لذّة الأنس في مجاهدة النفس 2
بسم الله الرحمان الرحيم
قال تعالى : ( ونَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ).
النفس الزكية الفالحة هي نفس سماوية منوّرة صافية في ترقّي مستمرّ ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) فهي في رجوع دائم أمّا النفس المريضة الدسيسة الخسيسة هي نفس أرضية مظلمة في انحدار و دناءة مستمرّة ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ) فانظر كيف أشار لك كونه متى نسيته سبحانه فسينسيك نفسك
ومجاهدتها فأدخلتها إلى مجمع الفاسقين فكلّ من أرخى العنان لنفسه فسلّم لها قياده ولم يجاهدها في مراتبها ومراقبتها في أساليبها فهو من الفاسقين ولو جمع علم الأولين والآخرين ... لأنّ علامة بداية طلب علم أهل الولاية تزكية النفس .. فالعقبة التي بينك وبين الصلاح ثم الولاية مع المعرفة هي نفسك التي بين جنبيك لذا ورد ( من عرف نفسه عرف ربّه ).
كما قال الشيخ سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه ( من مات ولم يتغلغل في علمنا هذا مات مصرّا على الكبائر من حيث لا يشعر ) فالتغلغل في هذا العلم هو مجاهدة النفس وليس هو قراءة كتب القوم كما يظنّه كثيرون وقد ناجى أحد الصالحين ربّه قائلا : يا ربّ كيف آتيك فسمع قائلا من عند الله تعالى يقول له أترك نفسك وتعال وقال الشيخ سيدي عبد القادر الجيلاني قدس الله سره : ( أتيت فوقفت على سائر الأبواب و الطرق الموصلة إلى الله فوجدتها مزدحمة بالسالكين ثم وقفت على باب الذل و الافتقار فوجدته خاليا فاتخذته ) أي أن باب الذلّ لا تميل نفوس الكثير من السالكين إليه فهو من أصعب الأبواب على النفوس الحيّة وسنأتي على ذكر ذلك مفصّلا إن شاء الله تعالى.
فإذا فهمت هذا فاعلم أن الله تعالى بدأ سورة الشمس التي ذكر فيها حقيقة النفس في جميع أحوالها بقوله تعالى ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَ الْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ) فمن إشارات هذه الآيات لتعلّقها بشؤون النفس ذكر بداية الشمس التي هي في الحقيقة شمس المعرفة وهو الفتح الكبير المعبّر عنه بالفتح في الشهود في وقت صفاء المشاهدة الذي هو الزمن الجمالي المعبّر عنه بالضحى لأنّه وقت التأييد الإلهي للعارفين بالله تعالى وهو الوقت الذي خاض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم غزوة بدر الكبرى فكان يوم الفرقان وهو نفس الوقت الذي عيّنه موسى لفرعون كما قال تعالى ( مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) لأنّ الشمس دائما تبقى شمسا ولكن تتغيّر وتتبدّل أوقاتها فكان أحسن أوقاتها وقت الضحى حيث يحشر فيه الناس يوم القيامة لهذا لمّا انقطع الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلّم نزلت عليه سورة ( الضحى ) تأنيسا له وتفريجا عن قلبه الشريف صلى الله تعالى عليه وآله وسلّم.
ثمّ قال تعالى ( وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ) إشارة وكناية عن قمر التوحيد فأنت بين معرفة وتوحيد بين شمس وقمر فالشمس كناية عن عالم الأسرار والقمر كناية عن عالم الأنوار أو إن شئت قل الشمس كناية عن الحضرة القدسية والقمر كناية عن الحضرة المحمدية.
فنفسك التي بين جنبيك ليس لها في طريق الله تعالى من سير إلاّ إلى عالم الأنوار أو إلى عالم الأسرار وذلك بالمجاهدة والذكر والمذاكرة والعلم والأدب .. فهي إمّا أن تكون نفس نورية مطمئنة أو كاملة متحققة وإنّما يطرأ السلب على النفوس النورية المطمئنّة غالبا فينقلب الصديق زنديقا والوليّ فاسقا وهكذا .. وسنأتي عليه إن شاء الله تعالى ..
ثمّ قال تعالى ( وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَ اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ) فدلّك في هذه السورة على الضدين المتقابلين الذين لا يقوم أوّلهما ولا يعرف إلاّ بما يقابله الثاني فلا يعرف النهار إلاّ بوجود الليل قال تعالى ( وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَ الأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ) لأنه لا تعرف السماء إلاّ بوجود الأرض لذا ذكر لك بعد هذه الحقائق مباشرة ميزان النفوس ومقامها في كلّ تلك الحقائق العلوية والسفلية كما قال تعالى ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ).
كأنه يشير لك أنّه خلق هذا الكون بأسره بنتظر رجوع حقائقك إليه فكأنّك بعد ذلك تراه منك وإليك كما قال تعالى ( وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ) وقال تعالى ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ) فانظر إلى حالة الكون اليون من تسخير طائرات وصواريخ وسيارات وهواتف وتلفزات وبواخر وحاملات والكهرباء والأثير ... إلخ كي تعلم أن الكون بأسره مسخّر لك فالكون منك وأنت من الكون من حيث الخدمة والتسخير لذا قال الشيخ سيدي محمد البوصيري رضي الله عنه مادحا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( محمد سيّد الكونين ) أي عالم الملك وعالم الملكوت فافهم الإشارة بلا عبارة ثمّ تنزّل فقال ( والثقلين --- والفريقين من عرب ومن عجم ).
فلمّا تمّ التسخير وكمل التيسير بعد أن انتفى التعسير قال لك ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) فأشار لك بداية كون هذا الكون على غاية من الحسن والهداية فبدأ بالشمس التي لا يتبعها غير القمر وبالنهار الذي لا يتبعه إلاّ الليل وبالسماء التي لا يتبعها إلاّ الأرض فبدأ بذكر العوالم العلوية وحكمها على العوالم السفلية فهي كأنها خديمتها وناصرتها وصاحبتها فهي تحت حكمها لا تخرج عن ذلك البتّة لتناسق هذا الكون وتناغمه إلاّ لمّا وصل إلى ذكر النفس فبدأ بعالمك السفلي قبل ذكره لعالمك العلوي إشارة لك كونك أسير عالمك السفلي فهو المتحكّم في عالمك العلوي وإنما قال تعالى ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) فبدأ بالفجور أي ألهمها ظهورها قال أحد الصالحين إني لأعرف ذنبي من خلق دابتي معي فإذا كنت مطيعا كانت مطيعة لي وإذا كنت مذنبا لم تطاوعني ..
لأنّ ظهور النفس هو عين الفجور فألهمها فجورها أي ألهمها علم شرّ وجودها وظهورها بغير وجه حقّ ثمّ ذكر تقواها أي محاسن بطونها فلا تظهر إلاّ بالله تعالى أمرا لازما فهو بطونها مهما كانت ظاهرة فيه فإنّما ظهرت في وصف الحقّ ونعت الصدق لذا قال تعالى ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ) أي ردّ ظهورها على وفق نظام هذا الكون كما قال تعالى ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) أي كتحكّم العالم العلوي في هذا العالم السفلي فالعالم السفلي تابع غير متبوع فهو قابل لا آمر ولا ناهي كالمطر ينزل من السماء فلا خيار للأرض في قبوله من عدمه بل هي من تتصرف فيه بالحسن أو القبيح كما قال تعالى ( والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ) إشارة إلى كون النفس الزكية تبنى شخصيتها كما تبنى السماء عالية من غير عمد ترونها بخلاف النفس الخسيسة فهي كالأرض لا بدّ من دحوها وبسطها إشارة إلى البطون والخمول وعدم الظهور كما قال سيدي ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه ( ادفن وجودك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه ) فكتاب الحكم يعالج آفات النفوس ..
قال تعالى ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ) أي أنه خلقها على أصل فطرتها عارفة بالخير عالمة بالشرّ فهي في حقيقتها مفطورة على فعل الخير وبغض الشرّ كما قال تعالى ( فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ) وقال عليه الصلاة والسلام ( كلّ مولود يولد على الفطرة ) أي يولد مسلما في مشارق الأرض ومغاربها من عهد آدم وإلى قيام الساعة ولكن الشيطان يتلقاه بمجرد ولادته كي يغويه السبيل لأنه القائل لعنه الله تعالى كما قال تعالى ذاكرا كلامه ( لأغوينّهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين ).
قال تعالى ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ). أعلمك سبحانه كون نفسك التي بين جنبيك ليس يربطك بها من العلاقات إلاّ علاقة واحدة إمّا علاقة تزكية من تخلية وتحلية فتكون علاقة صدق ومحبة وعدل معها ونجاة وإمّا علاقة موافقة واستجابة لرغباتها وميل إلى شهزاتها فتكون علاقة خيبة وخسارة وضلال وظلمة ... لذا أعلمك سبحانه وتعالى كون القياد بيدك لا بيدها وأنّ الحكم لك عليها فهي وديعة عندك إمّا أن تزكيها فتنجو معها وإمّا أن تتركها فتهلك معها لأنه سبحانه رزقك عقل التكليف في مقام الإسلام فرغبها في الثواب ورهبها من العقاب ثمّ رزقك قلب التعريف في مقام الإيمان فرغّبها في الإيقان ورهبها من الحجاب ثمّ رزقك روح العبودية في مقام الإحسان فرغّبها في المشاهدة ورهبها من السلب .. فرزقك عقل التكليف الذي هو عقل الخلافة لمعرفة الأسماء الإلهية في عالم الظهور من أمر ونهي ثمّ رزقك قلب التعريف الذي هو لبّ حضور المعاني النورية والأسرار الإيقانية لمعرفة الصفات الإلهية في عالم الأنوار من سير ويقين ثمّ رزقك روح العبودية الذي هو لبّ المشاهدة والمكالمة لمعرفة الذات الصمدية في عالم الأسرار من أدب ومعرفة فأنت تسير بها في كلّ مرحلة من مراحل سيرك كي تخلصها من أشواك الجهل وظلمة وجودها إلى أن تسمع نداء الفلاح بعد نداء الصلاه ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ ) فهذا بداية السير الخالي من خواطر النفس والسوء ( وأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق ) فليس هناك أعمق من فجّ النفس فسبحان من خلّص أولياءه من كدورات النفس و ( إلاّ عبادك منهم المخلصين ). فالفلاح راجع لك في تزكيتها والخسارة عائدة عليك في دسّها وسترها والدفاع عنها وموافقتها في شهواتها وميولاتها والرضا عن أفعالها والإمتثال إلى خواطرها فأنت بهذا تخون الأمانة قال تعالى ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ). فأوّل قدم يضعه المؤمن المسلم في طريق الله تعالى هو طريق عدم الرضا عن النفس ثمّ مجاهدتها. قال سيدي أحمد ابن عطاء الله تعالى السكندري رضي الله عنه ( أَصْلُ كُلِّ مَعْصِيَةٍ وَغَفْلَةٍ وَشَهْوةٍ؛ الرِّضا عَنِ النَّفْسِ. وَأَصْلُ كُلِّ طاعَةٍ وَيَقَظَةٍ وَعِفَّةٍ عَدَمُ الرِّضا مِنْكَ عَنْها. وَلَئِنْ تَصْحَبَ جاهِلاً لا يَرْضى عَنْ نَفْسِهِ خَيرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَصْحَبَ عالِماً يَرْضى عَنْ نَفْسِهِ ).
قال تعالى : ( ونَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ).
النفس الزكية الفالحة هي نفس سماوية منوّرة صافية في ترقّي مستمرّ ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) فهي في رجوع دائم أمّا النفس المريضة الدسيسة الخسيسة هي نفس أرضية مظلمة في انحدار و دناءة مستمرّة ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ) فانظر كيف أشار لك كونه متى نسيته سبحانه فسينسيك نفسك
ومجاهدتها فأدخلتها إلى مجمع الفاسقين فكلّ من أرخى العنان لنفسه فسلّم لها قياده ولم يجاهدها في مراتبها ومراقبتها في أساليبها فهو من الفاسقين ولو جمع علم الأولين والآخرين ... لأنّ علامة بداية طلب علم أهل الولاية تزكية النفس .. فالعقبة التي بينك وبين الصلاح ثم الولاية مع المعرفة هي نفسك التي بين جنبيك لذا ورد ( من عرف نفسه عرف ربّه ).
كما قال الشيخ سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه ( من مات ولم يتغلغل في علمنا هذا مات مصرّا على الكبائر من حيث لا يشعر ) فالتغلغل في هذا العلم هو مجاهدة النفس وليس هو قراءة كتب القوم كما يظنّه كثيرون وقد ناجى أحد الصالحين ربّه قائلا : يا ربّ كيف آتيك فسمع قائلا من عند الله تعالى يقول له أترك نفسك وتعال وقال الشيخ سيدي عبد القادر الجيلاني قدس الله سره : ( أتيت فوقفت على سائر الأبواب و الطرق الموصلة إلى الله فوجدتها مزدحمة بالسالكين ثم وقفت على باب الذل و الافتقار فوجدته خاليا فاتخذته ) أي أن باب الذلّ لا تميل نفوس الكثير من السالكين إليه فهو من أصعب الأبواب على النفوس الحيّة وسنأتي على ذكر ذلك مفصّلا إن شاء الله تعالى.
فإذا فهمت هذا فاعلم أن الله تعالى بدأ سورة الشمس التي ذكر فيها حقيقة النفس في جميع أحوالها بقوله تعالى ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَ الْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ) فمن إشارات هذه الآيات لتعلّقها بشؤون النفس ذكر بداية الشمس التي هي في الحقيقة شمس المعرفة وهو الفتح الكبير المعبّر عنه بالفتح في الشهود في وقت صفاء المشاهدة الذي هو الزمن الجمالي المعبّر عنه بالضحى لأنّه وقت التأييد الإلهي للعارفين بالله تعالى وهو الوقت الذي خاض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم غزوة بدر الكبرى فكان يوم الفرقان وهو نفس الوقت الذي عيّنه موسى لفرعون كما قال تعالى ( مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) لأنّ الشمس دائما تبقى شمسا ولكن تتغيّر وتتبدّل أوقاتها فكان أحسن أوقاتها وقت الضحى حيث يحشر فيه الناس يوم القيامة لهذا لمّا انقطع الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلّم نزلت عليه سورة ( الضحى ) تأنيسا له وتفريجا عن قلبه الشريف صلى الله تعالى عليه وآله وسلّم.
ثمّ قال تعالى ( وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ) إشارة وكناية عن قمر التوحيد فأنت بين معرفة وتوحيد بين شمس وقمر فالشمس كناية عن عالم الأسرار والقمر كناية عن عالم الأنوار أو إن شئت قل الشمس كناية عن الحضرة القدسية والقمر كناية عن الحضرة المحمدية.
فنفسك التي بين جنبيك ليس لها في طريق الله تعالى من سير إلاّ إلى عالم الأنوار أو إلى عالم الأسرار وذلك بالمجاهدة والذكر والمذاكرة والعلم والأدب .. فهي إمّا أن تكون نفس نورية مطمئنة أو كاملة متحققة وإنّما يطرأ السلب على النفوس النورية المطمئنّة غالبا فينقلب الصديق زنديقا والوليّ فاسقا وهكذا .. وسنأتي عليه إن شاء الله تعالى ..
ثمّ قال تعالى ( وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَ اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ) فدلّك في هذه السورة على الضدين المتقابلين الذين لا يقوم أوّلهما ولا يعرف إلاّ بما يقابله الثاني فلا يعرف النهار إلاّ بوجود الليل قال تعالى ( وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَ الأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ) لأنه لا تعرف السماء إلاّ بوجود الأرض لذا ذكر لك بعد هذه الحقائق مباشرة ميزان النفوس ومقامها في كلّ تلك الحقائق العلوية والسفلية كما قال تعالى ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ).
كأنه يشير لك أنّه خلق هذا الكون بأسره بنتظر رجوع حقائقك إليه فكأنّك بعد ذلك تراه منك وإليك كما قال تعالى ( وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ) وقال تعالى ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ) فانظر إلى حالة الكون اليون من تسخير طائرات وصواريخ وسيارات وهواتف وتلفزات وبواخر وحاملات والكهرباء والأثير ... إلخ كي تعلم أن الكون بأسره مسخّر لك فالكون منك وأنت من الكون من حيث الخدمة والتسخير لذا قال الشيخ سيدي محمد البوصيري رضي الله عنه مادحا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( محمد سيّد الكونين ) أي عالم الملك وعالم الملكوت فافهم الإشارة بلا عبارة ثمّ تنزّل فقال ( والثقلين --- والفريقين من عرب ومن عجم ).
فلمّا تمّ التسخير وكمل التيسير بعد أن انتفى التعسير قال لك ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) فأشار لك بداية كون هذا الكون على غاية من الحسن والهداية فبدأ بالشمس التي لا يتبعها غير القمر وبالنهار الذي لا يتبعه إلاّ الليل وبالسماء التي لا يتبعها إلاّ الأرض فبدأ بذكر العوالم العلوية وحكمها على العوالم السفلية فهي كأنها خديمتها وناصرتها وصاحبتها فهي تحت حكمها لا تخرج عن ذلك البتّة لتناسق هذا الكون وتناغمه إلاّ لمّا وصل إلى ذكر النفس فبدأ بعالمك السفلي قبل ذكره لعالمك العلوي إشارة لك كونك أسير عالمك السفلي فهو المتحكّم في عالمك العلوي وإنما قال تعالى ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) فبدأ بالفجور أي ألهمها ظهورها قال أحد الصالحين إني لأعرف ذنبي من خلق دابتي معي فإذا كنت مطيعا كانت مطيعة لي وإذا كنت مذنبا لم تطاوعني ..
لأنّ ظهور النفس هو عين الفجور فألهمها فجورها أي ألهمها علم شرّ وجودها وظهورها بغير وجه حقّ ثمّ ذكر تقواها أي محاسن بطونها فلا تظهر إلاّ بالله تعالى أمرا لازما فهو بطونها مهما كانت ظاهرة فيه فإنّما ظهرت في وصف الحقّ ونعت الصدق لذا قال تعالى ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ) أي ردّ ظهورها على وفق نظام هذا الكون كما قال تعالى ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) أي كتحكّم العالم العلوي في هذا العالم السفلي فالعالم السفلي تابع غير متبوع فهو قابل لا آمر ولا ناهي كالمطر ينزل من السماء فلا خيار للأرض في قبوله من عدمه بل هي من تتصرف فيه بالحسن أو القبيح كما قال تعالى ( والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ) إشارة إلى كون النفس الزكية تبنى شخصيتها كما تبنى السماء عالية من غير عمد ترونها بخلاف النفس الخسيسة فهي كالأرض لا بدّ من دحوها وبسطها إشارة إلى البطون والخمول وعدم الظهور كما قال سيدي ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه ( ادفن وجودك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه ) فكتاب الحكم يعالج آفات النفوس ..
قال تعالى ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ) أي أنه خلقها على أصل فطرتها عارفة بالخير عالمة بالشرّ فهي في حقيقتها مفطورة على فعل الخير وبغض الشرّ كما قال تعالى ( فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ) وقال عليه الصلاة والسلام ( كلّ مولود يولد على الفطرة ) أي يولد مسلما في مشارق الأرض ومغاربها من عهد آدم وإلى قيام الساعة ولكن الشيطان يتلقاه بمجرد ولادته كي يغويه السبيل لأنه القائل لعنه الله تعالى كما قال تعالى ذاكرا كلامه ( لأغوينّهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين ).
قال تعالى ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ). أعلمك سبحانه كون نفسك التي بين جنبيك ليس يربطك بها من العلاقات إلاّ علاقة واحدة إمّا علاقة تزكية من تخلية وتحلية فتكون علاقة صدق ومحبة وعدل معها ونجاة وإمّا علاقة موافقة واستجابة لرغباتها وميل إلى شهزاتها فتكون علاقة خيبة وخسارة وضلال وظلمة ... لذا أعلمك سبحانه وتعالى كون القياد بيدك لا بيدها وأنّ الحكم لك عليها فهي وديعة عندك إمّا أن تزكيها فتنجو معها وإمّا أن تتركها فتهلك معها لأنه سبحانه رزقك عقل التكليف في مقام الإسلام فرغبها في الثواب ورهبها من العقاب ثمّ رزقك قلب التعريف في مقام الإيمان فرغّبها في الإيقان ورهبها من الحجاب ثمّ رزقك روح العبودية في مقام الإحسان فرغّبها في المشاهدة ورهبها من السلب .. فرزقك عقل التكليف الذي هو عقل الخلافة لمعرفة الأسماء الإلهية في عالم الظهور من أمر ونهي ثمّ رزقك قلب التعريف الذي هو لبّ حضور المعاني النورية والأسرار الإيقانية لمعرفة الصفات الإلهية في عالم الأنوار من سير ويقين ثمّ رزقك روح العبودية الذي هو لبّ المشاهدة والمكالمة لمعرفة الذات الصمدية في عالم الأسرار من أدب ومعرفة فأنت تسير بها في كلّ مرحلة من مراحل سيرك كي تخلصها من أشواك الجهل وظلمة وجودها إلى أن تسمع نداء الفلاح بعد نداء الصلاه ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ ) فهذا بداية السير الخالي من خواطر النفس والسوء ( وأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق ) فليس هناك أعمق من فجّ النفس فسبحان من خلّص أولياءه من كدورات النفس و ( إلاّ عبادك منهم المخلصين ). فالفلاح راجع لك في تزكيتها والخسارة عائدة عليك في دسّها وسترها والدفاع عنها وموافقتها في شهواتها وميولاتها والرضا عن أفعالها والإمتثال إلى خواطرها فأنت بهذا تخون الأمانة قال تعالى ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ). فأوّل قدم يضعه المؤمن المسلم في طريق الله تعالى هو طريق عدم الرضا عن النفس ثمّ مجاهدتها. قال سيدي أحمد ابن عطاء الله تعالى السكندري رضي الله عنه ( أَصْلُ كُلِّ مَعْصِيَةٍ وَغَفْلَةٍ وَشَهْوةٍ؛ الرِّضا عَنِ النَّفْسِ. وَأَصْلُ كُلِّ طاعَةٍ وَيَقَظَةٍ وَعِفَّةٍ عَدَمُ الرِّضا مِنْكَ عَنْها. وَلَئِنْ تَصْحَبَ جاهِلاً لا يَرْضى عَنْ نَفْسِهِ خَيرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَصْحَبَ عالِماً يَرْضى عَنْ نَفْسِهِ ).
الكلمات المفتاحية :
التربية و السلوك
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: