المسائل منتقدة على الاحناف - الزواج -اللعان
أولًا/ مَسْأَلَةُ مُلاعَنَةِ الْحَامِلِ
(1) حَدَّثنا عَبْدَةُ عَنِ الأَعْمَشِ عنْ إِبراهِيمَ عن عَلْقَمَةَ عن عَبد~اللهِ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله علي وسلم- لاعَنَ بَيْنَ
رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ وَقَالَ: (عَسَى أَنْ تَجِيءَ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا). فَجَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا. أخرجه مسلم (3828).
(2) حَدثنَا وَكيعٌ عن عَبَّادِ بنِ مَنْصُورٍ عن عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله علي وسلم- لاعَنَ بِالْحَملِ. أخرجه أحمد في مسنده (1/ 355) كما هنا مختصرًا، ورواه عن القاسم بن محمد عن ابن عباس مطولًا البخاري (5373)، ومسلم (3831).
(3) حَدّثنَا وَكِيعٌ عن ابنِ أَبي خَالدٍ عن الشَّعْبِيّ فِي رَجُلٍ تَبَرَّأَ مِمَّا فِي بَطْنِ امْرَأَتِهِ، قَالَ: يُلاعِنُهَا. لم أقف على من أخرجه.
وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ لا يَرَى المُلاعَنَةَ بِالْحَمْلِ.
***
اللعان في اللغة: مصدر لاعن بمعنى شاتم، فإذا تشاتم اثنان فشتم كل منهما الآخر بالدعاء عليه بأن يلعنه الله، قيل لهما: تلاعنا، ولاعن كل منهما صاحبه.
واللعان في الشرع: لا يكون إلا أمام القاضي، وهو قول الزوج لامرأته مشيرًا إليها: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنى. وإذا كانت حاملاً أو ولدت ولدًا واعتقد أنه ليس منه زاد: وأن هذا الحمل أو الولد ليس مني. ويكرر ذلك كله أربع مرات ويزيد بعد الرابعة: وعليه لعنة الله إن كان من الكاذبين. ولعان المرأة زوجها إذا لم تصدقه أن تقول بعد لعانه إياها: أشهد بالله إن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنى، وتزيد لإثبات نسبة الحمل أو الولد: وأن هذا الولد منه، وتكرر ذلك كله أربع مرات، وتزيد بعد الرابعة: وعليها غضب الله إن كان من الصادقين.ولعان الحاكم بين الزوجين هو: أن يحضرهما ويأمر الزود بملاعنة زوجته إن كان مصرًّا على قذفها، وليسمعه أربعة شهود عدول، ولم تعترف الزوجة بما قاله، ثم يأمر الزوجة -بعد انتهاء الزوج من الملاعنة- أن تلاعنه، فإذا لاعنته فرق بينهما. انظر: الموسوعة الفقهية (7/ 249).
وقد اختلف الفقهاء فيما إذا لاعن الرجل امرأته وهي حامل، ونفى الحمل في لعانه، فقال الحنفية والحنابلة: لا ينتفي الحمل بنفيه قبل الوضع، ولا ينتفي حتى يلاعنها بعد الوضع وينتفي الولد فيه. وقال الشافعية والمالكية وأبو يوسف في رواية: يصح نفي الحمل وينتفي عنه.
قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن (3/ 430): "واختلف أهل العلم في الرجل ينفي حمل امرأته، فقال أبو حنيفة: (إذا قال: ليس هذا الحمل مني لم يكن قاذفًا لها، فإن ولدت بعد يوم لم يلاعن حتى ينفيه بعد الولادة) وهو قول زفر. وقال أبو يوسف ومحمد: (إن جاءت به بعد هذا القول لأقل من سنة أشهر لاعن). وقد روي عن أبي يوسف: (أنه لاعنها قبل الولادة) وقال مالك والشافعي: (يلاعن بالحمل)". اهـ.
وقال أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 99، 103): "ذهب قوم إلى أن الرجل إذا نفى حمل امرأته أن يكون منه لاعن القاضي بينها وبينه بذلك الحمل، وألزمه أمه وأبان المرأة من زوجها. وقد كان أبو يوسف قال بهذا القول مرة وليس هو بالمشهور من قوله، وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا يلاعن بحمل، وهو قول أبي حنيفة ومحمد وقول أبي يوسف المشهور". انتهى.
وقال أبو الوليد الباجي في المنتقى شرح الموطأ (4/ 74): "المشهور من المذهب أن الحامل تلاعن إذا نفى الزوج حملها، وقال عبدالملك -هو ابن الماجشون- من أصحابنا: لا لعان بينهما ولا قذف حتى تضع؛ إذ لعله لا حمل بها وبه قال أبو حنيفة". وراجع: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 354)، والمدونة (2/ 363).
ويقول النووي: "وله نَفْيُ حمل وانتظارُ وضعه". اهـ. المنهاج وشروحه: مغني المحتاج (5/ 61)، ونهاية المحتاج (7/ 123)، وتحفة المحتاج (8/ 224)، وراجع: الأم (7/ 123).
قال ابن قدامة شارحًا قول الخرقي: (وإن نفى الحمل في التعانه لم ينتف عنه حتى ينفيه عند وضعها له ويلاعن) اختلف أصحابنا فيما إذا لاعن امرأته وهي حامل، ونفى حملها في لعانه، فقال الخرقي وجماعة: لا ينتفي الحمل ينفيه قبل الوضع، ولا ينتفي حتى يلاعنها بعد الوضع، وينتفي الولد فيه.
وهذا قول أبي حنيفة وجماعة من أهل الكوفة؛ لأن الحمل غير مستيقن يجوز أن يكون ريحًا أو غيره، فيصير نفيه مشروطًا بوجوده، ولا يجوز تعليق اللعان بشرط.
وقال مالك والشافعي وجماعة من أهل الحجاز: يصح نفي الحمل وينتفي عنه. محتجين بحديث هلال، وأنه نفى حملها فنفاه عنه النبي صلى الله عليه وسلم وألحقه بالأول. ولا خفاء بأنه كان حملًا؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروها فإن جاءت به كذا وكذا).
قال ابن عبدالبر: الآثار الدالة على صحة هذا القول كثيرة... ولأن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه؛ ولهذا تثبت للحامل أحكام تخالف بها الحائل: من النفقة، والفطر في الصيام، وترك إقامة الحد عليها، وتأخير القصاص عنها، وغير ذلك مما يطول ذكره. ويصح استلحاق الحمل فكان كالولد بعد وضعه. وهذا القول هو الصحيح لموافقته ظواهر الأحاديث وما خالف الحديث لا يعبأ به كائنًا ما كان. انتهى. المغني (8/ 60).
-أدلة الشافعية والمالكية:
استدل الشافعية والمالكية إضافة لما أورده ابن أبي شيبة بأحاديث؛ منها:
1- حديث سهل بن سعد في الصحيحين -البخاري (4793)، ومسلم (3817)-: أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلاً رأى مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فأنزل الله فيهما ما ذُكِر في القرآن من التلاعن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد قضى فيك وفي امرأتك). قال: فتلاعنا وأنا شاهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ففارقها، فكانت سنة أن يفرق بين المتلاعنين، وكانت حاملًا فأنكر حملها، وكان ابنها يُدعى إليها، ثم جرت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فَرَضَ الله لها.
ومحل الشاهد في الحديث: وكانت حاملًا فأنكر حملها.
2- حديث ابن عباس في البخاري -(4794)- في قصة هلال بن أمية وقذفه لامرأته بشُريك ابن سحماء وفي آخره قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ الساقين، فهو لشُريك بن سحماء). فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن).
وفي هذا دليل على أن اللعان كان يشمل الحمل.
-أدلة الحنفية والحنابلة:
استدل الطحاول للحنفية بالأحاديث السابقة باعتبار أنها وردت في اللعان بالقذف وليس اللعان بنفي الحمل، مع أن امرأة القاذف كانت حاملًا، ولم تتطرق الأحاديث لحكم الحمل، فدل ذلك على أن اللعان بنفي الحمل لا يصح.
وقد أورد الطحاوي طريقًا لحديث عبدالله بن مسعود : أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بالحمل. وقال: "إن المخالفين استدلوا به"، ثم بين أنه مختصرًا اختصره الذي رواه فغلط فيه، وإنما أصله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعن بينهما وهي حامل، فتوهم الذي رواه أن ذلك لعان بالحمل، ثم ساق أصل الحديث بسنده.
وقد اجتهد الطحاوي في دفع أدلة المخالفين بأن اللعان بنفي الحمل ليس داخلاً فيها، ولكنه لم يتعرض للفظ الوارد في حديث سهل بن سعد؛ لأنه لا سبيل إلى دفعه. راجع: شرح معاني الآثار (3/ 99-301).
وقد استدل الحنفية والحنابلة بدليل عقلي وهو أن الحمل غير متيقن، وجائز أن يكون ريحًا أو داءً، وإذا كان كذلك لم يجز أن نجعله قذفًا؛ لأن القذف لا يثبت بالاحتمال ألا ترى أن التعريض المحتمل للقذف ولغيره لا يجوز إيجاب اللعان ولا الحد به؟ فلما كان محتملًا أن يكون مانفاه ولدًا واحتمل غيره، لم يجز أن يوجب اللعان به قبل الوضع، ثم إذا وضعت لأقل من ستة أشهر تيقنًا أنه كان حملًا في وقت لا يجوز أن يعلق على شرط، ألا ترى أنه لو قال: إذا ولدت فأنت زانية. لم يكن قاذفًا لها بالولادة. راجع: أحكام القرآن للجصاص (3/ 430)، وشرح معاني الآثار (3/ 99)، والمبسوط (7/ 44)، والمغني (8/ 60).
وما أشار إليه الأحناف من احتمالية عدم الحمل هو ما يسميه أهل الطب الآن بالحمل الكاذب، ومع ما يشهده العصر من تقدم تقني مذهل أصبح الحكم بوجود الحمل وعدمه شبه يقيني، مما يُضْعِفُ من حجة الحنفية.
على العموم فإن مذهب الحنفية أحوط، مع احتمال الأدلة لما قالوه، مما يجعلنا لا نؤيد اعتراض ابن أبي شيبة عليهم في هذه المسألة.
***
ثانيًا/ مَسْأَلَةُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِي
(1) حدثنا معاذ بن معاذ قال: أخبرنا ابن جُريج عن سُليمان بن موسى عن الزهري عن عُروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَيَّما امرأة ينكحها الولي أو الولاة فنكاحها باطل -قالها ثلاثًا- فإن أصابها فلها مهرها بما أصاب منها، فإن تشاجروا فإن السلطان ولي من لا ولي له). أخرجه أبو داود (2083) والترمذي (1125) والنسائي في الكبرى (5394) وابن ماجه (1879).
(2) حدثنا أبو الأَحْوَص عن أبي إسحاق عن أبي بردة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي). أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 9) من طريق شعبة وسفيان وذكره الترمذي تعليقًا (1125) وهذا الطريق المُرسل قد أعل به الحنفية الحديث الآتي الموصول، وقد رجَّح البُخاري والترمذي الوصل على الإرسال كما سيأتي تفصيله.
(3) حدثنا يزيد بن هارون عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي). أخرجه أبو داود (2085) والترمذي (1124) وأحمد في مثسنده (4/ 394). وقد رُوي حديث: (لا نكاح إلا بولي) عن ثلاثة عشر صحابيًّا، وقد جمع طرق الحديث ومتابعاته وشواهده مع الكلام عليها من حيث الصحة والضعف؛ الشيخ/ مُفلح بن سليمان الرشيدي في كتابه "التحقيق الجلي لحديث لا نكاح إلا بولي" طبعة مؤسسة قُرطبة، ونقل عن كثير من الحُفَّاظ تصحيح الحديث وأيَّده، وعرض رأي الحنفية في تضعيف الحديث وناقشهم فيه، حتى أصبح كتابه مرجعًا لتخريج الحديث، فجزاه الله خيرًا.
وذُكر أن أبا حنيفة كان يقول: جائز إذا كان كُفئًا.
***
ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن المرأة لا تُزوّج نفسها ولا غيرها، أي لا ولاية لها في عقد النكاح على نفسها ولا غيرها، واستدلوا لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي). ومن الصفات المُشترطة في الولي: الذكورة، فإن تولت المرأة تزويج نفسها أو غيرها؛ لم يصح النكاح، ورُوي هذا عن عمر وعلي وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم، وإليه ذهب سعيد بن المُسيب والحسن وعمر بن عبدالعزيز والثوري وابن المُبارك وإسحاق وأبو عبيد وابن أبي ليلى وابن شبرمة.
وقال أبو حنيفة في الرواية الأولى عنه وهي ظاهر الرواية: تجوز مُباشرة الحرة البالغة العاقلة عقد نكاحها ونكاح غيرها مُطلقًا إلا أنه خلاف المُستحب. ورواية الحسن عن أبي حنيفة وهي المُختارة للفتوى: إن عقدت مع كُفء جاز ومع غيره لا يصح. ونقل عن أبي يوسف ثلاث روايات اختلف في ترتيبها فذكر السرخسي أن أبا يوسف قال: لا يجوز مُطلقًا إذا كان لها ولي، ثم رجع إلى الجواز مع الكفء لا من غيره، ثم رجع إلى الجواز مُطلقًا مع الكفء وغيره.
وذكر الطحاوي أن قوله المرجوع إليه هو عدم الجواز إلا بولي، وكذا الكرخي في مُختصره؛ حيث قال: وقال أبو يوسف: لا يجوز إلا بولي. وهو قوله الأخير.
قال الكمال: ورجَّح قول الشيخين (الطحاوي والكرخي) وهو أن قول أبي يوسف الذي رجع إليه هو عدم الجواز؛ لأن الطحاوي والكرخي أقوم وأعرف بمذاهب أصحابنا، لكن ظاهر الهداية اعتبار ما نقله السرخسي. وعن مُحمد روايتان: الأولى/ انعقاده موقوفًا على إجازة الولي إن أجازه نفذ وإلا بطل، إلا أنه إذا كان كُفئًا وامتنع الولي يجدد القاضي العقد ولا يلتفت إليه. والثانية/ رجوعه إلى ظاهر الرواية. راجع: الموسوعة الفقهية (14/ 191)، والمغني (7/ 6)، وفتح القدير (3/ 256).
قال صاحب الهداية: (وينعقد نكاح الحرة العاقلة البالغة برضاها) وإن لم يعقد عليها ولي بكرًا كانت أو ثيّبًا (عند أبي حنيفة وأبي يوسف في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف: أنه لا ينعقد إلا بولي.وعند مُحمد: ينعقد موقوفًا) وقال مالك والشافعي: لا ينعقد النكاح بعبارة النساء أصلًا؛ لأن النكاح يُراد لمقاصده والتفويض إليهن مُخلّ بها. إلا أن مُحمدًا يقول: يرتفع الخلل بإجازة الولي.
ووجه الجواز أنها تصرفت في خالص حقها وهي من أهله لكونها عاقلة مميزة؛ ولهذا كان لها التصرف في المال ولها اختيار الأزواج، وإنما يُطالب الولي بالتزويج كي لا تنسب إلى الوقاحة. ثم في ظاهر الرواية لا فرق بين الكفء وغير الكفء؛ ولكن للولي الاعتراض في غير الكفء. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه لا يجوز في غير الكفء؛ لأن كم من واقع لا يرفع. ويُروى رجوع مُحمد إلى قولهما. راجع: الهداية وشروحها: فتح القدير (3/ 256)، والعناية (3/ 256)، ونصب الراية (3/ 340)، والمبسوط (5/ 10)، وبدائع الصنائع (2/ 248)، وكشف الأسرار (3/ 60).
قال ابن العربي: النكاح إلى الولي لا حظَّ للمرأة فيه، وبه قال فقهاء الأمصار، وقال أبو حنيفة: لا يفتقر النكاح إلى ولي. وعجبًا له؛ متى رأى امرأة قط عقدت نكاح نفسها، ومن المشهور في الآثار: (لا نكاح إلا بولي). راجع: أحكام القرآن (3/ 505)، وراجع مُختصر خليل وشروحه: التاج والإكليل (5/ 59)، ومواهب الجليل (3/ 430)، وشرح الخرشي (3/ 181)، ومنح الجليل (3/ 280)، وراجع: المدونة (2/ 11)، والمنتقى شرح الموطأ (3/ 264).
جاء في الأم: سألت الشافعي عن النكاح فقال: كل نكاح بغير ولي فهو باطل. فقلت: وما الحجة في ذلك؟ قال: أحاديث ثابتة.. وهذا قول العامة بالمدينة ومكة. راجع: الأم (7/ 234، 5/ 13).
قال في المنهاج: لا تزوج المرأة نفسها ولو بإذن من ويلها، ولا تزوج غيرها بولاية أو بوكالة عن الولي، والوطء في نكاح بلا ولي يوجب مهر المثل لا الحد. راجع: المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (7/ 236)، ونهاية المحتاج (6/ 224)، ومغني المحتاج (4/ 234).
وقال ابن قدامة في المغني (7/ 6): النكاح لا يصح إلا بولي، ولا تملك المرأة تزويج نفسها ولا غيرها، ولا توكيل غير وليها في تزويجها، فإن فعلت لم يصح النكاح.
-أدلة الجمهور:
استدل الجمهور بالحديث المشهور: (لا نكاح إلا بولي). وهو حديث صحيح لكثرة طرقه ومتابعاته وشواهده، فقد روي عن ثلاثة عشر صحابيًّا، وسأذكر بعض طرقه لا سيّما ما كان منها محل نقد للسادة الحنفية.
1- حديث عائشة من طرق عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيّما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل -ثلاث مرات- فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له). أخرجه أبو داود (2083)، والترمذي (1125)، وابن ماجه (1789)، وقد سبق.
وللحديث طرق كثيرة عن ابن جريج فهو مشهور عنه، وعدد الرواة الذي رووه عنه يزيد عن عشرين راويًا أكثرهم حفاظ كبار. راجع تخريج هذه الطرق كلها في التحقيق الجلي ص(64) وما بعدها.
وانفرد من هؤلاء إسماعيل بن عليّة بزيادة حكاية في آخره عن ابن جريج قال: فلقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه. قال: وكان سليمان بن موسى وكان فأثنى عليه. رواه أحمد في مُسنده (6/ 47).
ولم يُتَابع إسماعيلَ بنَ علية على ذكر هذه الحكاية سوى بِشْر بن المفضل -رواها ابن عدي في الكامل (3/ 266)- وهو ثقة، ولكن في السند إليه سليمان بن داود الشاذكوني؛ وهو ضعيف جدًّا -سليمان بن داود الشاذكوني قال عنه البخاري: فيه نظر. وقال أبو حاتم: متروك. وقال النسائي: ليس بثقة. وراجع ترجمته في ميزان الاعتدال (2/ 205)-. فهذه المتابعة لا تُعتبر لضعف سندها.
وقد ذُكرت هذه الحكاية عند أحمد بن حنبل فقال: إن ابن جريج له كتب مدونة، وليس هذا في كتبه. المُستدرك على الصحيحين (2/ 169)، والسنن الكبرى للبيهقي (7/ 105).
وسُئل عنها يحيى بن معين فقال: ليس يقول هذا إلا ابن عليّة، وإنما عرض ابن علية كتب ابن جريج على عبدالمجيد بن عبدالعزيز ابن أبي رواد فأصلحها له. -المصدران السابقان-. وكان يحيى يُضعّف رواية إسماعيل عن ابن جريج جدًّا ويقول: سمع ابن علية من ابن جريج سماعًا ليس بذاك. السنن الكبرى (7/ 106).
وعلى تقدير صحة هذه الحكاية؛ فإنها لا تقدح في صحة الحديث عند المُحدثين على ما تقرر في منهجهم؛ فالزهري قد نَسِيَ هذا الحديث بعد أن حدث به؛ ولذلك لم يجزم بإنكاره له، وإنما قال: لست أعرفه أو نحو هذا، وجزم سليمان بن موسى وهو ثقة بسماعه من الزهري، فالفرع جازم بروايته والأصل غير جازم بنفيه.
قال ابن حبان في صحيحه (9/ 385): هذا خبر أوهم من لم يُحْكِم صناعة الحديث أنه منقطع أو لا أصل له، بحكاية حكاها ابن علية عن ابن جريج في عقب هذا الخبر قال: ثم لقيت الزهري فذكرت ذلك له فلم يعرفه، وليس هذا مما يَهِي الخبرُ بمثله، وذلك أن الخيِّر الفاضل المتقن الضابط من أهل العلم قد يحدث بالحديث ثم ينساه، وإذا سُئِل عنه لم يعرفه فليس بنسيانه الشئ الذي حدث به بدالّ على بطلان أصل الخبر، والمصطفى صلى الله عليه وسلم خير البشر صلى فسها فقيل له: يا رسول الله؛ أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: (كل ذلك لم يكن). فلما جاز على من اصطفاه الله لرسالته وعصمه من بين خلقه النسيانُ في أهم الأمور للمسلمين الذي هو الصلاة، حتى نسي فلما استثبتوه أنكر ذلك، ولم يكن نسيانه بدال على بطلان الحكم الذي نسيه، كان مَنْ بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم من أمته الذين لم يكونوا معصومين جواز النسيان عليهم أجوز، ولا يجوز مع وجوده أن يكون فيه دليل على بطلان الشئ الذي صح عنهم قبل نسيانهم ذلك. اهـ.
ولم ينفرد سليمان بن موسى بروايته عن الزهري؛ بل تابعه حجاج بن أرطأة، وجعفر بن ربيعة، وعبدالله بن جعفر. فأما متابعة حجاج فرواها البيهقي في السنن الكبرى (7/ 106) من طريق ابن المبارك عن الحجاج عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي والسلطان ولي من لا ولي له).
وأما متابعه جعفر بن ربيعة فرواها أبو داود في سننه (2084) وأحمد في مُسنده (6/ 66) من طريق ابن لهيعة عن جعفر ابن ربيعة عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة. نحو رواية ابن جريج.
وأما متابعة عبيدالله ابن أبي جعفر فرواها الطحاوي من طريق ابن لهيعة أيضًا عن عبيدالله ابن أبي جعفر عن الزهري به نحوه.
وقد أعلَّ الطحاوي هذه المتابعات؛ فقال في شرح معاني الآثار (3/ 8): وحجاج بن أرطاة لا يثبتون له سماعًا من الزهري، وحديثه عنه عندهم مُرسل، وهم لا يحتجون بالمُرسل وابن لهيعة، فهم يُنكرون على خصمهم الاحتجاج عليهم بحديثه؛ فكيف يحتجون به عليه في مثل هذا. اهـ.
ولم يتعرض الطحاوي لرواية ابن جريج لعلمه بصحتها وثقة رواتها، ولم يكن ضعف هذه المتابعات سببًا في رد الحنفية للحديث، ولكنهم ردوه لأمرين:
الأول/ عدم معرفة الزهري لما رواه كما حكاه ابن علية؛ ومن المُقرر عند الحنفية أن الراوي إذا أنكر ما رواه سقط العمل بالحديث، يقول الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 8): وهم يُسقطون الحديث بأقل من هذا.
الأمر الثاني/ عمل عائشة بخلاف الحديث؛ ومن المُقرر عندهم أن عمل الراوي بخلاف ما روى يدل على أن الحديث منسوخ أو ليس بثابت.
وعمل عائشة المُشار إليه رواه مالك عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زوّجت حفصةَ بنت عبدالرحمن المنذرَ بن الزبير، وعبدُالرحمن غائب بالشام، فلما قدم عبدالرحمن قال: ومثلي يصنع به؟ ومثلي يفات عليه؟ فكلمت عائشة المنذر بن الزبير فقال المنذر: فإن ذلك بيد عبدالرحمن. فقال عبدالرحمن: ما كنت لأرد أمرًا قضيتيه، فقرت حفصة عند المنذر، ولم يكن ذلك طلاقًا.
يقول الطحاوي في شرح المعاني الآثار (3/ 8): فلما كانت عائشة قد رأت أن تزويجها بين عبدالرحمن بغير أمره جائز، ورأت ذلك العقد مستقيم حتى أجازت فيه التمليك الذي لا يكون إلا عن صحة النكاح وثبوته؛ استحال عندنا أن يكون ترى ذلك، وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي). فثبت بذلك فساد ما روي عن الزهري في ذلك. اهـ.
وقد تأول البيهقي حديث تزويج عائشة لحفصة بنت عبدالرحمن؛ بأنها مهّدت لأسباب التأويل، وعليه فإن عائشة لم تُخالف ما روت.
قال البيهقي في السنن الكبرى (7/ 112، 113): إنما أُريد به أنها مهدت تزويجها ثم تولى عقدة النكاح غيرها، فأضيف التزويج إليها لإذنها في ذلك وتهيئتها أسبابه، والله أعلم.
ثم روى بسنده ما يدل على صحة هذا التأويل: عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه قال: كانت عائشة رضي الله عنها تخطب إليه المرأة من أهلها، فتشهد فإذا بقيت عقدة النكاح قالت لبعض أهلها: زوِّج، فإن المرأة لا تلي عقد النكاح. راجع: المصدر السابق.
2- حديث أبي موسى الأشعري: من طريق أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي).
وقد اختُلف على أبي إسحاق؛ فرواه إسرائيل وتابعه جماعة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه مُتصلًا، ورواه شعبة والثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة مُرسلًا.
فأما رواية إسرائيل -وقد سبق تخريجها في أول المسألة-؛ فرواها عنه خلق -انظر هذه الروايات في المُستدرك (2/ 170)، والتحقيق الجلي ص(17)-، ولم يختلف عليه في وصله، وقد تابع إسرائيل على روايته موصولًا: شريك بن عبدالله -سنن الدارمي (2/ 185)-، وقيس بن الربيع -شرح معاني الآثار (3/ 9)، والسنن الكبرى (7/ 108)-، وزُهير ابن معاوية -المُنتقى (703)، والسنن الكبرى (7/ 107)-، وأبو عوانة -سنن ابن ماجه (1881)-، ويونس بن أبي إسحاق -سنن الترمذي (1101) وقد روي عن يونس عن أبي بردة عن أبي موسى بدون ذكر أبي إسحاق كما في مُسند أحمد (4/ 418) فكأن يونس سمعه من أبيه ومن جده، فكان تارة يُحدث به هكذا وتارة يُحدث به هكذا-، والإمام أبو حنيفة -كما في عقود الجواهر المنيفة (1/ 146) وجامع المسانيد (2/ 102)-. وخالفهم شعبة -سنن الترمذي (1101)، وشرح معاني الآثار (3/ 9)-، والثوري -مصنف عبدالرزاق (6/ 196)، وشرح معاني الآثار (3/ 9)-، فروياه عن أبي إسحاق عن أبي بردة مُرسلًا.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 8، 9): كان من الحجة عليهم في ذلك أن هذا الحديث على أصلهم أيضًا لا تقوم به الحجة؛ وذلك أن من هو أثبت من إسرائيل وأحفظ منه مثل سفيان وشعبة قد رواه عن أبي إسحاق منقطعًا... وكل واحد منهما عندهم حجة على إسرائيل فكيف إذا اجتمعا جميعًا. اهـ.
فقد أعلَّ الطحاوي الرواية الموصولة بالرواية المُرسلة، على طريقة المُحدثين على تقديم رواية الأحفظ عند التعارض، من باب إلزام الخصم بما يحتج به؛ ولذلك قال في نهاية كلامه في شرح معاني الآثار (3/ 10): وما كلامي في هذا إرادة مني الازدراء على أحد ممن ذكرت، ولا أعد مثل هذا طعنًا، ولكني أردت بيان ظلم هذا المُحتج وإلزامه من حجة نفسه ما ذكرت. اهـ.
وهذا الإلزام لا يلزم؛ لأن الراجح الذي عليه المحققون من أئمة الحديث هو ترجيح الوصل على الإرسال، إذا كان رواي الوصل حافظًا متقنًا ضابطًا، وقد سبق تقرير ذلك، وهذا الأمر متحقق في حديثنا هذا، فإسرائيل ثقة حافظ من أثبت الناس في ابي إسحاق وتابعه جماعة منهم الإمام أبو حنيفة.
قال عبدالرحمن بن مهدي: إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة والثوري. وقال حجاج بن مُحمد: قلنا لشعبة: حدِّثنا حديث أبي إسحاق، قال: سلو عنها إسرائيل فإنه أثبن مني فيها. رواهما البيهقي في السنن الكبرى (7/ 108).
وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/ 131): سمعت أبي يقول: إسرائيل ثقة متقن من أتقن أصحاب أبي إسحاق.اهـ. الجرح والتعديل (2/ 131). وقال ابن مهدي: كان إسرائيل يحفظ حديث أبي إسحاق كما يحفظ الحمد. المُستدرك (2/ 170).
وترجيح الوصل على الإرسال في هذا الحديث هو ما ذهب إليه إمام المحدثين البُخاري وتلميذه الترمذي، فقد سُئل البخاري عن حديث إِسرائيل فقال: الزيادة من الثقة المقبولة، وإسرائيل بن يونس ثقة، وإن كان شعبة والثوري أرسلاه فإن ذلك لا يضر الحديث. أسنده عنه البيهقي (7/ 108).
وقال الترمذي في العلل الكبير (1/ 155): حديث أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم عندي أصح -والله أعلم- وإن كان سفيان الثوري وشعبة لا يذكران فيه عن أبي موسى؛ لأنه قد دلَّ في حديث شعبة أن سماعهما جميعًا في وقت واحد، وهؤلاء الذين رَوَوْا عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى سمعوا في أوقات مختلفة، ويونس ابن أبي إسحاق قد روى هذا عن أبيه، وقد أدرك يونس بعض مشايخ أبيه فهو قديم السماع، وإسرائيل قد رواه وهو من أثبت أصحاب أبي إسحاق بعد شعبة والثوري. اهـ. البيهقي في الكبرى (7/ 108) وقال نحوه في الجامع عقب حديث (1125).
فالحديث على قواعد المحدثين صحيح، فعُلم من ذلك أن إلزام الطحاوي المُحدثين بتضعيف الحديث ليس صوابًا، كما أن الحديث على قواعد الحنفية أيضًا صحيح؛ لأنه لا تعارض عندهم بين الوصل والإرسال، فكلاهما مقبول عندهم يُحتج به.
ونجد الطحاوي بعد أن أطال في الكلام على إعلال الحديث من جهة السند، ينتقل إلى الكلام عليه من جهة المتن، وأنه ليس فيه حجة لمن احتج به.
يقول الطحاوي: إنه لو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا نكاح إلا بولي). لم يكن فيه حجة لما قال الذي احتجوا به لقولهم في هذا الباب؛ لأنه قد يُحتمل معاني:
1- فيُحتمل ما قال هذا المخالف لنا إن ذلك الولي هو أقرب العصبة إلى المرأة.
2- ويُحتمل أن يكون ذلك الولي مَنْ توليه المرأة مِنَ الرجال قريبًا كان منها أو بعيدًا.
3- ويُحتمل أن يكون الولي هو الذي إليه ولاية البضع من والد الصغيرة أو مولى الأمة أو بالغة حرة لنفسها، فيكون ذلك على أنه ليس لأحد أن يعقد نكاحًا على بضع الأولى بذلك البضع، وهذا جائز في اللغة، قال تعالى: (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِاْلْعَدْلِ) [البقرة: 282]، فقال قوم: ولي الحق هو الذي له الحق، فإذا كان مَنْ له الحق يُسمَّى وليًّا، كان مَنْ له البضع أيضًا يُسمى وليًّا له، فلما احتمل ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (لا نكاح إلا بولي) هذه التأويلات، انتفى أن يُصرف إلى بعضها دون بعض إلا بدلالة تدل على ذلك، إما من كتاب وإما من سنة وإما من إجماع. اهـ.
وهذه التأويلات التي ذكرها الطحاوي لا يحتملها لفظ حديث عائشة: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل)؛ لذلك تاوله الجصَّاص على أمر آخر فقال -كما في أحكام القرآن (1/ 549)-: وهذا عندنا على الأمة تزوج نفسها بغير إذن مولاها. اهـ.
يقول الخطابي في معالم السنن (3/ 196): وقوله: (أيّما امرأة)؛ كلمة استيفاء واستيعاب، وفيه إثبات الولاية على النساء كلهن، ويدخل فيها البكر والثيّب والشريفة والوضيعة، والولي هاهنا العصبة. اهـ.
ويقول الجصاص في أحكام القرآن (1/ 549): وقوله: (لا نكاح إلا بولي)؛ لا يعترض على موضع الخلاف؛ لأن هذا عندنا نكاح بولي، لأن المرأة ولي نفسها كما أن الرجل ولي نفسه؛ لأن الولي هو الذي يستحق الولاية على من يلي عليه، والمرأة تستحق الولاية والتصرف على نفسها في مالها فكذلك في بضعها. اهـ.
3- حديث أبي هريرة: روى ابن ماجه في سننه (1882) من طريق محمد بن مروان العقيلي عن هشام ابن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها).
وقد تابع مُحمد بن مروان على رفع هذا الحديث: عبدُالسلام بن حرب ومخلدُ ابن حُسين، إلا أن عبدالسلام جعل الجملة الأخير -كنا نعد التي تنكح نفسها هي الزانية- من كلام أبي هريرة. أخرج حديثيهما البيهقي في السنن الكبرى (7/ 110).
وخالفهم سُفيان بن عيينة -السنن الكبرى (7/ 110)-، وحفص بن غياث -سنن الدارقطني (3/ 227)-، فروياه عن هشام بن حسان موقوفًا على أبي هريرة. وكذا رواه الأوزاعي عن ابن سيرين عن أبي هريرة موقوفًا -السنن الكبرى (7/ 110)-.
والأشبه بالصواب: رواية عبدالسلام بن حرب؛ لأنه ميّز المرفوع من الموقوف، فدلَّ على إتقانه، وللحديث طرق أخرى، وما ذكرته يكفي لثبوته والاحتجاج به.
وأجاب الجصّاص عن حديث أبي هريرة؛ بأنه محمول على وجه الكراهة لحضور المرأة مجلس الإملاك؛ لأنه مأمور بإعلان النكاح، ولذلك يجمع له الناس، فكره للمرأة حضور ذلك المجمع. وبأن عبارة "إن الزانية هي التي تزوج نفسها" من قول أبي هريرة. وبأنها خطأ بإجماع المسلمين؛ لأن تزويجها نفسها ليس بزنا عند أحد من المسلمين، والوطء غير مذكور فيه، فإنه حملته على أنها زوجت نفسها ووطئها الزوج فهذا أيضًا لا خلاف فيه أنه ليس بزنا؛ لأن من لا يُجيزه إنما يجعله نكاحًا فاسدًا يوجب المهر والعدة ويثبت له النسب إذا وطِئ. راجع: أحكام القرآن (1/ 549).
4- حديث معقل بن يسار في سبب نزول قوله تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) [البقرة: 232]: روى البُخاري في صحيحه (5130) عن الحسن في قوله تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) قال: حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه. قال: زوَّجت أختًا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له: زوجتك وفرشتك وأكرمتك فطلقتها، ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليها أبدًا. قال: وكان رجلًا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه. قال: فأنزل الله هذه الآية: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) فقلت: الآن أفعل يا رسول الله. فزوجها إياه.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 192): اتفق أهل التفسير على أن المُخاطب بذلك الأولياء، ذكره ابن جرير وغيره، وروى ابن المنذر من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: هي في الرجل يطلق امرأته فتقضي عدتها فيبدوا له أنه يراجعها وتريد المرأة ذلك فيمنعه وليها. اهـ.
وقال في موضع آخر منه (9/ 187) -بعد ذكره حديث معقل بن يسار السابق-: هذا صريح في نزول هذه الآية في هذه القصة، ولا يمنع ذلك كون ظاهر الخطاب في السياق للأزواج؛ حيث وقع فيها: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ) [البقرة: 232] لكن قوله في بقيتها: (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) ظاهر في أن العضل يتعلق بالأولياء. اهـ.
وقال الشافعي فيما نقله عنه البيهقي في السنن (7/ 104): وهذا أبين ما في القرآن من أن للولي مع المرأة في نفسها حقًّا، وأن على الولي أن لا يعضلها إذا رضيت أن تنكح بالمعروف. قال: وجاءت السنة بمعنى كتاب الله تعالى. اهـ.
وقال الترمذي في جامعه (3248): وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي؛ لان أخت معقل بن يسار كانت ثيبًا، فلو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها ولم تحتج إلى وليها معقل، وإنما خاطب الله في الآية الأولياء فقال: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) [البقرة: 232]؛ ففي هذه الآية دلالة على أن الأمر إلى الأولياء في التزويج مع رضاهن. اهـ.
وقال ابن جرير الطبري في تفسيره (2/ 488): وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة قول من قال: لا نكاح إلا بولي من العصبة؛ وذلك أن الله منع الولي من عضل المرأة -إن أرادت النكاح- ونهاه عن ذلك، فلو كان للمرأة إنكاح نفسها بغيرإنكاح وليها إياها، أو كان لها تولية من أرادت توليته في إنكاحها لم يكن لنهي وليها عن عضلها معنى مفهوم؛ إذ كان لا سبيل لع إلى عضلها؛ وذلك أنها إن كانت متى أرادت النكاح جاز لها إنكاح نفسها أو إنكاح من توكله إنكاحها، فلا عضل هنالك لها من أحد فينهي عاضلها عن عضلها. وفي فساد القول بأن لا معنى لنهي الله عما نهي عنه صحة القول بأن لولي المرأة -في تزويجها- حقًّا لا يصح عقده إلا به، وهو المعنى الذي أمر الله به الولي من تزويجها إذا خطبها ورضيت به، وكان رضًا -عند أوليائها- جائزًا في حكم المسلمين لمثلها أن تنكح مثله، ونهاه عن خلافه من عضلها ومنعها عما أرادت من ذلك، وتراضت هي والخاطب به. اهـ.
ويرى الحنفية أن الخطاب في الآية للأزواج، وإذا كان للأولياء فمعناه المنع عن الخروج والمُراسلة في عقد النكاح، وتأول الطحاوي -كما في شرح معاني الآثار (3/ 11)- حديث معقل على أن العضل الذي نُهي عنه كان تزهيده لأخته في المراجعة.
يقول الجصّاص في أحكام القرآن (1/ 546): فظاهر الآية يقتضي أن يكون ذلك خطابًا للأزواج؛ لأنه قال: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) [البقرة: 232] فقوله تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) إنما هو خطاب لمن طلق؛ وإذا كان كذلك كان معناه عضلها عن الأزواج بتطويل العدة عليها كما قال: (وَلَا تَمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُواْ) [البقرة: 231]. وجائز أن يكون قوله تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) خطابًا للأولياء وللأزواج ولسائر الناس والعموم يقتضي ذلك. اهـ.
ويقول ابن التركماني في الجوهر النقي مع السنن الكبرى (7/ 104): المنهي عن العضل -في هذه الآية- هم المطلقون لا الأولياء؛ لأن جواب الشرط يجب أن يرجع إلى من خوطب بالشرط وهم المطلِّقون في قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) والأولياء لم يجر لهم ذكر، فيلزم من صرف ذلك إليهم محذوران: إحداهما: إخلاء الشرط عن الجزاء، والثاني: عدم الالتئام بعود الضمير إلى غير المذكورين أولًا. والعضل من الأزواج المطلِّقين: أن يمنعوهن من الخروج والمراسلة في عقد النكاح، ويحبسوهن ويضيقوا عليهم ويطولوا العدة عليهن، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وَلَا تَمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُواْ) كانوا يطلقون فإذا قرب انقضاء العدة راجعوا من غير حاجة ضرارًا.
ويقول الجصاص في أحكام القرآن (1/ 546): وقوله تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) معناه: لا تمنعوهن أو لا تضيقوا عليهن في التزويج. وقد دلّت هذه الآية من وجوه على جواز النكاح إذا عقدت على نفسها بغير ولي ولا إذن وليها:
أحدها/ إضافة العقد إليها من غير شرط إذن الولي.
والثاني/ نهيه عن العضل إذا تراضى الزوجان.
فإن قيل: لولا أن الولي يملك منعها عن النكاح لما نهاه عنه، كما لا ينهى الأجنبي الذي لا ولاية له عنه. قيل له: هذا غلط؛ لأن النهي يمنع أن يكون له حق فيما نُهي عنه، فكيف يستدل به على إثبات الحق؟ -يُمكن أن يُجاب عن ذلك بأن النهي في الآية نهي عن التعسف في استعمال الحق، وهذا لان ينفي أصل الحق- وأيضًا فإن الولي يمكنه أن يمنعها عن الخروج والمراسلة في عقد النكاح، فجائز أن يكون النهي عن العضل مُنصرفًا إلى هذا الضرب من المنع؛ لأنها في الأغلب تكون في يد الولي بحيث يمكنه منعها من ذلك.
ثم قال الجصاص: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَنْ يَتَرَاجَعَا) [البقرة: 230] قد حوى الدلالة من وجهين على ما ذكرنا: أحدهما/ إضافته عقد النكاح إليها في قوله: (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَه)، والثاني/ (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَنْ يَتَرَاجَعَا) فنسب التراجع إليهما من غير ذكر الولي. ومن دلائل القرآن على ذلك قوله تعالى: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِاْلْمَعْرُوفِ) [البقرة: 234] فجاز فعلها في نفسها من غير شرط الولي؛ وفي إثبات شرط الولي في صحة العقد نفي لموجب الآية. اهـ.
يُفهم من ذلك؛ أن من أسباب عدم أخذ الحنفية بحديث (لا نكاح إلا بولي)؛ مُخالفته لعموم القرآن، وردُّ الحديث لمُخالفته عموم القرآن من القواعد المُقررة عندهم، وإذا أضفنا ذلك لما قبله؛ يكون الحديث مردودًا عند الحنفية بسبب ثلاثة أمور: مُخالفته لعموم القرآن، ومُخالفة عمل الراوي له، وإنكار الراوي له.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين (2/ 235): ردوا الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه: (لا نكاح إلا بولي). وأن من أنكحت نفسها فنكاحها باطل، وقالوا: هو زائد على كتاب الله، ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على القرآن قطعًا في اشتراط الشهادة في صحة النكاح، والعجب أنهم استدلوا على ذلك بقوله: (لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل) -والحديث بهذا اللفظ قد رواه البيهقي في الكبرى (7/ 112) من حديث ابن عباس، ورواه البيهقي أيضًا (7/ 125)، وابن حبان في صحيحه (9/ 386) من حديث عائشة بدون لفظة "مُرشد"-، ثم قالوا: لا يفتقر إلى حضور الولي ولا عدالة الشاهدين. فهذا طرف من بيان تناقض من رد السنن بكونها زائدة على القرآن فتكون ناسخة فلا تُقبل. اهـ.
-أدلة الحنفية:
استدل الحنفية على عدم اشتراط الولي في صحة النكاح بأدلة؛ منها:
1- روى مُسلم في صحيحه (3541) عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها). وفي رواية لمسلم (3542): (الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تُستأمر وإذنها سكوتها).
ولأبي داود في سننه (2100): (ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تستأمر وصمتها إقرارها).
يقول الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 11): فبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (الأيم أحق بنفسها من وليها). أن أمرها في تزويج نفسها إليها لا إلى وليها. اهـ.
ويقول الجصّاص في أحكام القرآن (1/ 546): فقوله: (ليس للولي مع الثيب أمر)؛ يُسقط اعتبار الولي في العقد، وقوله: (الأيم أحق بنفسها من وليها). يمنع أن يكون له حق في منعها العقد على نفسها، كقوله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بصقبه) -البخاري (6977)-، وقوله لأم الصغير: (أنت احق به ما لم تنكحي)-أبو داود (2276)-. فنفى بذلك كله أن يكون له معها حق. اهـ.
وقد اتفق أهل اللغة على أن الأيم تطلق على امرأة لا زوج لها، صغيرة كانت أو كبيرة، بكرًا كانت أو ثيّبًا. راجع: النهاية (1/ 85)، ولسان العرب مادة: أيم.
واختلف العلماء في المُراد بها في هذا الحديث، فقال علماء الحجاز والفقهاء كافة: المُراد الثيب. واستدلوا بأنه جاء مُفسرًا في الرواية الأخرى بالثيب، وبأنها جعلت مقابلة للبكر، وبأن أكثر استعمالها في اللغة للثيب.
وقال الكوفيون وزُفر: الأيم هنا كل امرأة لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا كما هو مقتضاه في اللغة، قالوا: فكل امرأة بلغت فهي أحق بنفسها من وليها وعقدها على نفسها النكاح صحيح، وليس الولي من أركان صحة النكاح بل من تمامه.
ثم اختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم: (أحق بنفسها من وليها) هل هي أحق بالإذن فقط، أو بالإذن والعقد على نفسها، فعند الجمهور بالإذن فقط، وعند هؤلاء بهما جميعًا. راجع: شرح مُسلم للنوي (9/ 203)، وإكمال المعلم للقاضي عياض (4/ 563).
2- ما رواه البُخاري في صحيحه (2310) عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله؛ إني قد وهبت لك من نفسي. فقال رجل: زوجنيها. قال: (قد زوّجناكها بما معك من القرآن).
يقول الجصاص في أحكام القرآن (1/ 546): ولم يسألها هل لها ولي أم لا، ولم يشترط الولي في جواز عقدها. اهـ.
3- ما رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 11)، والنسائي في سننه (3254)، من طريق عمر ابن أبي سلمة عن أم سلمة قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي سلمة، فخطبني إلى نفسي فقلت: يا رسول الله؛ إنه ليس أحد من أوليائي شاهدًا. فقال: (إنه ليس منهم شاهد ولا غائب يكره ذلك). قالت: قم يا عمر. فزوج النبي صلى الله عليه وسلم، فتزوجها.
قال الطحاوي في معاني الآثار (3/ 12، 13): فكان في هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبها إلى نفسها؛ ففي ذلك دليل أن الأمر في التزويج إليها دون أوليائها، وعمر هذا ابنها، وهو يومئذ طفل صغير غير بالغ؛ لأنها قد قالت للنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: إني امرأة ذات أيتام. يعني عمر ابنها وزينب بنتها، والطفل لا ولاية له، فولته هي أن يعقد النكاح عليها ففعل، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم جائزًا، وكان عمر بتلك الوكالة قام مقام من وكله، فصارت أم سلمة رضي الله عنها كأنها هي عقدت النكاح على نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم ينتظر النبي صلى الله عليه وسلم حضور أوليائها، دل ذلك أن بضعها إليها دونهم، ولو كان لهم في ذلك حق أو أمر، لما أقدم النبي صلى الله عليه وسلم على حق هو لهم قبل إباحتهم ذلك له.
فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أَوْلَى بكل مؤمن من نفسه. قيل له: صدقت، هو أَوْلَى به من نفسه، يطيعه في أكثر مما يطيع فيه نفسه، فأما أن يكون هو أَوْلَى به من نفسه في أن يعقد عليه عقدًا بغير أمره من بيع أو نكاح أو غير ذلك؛ فلا، وإنما كان سبيله في ذلك صلى الله عليه وسلم كسبيل الحكام من بعده، ولو كان ذلك كذلك، لكانت وكالة عمر إنما تكون من قبل النبي صلى الله عليه وسلم لا من قبل أم سلمة؛ لأنه هو وليها.
إلى أن قال الطحاوي: ولما ثبت أن عقد أم سلمة رضي الله عنها النكاح على بضعها كان جائزًا دون أوليائها؛ وجب أن يُحمل معاني الآثار التي قدمنا ذكرها في هذا الباب على هذا المعنى أيضًا، حتى لا يتضاد شئ منها ولا يتنافى ولا يختلف. اهـ.
وقد أجاب البيهقي: بأن الحديث ليس فيه حجة؛ لأنه لو كان جائزًا بغير ولي لأوجبت العقد بنفسها ولم تأمر غيرها، فلما أمرت به غيرها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إياها -على ما جاء في بعض الروايات- دلَّ على أنها لا تلي عقدة النكاح، وعمر ابن أبي سلمة كان عصبة لها؛ لأنه من بني أعمامها، فيكون الولي هو الذي زوجها، ويُقال: إن نكاح النبي صلى الله عليه وسلم لا يفتقر إلى ولي، وتزويج زينب بنت جحش يدلُّ على ذلك. راجع: معرفة السنن والآثار (10/ 39)، والسنن الكبرى (7/ 131).
يتضح من خلال عرض الأدلة والمُناقشات حولها؛ احتدام الخلاف في المسألة، وبصرف النظر عن أيها أرجح، فإن للحنفية أدلة ناهضة للاحتجاج، ولهم تأويلات صالحة مُعتبرة لأدلة الجمهور لتتفق مع أدلتهم، فضلًا على أن أدلة الجمهور لم تتوافر فيها شروط قبول الأخبار لدى الحنفية من ثلاث جهات: مُخالفة عموم القرآن، وعمل الراوي بخلاف ما روى، وإنكار الراوي لما رواه.
وما كان هذا شأنه لا يُوصف بمُخالفة الحديث، وعليه فدعوى ابن أبي شيبة مخالفة الحنفية للحديث في هذه المسألة غير مقبولة.
***
ثالثًا/ مَسْأَلَةُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلاعِنِيْنِ
(1) حّدَّثنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَن الزُّهْرِيِّ سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ: شَهِدَ المُتَلاعِنَيْنِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَذَبْتُ عَلَيْهَا إنْ أَنَا أَمْسَكْتُهَا. أخرجه البخاري (5259)، ومسلم (1492).
(2) حَدثنَا يَزِيدُ عَن عَبَّادِ بنِ مَنْصُورٍ عَن عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرَّقَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَهُمَا. أخرجه أبو داود (2256).
(3) حَدَّثنا ابنُ نُمَيْرٍ وأَبُو أُسَامَةَ عَن عُبَيْدِ اللهِ عَن عُبَيْدِالله عَنْ نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ قَالَ: فَرَّقَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بينَ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وامرأَتِهِ فَفَرَّقَ بينهُما. أخرجه البخاري (5314)، ومسلم (1494).
(4) حدثنَا ابنُ نُمَيْرٍ عن عبدِالمَلكِ عَن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. أخرجه مسلم (1493).
(5) حدثنا سفيان بن عُيَيْنَةَ عن عمرٍو عن سعيدِ بن جُبَيْر عن ابن عمر: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فرَّقَ بَيْنَ المُتَلاعِنَيْنِ. فقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ، مَالِي. فقَالَ: (لا مَالَ لَكَ، إنْ كُنْتَ صَادِقًا فَبِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَك مِنْهَا). أخرجه البخاري (5350)، ومسلم (1493).
وذُكِرَ أن أبَا حنيفةَ قالَ: يَتَزَوَّجُهَا إذَا كَذَّبَ نَفْسَهُ.
***
ذهب جمهور العلماء -المالكية والشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب- إلى أن الرجل إذا لاعن امرأته وتفرقا فقد حرمت عليه تحريمًا مؤبدًا، فلا تحل له وإن أكذب نفسه، وهو قول أبي يوسف. وذهب الحنفية إلى أنها تحل له إن أكذب نفسه، وهو قول سعيد بن المسيب.
قال صاحب الهداية: "(إذا التعنا لا تقع الفرقة حتى يفرق الحاكم بينهما، وتكون الفرقة تطليقة بائنة عند أبي حنيفة ومحمد) رحمهما الله؛ لأن فعل القاضي انتسب إليه كما في العنين (وهو خاطبٌ إذا أكذب نفسه) عندهما. وقال أبو يوسف: هو تحريم مؤبد لقوله صلى الله عليه وسلم: (المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا). نص على التأبيد. ولهما أن الإكذاب رجوع والشهادة بعد الروع لا حكم لها، لا يجدتمعان ما داما متلاعنين، ولم يبق التلاعن ولا حكمه بعد الإكذاب فيجتمعان". اهـ. الهداية وشروحها: فتح القدير (4/ 285)، والعناية (4/ 285)، ونصب الراية (3/ 513).
قال أبو بكر الجصاص (في أحكام القرآن (3/ 441): "قال أبو حنيفة ومحمد: إذا أكذب الملاعن نفسه وجلد الحد فله أن يتزوجها. وروي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي وسعيد بن جبير. وقال أبو يوسف والشافعي: لا يجتمعان أبدًا. وروي عن علي وعمر وابن مسعود مثل ذلك. وهذا محمول عندنا على أنهما لا يجتمعان ما داما على حال التلاعن". انتهى. وراجع: المبسوط (7/ 43)، وبدائع الصنائع (3/ 244)، وتبيين الحقائق (3/ 19).
قال مالك: السنة عندنا أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدًا، وإن أكذب نفسه جلد الحد وألحق به الولد ولم ترجع إليه أبدًا، قال: وعلى هذا السنة عندنا التي لا شك فيها ولا اختلاف. اهـ. المنتقى شرح الموطأ (5/ 78)، والمدونة (2/ 354).
قال الرملي شارحًا قول النووي: "(ويتعلق بلعانه فرقة وحرمة مؤبدة وإن أكذب نفسه)، (ويتعلق بلعانه) أي الزوج وإن كذب (فرقة) أي فرقة انفساخ (وحرمة) ظاهرًا وباطنًا (مؤبدة) فلا تحل له بعد ذلك بنكاح ولا ملك يمين (وإن أكذب) الملاعن (نفسه) فلا يفيده عود حل؛ لأنه حقه؛ بل عود حد ونسب؛ لأنهما حق عليه". المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (8/ 21)، ونهاية المحتاج (7/ 119)، ومغني المحتاج (5/ 74)، وراجع: الأم (5/ 309).
قال ابن قدامة في المغني (8/ 54): "تحرم الملاعنة على الملاعن باللعان تحريمًا مؤبدًا، فلا تحل له وإن أكذب نفسه في ظاهر المذهب. ولا خلاف بين أهل العلم في أنه إذا لم يكذب نفسه لا تحل له إلا أن يكون قولاً شاذًّا، وأما إذا أكذب نفسه؛ فالذي رواه الجماعة عن أحمد أنها لا تحل له أيضًا. وعن أحمد رواية أخرى: إن أكذب نفسه حلت له وعاد فراشه بحاله. وهي رواية شاذة". وراجع: الفروع (5/ 309).
-أدلة الجمهور:
إن الأحاديث التي ذكرها ابن أبي شيبة ليست صريحة فيما ذهب إليه الجمهور من إيجاب اللعان للحرمة الأبدية بين المتلاعنين، وإنما جاء التصريح بذلك في الأحاديث والآثار التالية:
1- ما جاء في حديث ابن عمر في الصحيحين: أنا لنبي صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين: (حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها) -راجع: شرح مسلم للنووي (10/ 122)-.
وعموم هذا القول يدل على أنها لا تحل له أبدًا.
2- وروى أبو داود في سننه (2250) عن سهل بن سعد قال: حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدًا.
وفي إسناده عياض بن عبدالله الفهري؛ قال عنه أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال يحيى بن معين: ضعيف الحديث. وقال العقيلي: حديثه غير محفوظ. وقال ابن حجر: في حديثه لين. وذكره ابن حبان في الثقات. راجع ترجمته في تهذيب الكمال (22/ 570)، وتهذيب التهذيب (8/ 180)، وتقريب التهذيب (5278)، والثقات لابن حبان (8/ 524)، وميزان الاعتدال (3/ 307)، وقد تابعه محمدُ بن الوليد الزبيدي على روايته عن الزهري -وهو ثقة- كما عند الدارقطني في سننه (3/ 275)، والبيهقي في الكبرى (7/ 400، 410).
3- وروى الدارقطني في سننه (3/ 276) عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدًا).
وفي إسناده محمد بن عثمان ابن أبي شيبة، وثقه صالح جزرة وقال ابن عدي: لم أرَ له حديثًا منكرًا وهو على ما وصف لي عبدان لا بأس به. وأما عبدالله بن أحمد بن حنبل فقال: كذاب. راجع: ميزان الاعتدال (3/ 642).
4- وروى الدارقطني في سننه (3/ 276) عن علي وعبدالله قالا: مضت السنة أن لا يجتمع المتلاعنان أبدًا.
5- وروى عبدالرزاق في ((مصنفه)) (7/ 112): المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا. موقوفًا على عمر وابن مسعود، وعلى.
6- ورواه ابن أبي شيبة في ((مصنفه)) (4/ 19) موقوفًا على عمر، وابن عمر، وابن مسعود، ولم يروياه مرفوعًا أصلًا.
فقد دلت هذه الأحاديث والآثار على أن اللعان يوجب تحريمًا أبديًّا بين الزوجين، وهو ما ذهب إليه جمهور العلماء.
وقد تأول الحنفية هذه الأحاديث على أنهما لا يجتمعان ما داما على حال التلاعن، فإذا أكذب نفسه فقد بطل حكم اللعان، فكما يلحق به الولد فكذلك ترد إليه المرأة.
يقول الكمال ابن الهمام في فتح القدير (4/ 287): "وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا سبيل لك عليها) إنما هو إنكار طلب ماله منها على ما يدل عليه تمام الحديث وهو قوله: يا رسول الله مالي".
ولا يخفى ضعف هذا التأويل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم متقدم على السؤال فكيف يكون إنكارًا للسؤال.
-أدلة الحنفية:
واستدل الحنفية بعموم الآي المبيحة لعقود المناكحات، نحو قوله: (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَلِكُمْ) [النساء: 24]، وقوله (فَاْنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) [النساء: 3] وقوله: (وَاْنكِحُواْ الْأَيَامَى مِنكُمْ) [النور: 32].
ومن جهة النظر أن هذه الفرقة متعلقة بحكم الحاكم، وكل فرقة تعلقت بحكم الحاكم فإنها لا توجب تحريمًا مؤبدًا، والدليل على ذلك أن سائر الفُرق التي تتعلق بحكم الحاكم لا توجب تحريمًا مؤبدصا؛ مثل فرقةا لعنين وخيار الصغيرين وفرقة الإيلاء عند مخالفنا، وكذلك سائر الفرق المتعلقة بحكم الحاكم في الأصول هذه سبيلها. راجع: أحكام القرآن للجصاص (3/ 441).
ومما سبق نعلم أن سبب رد الحنفية لأحاديث التأبيد هو مخالفتها لعموم القرآن، وقد عُلِمَ أن الحنفية يردون خبر الواحد إذا تعارض مع عموم القرآن، وعلى فرض ثبوتها فهي محمولة عندهم على حال التلاعن.
وإذا تقرر هذا علمنا أن دعوى ابن أبي شيبة مخالفة أبي حنيفة الحديث في هذه المسألة دعوى متسرعة في الحكم على المخالف دون الوقوف على أدلته وحجته ومعرفة قواعده ومنهجه.
***
رابعًا/ مَسْأَلَةُ إِسْلامِ الزَّوْجَةِ قَبْلَ الزَّوْجِ
(1) حدَّثنَا يَزيدُ بنُ هَارُونَ عَن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عن دَاوُدَ بنِ حُصَيْنٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَدَّ ابنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بَعْدَ سَنَتَيْنِ بِنِكَاحِهَا الأَوَّلِ. أخرجه أبو داود (2240)، والترمذي (1143)، وابن ماجه (2009).
(2) حَدّثنا أَبُو أُسَامَةَ عن إِسْمَاعِيلَ عن الشَّعْبِيِّ: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَدَّهَا عضلَيْهِ بِنِكَاحِهَا الأَوَّلِ. لم أجد من أخرجه، وقد روى الطحاويُّ عن الشعبي خلاف ذلك في شرح معاني الآثار (3/ 256): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد زينب على أبي العاص بنكاح جديد.
وذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: يَسْتَأْنِفُ النِّكَاحَ.
***
ذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أن المرأة إذا أسلمت ولم يسلم زوجها، فإن أسلم في عدتها فهما على النكاح الأول، وإن تأخر إسلامه حتى انقضت عدتها فقد وقعت الفرقة بينهما، ولا سبيل له إليها إلا بعقد جديد.
وفرق أبو حنيفة بين الذمية والحربية؛ فالذمية إذا أسلمت يعرض القاضي الإسلام على زوجها فإن أسلم فهي امرأته، وإن أبى فرق القاضي بينهما، وأما الحربية فلا تقع الفرقة عليها حتى تحيض ثلاث حيض، أو تخرج إلى دار الإسلام، فإذا أسلم الزوج بعد الفرقة لا يرجع إليها إلا بعقد جديد.
جاء في المدونة (2/ 213): "قلت: أرأيت إن أسلمت المرأة وزوجها كافر يُعرض على زوجها الإسلام في قول مالك أم لا؟ قال: لا يعرض عليه الإسلام في رأيي، ولكنه إن أسلم وهي في عدتها فهو أحق بها، وإن انقضت عدتها فلا سبيل له عليها". وراجع: المنتقى شرح الموطأ (3/ 345)، ومختصر خليل وشروحه: التاج والإكليل (5/ 136)، وشرح الخرشي (3/ 228)، ومنح الجليل (3/ 364).
وقال الشافعي: "إذا خرجت امرأة الرجل من دار الحرب مسلمة وزوجها كافر مقيم بدار الحرب، لم تزوج حتى تنقضي عدتها كعدة الطلاق، فإن قدم زوجها مهاجرًا مسلمًا قبل انقضاء عدتها فهما على النكاح الأول، وكذلك لو خرج زوجها قبلها ثم خرجت قبل أن تنقضى عدتها مسلمة كانا على النكاح الأول، ولو أسلم أحدهما وهما في دار الحرب فكذلك، لا فرق بين دار الحرب ودار الإسلام في ذلك". الأم (4/ 287) و(5/ 47) و(7/ 379)، وراجع: المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (7/ 328)، ونهاية المحتاج (6/ 295)، ومغني المحتاج (4/ 319).
وقال ابن قدامة في المغني (7/ 117): "إذا كان إسلام أحدهما بعد الدخول ففيه عن أحمد روايتان: إحداهما: يقف على انقضاء العدة، فإن أسلم الآخر قبل انقضائها فهما على النكاح، وإن لم يسلم حتى انقضت العدة وقعت الفرقة منذ اختلف الدينان، فلا يحتاج إلى استئناف العدة، والرواية الثانية: تتعجل الفرقة". وراجع: الفروع (5/ 264).
يقول صاحب الهداية: "وإذا أسلمت المرأة وزوجها كافر عُرض عليه الإسلام، فإن أسلم فهي امرأته، وإن أبى فرق القاضي بينهما وكان ذلك طلاقًا عند أبي حنيفة ومحمد، وإذا أسلمت المرأة في دار الحرب وزوجها كافر لم تقع الفرقة عليها حتى تحيض ثلاث حيض ثم تبين من زوجها...، وإذا خرج أحد الزوجين إلينا من دار الحرب مسلمًا وقعت البينونة بينهما". الهداية وشروحها: فتح القدير (3/ 419)، والعناية (3/ 419)، ونصب الراية (3/ 388).
وقال في موضع آخر: "وإذا خرجت المرأة إلينا مهاجرة جاز لها أن تتزوج ولا عدة عليها عند أبي حنيفة". فتح القدير (3/ 427)، وراجع: شرح معاني الآثار (3/ 256)، وراجع: أحكام القرآن للجصاص (3/ 655)، وشرح السير الكبير (5/ 1823)، والمبسوط (5/ 56)، وبدائع الصنائع (2/ 338).
وقد دلت قصة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوعها إلى زوجها أبي العاص بالنكاح الأول أن عقد النكاح لا ينفسخ بانقضاء العدة كما قال مالك والشافعي وأحمد، ولا بمجرد إسلام المرأة أو خروجها إلى دار الإسلام كما قال أبو حنيفة، فإن زينب رجعت إلى زوجها أبي العاص بالنكاح الأول بعد سنتين من نزول تحريم المسلمات على المشركين، وهي مدة في أغلب الأحيان تنقضي فيها عدة المرأة، وكانت خرجت قبل ذلك بست سنين إلى المدينة دار الإسلام، ولتوضيح ذلك أسوق القصة:
-قصة زينب وأبي العاص:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّج ابنته زينب -رضي الله عنها- لأبي العاص بن الربيع بناءً على رقبة خالته خديجة -رضي الله عنها-، فلما أكرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالنبوة آمنت به خديجة وبناته وبقي أبو العاص على شركه، فأقامت معه زينب على إسلامها بمكة وهو على شركه، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلما صارت قريش إلى بدر صار فيهم أبو العاص فأسر يوم بدر، فلما بعث أهل مكة في فداء أسرائهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها، فلما رآها رسول الله رقَّ لها رقَّة شديدة وقال: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا) -سنن أبي داود (2692)-. فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها الذي لها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه أو وعد أبو العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يخلي سبيل زينب إليه، فما رجع مكة أوفى بذلك.
وأقام أبو العاص بمكة وأقامت زينب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص تاجرًا إلى الشام وكان رجلاً مأمونًا، بمال له وأموال لرجال من قريش أبضعوها معه، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلًا، لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابوا ما معه وأعجزهم هاربًا، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله، أقبل أبو العاص تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستجار بها فأجارته، وجاء في طلب ماله، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح كبر وكبر الناس معه صرخت زينب: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة أقبل على الناس فقال: (أيها الناس هل سمعتم ما سمعت). قالوا: نعم. قال: (أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم). ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنته فقال: (أي بنية، أكرمي مثواه ولا يخلص إليك فإنك لا تحلين له). ورُدت عليه أمواله فحملها إلى مكة، فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله، ثم أسلم ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ملخًا من سيرة ابن هشام (2/ 651-659).
-مناقشة الأدلة:
روى أبو داود والترمذي من حديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: ردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول، لم يحدث شيئًا بعد ست سنين، وفي رواية: بعد سنتين. سبق تخريجه في أول المسألة.
قال الترمذي: "هذا حديث ليس بإسناده بأس، ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث، ولعله جاء من قبل داود بن حصين من قبل حفظه".
قال ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 233): "وهذا الحديث قد أشكل على كثير من العلماء، فإن القاعدة أن المرأة إذا أسلمت وزوجها كافر، فإن كان قبل الدخول تعجلت الفرقة، وإن كان بعده انتظر إلى انقضاء العدة، فإن أسلم فيها استمر على نكاحها، وإن انقضت ولم يسلم انفسخ نكاحها، وإن زينب أسلمت حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجرت بعد بدر بشهر في السنة الثانية من الهجرة، وحرم المسلمات على المشركين عام الحديبية سنة ست، وأسلم أبو العاص قبل الفتح سنة ثمان، فمن قال ردها عليه بعد ست سنين، أي من حين هجرتها فهو صحيح، ومن قال: بعد سنتين، أي من حين حرمت المسلمات على المشركين فهو صحيح أيضًا. وعلى كل تقدير فالظاهر انقضاء عدتها في هذه المدة التي أقلها سنتان من حين التحريم أو قريب منها، فكيف ردها عليه بالنكاح الأول".
_وقد سلك العلماء تجاه هذا الحديث عدة مسالك:
أولًا: معارضته بما رواه أحمد في المُسند (2/ 207) والترمذي في سننه (1172) من حديث الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بنا لربيع بمهر جديد ونكاح جديد.
قال الترمذي: "وفي إسناده مقال، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم، أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها ثم أسلم زوجها وهي في العدة، أن زوجها أحق بها ما كانت في العدة، وهو قول مالك بن أنس والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق".
وقال الإمام أحمد: "حديث حجاج ضعيف -أو قال: واهي- ولم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب، إنما سمعه من محمد بن عبيدالله العرزمي، والعرزمي لا يُسوى حديثه شيئًا، والحديث الصحيح الذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول".
محمد بن عبيدالله العرزمي قال عنه أحمد بن حنبل: ترك الناس حديثه. وقال يحيى بن معين: ليس بشيء لا يُكتب حديثه. وقال البخاري: تركه ابن المبارك ويحيى. وقال عمرة بن علي الفلاس: متروك. وقال النسائي: ليس بثقة. راجع: تهذيب الكمال (26/ 41)، وميزان الاعتدال (3/ 635).
وحكى الترمذي في العلل الكبير (1/ 166) عن البخاري: أن حديث ابن عباس أصح من حديث عمرو بن شعيب.
ثانيًا: أنه منسوخ بتحريم المسلمات على المشركين، بناء على أن القصة كانت قبل التحريم وأبو العاص مشرك.
وممن ذهب إلى ذلك الطحاوي وابن عبدالبر، فقد رويا عن الزهري: أن أبا العاص ابن الربيع أخذ أسيرًا يوم بدر، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه ابنته. قال الزهري: وكان هذا قبل أن ينزل الفرائض. شرح معاني الآثار (3/ 260)، والتمهيد (12/ 20).
قال ابن عبدالبر في التمهيد (12/ 21): "وهذا الخبر -وإن صح- فهو متروك منسوخ عند الجميع؛ لأنهم لا يجيزون رجوعه إليها بعد خروجها من عدتها، وإسلام زينب كان قبل أن ينزل كثير من الفرائض".
وما حكاه الزهري خلاف المشهور عند أهل المغازي، فإن زينب في ذلك الوقت كانت مستقرة عند أبي العاص بمكة، وردها عليه كان بعد إسلامه قبل فتح مكة.
يقول الحافظ ابن حجر في فتح الباري (9/ 324): "فإن ثبت ذلك عن الزهري فهو مؤول؛ لأنها كانت مستقرة عنده بمكة، وهي التي أرسلت في افتدائه كما هو مشهور في المغازي، فيكون معنى قوله: (ردها) أقرها، وكان ذلك قبل التحريم، والثابت أنه لما أطلق اشترط عليه أن يرسلها ففعل، وإنما ردها عليه حقيقة بعد إسلامه".
ثالثًا: أنه منسوخ بالإجماع على أنه لا سبيل له إليها بعد العدة، بناءً على أن القصة كانت بعد التحريم وانقضاء العدة، وممن نقل الإجماع في ذلك ابن عبدالبر، وأشار إلى أن إبراهيم النخعي شذ فيه عن جماعة العلماء، ولم يتبعه عليه أحد من الفقهاء إلا بعض أهل الظاهر، فإنه قال: أكثر أصحابنا لا يفسخ النكاح لتقدم إسلام الزوجة إلا بمضي مدة يتفق الجميع على نسخه لصحة وقوعه في أصله ووجود التنازع في حقه. التمهيد (12/ 21).
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "وتُعقِّب بثبوت الخلاف فيه قديمًا وهو منقول عن علي وعن إبراهيم النخعي، أخرجه ابن أبي شيبة [في مصنفه (4/ 106)] عنهما بطرق قوية، وبه أفتى حماد شيخ أبي حنيفة".
يقول ابن عبدالبر في التمهيد (12/ 23، 24): "وقصة أبي العاص لا تخلو من أن يكون أبو العاص كافرًا؛ إذ رده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابنته زينب على النكاح الأول أو مسلمًا، فإن كان كافرًا؛ فهذا مما لا شك فيه أنه كان قبل نزول الفرائض وأحكام الإسلام في النكاح؛ إذ في القرآن والسنة والإجماع تحريم فروج المسلمات على الكفار، فلا وجه هاهنا للإكثار، وإن كان مسلمًا؛ فلا يخلو من أن يكون كانت حاملًا، فتمادى حملها ولم تضعه حتى أسلم زوجها، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها في عدتها، وهذا ما لم ينقل في خبر، أو تكون قد خرجت من العدة فيكون أيضًا ذلك منسوخًا بالإجماع؛ لأنهم قد أجمعوا أنه لا سبيل له إليها بعد العدة، فكيف كان ذلك؟ فخبر ابن عباس في رد أبي العاص إلى زينب بينت رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر متروك، لا يجوز العمل به عند الجميع، فاستغنى عن القول فيه".
رابعًا: أن ابن عباس راوي الحديث قد قال بخلافه، وهذا يقتضي نسخ الحديث عند الحنفية، فقد روى الطحاوي فير شرح معاني الآثار (3/ 257) عن ابن عباس في اليهودية والنصرانية تكون تحت اليهودي أو النصراني فتسلم هي، قال: يفرق بينهما، فإن الإسلام يعلو ولا يُعْلَى عليه. فثبت بذلك أن ابن عباس كان يرى فسخ العقد بمجرد إسلام الزوجة، وهو خلاف ما دلَّ عليه الحديث.
يقول الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 258): "وإذا ثبت ذلك من قوله استحال أن يكون ترك ما قد كان ثبت عنده من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رده زينب على أبي العاص على النكاح الأول، وصار إلى خلافه إلا بعد ثبوت نسخ ذلك عنده".
خامسًا: أن يجمع بين حديث ابن عباس وعبدالله بن عمرو بأن عبدالله بن عمرو علم تحريم نكاح الكافر، فلم يكن ذلك عنده إلا بنكاح جديد، فقال: ردها عليه بنكاح جديد، وأن عبدالله بن عباس لم يعلم بالتحريم فقال: ردها بالنكاح الأول؛ لأنه لم يكن عنده بينهما فسخ نكاح.
قال محمد بن الحسن: فمن هاهنا جاء اختلافهم لا من اختلاف سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم في ذكره ما رد زينب به على أبي العاص أنه بالنكاح الأول أو النكاح الجديد.
قال الطحاوي: وقد أحسن محمد في هذا. شرح معاني الآثار (3/ 257).
وتعقِّب بأنه لا يُظن بالصحابة أن يجزموا بحكم بناءً على أن البناء بشيء قد يكون الأمر بخلافه، وكيف يظن بابن عباس أن يشتبه عليه نزول آية الممتحنة، والمنقول من طرق كثيرة عنه يقتضي إطلاعه على الحكم المذكور، وهو حكم تحريم استقرار المسلمة تحت الكافر، فلو قدر اشتباهه عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز استمرار الاشتباه عليه بعده حتى يحدث به بعد دهر طويل، وهو يوم أن حدث به يكاد يكون أعلم أهل عصره. فتح الباري (9/ 424)، وراجع: حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (6/ 233)، ومعرفة السنن والآثار (10/ 145).
سادسًا: أن يحمل الحديث على أن العدة لم تكن انقضت؛ لأن بقاء العدة لمدة سنتين أمر ممكن وإن لم تجر العادة غالبًا به؛ لأن الحيض قد يبطئ عن ذوات الأقراء لعارض علة أحيانًا، وبهذا أجاب الخطابي والبيهقي عن حديث ابن عباس. قال ابن حجر: وهو أولى ما يعتمد في ذلك. معرفة السنن والآثار (10/ 145)، وفتح الباري (9/ 423).
سابعًا: القول بموجب الحديث من أن المرأة إذا أسلمت وتأخر إسلام زوجها فإنها ترجع إليه بالنكاح الأول وإن انقضت العدة، وبه قال علي والنخعي وجماعة من أهل الظاهر كما سبق في كلام ابن عبدالبر، ورجحه ابن كثير. وروى الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 260)، وابن أبي شيبة في مصنفه (4/ 106) عن سعيد بن المسيب: أن عليًّا قال: هو أحق بها ما كانت في دار الهجرتها.
وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 333): "ففي قضية زينب والحالة هذه دليل على أن المرأة إذا أسلمت وتأخر إسلام زوجها حتى انقضت عدتها فنكاحها لا يفسخ بمجرد ذلك؛ بل يبقى بالخيار إن شاءت تزوجت غيره وإن شاءت تربصتْ وانتظرتْ إسلام زوجها، أي وقت كان، وهي امرأته ما لم تتزوج، وهذا القول فيه قوة وله حظ من جهة الفقه والله أعلم".
تكل هي أهم مسالك العلماء تجاه حديث ابن عباس في رجوع زينب لأبي العاص بالنكاح الأول، وقد ذهب الحنفية وغيرهم إلى أنه منسوخ، بدلالة عمل راويه بخلافه، والقول بنسخ الحديث ليس مخالفة له، فيُعلم من ذلك عدم صحة دعوى ابن أبي شيبة مخالفة أبي حنيفة للأثر في هذه المسألة.
***
خامسًا/ مَسْأَلَةُ الْمَهْرِ
(1) حَدَّثنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عن عَاصِمِ بن ِعُبَيدِاللهِ عَن عَبدِاللهِ بن عَامِرِ بن رَبِيعةَ عنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ عَلَى عَهْدِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى نَعْلَيْنِ فَأجازَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- نِكَاحَهُ. أخرجه الترمذي (1137)، وابن ماجه (1888). وعاصم بن عبيدالله قال عنه أحمد: ليس بذاك. وقال ابن معين: ضعيف. وقال أبو حاتم والبخاري: منكر الحديث. راجع: تهذيب الكمال (13/ 500).
(2) حَدَّثنَا بنُ عَلِيٍّ عَن زَائِدَةَ عن أَبِي حَازِمٍ عن سَهْلِ بن سَعْدٍ: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال لِرَجُلٍ: (انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكُمَا فَعَلِّمْهَا سُورَةً مِنَ القُرْآنِ). أخرجه البخاري (5135)، ومسلم (3554).
(3) حدَّثنا وكِيعٌ عنِ ابْنِ أَبِي لَبِيبَةَ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمٍ فَقَدْ اسْتَحَلَّ). أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7/ 238)، ومحمد بن عبدالرحمن ابن أبي لبيبة قال عنه ابن معين: ليس حديثه بشيء. كما في تهذيب الكمال (25/ 620)، وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 362)، (7/ 369).
(4) حدَّثنَا حَفْصٌ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَبْدِالمَلِكِ بْنِ المُغِيرَةِ الطَّائِفِي عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِي قَالَ: خَطَبَ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقَالَ: (وَأَنْكِحُواْ الْأَيَامَى مِنْكُمْ) [النور: 32]، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْعَلائِقُ بَيْنَهُمْ؟ قَالَ: (مَا تَرَاضَى عَلِيهِ أَهْلُوهُمْ). أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7/ 239). وعبدالرحمن بن البيلماني قال عنه أبو حاتم: لين. كما في الجرح والتعديل (5/ 216)، وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 91). والحديث مرسل. قال البيهقي في المعرفة (10/ 214): وقيل عنه عن ابن عمر، وقيل عنه عن ابن عباس، وأسانيد هذا الحديث ضعيفة.
(5) حدَّثنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَن حَجَّاجٍ عن قَتَادَةَ عَن أَنَسٍ قَالَ: تَزَوَّجَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قُوِّمَتْ ثَلاثَةَ دَرَاهِمَ وَثُلُثًا. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7/ 237)، وحجاج بن أرطاة ضعيف وسبقت ترجمته.
(6) حَدثَنَا حَفْصٌ عَنْ عَمْرٍو عَنِ الْحَسَنِ قال: مَا تَرَاضَى عَلِيْهِ الزَّوْجُ وَالْمَرْأةُ فَهُوَ مَهْرٌ. لم أجد من أخرجه، وفي إسناده عمرو بن عبيد قال عنه أحمد: ليس بأهل أن يحدث عنه. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: متروك الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة ولا يُكتب حديثه. وقال حميد: كان يكذب على الحسن. راجع: تهذيب الكمال (22/ 123)، وميزان الاعتدال (3/ 273).
(7) حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عن ابنِ عَوْنٍ قَالَ: سَأَلْتُ الحَسَنَ: مَا أَدْنَى مَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ؟ قَالَ: وَزْنُ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. لم اجد من أخرجه.
(8) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عن سُفْيَانَ عن إِسماعِيلَ بنِ أُمَيَّةَ عن سَعِيد بنِ المُسَيِّبِ قَالَ: لَوْ رَضِيَتْ بِسَوْطٍ كَانَ مَهْرًا. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7/ 241).
(9) حدَّثنَا وَكِيعٌ عن سُفيَانَ عن عُمَيْرٍ الخَثْعَمِيِّ عن عَبْدِالمَلِكِ بنِ المُغِيرَةِ الطَّائِفِيِّ عن ابنِ الْبَيْلَمَانِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: (وَءَاتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) [النساء: 4] قَالَ: قَالُواْ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا العَلائِقُ بَيْنَهُمْ؟ قَالَ: (مَا تَرَاضى عَلَيْهِ أَهْلُوهُمْ). أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7/ 239).
وذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لا يَتَزَوَّجُهَا عَلَى أَقَلِّ مِنْ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ.
***
اختلف الفقهاء في أقل المهر، فقال أبو حنيفة: لا مهر أقل من عشرة دراهم. وهو قول أبي يوسف ومحمدٍ وزفر والحسن بن زيادٍ والشعبي وإبراهيم. وقال مالكٌ: ربع دينارٍ. وقال الشافعي وأحمد: يجوز بكل ما جاز أن يكون ثمنًا في البيع. وهو قول ابن أبي ليلى واللث والثوري والحسن بن صالح. راجع: أحكام القرآن للجصاص (2/ 200).
قال صاحب الهداية: "(وأقل المهر عشرة دراهم) وقال الشافعي رحمه الله: ما يجوز أن يكون ثمنًا في البيع يجوز أن يكون مهرًا لها؛ لأنه حقها فيكون التقدير لها. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: (ولا مهر أقل من عشرةٍ). ولأنه حق الشرع وجوبًا إظهارًا لشرف المحل فيتقدر بما له خطرٌ وهو العشرة استدلالًا بنصاب السرقة". الهداية وشروحها: فتح القدير (3/ 318)، والعناية (3/ 318)، ونصب الراية (3/ 366)، وراجع: المبسوط (5/ 80)، وبدائع الصنائع (2/ 275).
وقال ابن قدامة في المغني (7/ 162): "وكل ما جاز ثمنًا في البيع، أو أجرةً في الإجارة، من العين والدين، والحال والمؤجل، والقليل والكثير، ومنافع الحر والعبد وغيرهما جاز أن يكون صداقًا". وراجع: إعلام الموقعين (2/ 252).
وقال الباجي في المنتقى شرح الموطأ (3/ 288) شارحًا قول مالكٍ: (لا أرى أن تنكح المرأة بأقل من ربع ديناءٍ وذلك أدنى ما يجب به القطع) قال: "وهذا كما قال؛ لأنه لا يجوز أن تنكح امرأةٌ بأقل من ربع دينارٍ أو ثلاثة دراهم أو عرضٍ قيمته ذلك وهو المقدار الذي يجب فيه القطع في السرقة". وراجع: مختصر خليل وشروحه: التاج والإكليل (5/ 186)، ومواهب الجليل (3/ 508)، وشرح الخرشي (3/ 165)، ومنح الجليل (3/ 435).
وقال النووي في روضة الطالبين (7/ 249): "ليس للصداق حد مقدر؛ بل كل ما جاز أن يكون ثمنًا أو مثمنًا أو أجرةً جاز جعله صداقًا، فإن انتهى في القلة إلى حد لا يتمول فسدت التسمية، ويستحب أن لا ينقص عن عشرة دراهم للخروج من خلاف أبي حنيفة رضي الله عنه". وراجع: الأم (5/ 171)، والمنهاج وشروحه: مغني المحتاج (4/ 368)، وتحفة المحتاج (7/ 376)، ونهاية المحتاج (6/ 336).
-أدلة الشافعية والحنابلة:
1- حديث سهل بن سعد فيمن تزوج على تعليم سوة من القرآن، ولفظه عند البخاري ومسلم: جاءت امرأةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني وهبتُ من نفسي. فقامت طويلًا فقال رجلٌ: زَوِّجْنِيهَا إن لم تكن لك بها حاجةٌ. قال: (هل عندك من شيءٍ تُصْدِقُهَا؟) قال: ما عندي إلا إزاري. فقال: (إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك، فَالْتَمِسْ شيئًا). فقال: ما أجد شيئًا. فقال: (الْتَمِسْ ولو خَاتَمًا من حديد). فلم يجد. فقال: (أَمَعَكَ من القرآن شيءٌ؟). قال: نعم سورة كذا وسورة كذا لسورٍ سماها. فقال: (زَوَّجْنَاكَهَا بما معك من القرآن) -سبق تخريجه-.
وفي رواية لأبي داود في سننه (2112): قال: (ما تحفظ من القرآن؟). قال: سورة البقرة. قال: (فعلمها عشرين آية وهي امرأتك).
قال الشافعي في الأم (5/ 171): "وخاتم الحديد لا يساوي درهمًا ولا قريبًا من درهم، ولكن له ثمن يتبايع به الناس".
وقال البيهقي في معرفة السنن والآثار (10/ 213، 221): "وفي تعليمها القرآن منفعة تعود إليها، وهو عمل من أعمال البدن التي لها أجرة، فجاز أن يكون مهرًا".
2، 3، 4- ح ديث عامر بن ربيعة وأبي لبيبة ومرسل ابن البيلماني، وقد سبق ذكرها من رواية ابن أبي شيبة والكلام على أسانيدها وبيان ضعفها في أول المسألة.
5- أخرج البخاري (5155)، ومسلم (3556) عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عبدالرحمن ابن عوف أثر صفرة قال: (ما هذا). قال: إني تزوجت امرأة على وزن نواه من ذهب. قال: (بارك الله لك، أولم ولو بشاة).
والنواة من الذهب عبارة عما قيمته خمسة دراهم من الوَرِق، وبه قال أكثر العلماء، ويؤيده رواية البيهقي في السنن الكبرى (7/ 237): وزن نواة من ذهب قومت خمسة دراهم. وسبق في رواية: قومت ثلاثة دراهم وثلثًا. وبه جزم أحمد، وعند بعض المالكية النواة عند أهل المدينة ربع دينار، ويؤيده ما جاء في رواية الطبراني في المعجم الأوسط (7/ 172): حزرناها ربع دينار. [الدرهم وحدة نقدية من مسكوكات الفضة، وهو بالوزن الحالي يساوي عند الحنفية (3,125) جرامًا، وعند الجمهور يساوي (2,975) جرامًا تقريبًا، والدينار من الذهب وهو بالاتفاق يساوي (4,25) جرامًا، كما يقدرها أستاذنا الدكتور علي جمعة محمد في كتابه المكاييل والموازين الشرعية (ص 19)].
6- أخرج أبو داود في سننه (2110) من طريق يزيد بن هارون عن موسى بن مسلم بن رومان عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقًا أو تمرًا فقد استحل).
وفي رواية مسلم (3482): كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أخطأ يزيد بن هارون في اسم شيخه فقال موسى: والصواب صالح بن مسلم بن رومان، ضعفه أبو حاتم وابن معين كما في الجرح والتعديل (4/ 414).
قال البيهقي في معرفة السنن والآثار (10/ 216): "وهذا وإن كان في نكاح المتعة ونكاح المتعة صار منسوخًا، فإنما نُسخ منه شرط الأجل، فأما ما يجعلونه صداقًا فإنه لم يرد فيه النسخ، والله أعلم".
_وأجاب الحنفية عن حديث سهل بن سعدٍ بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بتعجيل شيءٍ لها؛ لأنه لو أراد ما يصح به العقد لاكتفى بإثباته في ذمته، ألا ترى أنه لما لم يجد شيئًا قال: (زوجتكها بما معك من القرآن). وما معه من القرآن لا يكون مهرًا.
_وعن حديث عامر بن ربيعة بأن النعلين قد يجوز أن تساويا عشرة دراهم أو أكثر، فلا دلالة فيه على موضع الخلافة، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز النكاح، وجواز النكاح لا يدل على أنه هو المهر لا غيره؛ لأنه لو تزوجها على غير مهرٍ لكان النكاح جائزًا، فيحمل المهر المذكور على المعجل، وكانت عادتهم تعجيل بعض الصداق قبل الدخول.
_وعند حديث أبي لبيبة بأنه إخبارٌ عن ملك البُضْعِ، لا دلالة فيه على أنه لا يجب غيره.
_وكذلك حديث عبدالرحمن بن عوف، على أنه قد رُوي في الخبر أن قيمتها كانت خمسةً أو عشرةً.
_وأما حديث ابن البيلماني فإنه محمولٌ على ما يجوز مثله في الشرع، ألا ترى أنهم لو تراضوا بخمرٍ أو خنزيرٍ أو شغارٍ لما جاز تراضيهما؟ كذلك في حكم التسمية يكون مرتبًا على ما ثبت حكمه في الشرع من تسمية العَشَرَة.
_وأما حديث جابر فإنه كان في المتعة، ولا يجوز قياس النكاح عليه؛ لأن ما صلح بدلًا لوطئه لا يلزم أن يصلح للأبد. راجع: أحكام القرآن للجصاص (2/ 201)، وتبيين الحقائق للزيلعي (2/ 136).
-أدلة الحنفية:
1- قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم) [النساء: 24] يدل على أن ما لا يسمى أموالًا لا يكون مهرًا، وأن شرطه أن يسمى أموالًا، هذا مقتضى الآية، وظاهرها ومن كان له درهمٌ أو درهمان لا يقال عنده أموالٌ، فلم يصح أن يكون مهرًا بمقتضى الظاهر. فإن قيل: ومن عنده عشرة دراهم لا يقال عنده أموالٌ وقد أجزتها مهرًا قيل له: كذلك يقتضي الظاهر، لكن أجزناها بالاتفاق، وجائزٌ تخصيص الآية بالإجماع. أحكام القرآن للجصاص (2/ 200).
2- ما أخرجه الدارقطني في سننه (3/ 245)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 240) عن مبشر بن عبيدٍ حدثني الحجاج بن أرطاة عن عطاءٍ وعمرو بن ديناءٍ عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء، ولا يزوجهن إلا الأولياء، ولا مهر دون عشرة دراهم).
قال الدارطقني: مبشر بن عبيدٍ متروك الحديث، أحاديثه لا يتابع عليها.
وقال البيهقي: هذا نمكر؛ حجاج لا يحتج به ولم يأت به عن الحجاج غير مبشر بن عبيد، وقد أجمع أهل العلم بالحديث على ترك حديثه، وكان أحمد يرميه بوضع الحديث.
ورواه أبو يعلى في مسنده (4/ 72)، والبيهقي في المعرفة -معرفة السنن والآثار- (10/ 219)، من طريق بقية بن الوليد عن مبشر بن عبيدٍ عن حجاج عن أبي الزبير عن جابرٍ، ومن طريق أبي يعلى رواه ابن حبان في ((كتاب المجروحين)) (3/ 30) وقال: "مبشر بن عبيدٍ يروي عن الثقات الموضوعات، لا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب". ومبشر بن عبيد قال عنه أحمد: روى عنه بقية أحاديث موضوعة كذب. وفي رواية: ليس بشيء يضع الحديث. وفي أخرى: شغله القرآن عن الحديث، أحاديثه بواطيل. وقال البخاري: منكر الحديث. راجع ترجمته في تهذيب الكمال (27/ 194)، وميزان الاعتدال (3/ 433).
3- وأخرج الدارقطني في سننه (3/ 245)، والبيهقي في سننه الكبرى أيضًا (7/ 240) من طريق داود بن يزيد الأودي عن الشعبي عن عَلِيِّ ابن أبي طالب قال: لا صداق أهل من عشرة دراهم.
قال الجصاص في أحكام القرآن (2/ 200): "ولا سبيل إلى معرفة هذا الضرب من المقادير التي هي من حقوق الله تعالى من طريق الاجتهاد والرأي، وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق؛ وتقديره العشرة مهرًا دون ما هو أقل منها يدل على أنه قاله توقيفًا".
ومعلوم في منهج الحنفية أنهم يجعلون لهذه الموقوفات حكم الرفع، وكان يستقيم لهم ذلك لو ثبت هذا الأثر عن عَلِيٍّ، ولكن حفاظ الحديث أنكروه على داود الأودي -داود الأودي ضعفه أحمد وابن معين، وكان يحيى وابن مهدي لا يحدثان عنه، وقال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال أبو داود: ضعيف. وقال النسائي: ليس بثقة. تهذيب الكمال (8/ 467)، وميزان الاعتدال (2/ 21)-.
فقد روى الدارقطني والبيهقي عقب هذا الأثر عن سفيان الثوري قال: داود ما زال هذا ينكر عليه. وقال أحمد بن حنبل: لَقَّن غياثُ بن إبراهيم -غياث بن إبراهيم قال عنه أحمد: ترك الناس حديثه. وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال الجوزجاني: سمعت غير واحد يقول: يضع الحديث. وقال البخاري: تركوه. راجع: ميزان الاعتدال (3/ 337)- داودَ الأودي عن الشعبي عن عليٍّ: لا يكون مهر أقل من عشرة دراهم. فصار حديثًا.
ورُوي عن علي خلاف ذلك:
روى الدارقطني في سننه (3/ 245) من طريق الحسن بن دينار عن عبدالله الداناج عن عكرمة عن ابن عباس عن علي قال: لا مهر أهل من خمسة دراهم.
قال البيهقي في ( (المعرفة)): "وهذا أيضًا ضعيف، والحسن بن دينار متروك" -الحسن بن دينار قال عنه ابن معين: ليس بشيء. وقال البخاري: تركه يحيى وعبدالرحمن وابن المبارك ووكيع. وقال ابن حبان: كان أحمد ويحيى يكذبانه. راجع: ميزان الاعتدال (1/ 487)-.
ورَوى الدارقطني في سننه (3/ 246)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 241) من طريق جعفر بن محمد عن أبيه أن عليًّا قال: الصداق ما تراضى به الزوجان.
يتضح من ذلك أن تقدير الأئمة المجتهدين للحد الأدنى من المهر، كان بناءً على ما ترجح لديه من تقدير الشارع له، ولأن الخلاف في ذلك يرجع إلى الاجتهاد والنظر، فلا يعد أي منهم مخالفًا للحديث، وما ذهب إليه أبو حنيفة أحوط الأقوال، فكان ينبغي على ابن أبي شيبة عدم اتهامه بمخالفة الأثر.
***
سادسًا/ مَسْأَلَةُ جَعْلِ الْعِتْقِ صَدَاقًا
(1) حَدَّثنَا هُشَيْمٌ عن عَبْدِالعَزِيزِ بنِ صُهَيْبٍ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أعْتَقَ صَفِيَّةَ وتَزَوَّجَهَا. قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا أَصْدَقَهَا؟ قَالَ: أَصْدَقَهَا نَفْسَهَا، جَعَل عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. أخرجه البخاري (4200)، ومسلم (3566).
(2) حدَّثنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرِ بن مُحَمَّدٍ عَن أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ الرَّجُلُ أُمَّ وَلَدِهِ وَجَعَلَ عِتْقَهَا مَهْرَهَا.
(3) حدَّثنَا أَبُو أُسَامَةَ عنْ يَحْيَى بن سَعِيدٍ قَالَ: قالَ سَعِيدُ بنُ المُسَيِّبِ: مَنْ أَعْتَقَ وَلِيدَتَهُ أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ وَجعَلَ ذَلِكَ لَهَا صَدَاقًا، رَأَيْت ذَلِكَ جَائِزًا لَهُ. هذا الأثر والذي قبله لم أجد من أخرجهما.
وذُكِرَ أنَّ أبا حَنيفةَ قالَ: لا يَجُوزُ إلَّا بِمَهْرٍ.
***
اختلف العلماء فيمن أعتق أمته على أن تتزوج به ويكون عتقها صداقها فقال الجمهور: لا يلزمها أن تتزوج به ولا يصح هذا الشرط، وممن قاله مالك والشافعي وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وزفر. وقال سعيد بن المسيب والحسن والنخعي والزهري والثوري والأوزاعي وأبو يوسف وأحمد وإسحاق: يجوز أن يعتقها على أن تتزوج به، ويكون عتقها صداقها ويلزمها ذلك ويصح الصداق.
قال الكمال ابن الهمام في فتح القدير (3/ 341): "وإذا أعتق أمةً وجعل عتقها صداقها كأن يقول أعتقتك على أن تزوجيني نفسك بعوض العتق فقبلت صح العتق وهي بالخيار في تزوجه، فإن تزوجته فلها مهر مثلها خلافًا لأبي يوسف". وراجع: العناية (3/ 339)، ونصب الراية (3/ 375).
وجاء في شرح مختصر خليل: "ومن أعتق أمته على أن تتزوجه بعد العتق فلا يلزمها ذلك، وإن شرط أن عتقها صداقها لم يصح ولزمه الصداق". مختصر خليل وشروحه: التاج والإكليل (5/ 131)، ومواهب الجليل (3/ 475)، وشرح الخرشي (3/ 224)، ومنح الجليل (3/ 358).
وقال النووي في شرح مسلم (9/ 221): "قال الشافعي: فإن أعتق أمته على أن تتزوج به، ويكون عتقها صداقها فقبلت عتقت ولا يلزمها أن تتزوجه؛ بل له عليها قيمتها؛ لأنه لم يرض بعتقها مجانًا، فإن رضيت وتزوجها على مهر يتفقان عليه فله عليها القيمة، ولها عليه المهر المسمى من قليل أو كثير، وإن تزوجها على قيمتها فإن كانت القيمة معلومة له ولها صح الصداق ولا تبقى له عليها قيمة ولا لها عليه صداق، وإن كانت مجهولة ففيه وجهان لأصحابنا: أحدهما: يصح الصداق كما لو كانت معلومة؛ لأن هذا العقد فيه ضرب من المسامحة والتخفيف. وأصحهما -وبه قال جمهور أصحابنا-: لا يصح الصداق؛ بل يصح النكاح ويجب لها مهر المثل". وراجع: المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (7/ 347)، ومغني المحتاج (4/ 364)، ونهاية المحتاج (6/ 334).
وقال ابن قدامة في المغني (7/ 58): "وإن اتفق السيد وأمته على أن يعتقها وتزوجه نفسها فتزوجها على ذلك صح ولا مهر لها غير ما شرط من العتق. وبه قال أبو يوسف. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يكون العتق صداقًا، لكن إن تزوجها على القيمة التي له في ذمتها، وهما يعلمان القيمة صح الصداق".
وقال أبو محمد بن حزم في المحلى (9/ 100): "ومن أعتق أمته على أن يتزوجها وجعل عتقها صداقها لا صداق لها غيره فهو صداقٌ صحيحٌ ونكاحٌ صحيحٌ وسنةٌ فاضلةٌ".
-أدلة الحنابلة والظاهرية:
استدل القائلون بصحة جعل العتق صداقًا بظاهر حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج صفية وجعل عتقها صداقها، وإذا جاز أن يكون العتق صداقًا في حق النبي صلى الله عليه وسلم فيجوز في حق أمته كالدراهم، ولأنه يصلح عوضًا في البيع، فإنه لو قال: أعتق عبدك على ألفٍ جاز، فلأن يكون عوضًا في النكاح أَوْلَى، فإن النكاح لا يقصد فيه العوض، إذا ثبت هذا فإن العتق يصير صداقًا، كما لو دفع إليها مالًا ثم تزوجها عليه. راجع: المغني (7/ 58)، والمحلى (9/ 100).
-أدلة الجمهور:
وتأول الجمهور حديث أنس بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها تبرعًا بلا عوض، ولا شرط، ثم تزوجها برضاها بلا صداق، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يجوز نكاحه بلا مهر، لا في الحال ولا فيما بعد بخلاف غيره. شرح مسلم للنووي (9/ 221).
قال أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 2): "ليس لأحدٍ غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل هذا، فيتم له النكاح بغير صداقٍ سوى العتاق، وإنما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصًّا؛ لأن الله عز وجل جعل له أن يتزوج بغير صداقٍ، ولم يجعل ذلك لأحدٍ من المؤمنين غيره، قال الله عز وجل: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَلنَّبِيّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [الأحزاب: 50]، فلما أباح الله عز وجل لنبيه أن يتزوج بغير صداقٍ، كان له أن يتزوج على العتاق الذي ليس بصداقٍ، ومن لم يُبِحِ الله أن يتزوج على غير صداقٍ، لم يكن له أن يتزوج على العتاق الذي ليس بصداقٍ".
وقال الكمال ابن الهمام في فتح القدير (3/ 341): "نص كتاب الله تعالى يُعَيِّنُ المال، فإنه بعد عد المحرمات أحل ما وراءهن مقيَّدًا بالمال، قال الله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ) [النساء: 24]، وقول الراوي ذلك كناية عن عدم المهر، يعني أنه أعتقها وتزوجها ولم يكن شيءٌ غير العتق، والتزوج بلا مهرٍ جائز للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وغاية ما فيه أن ما ذكرناه محتمل لفظ الراوي، فيجب حمله عليه دفعًا للمعارضة بينه وبين الكتاب".
واستدل الطحاوي بأن عبدالله بن عمر روى: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ جويرية في غزوة بني المصطلق، فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها. ثم قال هو من بعد النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا: أنه يجدد لها صداقًا.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 2، 12): "فهذا عبدالله بن عمر، قد ذهب إلى أن الحكم في ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيحتمل أن تكون ذلك سماعًا سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون دله على ذلك المعنى الذي استدللنا به نحن على خصوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بما وصفنا دون الناس".
وتعقبه ابن حزم بأنه لو صحَّ ما ذكره من أن ابن عمر لم ير ذلك لما كانت فيه حجةٌ؛ لأن الحجة التي أمرنا الله تعالى بها وباتباعها، إنما يه ما رووه لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ما رأوه برأي واجتهاد، وبأن المعروف عن ابن عمر هو ما رُوي عن إبراهيم النخعي قال: إن ابن عمر كان يقول في الرجل يعتق الجارية ثم يتزوجها: هو كالراكب بدنته -وكأن ابن عمر لم يبلغه حديث أبي موسى: (ثلاثةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مرتين: رجلٌ من أهل الكتاب آمن بنبيِّه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ فله أَجْرَانِ، وعبدٌ مملوكٌ أدَّى حَقَّ الله تعالى وحقَّ سيِّده فله أجران، ورجلٌ كانت له أمةٌ فَغَذَاهَا فأحسن غِذَاءَهَا ثم أَدَّبَهَا فأحسن أَدَبَهَا ثم أعتقها وتزوجها فله أجران). رواه مسلم (404)-، قال إبراهيم: وكان أعجب ذلك إلى أصحابنا أن يجعلوا عتقها صداقها -أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/ 264)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 360، 4473)-، فإنما كره ابن عمر زواج المرء مَنْ أعتقها لله عز وجل فقط. المحلى (9/ 100).
يتضح مما سبق أن سبب الخلاف تأويل الحديث؛ فالحنابلة والظاهرية أخذوا كعادتهم بظاهر الحديث، وجعله الجمهور من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأولوه على ذلك ليوافق ظاهر القرآن؛ لأن العتق ليس مالًا، ومن شروط قبول الحديث عند الحنفية أن لا يخالف ظاهر القرآن، وإذا كان الخلاف في تأويل الحديث لم يُنسب أحدٌ إلى مخالفة الحديث.
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنفي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: