حقائق التجليات الإلهية تمكر بالمعارف الإبليسية 2
بسم الله الرحمان الرحيم - المطلب الأوّل : الأسرار لا يؤتمن عليها طالبها فطالب علوم الأسرار حاله في الشاهد كالشياطين الذين يسترقون السمع في السماء , فهذا الحال إكتسبه الشياطين من إبليس الذي طلب كلّيات الحقائق الظاهرة والباطنة بسؤاله الخلافة وطلبه لها لذا حدّد الشرع الإسلامي ماهيات الخلافة وأنّها لا تعطى لسائلها كما ورد في الحديث ( من سألها وكّل لها
وما أعطاها أعين عليها ) وقد حذّر رسول الله عليه الصلاة والسلام عمّه العبّاس رضي الله عنه من طلب الإمارة في معنى قوله : ( لا نعطي أمرنا هذا من سأله ) والسؤال يكون بالحال قبل المقال. فكذلك طالب الأسرار لذات الأسرار فهو في الشاهد مثل مسترق السمع فهذا حاله شيطاني فإنّه متى أعطي قبس من تلك الحقائق تصرّف فيها من تلقاء نفسه فوكّل إليها كما الشأن في إبليس فقد إنعكست لديه الحقائق فاستدرج فيها إستدراجا كبيرا ولا بدّ له من ذلك بما أنّه سأل الخلافة كي يستعملها فيما إستعمل فيه ما جناه من أسرار وأنوار خلاف زمن عبوديته قبل خلق آدم حينما كان على تركيبته النورية. ثمّ يجب أن يعلم هذا الأمر : وذلك أنّ العبد متى أرجع إلى صفته النفسية أرجع إلى حكم طبيعته الطينيّة , أمّا إبليس فهو يرجع برجوعه إلى أوصاف نفسه إلى حكم طبيعته النّارية , فنفسيته ناريّة , بخلاف الإنسان فنفسيته طينية ترابيّة وهي محلّ الشهوات , لهذا لا يحسن أن يقاوم الإنسان غريمه الإبليسي الشيطاني إلاّ بوصف آخر وهو الوصف النوري الذي يخاف منه إبليس تمام الخوف وقد ورد أنّ جهنّم تقول يوم القيامة للعبد المؤمن : ( جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ) لأنّ النور بارد والبرد يطفي الحرّ ( يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) فكلّ من كان على الحال الإبراهيمي كانت النار عليه بردا وسلاما. فرجع إبليس حينما رفض السجود إلى وصف نفسه الناري الأصلي لذا لمّا سأله الله تعالى ( ما منعك أن تسجد ) فقال (أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين ) فما حاجج إلاّ بوصف نفسه لأنّه رجع إليها وكان يعلم أنّه مخلوق من النّار لعنه الله تعالى فعاند الحقائق لكون الخليفة في الأرض يجب أن يكون من جنسها خلقا وعودة ثمّ خروجا , فالظهور بالخلافة في عالم الظهور والشهادة وهو عالم المادّة أو تقول عالم الأسماء هو الذي ترك إبليس يعاند ويصرّ على نوال تلك الحقيقة وتلك المرتبة رغم أنّ حقيقته ليس في إستطاعتها ولا يمكنها تحمّل ذلك ولا القيام والخروج في ذلك المظهر. فعاند إبليس الحقائق معاندة شديدة فكان معلول الفهم سقيم النظر في الحقائق فاختلطت عليه العلوم اختلاطا كبيرا بخلاف الملائكة فإنّهم ما رأو أنفسهم ولا قالوا ( خلقتنا من نور ) لأنّ وصف حقائقهم النورانية في أصلها أي أنّ أصل خلقهم نور في نور لا يعطيهم إلاّ الرجوع إلى وصفهم فعاد إبليس إلى أوصاف أصله وكذلك عادت الملائكة إلى أوصاف نفسها ثمّ عاد آدم وهو في الجنّة إلى وصف نفسه حينما اشتهت حوّاء الأكل من الشجرة فأكلت منها وآدم فأهبط إلى الأرض فعاد الجميع إلى حقائقهم ولكن مع الفارق بين آدم وإبليس من جهة من حيث أنّ آدم هبط إلى الأرض ومعه السرّ الإلهي كامن فيه ومن حيث أنّ إبليس هبط إلى الأرض ومعه اللعنة الإلهية كامنة فيه أمّا الملائكة فليس لها هبوط بل لها نزول وصعود فهي أٍرواح تنزل وتصعد وهكذا هو حكم الأٍرواح بإذن الله سبحانه وتعالى. قلت : الأرواح كلّها مخلوقة من نور سواء أرواح الملائكة أو بني الإنسان أو غيرهم إلاّ أنّ الروح متى رجعت إلى الجسد الذي ستقوم فيه : فهي إمّا أن تكون في طي حكمه أو أن يكون في طي حكمها , فحكم الجسد حكم النفس , وحكم الروح حكم الله تعالى , أمّا إبليس فلا عودة له أبدا إلى حكم روحه النورانية بل الحكم إلى نفسه الناريّة وهذا معنى اللعنة ومعنى ختم القلوب والأبصار والأفئدة والأسماع. فالملائكة حينما قالت : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) نطقت بحسب أصل أوصافها من حيث بغض النور والروح القدسية للإفساد وسفك الدماء فما ذكرت إلاّ أفعال هذا الإنسان القبيحة وما نظرت إلى أصل تركيبة هذا الإنسان من حيث أنّ النور خير من الطين , لأنّ أصل حقيقتها لا يعطيها هذا الخاطر من حيث أنّ النور لا تخطر فيه خواطر النفس بل ولو خطرت فتكون خواطر نورية لأنّ أصل خلقتها من نور ليس فيها غير القيام بأمر الله تعالى والغيرة على أحكامه أن تنتهك فهذا معنى العصمة الذي سبقت به الملائكة بني آدم فالملائكة أفضل من بني البشر عدا الإنبياء في هذا الأمر لعصمتها ( لا يعصون الله ما أمرهم ). قلت : مفهوم إبليس للخلافة مفهوم ناقص فقد ظنّ أنّ الخروج في أوصاف الله تعالى من قدرة وحكمة وعلم وتصريف ونيابة .... يكون في حكم الإله بمعنى أنّ الذي سيكون خليفة سيكون إلها في الكون فلمّا ظنّ أنّ الخلافة هي هذا وهو كاذب في فهمه كان ديدنه في جميع مراحل حياته الوصول إلى هذا الفهم وذلك بدعوى الألوهية فكان هذا مطلبه الذي يعمل عليه منذ أن هبط إلى الأرض. فكان إبليس هو صورة آدم المعكوسة في الأرض أعني صورة الخلافة المعكوسة فظنّ أنّ الخلافة ألألوهية وهو كاذب في هذا الفهم , وإنّما إلتبس عليه الأمر في هذا لما علم بعضه من حكم الخليفة وتصرّفه بإذن الله تعالى ظاهرا وباطنا فحجب عن علوم التوحيد في هذا التصرّف والذي لا يمكنه أن يقوم إلاّ بوصف العبودية التامّة الحقّة والتي وصفها النّور لذا رفض السجود لعدم فهمه أنّ هذا السجود هو في الحقيقة سجود الإعتراف بهذا الخلفية والعيش تحت ظلّ حكمه فأبى وكان من الخاسرين لتعلم هنا أنّ قاعدة ديننا هي ( سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير ). لهذا منع إبليس من مقام الخلافة ومنعت الملائكة منها وحملها الإنسان بعد أن عرضها الله على السماوات والأرض فأبين وأشفقنا منها فاستعمل إبليس جميع علومه التي هي علوم الرسالة والنبوّة والولاية لكنّها معكوسة. هنا متى عرفت هذا ولو بقليل من الإستشعار لوجود الإختصار علمت أنّ لكلّ صورة من علوم الولاية في زماننا وفي غيره من الأزمنة لها صورة من الباطل تقابلها فمثلا نقول هناك : الكشف الربّاني وما يقابله من الباطل الكشف الشيطاني , فمثلا لو أطلعك الله تعالى على أسرار العباد ثمّ فضحت أحدا منهم فكشفك هذا كشف شيطاني لا بدّ من التوبة منه وحذار أن تفرح به فقد ورد عن سيّد الوجود أنّه يقول فيمن عرف ذنبه ( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ) من غير أن يعيّن , لأنّ المكاشف لو عيّن لكان حاله شيطاني لهذا قالت الملائكة في عدم تعيينها ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) فلم تعيّن بخلاف إبليس فقد عيّن ( أنا خير منه ) عيّن آدم فإنّك متى عيّنت فقد أثبتّ نفسك ولا بدّ لذا أثبت إبليس نفسه. قلت : إبليس مدخول عليه في الحقائق كثيرا لمرض نفسه ولذا كثر الكفر في عالم الجنّ المخلوق من النار وكثر فيهم الفسق والظلم والكذب كثيرا لأنّ طبائعهم تعطي ذلك إلاّ عباد الله تعالى الصالحون منهم فهم ساداتنا رضي الله عنهم , أمّا الإنسان فهو على خير كثير لأنّ طبيعته حيوانية طينية وهي أهون بكثير من الطبيعة النّارية. ومن تعيين إبليس : قوله : أنظرني إلى يوم يبعثون - فتحدّث بالأسرار عنادا وليس تسليما فعيّن يوم القيامة. ومن تعيينه : ( لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) فأخبر بالذريّة قبل وجودهم. ومن تعيينه : (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) فعيّن وجوده معهم في الأرض قبل هبوطه وفي هذا كثير فأخبر بعد أن لعنه الله تعالى بالكثير من الأسرار ولكنّها أسرار تعلّقت بحقيقته لعنه الله تعالى , وإنّما قال هذا : ليخبر أنّ تلك الخلافة سيفسدها بما أوتي من قوّة التي نسبها إلى نفسه فرفض أن يسلّم بالخلافة لآدم بعد أن أخبره الله تعالى بأنّ آدم سيكون خليفة في الأرض ( إنّي جاعل في الأرض خليفة ) إنتهى الأمر لسبق العلم. هذا ليعطيك أيّها الإنسان معرفة عظمة تلك الخلافة وقدرها المنيف فحذّرك من أن تطلب فيها ما طلب إبليس منها , هنا دخل إبليس ليفسدها عليك فيدخل لك بوساوسه التصرّف فيها بحسب ما كان سيتصرّف هو فيها لو أعطيها ومن هنا دخل على كثير من أهل السلوك لأنّه قاعد لك في الطريق المستقيم. هل فهمت الآن لماذا شقّ صدر النبيّ ونزع حظّ الشيطان منه , فهل شقّ صدرك ونزع حظّ الشيطان منك ؟؟؟ فمتى قلت لا : قلنا لك : لماذا أفصحت وعيّنت وأخرجت الأسرار هل بإذن أو من غير إذن ؟؟؟ فالغير مأذون يخرج الأسرار فلا تقبل منه , أمّا المأذون فمتى أخرج الأسرار كانت في أذن السامع أحلى من عسل الأنهار قال عليه الصلاة والسلام ( أنا سيّد ولد آدم ولا فخر أنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض , ولواء الحمد بيدي , آدم فمن دونه تحت لوائي ..............................................) فهذا كلام الخليفة أين هو من كلام إبليس ( أنا خير منه ) فهذا مدح نفسه وهذا مدح نفسه صورة حقّة تقابلها صورة باطلة ولا بدّ في أعلى مراتبها وإلى أدنى مراتبها.
تكملة المطلب الأوّل : إبليس لعنه الله تعالى عاند الصفات فحرم من مقام الأنس بالذات فعاقبته الصفات لأنّ الله تعالى ( كلّ يوم هو في شأن ) لترادف وتنوّع التجلّيات فكلّ يوم من أيّام الربّ ( هو في شأن ) شأن الصفات. قال تعالى : ( وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة ) لما سيساهمون فيه من جمع التراب من أنحاء الأرض وما يتطلّب منهم بعد ذلك من الخدمة لهذا الخليفة والعناية به في أحكام الصفات لأنّ مقام هذا الخليفة مقام ذاتي والمراد به العبودية المحضة المتواصلة التي تقابل الألوهية المطلقة التي لا حدّ ولا نهاية لها فالعبودية هي الوصلة فيما بين العبد وربّه ( سبحان الذي أسرى بعبده ). فالعبد مأمور بالخروج من مقام الخصوصية والرجوع إلى مقام العبودية وهذا معنى السلوك ليرجع إلى خصوصيته في وصف عبوديته وهو المنعوت بمقام البقاء , لهذا ترى القوم من السالكين يخرجون في بداياتهم من كلّ شيء سوى الله تعالى وهو معنى التجرّد ثمّ يرجعون إلى الأسباب في حلية المعرفة بالله فيها وهذا مقام الأكابر من أهل الله تعالى كالأنبياء والرسل وأكابر أهل الوراثة من الأولياء. فعلى قدر الخروج يكون مستوى الرجوع لهذا أختصّ آدم من بين جميع الخليقة بمقام الخلافة لأنّه خارج الكون والكون في طي قبضة عبوديته لله تعالى فلا يرى فيه أو معه أو قبله أو بعده غير مولاه الذي تولاّه بهذه العناية , لذا أخبر الله تعالى ملائكته بأنّ هذا المقام لا يحسن أن يناله أحد غير آدم وبنيه فقال لهم ( إنّي جاعل في الأرض خليفة ) فما قال لهم ( إنّي جاعل في الأرض آدم ) لأنّ المقصود ليس آدم وإنّما حقائق آدم التي سيخرج فيها فإنّ آدم تمّ خلقه وصنعه بحسب تلك الحقيقة وهي حقيقة الخلافة , فلا يمكن أن يسبق المبنى المعنى بل المعنى سابق للمبنى. وعليه جهل إبليس أنّ الأمر مستقبلي وأنّ الخلافة ليست لمن مضى وتمّ خلقه كالملائكة والجنّ بل هي لمخلوق متأخّر هو آدم وأبناؤه , فأراد إبليس لعنه الله تعالى أن يرجع بالعلم السابق إلى الجهل اللاحق وهذا محال في حقّ الله تعالى أو أن يرجع بالجهل السابق إلى العلم اللاحق بحسب زعمه وجهله , فكان آدم مخصوصا قبل وجوده فتناول ذكره للملائكة قبل وجوده وقبل خلقه , وبهذا يكون أمر الأنبياء في التبشير ببعضهم البعض قبل وجود أعيانهم لسبق علم الله تعالى بهم فما أنكر أحد منهم على الآخر بل رضي عيسى بأحمد ورضي موسى بالخضر وعيسى ورضي نوح بإبراهيم ورضي يعقوب بيوسف ...وهكذا. فلمّا كانت النشأة الآدمية آخر المخلوقات وكان سيّدها لأنّه صاحب مقام الخلافة كذلك على هذا المنهاج سار العلم فكان آخر الأنبياء هو سيّدهم بحكم هذا من ذاك , فكذلك هي الخلافة فما بزغت ولا عرفت في رجل آدمي أكثر ممّا عرفت في محمّد صلى الله عليه وسلّم , فتعلم أنّ عداوة إبليس لعنه الله تعالى لبني الإنسان ما تجلّى قطّ أكثر من تجلّيه في عداوته لمحمّد رسول الله عليه الصلاة والسلام. وهذا تلحظه وتفهمه ممّا قرأته في السيرة أو سمعته وإلى يومنا الحاضر ترى شدّة عداوة إبليس للأمّة المحمّدية حتّى سدّت المنافذ اليوم على المسلمين و حوربوا حربا ضروسا في مشارق الأرض ومغاربها , وإنّ ما يدلّل على هذه العداوة الشرسة ما تراه من خروج المسيخ الدجّال لعنه الله تعالى في هذه الأمّة , فالدجّال يقابله في مضادّته الحقيقة المحمّدية فكما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الناس أجمعين ورحمة للعالمين سيخرج الدجّال للنّاس أجمعين فيدّعي الصلاح ثمّ النبوّة ثمّ الألوهية للناس جميعا ثمّ يجبرهم على الإيمان بألوهيته فيتوعّدهم ترغيبا وترهيبا لأنّه يأخذ النسخة المعاكسة المقلوبة من الحضرة المحمّدية. هناك أناس قلّ علمهم فنهجوا منهج إبليس في الحقائق لأنّه شيخهم فيها فأكثر الناس ضلالا في الحقائق في أمّة الحبيب عليه الصلاة والسلام هم أهل السلوك الناقص فإنّ الحقائق تختلط عليهم إختلاطا كبيرا لذا أوصى عليه الصلاة والسلام بالكتاب والسنّة فهذا المنهج والمحجّة البيضاء حتّى يسدّ على الشيطان جميع فساده لأنّه خبير بالسلوك ودليل هذا قوله ( لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم ). فكأنّه شعر اللعين بمستوى عبادتهم وبحثهم عن محبّة الذات الإلهية والمعرفة الربّانية ولكن كيده كان ضعيفا ولا بدّ من هذا الضعف لأنّها حقيقته فلا قوّة إلاّ قوّة الله فمن لعن وطرد فأنّى يقوّيه الله تعالى بل هو أضعف من كلّ ضعيف من حيث مستوى السلطان إلاّ في حالة واحدة كما ذكر القرآن وهي إتّباعه لعنه الله تعالى فوقتها يكون له سلطان على من إتّبعه. نرجع فنقول : الخلافة التي تمّ ذكرها في التنزيل فعارض إبليس الأوامر الإلهية حسدا لصاحبها وهو آدم لما وقر في قلبه من الأمراض والعلل التي تعالج إلاّ بصفات الجلال فإنّ من أساء الأدب في صفات الجمال ردّ إلى صفات الجلال كي تؤدّبه فقوله تعالى ( إنّي جاعل في الأرض خليفة ) خبر جمالي في الحقيقة فلو أخبرك الله تعالى مثلا بأنّه سيكون في زمن من الأزمان نبيّا أو وليّا كبيرا أو أخبرك رسول الله عليه الصلاة والسلام كما أخبر عمر وعلي رضي الله عنهما بأويس القرني رضي الله عنه أو إخباره بالمهدي فإنّك متى كنت سليم القلب طاهر الروح فحتما ستفرح بذلك وتنتظر ظهور ذلك على أحرّ الجمر محبّة وصفاء وصدقا. أمّا إذا كنت مريض القلب فاسد التوجّه إلى الله تعالى فحتما أنّك ستدعي ذلك المقام لنفسك بل وتحارب عليه الخاص والعام فلو ظهر في زمنك فحتما أنّك تعارضه ولا تسلّم له لأنّ إعتقادك أنّك خير منه فترنو إلى الإحاطة وإخضاع الناس إلى حكمك لأنّك طالب رئاسة وحكم. نعم هو شيء شريف أن تطلب المقامات السامية ولكن تطلب مقامات العبودية السامية ولا تطلب أبدا مقام الخصوصية فإنّ فيها شبهة من توجّه إبليس الذي سمع بالإخبار الإلهي بأنّ هناك خليفة سيكون في الأرض فلمّا ظهر شأن هذا الخليفة وتيقّن إبليس أنّه ليس هو هنا ركب نفسه وأخرج ما في قلبه من محبّة الرئاسة بعد أن كان ينتظر شأن هذا الخليفة لذا كان يدور حول هيكل آدم ويقول ( إنّك ستخلق لأمر عظيم ) فيريد أن يكون مكانه لذا قال ساداتنا ( مقامك حيث أقامك ) فلا تطلب شيئا إلاّ متى أقامك الله فيه , فأهل الحسد هم الذين يطلبون الخصوصيات فمن طلب خصوصية وعمل لها ودافع عنها فهو واهم لظنّه في نفسه خيرا , فإنّ الخليفة لا فعل له قطعا مثل آدم علّمه الله الأسماء فتكلّم بعد أن تمّ تعليمه فما قال خليفة وما قال أنا صاحب السرّ إلاّ بعد أن أعطيه فكان الأمر حاضرا وليس قادما فبعد ، تبيّن هذا قال له : ( أنبئهم بأسمائهم ) فوجد ذلك العلم فيه ضرورة لا تنفكّ عنه. عند أهل الله متى إطمئنّ الفقير إلى مقام فطلبه وعمل عليه وأنهك جميع حياته فيه فإنّ الشيخ يحرمه منه كمن يسأل الشيخ خلافته حالا فيعرف الشيخ ذلك منه فيبغضه أشدّ البغض لأنّ حاله إبليسي طالب خصوصيات كي ينصّب نفسه إلها من دون الله فإنّ إبليس كفر ليس جحودا بوجود الله بل كفر لأنّه أساء الأدب مع الله تعالى بطلبه الخلافة. ثمّ يجب عدم التأويل في الإخبار بمعنى متى ورد على مسامعنا خبرا من عارف بالله تعالى أو من شيخ واصل كمن قال له شيخه أنت يا سيدي من أكابر الصالحين ونحن نتبرّك بكم فيجب عليه أن يحمل مثلا هذا الكلام على محمل حسن ظنّ شيخه به لا على محمل أنّه فعلا من أكابر الصالحين , فكان إبليس ممدوحا في الملأ الأعلى قبل خلق آدم وكان على وصف الملائكة من حيث التنوير لكنّ ذلك المدح الذي أخذ به على وجه القطع جعله ينظر إلى نفسه بمعنى يلاحظها فكانت نهايته أنّه لم يقبل أحدا فضّله الله عليه. كما في قصّة إخوة يوسف التي فيها آيات للسائلين رغم أنّهم كواكب لكنّهم رفضوا الإعتراف بيوسف ولو لا وصفهم النوري الذي أخبر عنه المولى سبحانه وتعالى عن نيّتهم في التوبة بعد الخلاص من يوسف لجرى لهم الإبعاد والعقاب الدائم. أنظر وتمعّن يا أخي في نهاية إبليس لمّا عزم في باطنه أنّه أفضل من الجميع فابتلاه الله تعالى ابتلاء شديدا أدّى به لما تراه اليوم من الإفساد في الأرض رغم أنّ الملائكة ذكرت إفساد بني آدم ( أي أتجعل فيها من يغلبهم هذا اللعين الذي سيعصيك ويرفض السجود , فنحن لا نعصيك ولا يغلبنا إبليس فدعنا نحن نحلّ محلّ آدم ) لذا قال لهم ( إنّي أعلم ما لا تعلمون ) فإنّ كشفكم نسبي أمّا علمي فهو محيط فأين كشفكم من علمي ؟ والله بكلّ شيء عليم.
فصل : لتعلم أيّها الإنسان قدرك عند ربّك ومنزلتك العظمى أنظر إلى أمرين : الأمر الأوّل : الملائكة التي غارت على مقامك أن لا تحافظ عليه فلا تعرف قدرك فيه فذكرت في مقالها ( ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك )كي تعلم أنّ مقامات الإصطفاء لا تنال بالأعمال مهما بلغ شأن تلك الأعمال ولو صدرت في مقام التنوير الذاتي فلا يحتجّ بها عند ورود فضل الله عليك أو على غيرك , ولا تنال بأفضلية الخلقة في أصل صنعها ... بل الفضل ليس له مقياس غير مقياس المشيئة التي لا تقاس فأنت يا إنسان في بحر المشيئة الإلهية تسبح ولا تدري ( والله ذو الفضل العظيم ). الأمر الثاني : حسد إبليس لك وقد كان في صفّ الملائكة يعبد ربّه معهم لتعلم عظمة وشرف المقام الذي أقامك الله فيه فهو أمانة في عنقك إلى يوم القيامة فالإنسان في خلافة الأرض مسيّر وليس مخيّرا أعني في قبولها أو عدمها فعاداك إبليس لعنه الله تعالى كلّ هذا العداء ففرّط في الحضرة والجنّة وفي قرب الله تعالى ورضاه لما علمه من قدر منيف لتلك المرتبة العظيمة التي أقامك الله فيها. فأنت يا إنسان حبيب الحقّ وعين جوهرة الوجود خدمتك الأكوان برمّتها وسجدت لك الملائكة وأنت في صلب أبيك آدم لأنّك قطب الوجود في الحقيقة. فأنت بين حبيب وهم الملائكة وبين عدوّ وهو الشيطان كي لا تضلّ طريق المحبوب بل جعلك بين نقيضين كي تخلع النعلين فتصلّي صلاتك الأبدية السرمدية التي لا رفع من سجودها أبدا. رأيت مرّة عارفا وليّا صالحا يعالج نفسه أن يرفع جبهته من السجود فما استطاع حتى كادت جبهته تقطر دما. التنافس الحقيقي ليس هو تنافس الدنيا ولا تنافس الآخرة بل هو التنافس إلى المحبوب هناك يصحّ السباق فمن سبق فقد لحق ( أيّهم أقرب ). قالت الهمّة المحمّدية المقدّسة ( والله يا عمّاه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتّى يظهره الله أو أهلك دونه ) فإنّه عليه الصلاة والسلام أخذ الكتاب بقوّة. قال : حتّى يظهره الله , فنسب فعل الإظهار إلى الله. وقال : أو أهلك دونه , فما نسب فعل الهلاك إلى الله تعالى لأنّ الله تعالى لا يهلك من يظهر دينه بل يحفظه ويعينه.
وما أعطاها أعين عليها ) وقد حذّر رسول الله عليه الصلاة والسلام عمّه العبّاس رضي الله عنه من طلب الإمارة في معنى قوله : ( لا نعطي أمرنا هذا من سأله ) والسؤال يكون بالحال قبل المقال. فكذلك طالب الأسرار لذات الأسرار فهو في الشاهد مثل مسترق السمع فهذا حاله شيطاني فإنّه متى أعطي قبس من تلك الحقائق تصرّف فيها من تلقاء نفسه فوكّل إليها كما الشأن في إبليس فقد إنعكست لديه الحقائق فاستدرج فيها إستدراجا كبيرا ولا بدّ له من ذلك بما أنّه سأل الخلافة كي يستعملها فيما إستعمل فيه ما جناه من أسرار وأنوار خلاف زمن عبوديته قبل خلق آدم حينما كان على تركيبته النورية. ثمّ يجب أن يعلم هذا الأمر : وذلك أنّ العبد متى أرجع إلى صفته النفسية أرجع إلى حكم طبيعته الطينيّة , أمّا إبليس فهو يرجع برجوعه إلى أوصاف نفسه إلى حكم طبيعته النّارية , فنفسيته ناريّة , بخلاف الإنسان فنفسيته طينية ترابيّة وهي محلّ الشهوات , لهذا لا يحسن أن يقاوم الإنسان غريمه الإبليسي الشيطاني إلاّ بوصف آخر وهو الوصف النوري الذي يخاف منه إبليس تمام الخوف وقد ورد أنّ جهنّم تقول يوم القيامة للعبد المؤمن : ( جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ) لأنّ النور بارد والبرد يطفي الحرّ ( يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) فكلّ من كان على الحال الإبراهيمي كانت النار عليه بردا وسلاما. فرجع إبليس حينما رفض السجود إلى وصف نفسه الناري الأصلي لذا لمّا سأله الله تعالى ( ما منعك أن تسجد ) فقال (أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين ) فما حاجج إلاّ بوصف نفسه لأنّه رجع إليها وكان يعلم أنّه مخلوق من النّار لعنه الله تعالى فعاند الحقائق لكون الخليفة في الأرض يجب أن يكون من جنسها خلقا وعودة ثمّ خروجا , فالظهور بالخلافة في عالم الظهور والشهادة وهو عالم المادّة أو تقول عالم الأسماء هو الذي ترك إبليس يعاند ويصرّ على نوال تلك الحقيقة وتلك المرتبة رغم أنّ حقيقته ليس في إستطاعتها ولا يمكنها تحمّل ذلك ولا القيام والخروج في ذلك المظهر. فعاند إبليس الحقائق معاندة شديدة فكان معلول الفهم سقيم النظر في الحقائق فاختلطت عليه العلوم اختلاطا كبيرا بخلاف الملائكة فإنّهم ما رأو أنفسهم ولا قالوا ( خلقتنا من نور ) لأنّ وصف حقائقهم النورانية في أصلها أي أنّ أصل خلقهم نور في نور لا يعطيهم إلاّ الرجوع إلى وصفهم فعاد إبليس إلى أوصاف أصله وكذلك عادت الملائكة إلى أوصاف نفسها ثمّ عاد آدم وهو في الجنّة إلى وصف نفسه حينما اشتهت حوّاء الأكل من الشجرة فأكلت منها وآدم فأهبط إلى الأرض فعاد الجميع إلى حقائقهم ولكن مع الفارق بين آدم وإبليس من جهة من حيث أنّ آدم هبط إلى الأرض ومعه السرّ الإلهي كامن فيه ومن حيث أنّ إبليس هبط إلى الأرض ومعه اللعنة الإلهية كامنة فيه أمّا الملائكة فليس لها هبوط بل لها نزول وصعود فهي أٍرواح تنزل وتصعد وهكذا هو حكم الأٍرواح بإذن الله سبحانه وتعالى. قلت : الأرواح كلّها مخلوقة من نور سواء أرواح الملائكة أو بني الإنسان أو غيرهم إلاّ أنّ الروح متى رجعت إلى الجسد الذي ستقوم فيه : فهي إمّا أن تكون في طي حكمه أو أن يكون في طي حكمها , فحكم الجسد حكم النفس , وحكم الروح حكم الله تعالى , أمّا إبليس فلا عودة له أبدا إلى حكم روحه النورانية بل الحكم إلى نفسه الناريّة وهذا معنى اللعنة ومعنى ختم القلوب والأبصار والأفئدة والأسماع. فالملائكة حينما قالت : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) نطقت بحسب أصل أوصافها من حيث بغض النور والروح القدسية للإفساد وسفك الدماء فما ذكرت إلاّ أفعال هذا الإنسان القبيحة وما نظرت إلى أصل تركيبة هذا الإنسان من حيث أنّ النور خير من الطين , لأنّ أصل حقيقتها لا يعطيها هذا الخاطر من حيث أنّ النور لا تخطر فيه خواطر النفس بل ولو خطرت فتكون خواطر نورية لأنّ أصل خلقتها من نور ليس فيها غير القيام بأمر الله تعالى والغيرة على أحكامه أن تنتهك فهذا معنى العصمة الذي سبقت به الملائكة بني آدم فالملائكة أفضل من بني البشر عدا الإنبياء في هذا الأمر لعصمتها ( لا يعصون الله ما أمرهم ). قلت : مفهوم إبليس للخلافة مفهوم ناقص فقد ظنّ أنّ الخروج في أوصاف الله تعالى من قدرة وحكمة وعلم وتصريف ونيابة .... يكون في حكم الإله بمعنى أنّ الذي سيكون خليفة سيكون إلها في الكون فلمّا ظنّ أنّ الخلافة هي هذا وهو كاذب في فهمه كان ديدنه في جميع مراحل حياته الوصول إلى هذا الفهم وذلك بدعوى الألوهية فكان هذا مطلبه الذي يعمل عليه منذ أن هبط إلى الأرض. فكان إبليس هو صورة آدم المعكوسة في الأرض أعني صورة الخلافة المعكوسة فظنّ أنّ الخلافة ألألوهية وهو كاذب في هذا الفهم , وإنّما إلتبس عليه الأمر في هذا لما علم بعضه من حكم الخليفة وتصرّفه بإذن الله تعالى ظاهرا وباطنا فحجب عن علوم التوحيد في هذا التصرّف والذي لا يمكنه أن يقوم إلاّ بوصف العبودية التامّة الحقّة والتي وصفها النّور لذا رفض السجود لعدم فهمه أنّ هذا السجود هو في الحقيقة سجود الإعتراف بهذا الخلفية والعيش تحت ظلّ حكمه فأبى وكان من الخاسرين لتعلم هنا أنّ قاعدة ديننا هي ( سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير ). لهذا منع إبليس من مقام الخلافة ومنعت الملائكة منها وحملها الإنسان بعد أن عرضها الله على السماوات والأرض فأبين وأشفقنا منها فاستعمل إبليس جميع علومه التي هي علوم الرسالة والنبوّة والولاية لكنّها معكوسة. هنا متى عرفت هذا ولو بقليل من الإستشعار لوجود الإختصار علمت أنّ لكلّ صورة من علوم الولاية في زماننا وفي غيره من الأزمنة لها صورة من الباطل تقابلها فمثلا نقول هناك : الكشف الربّاني وما يقابله من الباطل الكشف الشيطاني , فمثلا لو أطلعك الله تعالى على أسرار العباد ثمّ فضحت أحدا منهم فكشفك هذا كشف شيطاني لا بدّ من التوبة منه وحذار أن تفرح به فقد ورد عن سيّد الوجود أنّه يقول فيمن عرف ذنبه ( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ) من غير أن يعيّن , لأنّ المكاشف لو عيّن لكان حاله شيطاني لهذا قالت الملائكة في عدم تعيينها ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) فلم تعيّن بخلاف إبليس فقد عيّن ( أنا خير منه ) عيّن آدم فإنّك متى عيّنت فقد أثبتّ نفسك ولا بدّ لذا أثبت إبليس نفسه. قلت : إبليس مدخول عليه في الحقائق كثيرا لمرض نفسه ولذا كثر الكفر في عالم الجنّ المخلوق من النار وكثر فيهم الفسق والظلم والكذب كثيرا لأنّ طبائعهم تعطي ذلك إلاّ عباد الله تعالى الصالحون منهم فهم ساداتنا رضي الله عنهم , أمّا الإنسان فهو على خير كثير لأنّ طبيعته حيوانية طينية وهي أهون بكثير من الطبيعة النّارية. ومن تعيين إبليس : قوله : أنظرني إلى يوم يبعثون - فتحدّث بالأسرار عنادا وليس تسليما فعيّن يوم القيامة. ومن تعيينه : ( لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) فأخبر بالذريّة قبل وجودهم. ومن تعيينه : (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) فعيّن وجوده معهم في الأرض قبل هبوطه وفي هذا كثير فأخبر بعد أن لعنه الله تعالى بالكثير من الأسرار ولكنّها أسرار تعلّقت بحقيقته لعنه الله تعالى , وإنّما قال هذا : ليخبر أنّ تلك الخلافة سيفسدها بما أوتي من قوّة التي نسبها إلى نفسه فرفض أن يسلّم بالخلافة لآدم بعد أن أخبره الله تعالى بأنّ آدم سيكون خليفة في الأرض ( إنّي جاعل في الأرض خليفة ) إنتهى الأمر لسبق العلم. هذا ليعطيك أيّها الإنسان معرفة عظمة تلك الخلافة وقدرها المنيف فحذّرك من أن تطلب فيها ما طلب إبليس منها , هنا دخل إبليس ليفسدها عليك فيدخل لك بوساوسه التصرّف فيها بحسب ما كان سيتصرّف هو فيها لو أعطيها ومن هنا دخل على كثير من أهل السلوك لأنّه قاعد لك في الطريق المستقيم. هل فهمت الآن لماذا شقّ صدر النبيّ ونزع حظّ الشيطان منه , فهل شقّ صدرك ونزع حظّ الشيطان منك ؟؟؟ فمتى قلت لا : قلنا لك : لماذا أفصحت وعيّنت وأخرجت الأسرار هل بإذن أو من غير إذن ؟؟؟ فالغير مأذون يخرج الأسرار فلا تقبل منه , أمّا المأذون فمتى أخرج الأسرار كانت في أذن السامع أحلى من عسل الأنهار قال عليه الصلاة والسلام ( أنا سيّد ولد آدم ولا فخر أنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض , ولواء الحمد بيدي , آدم فمن دونه تحت لوائي ..............................................) فهذا كلام الخليفة أين هو من كلام إبليس ( أنا خير منه ) فهذا مدح نفسه وهذا مدح نفسه صورة حقّة تقابلها صورة باطلة ولا بدّ في أعلى مراتبها وإلى أدنى مراتبها.
تكملة المطلب الأوّل : إبليس لعنه الله تعالى عاند الصفات فحرم من مقام الأنس بالذات فعاقبته الصفات لأنّ الله تعالى ( كلّ يوم هو في شأن ) لترادف وتنوّع التجلّيات فكلّ يوم من أيّام الربّ ( هو في شأن ) شأن الصفات. قال تعالى : ( وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة ) لما سيساهمون فيه من جمع التراب من أنحاء الأرض وما يتطلّب منهم بعد ذلك من الخدمة لهذا الخليفة والعناية به في أحكام الصفات لأنّ مقام هذا الخليفة مقام ذاتي والمراد به العبودية المحضة المتواصلة التي تقابل الألوهية المطلقة التي لا حدّ ولا نهاية لها فالعبودية هي الوصلة فيما بين العبد وربّه ( سبحان الذي أسرى بعبده ). فالعبد مأمور بالخروج من مقام الخصوصية والرجوع إلى مقام العبودية وهذا معنى السلوك ليرجع إلى خصوصيته في وصف عبوديته وهو المنعوت بمقام البقاء , لهذا ترى القوم من السالكين يخرجون في بداياتهم من كلّ شيء سوى الله تعالى وهو معنى التجرّد ثمّ يرجعون إلى الأسباب في حلية المعرفة بالله فيها وهذا مقام الأكابر من أهل الله تعالى كالأنبياء والرسل وأكابر أهل الوراثة من الأولياء. فعلى قدر الخروج يكون مستوى الرجوع لهذا أختصّ آدم من بين جميع الخليقة بمقام الخلافة لأنّه خارج الكون والكون في طي قبضة عبوديته لله تعالى فلا يرى فيه أو معه أو قبله أو بعده غير مولاه الذي تولاّه بهذه العناية , لذا أخبر الله تعالى ملائكته بأنّ هذا المقام لا يحسن أن يناله أحد غير آدم وبنيه فقال لهم ( إنّي جاعل في الأرض خليفة ) فما قال لهم ( إنّي جاعل في الأرض آدم ) لأنّ المقصود ليس آدم وإنّما حقائق آدم التي سيخرج فيها فإنّ آدم تمّ خلقه وصنعه بحسب تلك الحقيقة وهي حقيقة الخلافة , فلا يمكن أن يسبق المبنى المعنى بل المعنى سابق للمبنى. وعليه جهل إبليس أنّ الأمر مستقبلي وأنّ الخلافة ليست لمن مضى وتمّ خلقه كالملائكة والجنّ بل هي لمخلوق متأخّر هو آدم وأبناؤه , فأراد إبليس لعنه الله تعالى أن يرجع بالعلم السابق إلى الجهل اللاحق وهذا محال في حقّ الله تعالى أو أن يرجع بالجهل السابق إلى العلم اللاحق بحسب زعمه وجهله , فكان آدم مخصوصا قبل وجوده فتناول ذكره للملائكة قبل وجوده وقبل خلقه , وبهذا يكون أمر الأنبياء في التبشير ببعضهم البعض قبل وجود أعيانهم لسبق علم الله تعالى بهم فما أنكر أحد منهم على الآخر بل رضي عيسى بأحمد ورضي موسى بالخضر وعيسى ورضي نوح بإبراهيم ورضي يعقوب بيوسف ...وهكذا. فلمّا كانت النشأة الآدمية آخر المخلوقات وكان سيّدها لأنّه صاحب مقام الخلافة كذلك على هذا المنهاج سار العلم فكان آخر الأنبياء هو سيّدهم بحكم هذا من ذاك , فكذلك هي الخلافة فما بزغت ولا عرفت في رجل آدمي أكثر ممّا عرفت في محمّد صلى الله عليه وسلّم , فتعلم أنّ عداوة إبليس لعنه الله تعالى لبني الإنسان ما تجلّى قطّ أكثر من تجلّيه في عداوته لمحمّد رسول الله عليه الصلاة والسلام. وهذا تلحظه وتفهمه ممّا قرأته في السيرة أو سمعته وإلى يومنا الحاضر ترى شدّة عداوة إبليس للأمّة المحمّدية حتّى سدّت المنافذ اليوم على المسلمين و حوربوا حربا ضروسا في مشارق الأرض ومغاربها , وإنّ ما يدلّل على هذه العداوة الشرسة ما تراه من خروج المسيخ الدجّال لعنه الله تعالى في هذه الأمّة , فالدجّال يقابله في مضادّته الحقيقة المحمّدية فكما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الناس أجمعين ورحمة للعالمين سيخرج الدجّال للنّاس أجمعين فيدّعي الصلاح ثمّ النبوّة ثمّ الألوهية للناس جميعا ثمّ يجبرهم على الإيمان بألوهيته فيتوعّدهم ترغيبا وترهيبا لأنّه يأخذ النسخة المعاكسة المقلوبة من الحضرة المحمّدية. هناك أناس قلّ علمهم فنهجوا منهج إبليس في الحقائق لأنّه شيخهم فيها فأكثر الناس ضلالا في الحقائق في أمّة الحبيب عليه الصلاة والسلام هم أهل السلوك الناقص فإنّ الحقائق تختلط عليهم إختلاطا كبيرا لذا أوصى عليه الصلاة والسلام بالكتاب والسنّة فهذا المنهج والمحجّة البيضاء حتّى يسدّ على الشيطان جميع فساده لأنّه خبير بالسلوك ودليل هذا قوله ( لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم ). فكأنّه شعر اللعين بمستوى عبادتهم وبحثهم عن محبّة الذات الإلهية والمعرفة الربّانية ولكن كيده كان ضعيفا ولا بدّ من هذا الضعف لأنّها حقيقته فلا قوّة إلاّ قوّة الله فمن لعن وطرد فأنّى يقوّيه الله تعالى بل هو أضعف من كلّ ضعيف من حيث مستوى السلطان إلاّ في حالة واحدة كما ذكر القرآن وهي إتّباعه لعنه الله تعالى فوقتها يكون له سلطان على من إتّبعه. نرجع فنقول : الخلافة التي تمّ ذكرها في التنزيل فعارض إبليس الأوامر الإلهية حسدا لصاحبها وهو آدم لما وقر في قلبه من الأمراض والعلل التي تعالج إلاّ بصفات الجلال فإنّ من أساء الأدب في صفات الجمال ردّ إلى صفات الجلال كي تؤدّبه فقوله تعالى ( إنّي جاعل في الأرض خليفة ) خبر جمالي في الحقيقة فلو أخبرك الله تعالى مثلا بأنّه سيكون في زمن من الأزمان نبيّا أو وليّا كبيرا أو أخبرك رسول الله عليه الصلاة والسلام كما أخبر عمر وعلي رضي الله عنهما بأويس القرني رضي الله عنه أو إخباره بالمهدي فإنّك متى كنت سليم القلب طاهر الروح فحتما ستفرح بذلك وتنتظر ظهور ذلك على أحرّ الجمر محبّة وصفاء وصدقا. أمّا إذا كنت مريض القلب فاسد التوجّه إلى الله تعالى فحتما أنّك ستدعي ذلك المقام لنفسك بل وتحارب عليه الخاص والعام فلو ظهر في زمنك فحتما أنّك تعارضه ولا تسلّم له لأنّ إعتقادك أنّك خير منه فترنو إلى الإحاطة وإخضاع الناس إلى حكمك لأنّك طالب رئاسة وحكم. نعم هو شيء شريف أن تطلب المقامات السامية ولكن تطلب مقامات العبودية السامية ولا تطلب أبدا مقام الخصوصية فإنّ فيها شبهة من توجّه إبليس الذي سمع بالإخبار الإلهي بأنّ هناك خليفة سيكون في الأرض فلمّا ظهر شأن هذا الخليفة وتيقّن إبليس أنّه ليس هو هنا ركب نفسه وأخرج ما في قلبه من محبّة الرئاسة بعد أن كان ينتظر شأن هذا الخليفة لذا كان يدور حول هيكل آدم ويقول ( إنّك ستخلق لأمر عظيم ) فيريد أن يكون مكانه لذا قال ساداتنا ( مقامك حيث أقامك ) فلا تطلب شيئا إلاّ متى أقامك الله فيه , فأهل الحسد هم الذين يطلبون الخصوصيات فمن طلب خصوصية وعمل لها ودافع عنها فهو واهم لظنّه في نفسه خيرا , فإنّ الخليفة لا فعل له قطعا مثل آدم علّمه الله الأسماء فتكلّم بعد أن تمّ تعليمه فما قال خليفة وما قال أنا صاحب السرّ إلاّ بعد أن أعطيه فكان الأمر حاضرا وليس قادما فبعد ، تبيّن هذا قال له : ( أنبئهم بأسمائهم ) فوجد ذلك العلم فيه ضرورة لا تنفكّ عنه. عند أهل الله متى إطمئنّ الفقير إلى مقام فطلبه وعمل عليه وأنهك جميع حياته فيه فإنّ الشيخ يحرمه منه كمن يسأل الشيخ خلافته حالا فيعرف الشيخ ذلك منه فيبغضه أشدّ البغض لأنّ حاله إبليسي طالب خصوصيات كي ينصّب نفسه إلها من دون الله فإنّ إبليس كفر ليس جحودا بوجود الله بل كفر لأنّه أساء الأدب مع الله تعالى بطلبه الخلافة. ثمّ يجب عدم التأويل في الإخبار بمعنى متى ورد على مسامعنا خبرا من عارف بالله تعالى أو من شيخ واصل كمن قال له شيخه أنت يا سيدي من أكابر الصالحين ونحن نتبرّك بكم فيجب عليه أن يحمل مثلا هذا الكلام على محمل حسن ظنّ شيخه به لا على محمل أنّه فعلا من أكابر الصالحين , فكان إبليس ممدوحا في الملأ الأعلى قبل خلق آدم وكان على وصف الملائكة من حيث التنوير لكنّ ذلك المدح الذي أخذ به على وجه القطع جعله ينظر إلى نفسه بمعنى يلاحظها فكانت نهايته أنّه لم يقبل أحدا فضّله الله عليه. كما في قصّة إخوة يوسف التي فيها آيات للسائلين رغم أنّهم كواكب لكنّهم رفضوا الإعتراف بيوسف ولو لا وصفهم النوري الذي أخبر عنه المولى سبحانه وتعالى عن نيّتهم في التوبة بعد الخلاص من يوسف لجرى لهم الإبعاد والعقاب الدائم. أنظر وتمعّن يا أخي في نهاية إبليس لمّا عزم في باطنه أنّه أفضل من الجميع فابتلاه الله تعالى ابتلاء شديدا أدّى به لما تراه اليوم من الإفساد في الأرض رغم أنّ الملائكة ذكرت إفساد بني آدم ( أي أتجعل فيها من يغلبهم هذا اللعين الذي سيعصيك ويرفض السجود , فنحن لا نعصيك ولا يغلبنا إبليس فدعنا نحن نحلّ محلّ آدم ) لذا قال لهم ( إنّي أعلم ما لا تعلمون ) فإنّ كشفكم نسبي أمّا علمي فهو محيط فأين كشفكم من علمي ؟ والله بكلّ شيء عليم.
فصل : لتعلم أيّها الإنسان قدرك عند ربّك ومنزلتك العظمى أنظر إلى أمرين : الأمر الأوّل : الملائكة التي غارت على مقامك أن لا تحافظ عليه فلا تعرف قدرك فيه فذكرت في مقالها ( ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك )كي تعلم أنّ مقامات الإصطفاء لا تنال بالأعمال مهما بلغ شأن تلك الأعمال ولو صدرت في مقام التنوير الذاتي فلا يحتجّ بها عند ورود فضل الله عليك أو على غيرك , ولا تنال بأفضلية الخلقة في أصل صنعها ... بل الفضل ليس له مقياس غير مقياس المشيئة التي لا تقاس فأنت يا إنسان في بحر المشيئة الإلهية تسبح ولا تدري ( والله ذو الفضل العظيم ). الأمر الثاني : حسد إبليس لك وقد كان في صفّ الملائكة يعبد ربّه معهم لتعلم عظمة وشرف المقام الذي أقامك الله فيه فهو أمانة في عنقك إلى يوم القيامة فالإنسان في خلافة الأرض مسيّر وليس مخيّرا أعني في قبولها أو عدمها فعاداك إبليس لعنه الله تعالى كلّ هذا العداء ففرّط في الحضرة والجنّة وفي قرب الله تعالى ورضاه لما علمه من قدر منيف لتلك المرتبة العظيمة التي أقامك الله فيها. فأنت يا إنسان حبيب الحقّ وعين جوهرة الوجود خدمتك الأكوان برمّتها وسجدت لك الملائكة وأنت في صلب أبيك آدم لأنّك قطب الوجود في الحقيقة. فأنت بين حبيب وهم الملائكة وبين عدوّ وهو الشيطان كي لا تضلّ طريق المحبوب بل جعلك بين نقيضين كي تخلع النعلين فتصلّي صلاتك الأبدية السرمدية التي لا رفع من سجودها أبدا. رأيت مرّة عارفا وليّا صالحا يعالج نفسه أن يرفع جبهته من السجود فما استطاع حتى كادت جبهته تقطر دما. التنافس الحقيقي ليس هو تنافس الدنيا ولا تنافس الآخرة بل هو التنافس إلى المحبوب هناك يصحّ السباق فمن سبق فقد لحق ( أيّهم أقرب ). قالت الهمّة المحمّدية المقدّسة ( والله يا عمّاه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتّى يظهره الله أو أهلك دونه ) فإنّه عليه الصلاة والسلام أخذ الكتاب بقوّة. قال : حتّى يظهره الله , فنسب فعل الإظهار إلى الله. وقال : أو أهلك دونه , فما نسب فعل الهلاك إلى الله تعالى لأنّ الله تعالى لا يهلك من يظهر دينه بل يحفظه ويعينه.
الكلمات المفتاحية :
التربية و السلوك
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: