهلية ليس جاهلية العقول بل هي جاهلية القلوب لذا قلّ العلم في الناس اليوم رغم انتشار القلم الذي هو علامة من علامات اقتراب الساعة وهي من علامات آخر الزمان وقد ورد في الحديث ( يفشو العلم ) لأنّه زمن المعكوسات. فإنّ إبليس لعنه الله تعالى يحاربنا في عالم الأديولوجيات فهو خبير في هذا الباب: فأنشأ في العصور الأخيرة نموذجا آخرا بحسب سير الحضارات كالدروينية و الماركسية. وأنشأ مثلا في الإسلام قديما فقه العقول المجردة من النور كالمعتزلة بالحسن والقبيح. وأنشأ الخوارج بظواهر النصوص في مرتبة حكم القياس والعقل. وأنشأ الشيعة في صفة الدفاع عن آل البيت ومحبتهم. وأنشأ الوهابية دعاة وحماة التوحيد بحسب زعمه. فهي كلّها فرق استنبطها الشيطان وتلك خططه وحيله لأنّ عالم الفتنة أكبر من القتل فمن عرف حبائل الشيطان فهم الكثير. فالعلم أمره الحقيقي أمر قلبي وبداية التتلمذ وأخذ العلم يكون ببداية التزكية وهو علم التخلية تخلية القلب من الجهل المعنوي الحاجب كالحسد والحقد والغلّ وحبّ الدنيا والغرور والكبر ...إلخ. لأنّ عقوبة هذه المعاصي هي عقوبات معنوية كإبليس لعنه الله تعالى عوقب في عالم المعاني خاصّة وهي عقوبة سلب النور منه و ذلك بحسب جزاء باطنه من حسد وكبر: فالحسد للخلافة والكبر على الحضرة الإلهية لذا كانت صفة الحسد نارية أمّا صفة الكبر فهي صفة برودة ... فكلّ مرض هو حجاب عن عكس تلك الصفة المرضية فمتى كان العبد مثلا حقودا فاستبدل حقده بالعفو والتجاوز والمسامحة حتى تضحى صفات منطبعة فيه فهو يعاين فقه صفات الله تعالى المتعلّقة بالغفران والرحمة والتوبة وهكذا ... لذا قال إبليس لعنه الله تعالى ( لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم ) أي سأكون صادّا لهم عن معرفتك سأقعد لهم على مستوى القلب كي أحجب عنهم أنوار صفاتك التي لا تدلّ إلاّ على ذاتك ... فمتى استبدل العبد تلك الصفة الظلمانية بصفة النور يعلم حينها علما يقينيا حقيقة تلك الصفات فيكون عالما في دين الله تعالى وعندما نقول عالما في دين الله تعالى أي عارفا بطريق ربّه وهو الصراط المستقيم لأنّ معرفة الدين حقيقتها هي معرفة ربّ هذا الدين جل وعلا وهكذا في بقية عالم الصفات. لأنّ القلب له من الفقه فقه الصفات فمن لا قلب له لا يجوز له البتّة الحديث في عالم الصفات وإلاّ فإنّه سيكون من المجادلين في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. أمّا الروح ففقهها ذاتي وهذا بحر عميق يرعب الجبال ويصدّعها فضلا عن المخلوقات الضعيفة العاجزة فعندما تتحقّق أولى مراتب العلم في القلب وهي بداية اليقظة يخرج نوران هما نور واحد حقيقة ( نورهم يسعى بين أيديهم ) واحد إلى المشرق والثاني إلى المغرب كي يسير فيهما ونعني بالمشرق الروح والمغرب العقل وإن شئت عكستهما فهنا يسير العقل ويسير الروح في ظلّ نور القلب وهناك يبدأ التعليم فيأخذ العقل العلم بنوره يفسّره له القلب. والروح أيضا لا تطغى إذ يوجّهها القلب لأنّ للروح أدب مع القلب الذي يوصلها بالعقل وللعقل أدب مع الروح يوصله القلب فيكون القلب جامعا وهو المرابط الذي لا ينام كما قال عليه الصلاة والسلام ( تنام عيناي ولا ينام قلبي ) وهو الميزان الوسطي الذي لا يشطّ ( ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) حتّى لا تميل كفّة على حساب أخرى بعد أن أخبره بصريح العبارة ( الرحمان على العرش إستوى ) وهو الميزان المستقيم والطريق القويم. لذا كنت العبد الضعيف دائما ما أرشد العباد لأخذ علم الدين من أفواه أهل الله تعالى فهم العلماء حقيقة فإنّهم متى علّموك فسّروا لك الدين بنوره كما قال حنظلة رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ( يا رسول الله عندما نكون عندك وتحدّثنا عن الجنّة والنار فكأنّما نراها رأي عين .... الحديث ) وهكذا هو كلام المكاشف فعندما يحدّثك عن الجنّة والنار فتوشك أن تراها لكثرة اليقين الذي يحصل في قلبك بسبب يقينه , وكذلك المشاهد فحينما يحدّثك عن الله تعالى فأنّك تراه ... ( أعبد الله كأنّك تراه ) وهذا لا يكون إلاّ عن طريق العارفين ..
فلو لا أن أنزل القرآن على القلب وهو مرتبة وسطية لما أحسن أحد فهمه ولا سماعه من حيث حقائقه ولا أحسن أحد الإهتداء به في مرتبة العقل من حيث متشابهه أمّا من نزل القرآن على قلبه فهو لا يتبع متشابهه ولا يغلو في محكمه لذا قال تعالى ( فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ) فذكر هنا أنّ أصل العلّة كانت في القلب وهو الزيغ لأنّه لم ينزل على قلوبهم لعدم طهارتها كما نزل على النبيّ عليه الصلاة والسلام لذا قال تعالى في القرآن ( لا يمسّه إلاّ المطهّرون ) أي من تزكّى قلبه واطمأنّ. ثمّ أنّه سبحانه تعدّى إلى ذكر أمر آخر أعلى وأرقى فقال تعالى: ( والراسخون في العلم يقولون آمّنّا به كلّ من عند ربّنا ) فما قال ( والعلماء أو أهل العلم يقولون ) بل قال تعالى ( والراسخون في العلم ) فمعنى الرسوخ ليس هو بنفس معنى العلم مجرّدا فهذا المعنى هو رسوخ القَدَمِ في حضرة القِدَمِ فهو يدور مع الحقّ حيثما دار لأنّه راسخ في العلم لا تغيّره الأحوال ولا تثنيه المقامات أو تقيّده ومعنى الرسوخ هو الصراط المستقيم الذي لا نهاية له. يجب أن يعلم أنّ العلم القلبي هو علم بين علمين الأوّل علم الأذهان والثاني علم الروح فالقلب مرتبة علمية لها علاماتها وشروطها إنّما جعلها الله تعالى وفيها أنزل القرآن كي لا يضلّ به الإنسان فسبحان الله أحكم الحاكمين فكنّا نحن أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم أمّة قلوب إذ من معاني القلب ليلة القدر ومن معانيها يوم الجمعة ومن معانيها الإستقامة بين الأحوال والمقامات لا يغلب هذا ذاك فلا ينفرد الروح بالتفسير ولا يضلّ العقل بالتحليل فكان القلب جامعا بين العقل والروح وفيه وقع النزال بين لمّة الملك ووسواس الشيطان فهو ساحة المعركة والحرب. لذا كان إبليس لعنه الله تعالى عالما بجميع هذه المراتب بعد أن كابدها قبل أن يسلب ويطرد لذا قال ( لأغوينّهم أجمعين ) وما قال مثلا ( لأقتلنّهم أجمعين ) إذ ليس غايته القتل لمجرّد القتل فإنّ من يقتله الشيطان هو شهيد عند الله تعالى ولا يفرح إبليس لعنه الله تعالى لنا بالشهادة ولا بأيّة عبادة أو خصوصية ربانية وإنّما قصد الإغواء فهو كفيل بما يأتي كنتيجة كفتنة وقتل وحسد ...إلخ. لذا ورد في الحديث النبوي أنّ الشيطان واضع منخره على قلب الإنسان متى ذكر الله تعالى ذلك العبد خنس الشيطان ومتى غفل وسوس , فإذا علمت هذا تعلم أيضا أنّ القلب ليس المقصود به تلك المضغة الدموية بل المقصود به معناها لذا قال عليه الصلاة والسلام ( إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت ... الحديث ). لهذا شرّع الله تعالى سبلا وطرقا لحماية ذلك القلب وتطهيره وهي التزكية التي عمل على إحيائها أهل الله تعالى في كلّ مكان وزمان التي جاء بها الرسل عليهم الصلاة والسلام . فالرسل لم يأتوا في الحقيقة لقتال أو منازعة على حكم أو دنيا أو غير ذلك ممّا ليس هو من الدين وإنّما جاء الرسول عليه الصلاة والسلام كما في دعوة سيّدنا إبراهيم وهو قوله تعالى ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ). فإنّ ما فيه الأولياء اليوم وقبل اليوم هو الدين الذي أرسل الله به سيّد المرسلين عليه الصلاة والسلام وإنّما شرّع الجهاد والقتال لحماية هذا الدين لذا لمّا سأل جبريل النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عمر رضي الله عنه فما سأله عن الجهاد أو القتال مثلا بل سأله عن الدين ( فافهم ) فإنّه قال ( هذا جبريل أتى يعلّمكم دينكم ). فإنّ الدين هو كلّ ما له علاقة بالعبودية وإنّما فرض الجهاد وشرّع لحراسة هذه العبودية وتمكينها في الأرض لذا كان عليه الصلاة والسلام يقول وهو يدعو في غزوة بدر ( اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض بعد اليوم ) فما كانت غايته غير نشر العبودية لله تعالى وانقاض العباد من براثن الشيطان فالجهاد لم يشرّع لذاته بل هو لغيره, بخلاف الدين بأركانه الثلاث فهو مشرّع لذاته. لذا قال ساداتنا ومنهم سيدي ابن عجيبة الحسني رضي الله عنه أنّ العلوم الدينية المقصودة بالذات هي ثلاثة : علم الفقه وعلم الإيمان وعلم الإحسان أو تقول علوم الفقه وعلوم العقيدة وعلوم التصوّف أمّا خلاف هذا فهي علوم لغيرها وليست مقصودة لذاتها لذا ما سأل جبريل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلاّ عمّا هو مقصود بذاته من الدين وهي مراتبه الثلاث : مرتبته في مستوى الظاهر ومرتبته على مستوى القلب ثمّ في مستوى الروح . فإنّ من حيل إبليس لعنه الله تعالى هو قعوده صراط الله المستقيم وهو كما بينّا ( القلب ). وهناك واضعا منخره يبثّ ظلماته ويلقي وساوسه كما ألقاها للشعراء وإن كان من الشعر لحكمة كما ورد في الحديث ومن البيان لسحرا . فأوّل سبل العلم ليست فقط بالدراسة والقراءة والكتابة بل أوّل سبيل في عرف أهل الله تعالى للتعلّم هو سبيل تطهير القلب كي يتعلّم هذا القلب ويدرس فيدخل مستويات التعليم كلّها بداية من الإبتدائي فلمّا كان الأمر كذلك كان لا بدّ من وجود أساتذة في هذا المجال. وبما أنّ القلب جوهر لا ينقسم قيل بوجوب تعلّم هذا العلم على أستاذ واحد لأنّ عمليّة التعليم فيه تتغاير مع بقيّة التعاليم فإنّ الله تعالى لا يرسل غير رسول واحد يبلّغ ما يوحى إليه كما أرسل جبريل واحد لا كلّ الملائكة بالوحي لذا نبّهنا بقوله تعالى ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) إذ أنّ الجوف الواحد لا يحمل إلاّ قلبا واحدا وإنّما لم يتّخذ العبد إلاّ شيخا واحدا فلأنّ الجوهر لا يجوز فيه الإنقسام كالمرأة لا يجوز لها الزواج من زوجين في آن واحد. فإذا قلت كيف يكون ذلك والقلب متعدّد الأحوال والصفات لما قيّد بالشيخ الواحد ؟ فالجواب : ولله المثل الأعلى أنّ القلب كما قيل بيت الربّ وأنّ هذا الربّ سبحانه متعدّد التجليات والصفات والأسماء ولكنّه ربّ واحد غير متعدّد وإن تعدّدت صفاته فالقلب متى توجّه إلى الله لا يتوجّه إليه بشرك أي بإثنينية بل هي وسيلة واحدة وطريق واحد وشيخ واحد وتعليم واحد , وهذا بداية التعليم. بالنسبة للعلم فحقيقته أنّه للخصوصية للإستقامة في العبودية ولكن يجب مراعاة فهم العبودية في مراتب الخصوصية , وهكذا هو العلم فهو وإن كان يدلّ على المعلوم فهو يدلّ عليه من حيث مرتبتك عنده وهو التجلّي فإنّ العبودية أشمل معنى من مجرّد معنى العلم مهما تلوّن هذا العلم فكلّ علم أتحفك الله تعالى به فهو مقامك وهو مرتبتك فما عليك إلاّ بالعبودية فيه كما قال تعالى ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ). فأنت تعلم أنّ التفضيل من مراتب الخصوصية وليس هو من العبودية في شيء إلاّ متى قام صاحبه بحقّ الأدب فيه فهو عبودية وإلاّ كان مثل إبليس لعنه الله تعالى فإنّ من علمه أنّه قال ( أنظرني إلى يوم يبعثون ) كي تعلم أنّه علم ببعثنا قبل خلقنا ووجودنا على الأرض , فكان لا بدّ لك أن تعلم أنّ الله تعالى هو العليم وبهذه الصفة أحاط بكينونات الأشياء ظاهرا وباطنا في جميع أطوارها قبل وجودها وبعدها إلى ما لا نهاية. فلمّا علِمك قبل وجودك وبعده أضحيت في علم الله تسبح فكان لا بدّ لك من شعور بهذا العلم منه وهذا مقام جمالي وهو علمك المخصوص لك منه فهو مرتبتك فلا تتعدّاها بل قم بحقوق أوقات الآداب فيها لذا أشار سبحانه إلى هذا فقال تعالى: ( ولا تتمنّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض ) لأنّ الأماني لا تكون في عالم الخصوصيات وإنّما في عالم العبوديات تكون لهذا لم يقنطك أو يحرمك أو ينساك فأوصاك بسؤال الفضل منه فمازال متفضّلا كما قال سليمان عليه السلام بعد أن توجّه إليه سائلا من إسمه الوهّاب فقال ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي ) فسأل الغفران قبل السؤال كي تعلم معرفة سليمان بربّه ومستواها. ثمّ نشرع إن شاء الله تعالى في تفسير المرتبة الأولى من مراتب القلب وهو قوله تعالى: ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) فعيّن هنا سبحانه أنّ مرتبة القلب ليست خاصّة ببني البشر بل أيضا بالجنّ وأن سبب دخول نار جهنّم بداية هو شيء إسمه ( القلب ) لذا قال تعالى ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) فهذا السبب الرئيسي وهو السبب الجامع لأنّ القلب متى فقه فهو حتما سيرى لذا قال تعالى:( ولهم أعين لا يبصرون بها ) لأنّ العين الباصرة هي غير عين البصيرة لذا لم يقل سبحانه: ( ولهم عينان لا يبصرون بها ) بل قال ( أعين ) لأنّه القلوب متى ذكرت فلجمعها إمّا لتآلفها على حقّ واحد كقلب واحد أو تشابهها في أمراض كثيرة ذكرت العينان بصفة الجمع كذلك والأذنين ). وقد يقال: لماذا لم يذكر العقل في هذه الآية؟ الجواب: أنّ الأمر مترابط جدّا فلو ذكر العقل لذكر القياس وهو للفكر لأنّ السمع والبصر هما للمكالمة والمشاهدة والقلب هو العاكس لكليهما كي تعلم أنّ القرآن كلّه علم ونور وحكمة واعجاز من كل وجه وهو الحقيقة والصدق المطلق كما قال تعالى ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) وأنت تعلم أنّ مجال التدبّر هو القلب كما قال تعالى ( أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) فالقلب هو مفتاح التدبّر وهو بابه وعندها يتبع البصر والسمع. لهذا قال عليه الصلاة والسلام في قوم يخرجون آخر الزمان أنّ من صفاتهم ( فما ذكر غير الظاهر من صفاتهم وما ذكر منهم من الباطن في شيء ) أنّهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم أي حناجرهم وما أكثرهم في هذا الزمان فهي السلعة الرائجة اليوم. ومرّة كنت أقرأ كتابا في الرقائق لشيخ وهابي مشهور على الشاشات فحزنت كثيرا كثيرا كيف أنّ الدين وصل في عقولهم إلى هذا الحدّ من السطحية وقلّة الوعي والفهم وقلّة وجود النور والعلم فضلا عن الأحوال والمعارف والمقامات ثمّ يتصدّرون لقيادة الأمّة الإسلامية تحت راية الفصاحة والظواهر الصوتية الصورية. وفي هذا الباب سنذكر إن شاء الله تعالى : سبب دخول الخلق جهنّم من حيث القلب وكيف أنّ كثيرا من أهل القلوب من العوام هم أفضل بكثير ممّن يسمّونهم النخبة الدينية في الحقل الدعوي وأنّ كثيرا من الوزراء والإداريين في مجال الحكم أصحاب قلوب عزيزة طيّبة الناس يبغضونهم ترى هذا بعين بصيرتك متى رمته فهذا العبد الضعيف لا يحكم إلاّ بما تعطيه بصيرتي فإن أخطأت فذلك اجتهادها وإن أصابت فذلك من فضل الله تعالى وسأحاول بالقدر المستطاع أن أفهم بعضا ممّن يقرؤون لي بعض المفاهيم وكيفية تجلية العلم والفراسة بالقدر المستطاع. لهذا السبب وهو سبب مرض القلوب ألّف الإمام الحجّة سيدي أبو حامد الغزالي رضي الله عنه كتابه الإحياء الذي يعدّ آية من آيات الله تعالى فقال : لمّا رأيت الناس أصيبت في قلوبها ألّفت لهم كتاب الإحياء ( إحياء علوم الدين ) فما ذكر فيه إلاّ المقصود بالذات من الدين خاصّة. وما غايتي فيما أكتب إلاّ نفع أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم. هذا وليعلم الجميع أنّ العبد الضعيف لست عالما في اللغة العربية ولا لي فيها قدم وإنّما هي معان ترد على قلبي هكذا أجدها فأسطّرها كما هي فسواء عبّرت عنها باللغة الدارجة وهذا أستعمله كثيرا بين إخوة لي أمّا متى كتبت في المنتديات فأكتب بحسب طاقتي ونهاية ما أستطيعه لذا أرجو ممّن يتابع أن لا يقرأ لي ماسكا موضوعي بيده اليسرى وكتاب سيبويه باليمنى.
( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ). إنّما بدأ سبحانه وتعالى في هذه الآية بذكر القلوب وفقهها فسبّقه على ما جاء بعده لأنّ ما بعده من لوازمه كما قال تعالى ( وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) فما قال له ( ولكنّهم لا يرونك ) بل قال ( لا يبصرون ) رغم أنّهم ينظرون إليه أي يرونه في صورته الظاهرة فوقع عليه نظرهم ولم يقع عليه بصر قلوبهم في صورته الباطنة بمعنى أنّهم محجوبون عنه فعلمنا هنا أنّ ( لهم أعين لا يبصرون بها ) والسبب هنا هو عدم ( فقه القلب ) فلو فقه القلب لرأت تلك الأعين وأبصرت. حتّى أنّ إبليس لعنه الله تعالى سبقهم في النظر كما قال ( إنّي أرى ما لا ترون ) لمّا رأى جبريل مع مدد الملائكة كما سيرى الدجّال في آخر الزمان الملائكة على أبواب مكّة والمدينة فلا يستطيع دخولهما. فنحن اليوم في زمن يكذَّب فيه الأولياء عندما يخبرون بكشفهم وبرؤيتهم للأرواح والملائكة رغم تصديقهم أحاديث نبوية وحقّ لهم ذلك في أنّ إبليس والدجال لعنهما الله تعالى يرون جبريل وميكائيل والملائكة. فتبّا لعبد يصدّق برؤية إبليس والدجال للملائكة ويكذب أولياء أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم فيما يخبرون به بصدق وكشف, حتّى عدّ الوهابيون اليوم عالم الكشف من الخرافات والخزعبلات ثمّ يتصدّرون لنفع الناس بحسب زعمهم رغم أنّ جميع الصحابة ممّن حضر ذلك المجلس العلمي رأوا سيدنا جبريل في صورة إعرابي لمّا جاء يعلّمهم دينهم. وقد أخبرني أحد ساداتنا من العارفين أنّه إلتقى سيّدنا جبريل عليه السلام في الحرم المكّي فما تردّدت لحظة في تصديقه لما هو عليه من صلاح وتقوى ومخافة لله تعالى رآه في صورة أعرابي بعصاه إزاء الكعبة , وليس المقصود في هذا مجرّد الرؤية أو الكشف وإنّما المقصود أنّه كيف عرف أنّ هذا جبريل وأنّ ما رآه من صورة أخرى في مكان آخر هو شيطان فهذا ما نسمّيه بـــ ( فقه القلوب ) الذي أخبرت عنه الآية وعليه دلّت. لأنّ البصر والسمع لا يشتغلان حقيقة إلاّ متى فقه القلب أمر دينه وهو المعبّر عنه عند أهل الله تعالى بنور القلب الذي هو مزور القلب والعلم زائر فمن لم يسبق نوره علمه فلا يعتدّ به في طريق الله تعالى , لذا من سبق علمُه نورَه فلا يخلو علمه من كبوات وهذا للعلماء خاصة من أهل الظاهر ولو لا مخافة إساءة الأدب مع أهل الطريقة لذكرنا بعض مشائخ ممّن يسبق علمُهم نورهم , أمّا من سبق نوره علمه كسيدي ابن عباد وابن عجيبة وغيرهما رضي الله عنهما من كبار العارفين فعلمهم محمول وليس حاملا لأنّ العلم متى كان محمولا كان موهوبا. كما قال تعالى ( إقرأ ) أي إقرأ فقط ونحن نفسّر لك بما عندك من النور الذي لا نفاذ له لذا قال له ( وقل رب زدني علما ) أي كي يحمله نوري فأفهمه ولا أطغى به بما أنّه لا يدلّني إلاّ عليك ولا ينيخ بي المطايا إلاّ بين يديك كما قال في حقّ أهل النور ومنهم الخضر ( وعلّمناه من لدنّا علما ) فهؤلاء وغيرهم عليهم السلام علمهم محمول وليس حاملا أمّا من حمل علمُه نوره فقلّ أن تسلم بصيرته من العمى ( وأضلّه الله على علم ) بسبب فقدانه النور . لأنّ النور هو الإمام والعلم مأموم في هذا المقام من التعلّم فالعلم هو المصباح الكاشف ما أمامك في سيرك وإلاّ كبوت وسقطت في حفر الظلمة لذا قيل في الحكم العطائية مثلا بأنّها كادت أن تكون وحيا فسبب هذا القول أنّها نور على نور وكذلك قصيدة البوصيري المشهورة بالبردة و شروح أهل الله فهي نور على نور وذلك هو العلم النافع. لذا ذهب جماعة ومنهم الإمام الشافعي والإمام مالك وغيرهما أنّ العلم نور ولا يعنون به أنّهما شيء واحد بل يريدون أنّ العلم متى خلا من نوره فلا يعتبر علما , فسلب إبليس النور وأبقي عليه العلم وكذلك الدجال لهذا كان الصراع بين النور والظلمة فحين أستعمل العلم خاليا من نوره ترى اليوم ما وصل إليه العلم كما قال تعالى ( ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ) أي من علم السحر سواء في الباطن أو الظاهر . وإنّ من العلم الدنيوي ما هو نافع ومنه ما هو ضار فليس المنع في تعلّم العلم الظاهر من الصناعات وغيرها بل المحذور تعلّم ما يضرّ منه كصنع القنبلة النووية والقنابل العنقودية والكيميائية بأنواعها فهي فساد في الأرض والله لا يحبّ المفسدين لأنّ مؤسّس هذه العلوم كأنشتين وغيره من الفزيائيين ما هم إلاّ شياطين في الحقيقة وهم من اليهود وهذا ديدنهم ما عرفوا غير الفساد والإفساد ... لأنّ عليهم من الله غضبين. قال تعالى ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) فالآية صريحة في بابها من حيث أنّ القلب له فقه والفقه لا بدّ فيه من وجود الإدراك والعلم كما قال عليه الصلاة والسلام ( من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين ) لذا أفرغ اليوم معنى حقيقة الفقه من موضوعه فظنّوا أنّ الفقه بمعناه الخاص والعام ما هو إلاّ معرفة الأحكام الفقهية العملية والتوسّع فيها وقد ضلّوا في ذلك ضلالا كبيرا. لذا قال الله تعالى واصفا من لا فقه قلبي له في آخر الآية بأنّه ( أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) فشبّههم بالأنعام بل هم أضلّ منها ثمّ أوضح بيان الخلل ووصف العلّة فقال ( أؤلائك هم الغافلون ) فمن لا فقه قلبي له فهو كالبهيمة فمتى كان عالما فهو كالحمار يحمل أسفارا ... لأنّ القرآن وردت ألفاظه بحسب معنى كلّ حقيقة سواء في مستوى العقل أو القلب أو الروح, فمثلا إنّ ما يقابل العلم في مستوى العقل هو اليقظة في مستوى القلب , فعندما ترد لفظة ( الغفلة ) نعلم أنّها للقلب وعندما ترد لفظة ( الفقه ) في القرآن نعلم أنّها للقلب خاصّة أمّا متى وردت لفظة العلم فنعلم شموليتها وأنّها الحكم الجامع في المستويات الثلاثة العقل والقلب والروح وقد تأتي في مستوى بمفرده دون غيره كمستوى العقل وهي له خاصّة لأنّه الخليفة. فالعقل مجاله عالم الحكم والخلافة وهو عالم التخصيص والظاهر أمّا القلب فهو للعبودية خاصّة كالأحوال والمقامات وهي للحال لذا في عالم الخلافة لا بدّ من تقييد أحوال القلب بميزان علم العقل بنوره حتّى لا يصبح أهل الديانة كلّهم من المجاذيب فيصبح الدين جذبا وهو باب للدروشة ودخول الشيطنة فإنّ إبليس لا يأتيك إلاّ متى تجرّد عقلك عن قلبك ومتى تجرّد قلبك عن عقلك لذا نصب له الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه العداء لمّا أراد أن ينفرد بقلبه دون عقله فخاطبه الشيخ بالعقل مع وجود نور القلب فخنس وانطفأت تلك الأنوار الكاذبة وذلك الصوت السماوي الخادع ... فإذا علمت أنّ يوم القيامة هو يوم قلوب وهو يوم الحساب على المعاني قبل المباني تدرك أنّ ما كان باطنا هنا يكون ظاهرا هناك والعكس صحيح وقد أوضح النبيّ عليه الصلاة والسلام هذه الحقيقة الجامعة فقال ( إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب ) ومن جملة هذا الجسد العقل والعمل والفكر والحركات والسكنات لأنّ الأحاديث الشريفة قد تأتي على معنيين في نفس الوقت أي في الشريعة والحقيقة وهي هكذا غالبا لأنّها وحي والوحي أمره قلبي سماوي وروحي علوي وهكذا هو الدين. لذا نقول اليوم : أنّ العالم بأسره إلاّ من رحم الله تعالى هو في عصر جاهلية كبرى وفي تلك الجاهلية سيخرج عليهم الدجّال وهو عصر الظلمة الحالكة لأنّ معنى الجاهلية ليس جاهلية العقول بل هي جاهلية القلوب لذا قلّ العلم في الناس اليوم رغم انتشار القلم الذي هو علامة من علامات اقتراب الساعة وهي من علامات آخر الزمان وقد ورد في الحديث ( يفشو العلم ) لأنّه زمن المعكوسات. فإنّ إبليس لعنه الله تعالى يحاربنا في عالم الأديولوجيات فهو خبير في هذا الباب: فأنشأ في العصور الأخيرة نموذجا آخرا بحسب سير الحضارات كالدروينية و الماركسية. وأنشأ مثلا في الإسلام قديما فقه العقول المجردة من النور كالمعتزلة بالحسن والقبيح. وأنشأ الخوارج بظواهر النصوص في مرتبة حكم القياس والعقل. وأنشأ الشيعة في صفة الدفاع عن آل البيت ومحبتهم. وأنشأ الوهابية دعاة وحماة التوحيد بحسب زعمه. فهي كلّها فرق استنبطها الشيطان وتلك خططه وحيله لأنّ عالم الفتنة أكبر من القتل فمن عرف حبائل الشيطان فهم الكثير. فالعلم أمره الحقيقي أمر قلبي وبداية التتلمذ وأخذ العلم يكون ببداية التزكية وهو علم التخلية تخلية القلب من الجهل المعنوي الحاجب كالحسد والحقد والغلّ وحبّ الدنيا والغرور والكبر ...إلخ. لأنّ عقوبة هذه المعاصي هي عقوبات معنوية كإبليس لعنه الله تعالى عوقب في عالم المعاني خاصّة وهي عقوبة سلب النور منه و ذلك بحسب جزاء باطنه من حسد وكبر: فالحسد للخلافة والكبر على الحضرة الإلهية لذا كانت صفة الحسد نارية أمّا صفة الكبر فهي صفة برودة ... فكلّ مرض هو حجاب عن عكس تلك الصفة المرضية فمتى كان العبد مثلا حقودا فاستبدل حقده بالعفو والتجاوز والمسامحة حتى تضحى صفات منطبعة فيه فهو يعاين فقه صفات الله تعالى المتعلّقة بالغفران والرحمة والتوبة وهكذا ... لذا قال إبليس لعنه الله تعالى ( لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم ) أي سأكون صادّا لهم عن معرفتك سأقعد لهم على مستوى القلب كي أحجب عنهم أنوار صفاتك التي لا تدلّ إلاّ على ذاتك ... فمتى استبدل العبد تلك الصفة الظلمانية بصفة النور يعلم حينها علما يقينيا حقيقة تلك الصفات فيكون عالما في دين الله تعالى وعندما نقول عالما في دين الله تعالى أي عارفا بطريق ربّه وهو الصراط المستقيم لأنّ معرفة الدين حقيقتها هي معرفة ربّ هذا الدين جل وعلا وهكذا في بقية عالم الصفات. لأنّ القلب له من الفقه فقه الصفات فمن لا قلب له لا يجوز له البتّة الحديث في عالم الصفات وإلاّ فإنّه سيكون من المجادلين في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. أمّا الروح ففقهها ذاتي وهذا بحر عميق يرعب الجبال ويصدّعها فضلا عن المخلوقات الضعيفة العاجزة فعندما تتحقّق أولى مراتب العلم في القلب وهي بداية اليقظة يخرج نوران هما نور واحد حقيقة ( نورهم يسعى بين أيديهم ) واحد إلى المشرق والثاني إلى المغرب كي يسير فيهما ونعني بالمشرق الروح والمغرب العقل وإن شئت عكستهما فهنا يسير العقل ويسير الروح في ظلّ نور القلب وهناك يبدأ التعليم فيأخذ العقل العلم بنوره يفسّره له القلب. والروح أيضا لا تطغى إذ يوجّهها القلب لأنّ للروح أدب مع القلب الذي يوصلها بالعقل وللعقل أدب مع الروح يوصله القلب فيكون القلب جامعا وهو المرابط الذي لا ينام كما قال عليه الصلاة والسلام ( تنام عيناي ولا ينام قلبي ) وهو الميزان الوسطي الذي لا يشطّ ( ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) حتّى لا تميل كفّة على حساب أخرى بعد أن أخبره بصريح العبارة ( الرحمان على العرش إستوى ) وهو الميزان المستقيم والطريق القويم. لذا كنت العبد الضعيف دائما ما أرشد العباد لأخذ علم الدين من أفواه أهل الله تعالى فهم العلماء حقيقة فإنّهم متى علّموك فسّروا لك الدين بنوره كما قال حنظلة رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ( يا رسول الله عندما نكون عندك وتحدّثنا عن الجنّة والنار فكأنّما نراها رأي عين .... الحديث ) وهكذا هو كلام المكاشف فعندما يحدّثك عن الجنّة والنار فتوشك أن تراها لكثرة اليقين الذي يحصل في قلبك بسبب يقينه , وكذلك المشاهد فحينما يحدّثك عن الله تعالى فأنّك تراه ... ( أعبد الله كأنّك تراه ) وهذا لا يكون إلاّ عن طريق العارفين ..
الكلمات المفتاحية :
التربية و السلوك
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: