• 20‏/4‏/2016

    الشافعية الفقه - النفقة - الحضانة - الرضاع ج 17

    أما ما زاد عليه من الأدم والكساء ونحوهما ، فإنما يحدده العرف ، أي العُرف السائد في تلك البلدة ، في ذلك العصر ، بشرط أن لا يكون العُرف مخالفاً لشيء من الأحكام الشرعية .

    فلا أثر لعُرف يقضي بالبذخ والتبذير بالنسبة لبعض النفقات ، أو بالنظر لبعض المناسبات ، كما هو واقع ، وكثير ، ومرهق في هذه الأزمان .
    ما يترتب على إعسار الزوج بالنفقة :
    إذا أعسر الزوج ، فإن كان إعبساره نزولاً عن درجة اليُسْر إلى الدرجة الوسطى ، أو إلى الدرجة الدنيا ، وهي درجة الفقر ، فلا يترتب على هذا الإعسار شيء ، وتلزم بمتابعته ، والرضا بحالته التي آل إليها أمره .
    أما إذا أعسر الزوج حتى عن نفقة الدرجة الثالثة بكاملها ، فللزوجة عندئذ أن تُطالب بفسخ النكاح .
    وإذا طلبت ذلك وجب على القاضي أن يلبّي طلبها ويفرّق بينهما ، ولكن يجب أن يكون ذلك ، بعد عجز الزوج عن النفقة بثلاثة أيام على أقل تقدير ، لكي يتحقق عجزه ، إذ قد يكون العجز لعارض ، ثم يزول .
    روى الدارقطني ( في النكاح ، باب : المهر : 3/297) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته : " يفرّق بينهما ".
    وإذا رضيت بالبقاء مع زوجها على عجزه ، فلها أن تطلب فسخ النكاح بعد ذلك ، لأن الضرر بعجز الزوج عن النفقة بتجدّد كل يوم ، ولكل يوم حكم مستقل .
    ولكن لا يجوز لها الفسخ إذا أعسر ببعض نفقة الدرجة الثالثة ، كأن أعسر عن تقديم الأدم ، لأنه تابع ، وبالإمكان أن تقوم النفس بدونه ، أو كأن عجز عن نفقة الخادم ، لأن الخدمة من المكمِّلات التي يمكن للبدن أن يقوم بدونها.
    أما إذا أعسر بمجموع نفقة هذه الدرجة ، فعندئذ يحقّ لها أن تطلب الفسخ .
    5ـ نفقات أخرى :
    هذا ويكلّف الإنسان بنفقات أخرى ـ غير ما ذكر ـ وذلك نحو ممتلكاته ، التي يملكها :
    أولاً نفقة البهائم :
    تنقسم البهائم إلى الأصناف الثلاثة التالية :
    1ـ بهائم مأكولة .
    2ـ بهائم محترمة غير مأكولة .
    3ـ بهائم غير محترمة .
    الصنف الأول ( البهائم المأكولة ) :
    وهذا الصنف ، كالأنعام ونحوها من كل ما هو مأكول ، يخيّر مالكها بين أن يعلفها ، ويسقيها ، بما يحفظ عليها حياتها بشكل سوي ، وبين أن يذبحها للأكل ، أو أن يبيعها ، أو يهبها للآخرين ، فإن لم يذبح ، أو لم يفعل شيئاً غير الذبح مما ذكر ، فإنه يجبر على نفقتها من علف وسقي ، بالقدر الكافي لحفظ حياتها ، فإن لم يفعل أُجبر على بيعها ، فإن لم يفعل بِيعت عليه غضباً .
    الصنف الثاني ( البهائم المحترمة غير المأكولة ) :
    وهذه البهائم المحترمة ، ككلب صيد غير عقور ، وهرّة ، وصقر ، ونحل ، ودود قز ، ونحو ذلك ، فإن مالكها يلزم ببيعها ، فإن لم يفعل ، أو لم يوجد مَن يشتريها ، وجب عليه أن يدفعها لمن قد ينتفع بها ، صوناً لها عن الهلاك .
    الصنف الثالث ( البهائم غير المحترمة ) :
    وهذه البهائم غير المحترمة ، كالكلب العقور ، ومختلف الحيوانات المؤذية ، فلا يلزم الإنسان بشيء مما ذكرنا نحوها ، إذ لا حَرَج في قتلها ما دامت كذلك .
    الدليل على نفقة الحيوانات المحترمة ، والمأكولة :
    ويستدل لذلك كله بحديث مسلم ( البرَ والصلة والآدب ، باب : تحريم تعذيب الهرة ونحوها …، رقم : 2619) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :" دخلت امرأة النار في هرّة ، ربطتها ، فلا هي أطعمتها ، ولا هي أرسلتها تأكل من خَشَاش الأرض ، حتى ماتت هزلاً " وأخرجه البخاري ( المساقاة ، باب سقي الماء ، رقم : 2236) ، ومسلم ( السلام ، باب : تحريم قتل الهرة ، رقم : 2242) والهرّة مثال لكل حيوان محترم ، مأكولاً كان أو غير مأكول ، ويخرج بذلك ما هو غير محترم ، كالفواسق الخمس التي ذكرت في الحديث .
    روى البخاري ( الإحصار وجزاء الصيد ، باب : ما يقتل المحرم من الدواب ، رقم : 1732) ، ومسلم ( الحج ، باب : ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب …، رقم : 1198) وغيرها عن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :" خمس فواسق ، يقتلن في الحلّ والحرم : الحيّة ، والغراب الأبقع ، و الفأرة ، والكلب العقور ، والحُديَّا ".
    [ فواسق : الفاسق : الخارج عن الطاعة ، وسميت هذه الدواب الخمس فواسق ، لخروجها بالإيذاء والإفساد عن طريق معظم الدواب .
    الغراب الأبقع : هو الذي في ظهره وبطنه بياض . الحُديّا : تصغير : الحدأة ، وهو طائر خبيث ، بله هو أخس الطير ، يخطف الأفراخ ، وصغار أولاد الكلاب ] .
    ثانياً : نفقة الزروع والأشجار:
    والمقصود بنفقة الزروع والأشجار ، سقيها ورعايتها ، فإن لم يكن بصاحبها رغبة في اقتلاعها ، لعمارة ، ونحوها ، فإنه ينبغي عليه سقيها ورعايتها ، لأن إهمالها يدخل في دائرة إضاعة المال ، بدون مسوَّغ شرعي ، وهو لا يجوز .
    أما إذا كان يريد اقتلاع الشجر أو الزرع ليستفيد منهما ، أو ليستفيد من الأرض في عمارة ، أو نحوها ، فإن له قطع الأشجار والزرع ، أو إهمالها إلى أن ييبسا ، لأن له في ذلك غرضاً شرعياً سليماً .
    والله سبحانه وتعالى أعلم ..
    رَابعاً : الحَصَاَنة وَأَحْكَامُهَا
    الحَضَاَنة :
    تعريف الحصانة :
    الحصانة لغة : مأخوذة من الحِضْن ، وهو الجنب ، لأن الحاضنة من شأنها أن تردّ المحضون إلى جنبها .
    والحضانة في اصطلاح الشريعة الإسلامية : هي حفظ مَن لا يستقل بأمر نفسه ، ... وتربيته بمختلف وجوه التنمية والإصلاح ، وتنتهي بالنسبة للصغير إلى سن التمييز .
    ... ... أما رعايته بعد ذلك إلى سن البلوغ ، فتسمى : كفالة ، لا حضانة .
    حكمة مشروعية الحضانة :
    إن الحكمة من مشروعية الحضانة ، إنما هي تنظيم المسؤوليات المتعلقة برعاية الصغار ، وتربيتهم .
    إذ ربما تفارق الزوجان ، أو اختلفاً ، أو تعاسرا فيما يتعلق بالنظر لتربية صغارهما .
    فلو ترك الأمر لما ينتهي إليه شقاقهما ، أو لما يقرره المتغلب من الطرفين في الخصومة ، كان في ذلك ظلم كبير للصغار ، وإهدار لمصلحتهم . وربما كان في ذلك رج بهم في أسباب الشقاء والهلاك .
    لذلك كان لابدّ من وضع ضوابط تحدد أصناف المسؤولين عن حضانة الصغار ، ورعايتهم ، وتصنفهم حسب الأولوية ، بحيث لا تتأثر مصلحة الصغار ، بأيّ شقاق ، أو خلاف يقع بين أولياء أُمورهم .
    من هو الأحق بالحضانة ؟
    إذا فارق الرجل زوجته ، وكان له منها ولد ، ذكر أو أنثى ، وكان دون سن التمييز ، فإن الأم أحق من الأدب بحضانته .
    أسباب تقديم الأم في الحضانة على الأب :
    ... ... إن الأم أحق بالحضانة من الأب ، للأسباب التالية :
    1ـ لوفور شفقتها ، وصبرها على أعباء الرعاية والتربية .
    2ـ لأنها ألين بحضانة الأطفال ، ورعايتهم ، وأقدر على بذل ما يحتاجون إليه من العاطفة والحنو.
    الدليل على حق الأُم في الحضانة :
    والدليل على أن الحضانة من حق الأُم ، وأن حقها مقدّم على حق الأب في ذلك : ما رواه أبو داود ( الطلاق ، باب : مَن أحقّ بالولد ، رقم : 2276) عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، جاءته امرأة ، فقالت : يا رسول الله ، إن ابني هذا ، كان بطني له وعاءً ، وثديي له سقاءً ، وحجري له حواءً ، وإن أباه طلّقني ، وأراد أن ينزعه منّي ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" أنت أحق به ما لم تنكحي ".
    [ حواء : الحواء اسم للمكان الذي يحوي الشيء ويضمه ] .
    مَن أحقّ بالحضانة بعد الأم ؟
    إذا لم توجد أم الطفل ، أو وجدت ، ولكنها رفضت أن تحضنه ، كان الحق في الحضانة لمن بعد الأُم ، وكانت الأفضلية لأم الأم . والمقصود بها : جدّة تدلي إلى الطفل بأنثى ، تقدّم القربى ، فالقربى .
    ... ... ثم لأم الأب . ثم أُمهاتها ، تقدم القربى فالقربى .
    ثم للأخت الشقيقة . ثم للأخت من الأب . ثم للأخت من الأم .
    ثم الخالة . ثم العمّة .
    ثم بنات الأخ ، ثم بنات الأُخت .
    الحكمة في تقديم الإناث في الحضانة :
    والحكمة في هذا التقديم للإناث في حق الحضانة هي ما قلناه في الأُم ، فإن الإناث غالباً ما يكن ألين بحضانة الأطفال ، ورعايتهم ، وأصبر على مشاكلهم ، وأقدر على بذل ما يحتاجون إليه من الحنو والعاطفة .
    حضانة الرجال :
    قلنا إن حق النساء في الحضانة مقدّم ، لأنهن أليق بها ، ولكن إذا لم يكن هناك امرأة قريبة للطفل ، أو كانت ، وأبت أن تحضنه ، فهل ينتقل هذا الحق إلى الرجال ؟ نعم ينتقل حق الحضانة إلى الرجال ، فيقدّم منهم المحرم الوارث ، على ترتيب الإرث ، إلا الجد فإنه يقدّم على الإخوة ، ثم الوارث غير المحرم ، على ترتيب الإرث أيضاً . فيقدم :
    الأب ، ثم الجد ، وإن علا .
    ثم الأخ الشقيق ، ثم الأخ لأب ، ثم ابن الأخ الشقيق ، فابن الأخ لأب ، ثم العمّ الشقيق ، ثم العم لأب . ثم ابن العم الشقيق ، ثم ابن العم لأب .
    وإنما قدّم الأقرب فالأقرب في حق الحضانة ، لأن الأقرب أوفر شفقة على الغالب من الأبعد ، وأكثر حرصاً على حق الرعاية ، وحُسن التربية ؛ ومصلحة الصغار .
    اجتماع الرجال والنساء من أقرباء الأطفال :
    إذا اجتمع ذكور وإناث من أقارب الطفل ، وتنازعوا في الحضانة ، قدّمت :
    الأم ، لحديث أبي داود السابق ، ولأنها ـ كما قلنا ـ أوفرهم شفقة على الطفل .
    ... ثم أُمهات الأم ، المدليات بإناث ، كما ذكرنا ، لأنهنّ في معنى الأم في الشفقة ، تقدم القربى ، فالقربى .
    ثم يقدّم الأب ، لأنه الأصل .
    ثم الجدّة أُم الأب ، ثم الجد أبو الأب .
    ثم الأخت الشقيقة ، ثم الأخ الشقيق ، وهكذا .
    فإذا استووا في القرب ، وكانوا ذكوراً وإناثاً : كإخوة أشقاء وأخوات شقيقات ، قدّم الإناث على الذكور ، لما قلنا ، من أن الحضانة بهنّ أليق ، وهنّ لها أفضل .
    وإن كانوا ذكوراً فقط ، أو كنّ إناثاً فقط ، وتنازعوا في الحضانة ، أقرع بينهم ، فأيّهم خرجت قرعته ، سُلَّم إليه الطفل .
    إلى متى تستمر الحضانة للطفل :
    تستمر فترة الحضانة شرعاً إلى أن تتكامل في الطفل التمييز ، والمقصود بالتمييز أن يستقل الطفل بشؤونه الخاصة ، دون الحاجة إلى معونة أحد .
    والمراد بشؤونه الخاصة : تناول الطعام والشراب ، وقضاء الحاجة ، والتنزّه من الأدران ، والقيام بأعمال الطهارة ، من وضوء ونحوه . وقد حدّد سن التمييز بسبع سنين ، إذ يتكامل التمييز عنده غالباً . فإذا أتمّ الطفل السابعة من عمره ، وكان مميزاً ، فإن مدّة الحضانة تنتهي عند ذلك .
    وتبدأ مرحلة أخرى من الرعاية تسمي : كفالة .
    فإذا أتمّ الطفل ، سن السابعة ، وكان مميزاً ، فإنه يخيّر إذ ذاك بين أبويه ، فأيّهما اختار سلّم إليه .
    ودليل ذلك : ما رواه الترمذي ( الأحكام ، باب : ما جاء في تخيير الغلام بين أبويه إذا اقترفا ، رقم 1357) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خير غلاماً بين أبيه وأمه .
    وفي رواية عند أبي داود ( الطلاق ، باب : مَن أحق بالولد ، رقم : 2277) وغيره : أن امرأة جاءت ، فقالت : يا رسول الله ، إن زوجي يريد أن يذهب بابني ، وقد سقاني من بئر أبي عنبة ، وقد نفعني . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " استهما عليه " فقال زوجها : من يحاقني في ولدي ،
    فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " هذا أبوك ، وهذه أُمك ، فخذ بيد أيّهما شئت " فأخذ بيد أُمه ، فانطلقت به .
    [ بئر أبي عنبة : بئر معين ، والظاهر أنه كان في مكان بعيد . وهي تغني : أن ولدها قد كبر ، وأصبح يستطيع القيام بما ينفعها ، بعد أن قامت بتربيته ، حيث كان صغيراً ، لا ينفعها بشيء . استهما : أي اقترعا . يحاقني : يخاصمني ] .
    ثم إن اختار المميز أباه ، ففقد الأب ، أو سقطت أهليته ، نزل الجد منزلته ، وإن علا ، ومثله الأخ والعم ، ومثلهما ابن العم عند فَقْد الأخ والعم ، على الترتيب الذي ذكرناه سابقاً .
    إلا أن تكون فتاة مُشتهاة ، أو في سن المراهقة ، فلا يجوز بقاؤها في كفالة ابن عمّها ، فإن لم يكن غيره ، وجي أن تكون عند امرأة موثوقة يعينها ابن العم .
    حكمة تخيير الطفل بين أبويه عند بلوغه التمييز :
    علمنا سبب تقديم حق الأم في الحضانة على الأب ، كما علمنا السبب في انتهاء مدة الحضانة بتكامل التمييز عند الطفل ، أو الطفلة ، وذلك ، لأن فترة ما قبل التمييز عند الطفل ، أو الطفلة ، وذلك ، لأن فترة ما قبل التمييز ، لا يستغني فيها الصغير عن رعاية الأم ، ولا يكاد يقوم مقامها الأب ، أو غيره من الرجال .
    غير أن الكفالة ، إنما هي رعاية عامة ، قد يستوي في القدرة عليها كلّ من الأب والأم ، وذلك بسبب قدرة الطفل على أن يستقل بالكثير من شؤونه ، وبسبب توفر الطاقة العقلية عنده في الجملة .
    ... ... فناسب بعد هذا كله ، أن يعطى الطفل الخيار بين أبويه ، أو مَن يقوم مقامهما ، يختار أيّهما شاء .
    شروط الحضانة :
    يشترط للحضانة أن يتوفر فيها الشروط التالية :
    أولاً : العقل :
    فلا حضانة لمجنون ، أو مجنونة ، ولو كان جنوناً متقطعاً ، لأن الحضانة ولاية ، وليس المجنون من أهل الولاية ، إذ يتأتى منه الحفظ والرعاية ، بل هو نفسه محتاج إلى الرعاية والحفظ .
    ثانياً : الإسلام :
    ... ... وذلك إذا كان المحضون مسلماً ، ولو حكماً ، بأن كان أحد أبويه مسلماً ، فإنه يتبع أشرف الأبوين في الدين .
    ... ... فلا تجوز حضانة الكافر للمسلم ، ذلك لأن الحضانة ، ولاية ـ كما قلنا ـ ولا ولاية للكافر على المسلم .
    ولأن الكافر ، ربما يفتن الصغير عن دينه ، بشتى الوسائل والأساليب .
    لكن إذا كان المحضون كافراً ، كان لكلّ من المسلم والكافر حضانته .
    ثالثاً : العفة والأمانة :
    والمراد بالعفة والأمانة : أن لا يكون الحاضن فاسقاً ، إذ الفاسق لا يلي ، ولا يؤتمن على شيء ، وإنما ينبغي أن يكون عدلاً ذا عفّة ودين .
    ثم إن العدالة تثبت بالظاهر المشاهد ، ولا يشترط لثبوتها شهادة وبيِّنات ، إلا إذا وقع نزاع في أهلية الحاضن ، وعدالته ، فلا بدّ عندئذ من ثبوت عدالته عند القاضي بناءً على الأدلة والبيِّنات .
    رابعاً : الإقامة :
    وذلك بأن يكون صاحب الحق في الحضانة مقيماً في بلد الطفل .
    ... ... فلو سافرت الأم ـ وهي صاحبة الحق في حضانة طفلها ـ سفر حاجة :
    كحج ، وتجارة ونزهة ونحوها ، لم تمكن من أخذ الطفل معها ، وكان المقيم عنده أولى منها إلى أن تعود من السفر ، فيسلّم الولد إلى جدته إلى أن تعود الأم .
    أما السفر الذي يكون انتقالاً إلى بلدة أخرى ، بدون قصد العودة ، فإنه لا يستوجب سقوط حق الحضانة ، إذا كان الطريق آمناً ، وكانت البلدة التي تقصد الحاضن الاستيطان فيها آمنة أيضاً :
    ... ... فإذا اضطر كل من الأبوين إلى السفر لحاجة ، بقي حق الأُم ، ولم يعد السفر عندئذ مانعاً من الحضانة :
    خامساً : الخلو من زوج أجنبي :
    فإذا تزوجت الأم سقط حقها في الحضانة ، وإن لم يدخل بها الزوج بعد ، أو رضي زوجها أن يدخل الولد داره .
    والدليل على ذلك من السنة : فما رواه أبو داود ( 2276 ) وذكرناه سابقاً " أنت أحقّ به ما لم تنكحي " (1) .
    والدليل من المعقول على سقوط حق الأم في الحضانة إذا تزوجت ، هو أن الأم إذا تزوجت شغلت عن ولدها بحق الزوج ، فلا توجد ضمانة لرعاية شأن الطفل ، والنظر في أمره
    لكن يستثنى من ذلك حالتان :
    الحالة الأولى : أن يتراضى والد الطفل مع زوج الأم أن يبقى الولد عند أمه ، فإن ذلك يبقي حقّها في الحضانة ، ويسقط حق الجدّة .
    __________
    (1) انظر الدليل على حق الأم في الحضانة ( صفحة 192 ) .
    الحالة الثانية : أن يكون زوج الأُم الجديد قريباً للطفل ، ممّن له حق حضانته ، وإن كانت درجته بعيدة ، فإن الأم في حضانة ولدها لا يسقط حينئذ إذا رضي زوجها بحضانته .
    ... ... ذلك لأن له حقاً في رعايته ، ولأن له من الشفقة عليه ما يحمله على التعاون مع أُمه على كفالته ، والاهتمام بشأنه .
    سادساً : الخلو من الأمراض الدائمة والعادات المؤثرة :
    فلو كانت الأُم تعاني من مرض عضال : كالسل ، والفالج ، أو كانت عمياء ، أو صّماء ، لم يكن لها حق في حضانته ، لأن من شأنها ما يشغلها عن القيام بحق الطفل .
    ما يترتب على فَقْد شيء من شروط الحضانة :
    إذا فُقِدَ شرط من هذه الشروط الستة التي ذكرناها لاستحقاق الحضانة ، سقط حق الحاضنة ، وانتقل هذا الحق من يليها ، مَن جدة ، ثم أخت ، ثم خالة ، وهكذا .
    كيف يتم التأكد من فوات شرط من شروط الحضانة :
    ... ... يعتمد في التأكد من فوات شرط من شروط الحضانة على واحد من الأمور الثلاثة التالية
    الأمر الأول : إقرار الحاضنة :
    فإذا أقرّت الأم بأنها متزوجة ، أو أنها تعاني من مرض عضال دائم العلّة ، سقط حقها في الحضانة .
    الأمر الثاني : دعوى المعارض :
    إذا ادّعى المعارض في الحضانة : أن الحاضنة فقدت شرطاً من شروط الحضانة ، وكانت دعواه تلك مصحوبة بالبيِّنات المعتمدة ، فإن حقها في الحضانة يسقط عندئذ .
    ثالثاً : تحقيق القاضي :
    تحقيق القاضي ، أو الحاكم ، وذلك عندما يرتاب ويشكّ في توفر الشروط عند الحاضنة ، فإذا ثبت لديه بموجب تحرياته فقدان شرط من شروط الحضانة ، فإنه يسقط الحضانة عندئذ في الحضانة .
    والله سبحانه وتعالى أعلم ….
    خامساً : الرضاع وأحكامه
    الرضاع
    تعريف الرضاع :
    الرِّضاع ، والرِّضاعة ـ بفتح الراء ويجوز كسرها فيهما ـ معناه في اللغة : اسم لمصّ الثدي وشرب لبنه .
    والرضاع شرعاً : اسم لحصول لبن امرأة ، أو ما حصل منه في معدة طفل ، أو دماغه
    دليل تشريع الرضاع :
    إرضاع الولد من غير أُمه التي ولدته جائز شرعاً ، ولقد كان أمراً معروفاً قبل الإسلام . ولما جاء في الإسلام أقرّه ولم يحرمه ، لما فيه أحياناً من المصلحة ، والحاجة الملجئة ؛ كأن تموت أُم الطفل ، مثلاً ، أو يكون بها علّة تمنعها الإرضاع ، فلا بدّ والحالة هذه من امرأة أخرى ترضعه حفاظاً على حياته .
    دليل هذا الجواز :
    ويستدل على جواز الإرضاع بقول الله عز وجل : { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى }
    [ الطلاق : 6 ] .
    تعاسرتم : اختلفتم في إرضاع الولد ، فسترضع الولد امرأة أخرى غير أمه .
    وقوله سبحانه وتعالى : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } [ البقرة :233] .
    هل الرضاع واجب على الأم أم هو حق لها ؟
    إن قلت : الرضاع واجب على الأم ، كان معنى ذلك ، أنها ملزمة بإرضاع طفلها ، سواء رضيت بذلك ، أو لم ترضَ ، مادامت قادرة على الإرضاع ، غير معذورة بأيّ سبب شرعي . وإن قلت : الرضاع حق للأم ، كان معنى ذلك الأمر عائد إلى اختيارها .
    فإن رغبت في الإرضاع لم يكن للزوج ، ولا لغيره أن يصدّها عن حقها .
    أما إن لم ترغب في إرضاعه ، فإن الزوج يصبح عندئذ ملزماً بتدبر مُرضعة أخرى لطفله .
    إذا عرفت الفرق بين الواجب عليها ، والحق لها ، فما هي علاقة الأُم بإرضاع ولدها ؟.
    هل هي علاقة حق لها ؟ أم هي علاقة واجب عليها ؟
    المفتي به في مذهب الإمام الشافعي رحمة الله تعالى : أن الرضاع حق للأم ، تطالب به عندما تشاء ، وليس واجباً عليها .
    فلا تلزم به إلا إذا لم يوجد مَن يقوم مقامها ، فيصبح الإرضاع واجباً عليها للضرورة .
    دليل أن الرضاع حق للأم وليس واجباً عليها :
    ودليل كون الإرضاع حقا للأم ، وليس واجباً عليها : قول الله عز وجل : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : : 233] مع قوله سبحانه تعالى : { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } . وقوله جلّ جلاله : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [ الطلاق : 6 ] .
    وبيان وجه الدليل في هذه الآيات على أن الإرضاع حق للأم وليس واجباً عليها : أن الله عزّ وجلّ ، عندما قال : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } احتمل أن يكون المعنى : الوالدات يلزمن بإرضاع أولادهن .
    ولو قال سبحانه وتعالى : وعلى الوالدات إرضاع أولادهنّ : لسقط الاحتمال الثاني ، وتعين الاحتمال الأول . فلما قرأنا قول الله عز وجل { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } ترجح المعنى الثاني في الآية الأولى ، وهو كان الرضاع حقاً لها . إذ لو كان واجباً عليها ، لما قال سبحانه وتعالى : { فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } . ولما كان من سبيل إلى التعاسر والاختلاف مع الزوج ، ولما كان لها الامتناع عن الإرضاع .
    ولما قرأنا قول الله سبحانه وتعالى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ازداد المعنى الثاني للآية رجحاناً ، بل تعين ذلك المعنى ، لأن الرضاع لو كان واجباً على الأم ، لما استحقّت عليه أجراً ، إذ لا أجر على واجب ، فلما أمر سبحانه وتعالى بإعطائهنّ الأجر على الرضاع إن طلبنه ، دلّ ذلك على أنهنّ مخيّرات في الإرضاع ، لا مجبرات عليه .
    والخلاصة :
    أن الرضاع حق للأم تجاب إليها ، إن طالبت به . وليس واجباً عليها ، فلا تلزم به إن رفضته ، إلا إن تعينت له ، فعندئذ يجب عليها للضرورة .
    ما يترتب على كون الرضاع حقاً لا واجباً :
    لعلك أدركت مما أوضحنا ، الأمور التي تترتب على كون الرضاع مجرد حق للأم ، وأنه ليس واجباً عليها .
    وهذه الأمور ، تتلخص فيما يلي :
    أولاً : لا يجوز للزوج إجبار زوجته على إرضاع طفلها ، فإن أجبرها ، فلم تستجب لإجباره وأمره ، فهي ليست بعاصية ، ولا تُعدّ ناشزة .
    يستثنى من ذلك ، ما لو لم يكن ثَمة من يصلح لإرضاع الطفل غيرها . فإن الضرورة عندئذ تقضي بقسرها على الإرضاع ، وهي المحافظة على حياة الطفل .
    ثانياً :
    يجب على الزوج أن يعطي زوجته الأجر حسب العُرف ، على ما تقوم من إرضاع الطفل ، إذا طلبت على ذلك أجراً .
    فإن لم تطالب بالأجر ـ كما هو السائد في أعراف الناس اليوم ـ لم يلزم الزوج بدفع الأجر ، وسقط حقها في المطالبة ، إن كانت تبرعت به وأظهرت له عدم الرغبة فيه .
    ما يترتب على الرضاع من القرابة :
    إذا أرضعت المرأة طفلاً أجنبياً عنها ، صار الطفل ابنها بالرضاع ، وصار زوجها صاحب اللبن أباً لذلك الطفل ، وترتب على هذا الرضاع الأمور التالية :
    أولاً : يحرم على الرضيع التزوج ممّن أرضعته ، ومن كل أنسبائها اللائي يحرم عليه التزوج منهنّ لو كانت أُمه من النسب .
    فيدخل في هذا التحريم :
    -أُخت مرضعته ، لأنها خالته من الرضاعة .
    -وبنت مرضعته ، لأنها أُخته من الرضاعة .
    -وبنات أولاد مرضعته ، ذُكوراً كانوا أو إناثاً ، لأنهنّ بنات إخوته ، أو بنات أخواته من الرضاعة .
    ... ... -أم مرضعته ، لأنها جدّته من الرضاعة .
    وكذلك يحرم على هذا الرضيع التزويج من هؤلاء أنفسهم ، إذا كانوا أنسباء والده من الرضاعة ، وهو زوج المرضعة ، صاحب اللبن .
    فتحرم عليه :
    -أُخت والده من الرضاعة ، لأنها عمّة الرضيع .
    -وبنت والده من الرضاعة ، ولو من زوجة أخرى ، لأنها أُخت هذا الرضيع .
    -وبنات أولاد أبيه من الرضاعة ، ذكوراً كانوا أم إناثاً ، لأنهنّ بنات أخوة الرضيع أو بنات أخواته .
    -وأم أبيه من الرضاعة ، لأنها جدّة الرضيع .
    ثانياً : يحرم على المرضع ، وعلى هؤلاء الأنسباء للمرضع جميعاً التزويج من الرضيع ، كما أوضحنا ، والتزويج من فروعه ، لأنك لو قدّرت أمومة المرضعة للطفل أُمومة نسب ، كان هؤلاء الأنسباء محرّمات عليه فكذلك أُمومة الرضاع .
    فكما لا يتزوج الرضيع من بنت مرضعته ، لأنها أخته من الرضاع ، فكذلك لا يتزوج ابن الرضيع منها لأنها عمّته من الرضاعة . وهكذا إلى آخرة .
    ثالثاً : يجوز للمرضع ، وأنسبائها اللائي عدّدنا أسماءهنّ التزوج من حواشي الرضيع : كأخيه ، ومن أصوله ، كأبيه ، وكعمّه ، لأنهم أجانب عن المرضع وأنسبائها .
    الدليل على حرمة الرضاع :
    الأصل في كل ما ذكرنا : القرآن ، والسنّة :
    أما القرآن الكريم : فقول الله عز وجل : { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ }
    [ النساء : 23 ]
    وأما السنّة : فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : فيما رواه البخاري ( 2553 ) ومسلم ( 4144 ) عن عائشة رضي الله عنها : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الرضاعة تُحرِّم ما يَحرُم من الولادة ".
    وفي رواية عند البخاري ( الشهادات ، باب : الشهادة على الأنساب …، رقم : 2502 ) ومسلم ( الرضاع ، باب : تحريم ابنة الأخ من الرضاعة ، رقم : 1447 ) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في بنت حمزة رضي الله عنه : " لا تحلّ لي ، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، هي بنت أخي من الرضاعة ".
    فقد دلّت الآية على أن المرضع تصبح بسبب الرضاعة أُمّاً للرضيع ، وأن ابنتها ، تصبح أُختاً له .
    وأما الحديثان فقد أوضحنا النتائج المترتبة على ذلك ، وهي : أن أُمومة الرضاع بمنزلة أُمومة النسب .
    فكلّ مَن تحرم على الولد من أقارب أمه وأخته نسبياً ، تحرم عليه من أقارب أمه أو أخته رضاعاً .
    شروط الرضاع المحّرم :
    لا يعتبر الرضاع موجباً للقرابة ، ومحرماً للزواج ، إلا إذا يؤثر فيه الشرطان التاليان :
    الشرط الأول : أن يكون الرضيع لم يتم سنتين من عمره عند الرضاع . فإن أرضعته بعد أن تجاوز الستين من العمر ، لم يُؤثر هذا الرضاع في التحريم ، ولم يُفد في القرابة شيئاً .
    ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] . وقول الله عزّ وجلّ : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [ لقمان : 14 ] .
    [ والفصال : هو الفطام ، لأنه يفصل فيه الرضيع عن أُمه ] .
    ويستدل لذلك من السنّة أيضاً : بما رواه الدارقطني ( الرضاع 4/174) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" لا رضاعَ إلا ما كان في الحَوْليْن " .
    وروى الترمذي ( الرضاع ، باب : ما جاء [ ما ذكر ] أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر ….، رقم : 1152) عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" لا يُحرِّم من الرضاعة إلا فتقَ الأمعاء في الثدي ، وكان قبل الفطام ".
    فتق الأمعاء : شقها وسلك فيها . في الثدي : في الثدي ، في زمن الرضاع ، قبل الفطام . والفطام يكون في تمام الحولين ، كما في قوله تعالى : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [ لقمان :14 ]
    ... ... وروى البخاري ( النكاح ، باب : مَن قال لا رضاع بعد حولين ….، رقم : 4814) ، ومسلم ( الرضاع ، باب : إن الرضاعة من المجاعة ، رقم : 1455) عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها رجل ، فكأنه تغير وجهه ، كأنه كره ذلك ، فقالت : أنه أخي ، فقال : ( انظرن من إ خوانكن ، إنما الراضعة من المجاعة ) .
    أي تحرم الرضاعة إذا كانت في الزمن الذي يجوع فيه الطفل لفقدها ، ويشبع بها ، وهذا لا يكون إلا للصغير .
    الشرط الثاني : أن ترضعه خمس رضعات متفرقات .
    وتعتبر الرضاعة منفصلة ، أو غير منفصلة عن الأخرى بالعُرف . فلو قطع الطفل الرضاع إعراضاً وشبعاً ، كان ذلك رضعة مستقلة ، ولو قطعه للهو ، مثلاً ، وعاد في الحال ، أو تحول من ثدي إلى ثدي ، عُدّ ذلك رضعة واحدة .
    دليل هذا الحكم : والدليل على ذلك : ما رواه مسلم ( الرضاع ، باب : التحريم بخمس رضعات ، رقم : 1452) عن عائشة رضي الله عنها : كان فيما نزل من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرمن . ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهنّ فيما يقرأ من القرآن .
    ... ... أي إن نسخها كان متأخراً ، حتى إنه توفي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعض الناس مازال يتلوها قرآناً ، لأنه لم يبلغه النسخ بعد .
    وروى مسلم ( الرضاع ، باب : في المصّة والمصّتان ، رقم : 1451) عن أم الفضل رضي الله عنها : أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تحرم الرضعة أو الرضعتان ، أو المصّة أو المصّتان ".
    ما يترتب على قرابة الرضاع من أحكام :
    يترتب على القرابة الناشئة من الرضاع حكمان اثنان :
    ... ... 1ـ حكم يتعلق بالحُرمة . 2ـ حكم يتعلق بالحل .
    أما الحرمة : فتتعلق بالنكاح .
    وأما الحل : فيتعلق بالخلوة والنظر .
    فإذا نشأت قرابة الرضاع بين طرفين ، كان لهذه القرابة من التأثير على حرمة النكاح مثل ما لقرابة النسب ، ويتفرع عنها كل ما يتفرع عن قرابة النسب من الآثار . فأُمك وإن عَلَت ، وبنتك وإن سَفلت ، وأُختك لأبويك ، أو لأحدهما ، وعمتك وإن بعدت ، وبنت الأخ لأبوين ، أو لأحدهما ، وبنت الأخت لأبوين ، أو لأحدهما ، محرّمات عليك بسبب هذه القرابة التي جاءت عن طريق النسب .
    فإن تولدت هذه القرابات عن طريق الرضاع ، ترتب عليها أيضاً التحريم دون أيّ فرق بينهما .
    ... ... وقد مضى بيان ذلك فلا نعيده .
    وتتفرع عن قرابة النسب حُرمة المصاهرة ، كما هو معلوم . فأم الزوجة نسباً تحرم على صهرها ، الذي هو زوج ابنتها .
    وكذلك بنت الزوجة نسباً ، وزوجة الأب نسباً ، وزوجة الابن نسباً .
    كلهنّ يحرمن على الزوج في المثال الأول ، وعلى الابن في المثال الثاني ، وعلى الأب في المثال الثالث . والسبب هو المصاهرة .
    ... ... فإذا نشأت هذه القرابات نفسها من رضاع ، أورثت الحكم ذاته ، بالنسبة للمصاهرة .
    أي فأم الزوجة من رضاع تحرم على الزوج .
    وبنتها من رضاع تحرم عليه أيضاً .
    وزوجة أبيك من رضاع ، وزوجة ابنك من رضاع محرّمتان عليك .
    والسبب المصاهرة التي ترتبت على قرابة الرضاع . واعلم أن دليل ذلك كله : هو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - السابق (1): " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ".
    رواه البخاري ( 2502) ، ومسلم ( 1447) عن ابن عباس رضي الله عنهما .
    ... ... هذا ما يتعلق بأثر التحريم المترتب على قرابة الرضاع .
    أما ما يتعلق بأثر الحل :
    فبيان ذلك : أن كل ما يحّل بينك وبين قريبة لك نسباً ممّن مضى ذكرهم ، يحلّ بينك وبين مَن بينك وبينها رضاعة : فيحلّ بينهما النظر ، كما يحلّ ذلك بين الأخ والأخت من النسب ، وتحلّ بينهما الخلوة المحّرمة بين الأجنبيين ، ويحلّ لها أن تسافر معه فوق ثلاث ليالٍ .
    غير أن هذا الحكم لا يسوغ نظر القريب رضاعة إليها بشهوة ، أو نظرها إليه كذلك .
    لأن هذا النظر محّرم حتى بين أقارب النسب .
    ولذلك فقد كره متأخرو الفقهاء إرضاع المرأة لغير طفلها بدون ضرورة وحاجة .
    كما أنهم كرهوا اختلاط الذكور والإناث الذي جمعتهم قرابة الرضاع ، وذلك بسبب ما قد يتوصل به إلى شرور ومحّرمات مختلفة ، لضعف الوازع الديني ، ولعدم وجود الوازع الفطري الذي يكون بين القريب والقريبة .
    سادساً : ثبوت النسب
    النَّسَبُ
    تمهيد :
    النسب : القرابة . والنسب أساس هام لأحكام كثيرة متنوعة :
    __________
    (1) انظر الدليل على حرمة الرضاع ( صفحة : 207 ) .
    كالإرث ، والنكاح حلاَّ وحرمة ، والولاية ، والوصية ، وغير ذلك . من أجل ذلك كان لابدّ من بيان الدلائل التي يثبت بها النسب ، وضبطها بما لا يدع مجالاً لريبة ، أو اضطراب في طريق إثباتها . فكيف يثبت النسب بين شخصين ثبوتاً ِشرعياً ، تترتب بموجبه الأحكام الشرعية المتعلقة به ؟ .
    مثبتات النسب : يثبت النسب شرعاً بواحد من الموجبات التالية :
    الأول : الشهادة : ويشترط في الشهادة رجلان ممّن توافرت فيهم شروط صحة الشهادة تحملاً وأداء ، وقد مّرت هذه الشروط في النكاح ، فلا يثبت النسب بشهادة النساء ، ولا بشهادة رجل وامرأتين ، لأن النسب فرع من النكاح ، والنكاح مما لا يطّلع عليه في الغالب إلا الرجال . فلا تقبل شهادة النساء فيه .
    الثاني : الإقرار : وذلك بأن يقرّ الرجل أنه والد زيد مثلاً ، أو أن يقرّ زيد بأنه ابن ذلك الرجل
    شروط صحة الإقرار :
    وإنما يعتبر هذا الكلام من كلَّ منهما ، ويعُدّ إقراراً ، إذا توفرت في الشروط التالية :
    1ـ أن لا يكذب هذا الإقرار الحسنَُ ، وذلك بأن يكونا في سن يمكن أن يكون هذا الابن من ذلك الأب .
    فلو كان في سن لا يتصور أن يكون منه ، كأن كان مساوياً له في السن لم يصحّ هذا الإقرار ، ولم يثبت به نسب ، لتكذيب الحسّن له .
    2ـ أن لا يكذب هذا الإقرار الشرعُ . وتكذيب الشرع له : أن الولد المستلحق بالإقرار معروف النسب من غير المقَّر ، لأن النسب الثابت من شخص لا ينقل إلى غيره بالإقرار ، سواء صدّقة المستلحق أم غيره .
    3ـ أن يصدّق المستحلقُ المقرٌَ، إن كان هذا المستلحق أهلاً للتصديق ، بأن يكون مكلفاً ، لأن له حقاً في نسبه ، وهو أعرف به من غيره .
    4ـ أن لا يجّر المقر بهذا الإقرار نفعاً إلى نفسه ، أو يدفع عنها به ضرراً ، فإن استلزم واحداً منهما ، لم يُعد يسمى كلامه إقراراً ، بل هو ادّعاء ، ولا يقبل الادعاء إلا إذا ثبت ببينه من شهادة ونحوها .
    مثال ذلك :
    أن يقول عن شاب مات عن ثروة من المال : إنه ابني ، فلا يقبل كلامه ، ولا يعتبر إقراراً ، ولا شهادة ، لأن الإقرار من شأنه أن يجرّ مَغْرماً ، أو مسؤولية على المقرّ .
    ولأن الشهادة إنما تعتبر حيث لا تستلزم نفعاً للشاهد ، ولا تدفع عنه ضرراً .
    ودليل ذلك ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا تجوز شهادة الظِّنين .
    الترمذي ( الشهادات ، باب : ما جاء فيمن لا تجوز شهادته ، رقم : 2299) .
    ... ... والظنِّين : المتهم . والجارّ إلى نفسه نفعاً ، والدافع عنها ضرراً متهمان .
    وإنما يدخل هذا الكلام عندئذ في الاّدعاء ، والاّدعاء لا يقبل إلا إذا عزّرته البيَّنة المعتبرة شرعاً .
    ... ... ومنها : أن يشهد شاهدان عدلان بصدق كلامه .
    الثالث : الاستفاضة : وصورة الاستفاضة : أن ينتسب الشخص إلى رجل ، أو قبيلة ، والناس في تلك البلدة ينسبونه إلى ذلك الشخص ، أو تلك القبيلة ، دون وجود مخالف ، ودون أن يُحدّ ذلك في فترة قصيرة من الزمن .
    فهذه الاستفاضة تنزل منزلة الشهادة الصحيحة ، وتعتبر دليلاً شرعياً على صحة الأمر .
    بشرط أن يكون الناس ـ الذين استفاض عنهم وبينهم ذلك ـ قد بلغوا من الكثرة مبلغاً ، يحيل العقل اتفاقهم على الكذب .
    والسبب في تنزيل الاستفاضة في ثبوت النسب منزلة الشهادة الصحيحة : أن النسب من الأمور الثابتة المستمرة مع توالي الأجيال ، فإذا طالت مدتها عَسُرَ إقامة البيَّنة على ابتدائها ، فمسّت الحاجة إلى إثباتها بالاستفاضة .
    وقد كان الصحابة رضي الله عنهم ينتسبون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قبائلهم ، وأجدادهم ، فما كان ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يطالبهم بالشهود الذي يثبتون النكاح رؤية بالعين . بل كان يكتفي باستفاضة الخير بين الناس ، دون وجود مخالف . وكانت الأحكام تبنى على ذلك .
    ثبوت الرضاعة :
    لقد علمت سابقاً أن الرضاعة لها حكم النسب في التحريم . فكذلك لها حكم النسب في طرق الثبوت . فتثبت الرضاعة من المثبتات الثلاثة السابقة :
    ... ... الشهادة ، الإقرار ، الاستفاضة .
    غير أن شهود الرضاعة ، لا يشترط فيهم أن يكونوا ذكوراً ، كشهود النسب .
    بل تجوز في الرضاع شهادة النساء فقط ، لأن الرضاعة مما يغلب أن تطلع عليها النساء
    وبناءً على ذلك ، فالشهادة المقبولة في ثبوت الرضاع هي :
    أ ـ شهادة رجلين عدلين .
    ب ـ شهادة رجل عدل ، وامرأتين عادلتين .
    ج ـ شهادة أربع نسوة عادلات .
    الأحكام المتعلقة بالنسب :
    إذا عرفت ما تقدم ، فاعلم أن هناك أحكاماً كثيرة تترتب على ثبوت النسب بين شخصين
    نذكر منها ما يلي :
    أولاً : أحكام النكاح حلاًّ وحرمة
    ثانياً : أحكام الفقه ، وتنسيق المسؤوليات المتعلقة بها .
    ثالثاً : الولاية ودرجاتها .
    رابعاً : الميراث ، وتوزيع الأنصباء ، وتنسيق درجات الوارثين .
    خامساً : الوصية وأحكامها من صحة وبطلان ، فإن كثيراً من أسباب ذلك إنما يعود إلى النسب ، وإلى معرفة : هل الموصى له وارث ، أو غير موروث .
    هذا عرض مختصر لأهم الأحكام المترتبة على ثبوت النسب . ومثل النسب في بعض هذه الأحكام الرضاع .
    أما مجال تفصيل هذه الأحكام ، فإن لكلِّ منا باباً خاصاً به ، بعض هذه الأبواب قد مرّ ذكرها ، وبعضها يأتي بحثه إن شاء الله تعالى ، وإننا نحيل إليه تفصيل القول في ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
    سَابعًا : أَحْكَامُ اللّقِيط .
    اللّقِيطُ
    تعريف اللقيط :
    اللقيط : على وزن فعيل ، بمعنى مفعول : كقتيل بمعنى مقتول .
    واللقيط ، والملقوط ، والمنبوذ : أسماء تطلق على الطفل الموجود مطروحاً في شارع ونحوه ، وليس ثَمّة من يَدّعيه .
    الأدلة على تشريع أخذ اللقيط :
    الأصل في التقاطه وأخذه ، وتشريع أحكامه دلائل عامة كثيرة في القرآن والسنة :
    أما القرآن : فقول اله عزّ وجلّ : { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الحج : 77] . وقوله سبحانه وتعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى } [ المائدة : 2 ] وقوله جلّ جلاله في النفس البشرية : { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] .
    وأما السنّة : فما رواه مسلم ( الذِكْر والدعاء والتوبة ، باب : فضل الاجتماع على تلاوة القرآن ..، رقم : 2699 ) وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومَن يسّر على معُسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومَن ستر مسلماً ، ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ".
    وروى البخاري ( الأدب ، باب : فضل مَن يعول يتيماً ، رقم : 5679) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا " وأشار بإصبعيه : السبّابة والوسطى إشارة إلى شدّة القرب بينهما .
    وروى الترمذي ( البّر والصلة ، باب : ما جاء في رحمة الناس ، رقم : 1923 ) وغيره عن جرير بن عبدالله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" مَن لا يرحمِ الناس لا يرحمْه الله ".
    حكم أخذ اللقيط :
    إذا وجد لقيط بقارعة الطريق ، ولا كافل معلوم له ، فأخذه وتربيته وكفالته ، فرض على الكفاية ، على كلّ مَن وجده .
    فإذا أهمل ، وبقي في مكانه الذي وجد فيه ، أثم جميع أهل تلك البلدة ، أو المنطقة ، أو القرية الذي عملوا بوجوده .
    وإذا التقطه أحدهم ، واهتم بتربيته ، والنظر في شأنه ، ارتفع الإثم عن الجميع .
    ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ : { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] وقتل النفس كما يكون بالاعتداء الإيجابي على حياتها ، فإنه يكون بمنع المسعفات عنها ، مع قدرته على ذلك .
    الإشهاد على أخذ اللقيط :
    ومَن وجد طفلاً مطروحاً في مكان ، وأخذه ليكفله ويربيّه ، وجب عليه أن يشهد على التقاطه ، وأخذه ، حفاظاً على حريته ، ونسبه ، ويجب الإشهاد أيضاً على ما معه من مال ، إن وجد الملتقط معه مالاً . دفعاً للتهمة ، وضماناً لحقّ اللقيط في ماله ، ولو كان الملتقط عدلاً أميناً
    شروط بقاء اللقيط مع ملتقطه :
    كان ما ذكرنا سابقاً هو حكم أخذ اللقيط ، وقد علمت أنه فرض كفاية على جميع المسلمين حيث وجد اللقيط ، دون قيد أو شرط .
    فإذا أخذ اللقيط واحد من الناس أياً كان ، فقد ارتفع بذلك الفرض الكفائي عن سائرهم .
    إلا أنه لا يجوز إبقاء اللقيط عند هذا الذي التقطه إلا بشروط أربعة :
    الشرط الأول : الإسلام : فلا يقّر اللقيط عند الكافر ، إلا إذا كان اللقيط محكوماً بكفره ، كأن عرف بطريقة ما أن أبويه كافران ، فلا مانع عندئذ من إبقائه عنده .
    الشرط الثاني : العدالة : فلا يجوز إبقاء اللقيط عند مَن عُرف بالفسق ، ويعطى لمن ثبتت عدالته وأمانته .
    الشرط الثالث : الرشد : فلو التقطه غير رشيد ، بأن كان دون سن الرشد ، انتزع منه . ومنه السفيه الذي طرأ عليه السفه بعد الرشد ، إذا كان محجوراً عليه ، فلا يجوز إقرار اللقيط عنده .
    الشرط الرابع : الإقامة : فلو عزم الملتقط على السفر به إلى مكان ما ، وجب انتزاعه منه ، إذ لا يؤمن أن يسترقّه ، أو يغدر به .
    وإنما يراعي هذه الشروط ، ويُبقى أو ينتزع اللقيط على أساسها القاضي أو الحاكم وليّ له .
    فلابدّ أن يكون هو المُحكَّم في ولاية الملتقط ، والنظر في صلاحيته لذلك .
    نفقات اللقيط :
    ... ... إذا أخذ أحد اللقيط ، وأُقر في يده ، لتوفر الشروط التي ذكرناها فيه ، فإنه ينظر :
    1ـ فإما أن يكون في حوزة اللقيط مال .
    2ـ أو ليس في حوزته مال .
    فإن وجد في حوزته مال ، اعتبر هذا المال ملكاً له ، لأنه صاحب اليد عليه ، ولا يوجد منازع فيه ، وأنفق عليه من ماله . وعندئذ ينفق الحاكم عليه من ذلك المال ، وذلك بأن يأذن للملتقط الذي يرعى شأنه ، بأن يصرف منه على مصالحه ، واحتياجاته . فلو استقل الملتقط بالإنفاق على اللقيط من ذلك المال ، دون إذن للحاكم ، أو القاضي ، ضمن ذلك المال ، وكلِّف برد قدره إلى حوزة الطفل .
    ... ... كما لو كان لليتيم وديعة عند الولي ، فصرف الوليّ الوديعة عليه بدون إذن الحاكم ، فإنه يضمنها ، ويكلّف بإعادة مثلها ، أو قيمتها إلى حوزة اليتيم .
    وإنما توقف صرف هذا المال على إذن الحاكم ، لأن ولاية المال لا تثبت لقريب ، غير الأب والجد ، فضلاً عن الأجنبي الذي لا تربطه بالطفل أي قرابة .
    ولما كان الحاكم هو الوليّ المطلق لكل مَن لا وليّ له ، كان هو المرجع في التصرفات المختلفة بماله .
    فإما أن ينفق هو عليه مباشرة ، أو يأذن بالإنفاق منه للملتقط الذي استحق الولاية عليه .
    نفقة اللقيط في بيت المال إن لم يكن لديه مال :
    وإن لم يوجد في حوزة اللقيط مال ، فنفقة ، وجوباً في بيت مال المسلمين ، من سهم المصالح العامة ، لأن بيت المال مرصود لذلك .
    وقد روي : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استشار الصحابة في نفقة اللقيط ، فأجمعوا على أنها في بيت المال .
    ويدخل اللقيط ـ إذا لم يكن له مال ـ في عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :" من ترك مالاً فلورثته ، ومن ترك كلا فإلي ". وفي رواية :" ومن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني ، فأنا مولاه ".
    رواه البخاري ( الاستقراض ، باب: الصلاة على مَن ترك ديناً ، رقم : 2268ـ2269) ، ومسلم ( الفرائض ، باب : من ترك مالاً فلورثته ، رقم : 1619 ) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
    [ والمراد بالكل : العيال الفقراء . ضياعاً : ضائعاً ليس له شيء . فإلّي : أنا أعوله وأُنفق عليه ] .
    هل يرجع الحاكم بالنفقة على اللقيط إذا كبر ؟
    هذا ، ولا يرجع الحاكم بهذه النفقة التي أنفقها على اللقيط من بيت مال المسلمين ، عند كبر اللقيط وغناه ، لأنه هذه النفق لا تُصرف عليه ديناً ، بل استحقاقاً ، كما ينفق الزوج على زوجته ، والوالد على أولاده ".
    حكم النفقة على اللقيط إذا لم يكن في بيت المال مال :
    وإذا لم يكن في بيت مال المسلمين ما يكفي لنفقات اللقيط ، لكثرة اللقطاء مثلاً ، أو لوجود مصارف أهم من الإنفاق على اللقطاء ، وجب على الحاكم أن يستقرض من الأغنياء ، على ذمة الدولة ، ما يكفي لسدّ حاجات اللقيط ، ويسدّد القرض لأصحابه عند اليسر .
    الاهتمام باللقيط :
    لاحظت من خلال الأحكام التي ذكرناها ، أن الشّارع جلّ جلاله ، يضع مسؤولية رعاية اللقطاء ، وتربيتهم والعناية بهم في أعلى درجات الخطورة والأهمية .
    فالمسلمون كلهم آثمون إن ضُيع بينهم لقيط واحد .
    والدولة آثمة أيضاً ، إن هي أهملت النظر في أمره ، ولم تعوضَّه عن رعاية الوالد ، وحنان الأم ، بالقدر الممكن ، ويفرض الدَّين على الدولة أن تستقرض من أغنياء المسلمين ، إن هي أعسرت ، ولم تجد سبيلاً للإنفاق عليه .
    تربية اللقيط لا تسوّغ تبنَيه :
    هذا الترغيب في تربية اللقيط ، والاهتمام به لا يسوّغ تبنّيه ، واختلاقَ نسب بين اللقيط ، وأي رجل أو امرأة من الناس ، مربياً كان أو غيره .
    لقد فصل الشّارع بين الأمرين فصلاً حاسماً :
    أما الرعاية ، والعناية ، والتربية ، فكل ذلك واجب ، ومصدر ذلك الأخوة الإسلامية ، والرحم الإنساني . وأما التبني ، وهو ما نعبر عنه : باختلاق النسب ، فمحرم باطل . لأن مصدر النسب ولادة أو نكاح ، وليس بين اللقيط ومن يريد أن يتبناه شيء من ذلك .
    ... ... ولأن البنّوة لها حق في الميراث ، وعليها واجب في ذلك ، ولها حق في الإنفاق ، وعليها واجب في ذلك .
    ولأنها أساس في تحريم النكاح ، وحلّ النظر والخلوة والاختلاط . فإذا قيس التبني عليها ، وجاز اعتبار اللقيط ابناً لمن تبناه ، كان في ذلك ظلم لمن سيشركهم في ميراثهم ، وظلم له ولورثته الحقيقيين عندما يتقاسم أقاربه المزيفون ميراثه من دونهم ، أو يشاركونهم فيه .
    وكان في ذلك ظلم للخُلق والفضيلة عندما يفرض قانون الأخوة بينه وبين من ليست أختاً له بحال ، أن يخالطها مخالطة الشقيق ، وهو أجنبي عنها ، ويمنع حقّه في الزواج منها ، وهي غير محّرمة عليه .
    من أجل ذلك كله حرّم الله تعالى التبنّي ، الذي هو اختلاق نسب غير موجود ، ثم إعطاؤه جميع الحقوق والأحكام الثابتة لرابطة النسب .
    ... ... وشرّع الدين ما يُعني عن التبنّي , ويحقّق مصلحة اللقيط ، وهو مبدأ الرعاية والعناية ، والتربية له . وحمل المسلمين في ذلك أخطر المسؤوليات ، وأهمها .
    دليل حُرمة التبنّي :
    ويدّل على حُرمة التبنّي ، قول الله عزّ وجلّ : { مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ{4} ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ الأحزاب : 4ـ5] .
    انحراف وعود إلى الجاهلية :
    هذا ولقد عاد الناس أدراجهم إلى الجاهلية ، فنجد بعض أولئك الذين لم يولد لهم يذهبون إلى دور اللقطاء ، فيختارون لقيطاً يدعونه ولداً ، ويثبتون نسبه لهم في السجلات المدنية ، فيقعون في معصية الله عزّ وجلّ ويرتكبون أسوء ما نهى الله عنه من تحليل الحرام وتحريم الحلال ، إذ يخالفون صريح القرآن وصحيح السنّة في تحريم التبني ومنعه ، بل إن ما يفعله هؤلاء أشد مما كان يفعله أهل الجاهلية لأن أولئك كانا يعلنون أن هذا متبنى وليس بولد حقيقي ، بينما هؤلاء الناس يطمسون الحقيقة ويدّعون أنه ولد حقيقي لهم ، وبهذا يُدخلون على ا لأسرة من ليس منها ، فيخالط هذا الدعي النساء الأجنبيات في الأسرة المدعية على أنهنّ محارم له ، ويمنع من الزواج منهنّ على أساس ذلك ، ينما هنّ حلال له ، وإنما يحرم عليه مخالطتهنّ العيش معهنّ كمحارم .
    وأيضاً بسببه يُحرم من الميراث مستحقّه ، ويأخذ هو مال غيره بالباطل ، وما إلى ذلك من مفاسد يقع فيا هؤلاء الجهّال العصاة ، عن سوء قصد أو بدون قصد ، فيقعون في غضب الله تعالى ، ويستحقون شديد عقابه يوم القيامة ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .
    معاينة عدد المشاهدات :
    تحميل عدد التحميلات :

    ليست هناك تعليقات: