• 20‏/4‏/2016

    الشافعية الفقه - الوَقْفُ - الوصية ج 18

    الوَقْفُ
    تعريف الوقف :
    ... الوقف – ويُجمع على وقوف ، وأوقاف -: هو في اللغة : الحبس ، تقول : وقفت كذا إذا حبسته . ولا تقول : أوقفته إلا في لغة رديئة .

    وهذا على عكس حبس ، فإن الفصيح فيه أن تقول : أحبست كذا ، ولا تقول : حبسته إلا في لغة رديئة . والوقف شرعاً : حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح موجود .
    ... وهذه القيود في هذا التعريف سوف تستبين لك وأنت تقرأ فقرات هذا البحث إن شاء الله تعالى .
    دليل مشروعيته الوقف :
    ... ...
    ... الوقف مشروع ، بل هو قُربة ، وأمر مرغَّب فيه شرعاً ، ولقد قامت أدلة الكتاب والسنّة على تقريره ، وبيان مشروعيته :
    ... - أما الكتاب ، فقول الله تبارك وتعالى : ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (. [ آل عمران : 92 ] .
    ... فإن أبا طلحة رضي الله عنه لما سمع هذه الآية الكريمة رغب في الوقف ، وأتى النبي ( يستشيره .
    ... روى البخاري ( 607 ) في ( كتاب الوصايا ) ، باب ( مَن تصدَّق إلى وكيله ثم ردّ الوكيل إليه ) ، عن أنس رضي الله عنه قال : لمّا نزلت : ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ .. ( جاء أبو طلحة إلى رسول الله ( ، فقال : يا رسول الله ، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه : ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( ، وإن أحبَّ أموالي إلى بَيْرَحاءُ – قال : وكانت حديقة كان رسول الله ( يدخلها ويستظل بها ، ويشرب من مائها – فهي إلى الله عز وجل وإلى رسوله ( ، أرجو بِرَّهُ وذُخْرَهُ ، فَضَعْها أيْ رَسولَ الله حَيث أراكَ اللهُ ، فقال رسول الله ( : " بخ أبا طلحة ، وذلك مال رابح ، قبلناه منك ، ورددناه عليك ، فاجعله في الأقربين " . فتصدَّقَ به أبو طلحةَ على ذوي رحِمِهِ ، قال : وكان منهم : أبي وحسانُ .
    ... [ بخْ : بوزن بل ، كلمة تقال عند المدح والرضا بالشئ ، وتُكرِّر للمبالغة ، فيقال : بخْ بخْ ، فإن وصلت خفضت ونوِّنت ، فقلت : بخ بخ ] .
    ... وكذلك قوله تعالى :(وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( [ آل عمران : 115 ] .
    ... فلفظ ( مِنْ خَيْرٍ ( عام يشمل وجوه الخير كلها ، ومنها الوقف .
    ... - وأما السنّة ، فأحاديث كثيرة ، منها :
    ... ما رواه مسلم ( 1631 ) في ( كتاب الوصية ) ، باب ( ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته ) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله ( قال : " إذا مات الإنسانُ انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة : إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " .
    ... والصدقة الجارية محمولة عند العلماء على الوقف . والولد الصالح ، هو القائم بحقوق الله تعالى ، وحقوق العباد .
    ... ومنها ما رواه البخاري ( 2586 ) في ( كتاب الشروط ) ، باب
    ( الشروط في الوقف ) ، ومسلم ( 1632 ) في ( كتاب الوصية ) ، باب
    ( الوقف ) ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أصاب أرضاً بخيبر ، فأتى النبيَّ ( يستأمره فيها ، فقال : يا رسول الله ، إنَّي أصبتُ أرْضَاً بخيبر ، لم أُصب مالا قط أنفسَ عندي منه ، فما تأمرني به ؟ قال : " إن شئْت حبست أصْلَها وتصدَّقت بها " . قال : فتصدق بها عمر : أنه لا يُباُع ولا يوهب ولا يُورَثُ ، وتصدقَ بها في الفقراء ، وفي القُرْبى ، وفي الرقاب ، وفي سبيل الله ، وابن السبيل ، والضيف ، ولا جُناحَ على من وَلِيَها أن يأكلَ منها بالمعروف ، ويُطعَمَ غيرَ متموِّل .
    ... قال ابن سيرين رحمه الله : غير متأثل مالاً .
    ... [ أصاب أرضا : أخذها وصارت إليه بالقَسْم حين فُتحت خيبر ، وقسمت أرضها .
    ... يستأمره : يستشيره .
    ... أنفس : أجود ، والنفيس : الجيد .
    ... حبَّست : وقفت .
    ... في الرقاب : تحرير العبيد .
    ... لا جناح : لا إثم .
    ... ولِيَهَا : قام بأمرها .
    ... غير متمول : غير مدخر للمال .
    ... غير متأثل : غير جامع للمال . وكل شئ له أصل قديم ، أو جمع حتى يصير له أصل ، فهو مؤثل ] .
    ... والمشهور أن وقف عمر رضي الله عنه هذا كان هو أول وقف في
    الإسلام .
    ...
    وقد اشتهر الوقف بين الصحابة وانتشر ، حتى قال جابر رضي الله عنه : ما بقى أحد من أصحاب رسول الله ( له مقدرة إلا وقف . وقال الشافعي رحمه الله تعالى : بلغني أن ثمانين صحابياً من الأنصار تصدّقوا بصدقات محرمات . والشافعي رحمه الله يطلق هذا التعبير ( صدقات محرمات ) على الوقف .
    حكمة مشروعية الوقف :
    ... قلنا فيما سبق : إن الوقف مشروع ، بل هو قُربة يُثاب عليها المؤمن ، لذلك كان هناك من غير شك فوائد وحِكَم كثيرة لتشريع الوقف ، نلمح منها :
    فتح باب التقرّب إلى الله تعالى في تسبيل المال في سبيل الله وتحصيل المزيد من الأجر والثواب ، فليس شئ أحبَّ إلى قلب المؤمن ، من عمل خير يزلفه إلى الله تعالى ، ويزيده حّباً منه .
    تحقيق رغبة الإنسان المؤمن ، وهو يبرهن على إظهار عبوديته لله تعالى ، وحبّه له ، فمحبة الله تعالى لا تظهر واضحة إلا في مجال العمل والتطبيق . قال تعالى : ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( [ آل عمران : 92 ] .
    تحقيق رغبة المؤمن أيضاً في بقاء الخير جارياً بعد وفاته ، ووصول الثواب منهمراً إليه ، وهو في قبره ، حين ينقطع عمله من الدنيا ، ولا يبقى له إلا ما حسبه ووقفه في سبيل الله حال حياته ، أو كان سبباً في وجوده من ولد صالح ، أو علم يُنتفع به .
    تحقيق كثير من المصالح الإسلامية ، فإن أموال الأوقاف إذا أُحسن التصرّف فيها كان لها أثر كبير وفوائد جمّة في تحقيق كثير من مصالح المسلمين : كبناء المساجد ، والمدارس ، وإحياء العلم ، وإقامة الشعائر مثل الأذان والإمامة ، وغيرها من المصالح والشعائر .
    سدّ حاجة كثير من الفقراء والمساكين والأيتام وأبناء السبيل ، والذين أقعدتهم بعض الظروف عن كسب حاجاتهم . فإن في أموال الأوقاف ما يقوم بسدّ حاجاتهم ، وتطييب قلوبهم . والله أعلم ..
    أركان الوقف :
    ... للوقف أربعة أركان ، وهي :
    ... الواقف ، والموقوف ، والموقوف عليه ، والصيغة . ولكل ركن من هذه الأركان الأربعة شروط ، فإذا تحققت هذه الشروط ، فإذا تحققت هذه الشروط كان الوقف على أكمل وجه ، وهذه هي الشروط كل ركن :
    1- شروط الواقف :
    ... يشترط في الواقف حتى يصحّ وقفه شرعاً الشروط التالية :
    صحة عبارته ، وذلك بأن يكون حّراً بالغاً عاقلاً ، فلا يصحّ وقف الرقيق ، لأنه لا ملك له بل هو وماله لسيده ، وكذلك لا يصح وقف الصبي والمجنون ، ولو كان الوقف بمباشرة أوليائهم ، فلو وقف الصبي – ولو ميِّزاً – شيئاً ، وكذلك المجنون ، كان الوقف باطلاً ، ولو أجاز ذلك وليّهما ، لأن الصبي والمجنون لا عبارة لهما شرعاً ، فلا يصحّ الوقف منهما ، ولا يجوز للوليّ التبرّع بشئ من أموالهما .
    أهليّة التبّرع ، فلا يصح الوقف من المحجور عليه بسفه ، أو فلس ، لأن هؤلاء ممنوعون من التصرّف بأموالهم ، فلا يصح منهم التبرّع ، ولا يجوز أن تسلّم إليهم أموالهم .
    ... أما السفيه فلمصلحته ، أما المفلس فلمصلحة غُرمائه .
    ... قال الله تعالى : ( وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً ( [ النساء : 5 ] .
    ... [ السفهاء : جمع سفيه ، وهو هنا من لا يحسن التصرّف في ماله . وأصل السفه الخفّة ] .
    ... وقد فسر الشافعي رحمه الله تعالى السفيه بالمبذر الذي ينفق ماله في المحرَّمات .
    ... ومعنى قوله تعالى : ( الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً ( أي جعل الله في تلك الأموال صَلاَحَ معاشكم .
    ... وأضاف المال إلى الأولياء – وإن كانت في الحقيقة أموال السفهاء – لأنها بأيديهم ، وهم الناظرون فيها . والقيام ، والقوام : ما يقيمك . يقال : فلان قيام أهله ، وقِوَام بيته ، أي هو الذي يقيم شأنه ، ويصلحه .
    ... روى الحاكم ( 2 / 58 ) في ( البيوع ) ، باب ( الرهن محلوب ومركوب ) ، ورواه الدارقطني وغيره أيضاً ، عن كعب بن مالك : أن كانَ عَليه ، فقسمه بين غرمائه ، فأصابهم خَمسة أسْبَاع حقوقهم ، فقال لهم النبي ( : " ليس لكم إلا ذلك " .
    ج- الاختيار ، فلا يصحّ وقف المكره ، لأن الاختبار شرط من شروط التكليف
    وقف المريض مرض الموت :
    ...
    ... المريض إذا كان في حالة من المرض يغلب فيها الهلاك ، وتُفضي على الموت غالباً ، فإنه لا يجوز وقفه فيما زاد على ثلث ماله ، رعاية لحق الورثة في التركة ، أما في الثلث فما دونه ، فإنه يجوز وقفه رعاية لمصلحته ، في الحصول الأجر والثواب له بعد موته . دلّ على ذلك ما رواه البخاري ( 1233 ) في ( كتاب الجنائز ) ، باب ( رثي النبيُّ ( سعد بن خَوْلة ) ، ومسلم (1628 ) في ( كتاب الوصية ) ، باب ( الوصية بالثلث ) ، عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال : كانَ رسول الله ( يَعودُني عام حَجَّةَ الوَداع ، منْ وَجَع اشتد بي ، فقلت : إني قد بلغ بي من الوجع ، وأنا ذو مال ، ولا يرثني إلا ابنة ، أفأتصدَّق بثلثي مالي ، قال : " لا " ، فقلت : بالشطر ، فقال : " لا " ثم قال : " الثلث ، والثلثُ كبير ، أو كثير ، إنَّك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " .
    ... [ الشطر : النصف .
    ... عالة : فقراء .
    ... يتكففون : يسألون بأكُفِّهم ، أو يطلبون ما في أكفّ الناس ] .
    وقف الكافر :
    ... قال علماء الشافعية : يصحّ وقف الكافر ولو لمسجد ، وإن لم يعتقده قُربة ، اعتباراً باعتقادنا ، ولأنه من أهل التبّرع ، ومثل هذه التبرعات لا تحتاج في صحتها إلى نيّة ، والنيّة معلوم أن شرطها الإسلام . والكافر يُثاب على نفقاته وصدقاته في الدنيا ، أما في الآخرة فلا حظّ له بشئ من الثواب .
    ... روى مسلم ( 2808 ) في ( كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ) ، باب
    ( جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا ) ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : رسول الله ( :" إن الله لا يَظلمُ مؤمنا حَسنةً ، يعطي بها في الدنيا ، ويُجزَى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها الله في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُجزى بها " .
    ... [ أفضى إلى الآخرة : صار إليها ] .
    2- شروط الموقوف :
    ... وللموقوف شروط نذكرها فيما يلي :
    أ – أن يكون الموقوف عيناً معيَّنة ، فلا يصح وقف المنافع وحدها دون أعيانها ، سواء كانت هذه المنافع مؤقتة ، كأن سكنى داره سنة ، أم كانت مؤبدة ، كأن وقفها أبداً ، وذلك أن الرقبة هي الأصل ، والمنفعة فرع ، والفرع يتبع الأصل ، فما دام الأصل باقياً على ملك الواقف كانت المنفعة كذلك باقية على ملكه ، فلا تنفصل وحدها بالوقف .
    ... وكذلك لا يصح الوقف إذا لم يكن العين الموقوفة معيَّنة ، فلو أنه وقف إحدى دارَية ، أو إحدى سيّارتَيه من غير تعيين للموقوف ، فإن هذا الوقف غير صحيح لعدم بيان العين الموقوفة ، وكان قوله هذا أشبه بالعبث ، لا بالجدّ .
    ب-أن يكون الموقوف مملوكاً للواقف ملكاً يقبل النقل ، ويحصل منه فائدة ، أو منفعة .
    ... وعلى هذا لا يصحّ أن يقف الإنسان شيئاً لا يملكه ، لأن في الوقف نقلاً لملكية الموقوف من حَوْزة المالك . وما لا يملكه كيف تُنقل ملكيته منه . لذلك كان وقْفُ ما لا يملك لا غياً .
    ... ومن هذا القبيل عدم صحة أن يقف الإنسان الحرّ نفسه ، لأن رقبته ليست مملوكة له ، حتى يخرجها بالوقف عن ملكه ، بل ملكيتها لله تعالى .
    ... وكذلك لا يصحّ وقف حمل الدواب وحدها دون أُمهاتها ، لأن الحمل وحده لا يصحّ نقل ملكيته ما دام في بطن أُمه ، نعم إذا وُقفت الأُم صحّ وقف الحمل تبعاً لها .
    ... وكذلك يجب أن يكون الموقوف ذا منفعة تُرجى وفائدة تُقصد ، فلو أنه وقف أرضاً لا تصلح لزرع أو بناء ، أو ثياباً ممزقة لا تنفع في شئ ، فإن هذا الوقف غير صحيح ، لأن مقصود الوقف حصول المنفعة ، وهذا لا فائدة منه لا منفعة فيه .
    ج- دوام الانتفاع بالموقوف ، فلا يجوز وقف الطعام ونحوه ممّا لا تكون فائدته إلا باستهلاك عينه .
    ... والمقصود بدوام الانتفاع بالموقوف الدوام النسبي لا الأبدي ، أي إنه يبقى مدة يصحّ الاستئجار فيها ، أي تقابل تلك المنفعة بأُجرة ، فلو وقف سيارة ، أو دابّة صحّ هذا الوقف وإن كانت السيارة لا تبقى منفعتها أبداً ، بل قد يصيبها التلف والعطب ، وكذلك الدابة . هذا ، ولا يشترط الانتفاع بالموقوف حالاً ، بل يُكتفى بالانتفاع به ولو مالاً ، فلو وقف دابة صغيرة صحّ الوقف ، لأنه يمكن الانتفاع بها في المال .
    د- أن تكون منفعة الموقوف مباحة ، لا حُرمة فيها ، وعليه فلا يصحّ وقف ما كانت منافعه محرّمة كآلات اللهو ، وما أشبهها ، لأن الوقف قُربة والمعصية تنافيه .
    وقف إمام المسلمين وخليفتهم
    من بيت مال المسلمين
    ... ولقد أجاز علماء الشافعية لإمام المسلمين وخليفتهم أن يقف شيئاً من أرض بيت مال المسلمين ، إذا رأى في ذلك مصلحة لهم ، واستثنوا هذا من شرط ملكية الواقف للوقف ، فإن الخلفية لا يملك أموال بيت مال المسلمين ، ومع ذلك صحَّحوا وقفه هذا ، واستدلوا لذلك بوقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه سواد العراق . قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في " الروضة " : ( لو رأى الإمام وقف أرض الغنيمة ، كما فعل عمر رضي الله عنه ، جاز إذا استطاب قلوب الغانمين في النزول عنها بِعوضَ أو بغيره ) .
    ...
    وقف العقارات
    ... يجوز وقف العقارات من أرض ، أو دور ، أو متاجر أو آبار ، أو عيون ماء : أيّاً كانت تلك الأرض ، أو تلك الدور ، والمتاجر والآبار والعيون ، ما دامت صالحة للانتفاع بها حالاً ، أو مآلاً .
    ... دلّ على ذلك الكتاب والسنّة ، وعمل الصحابة رضي الله عنهم ، فقد سبق أن نقلنا ما قاله جابر رضي الله عنه : ( ما بقى أحد من أصحاب رسول الله ( له مقدرة إلا وقف ) ، وقول الشافعي رحمه الله تعالى : ( بلغني أن ثمانين صحابياً من الأنصار تصدَّقوا بصدقات محرمات ) ، أي وقفوا أوقافاً .
    ... ومعلوم أن أكثر ما كانوا يقفونه إنما هو الأراضي ، والدور ، والآبار .
    وقف الأموال المنقولة
    ...
    ... وكذلك يصحّ وقف الأموال لمنقولة : كالدواب ، والسيارات ، والآت الحرب ، والثياب ، والفرش ، والأواني ، والكتب النافعة .
    ... ودليل ذلك ما رواه البخاري ( 2698 ) في ( الجهاد ) ، باب ( مَن احتبس فرساً ) ، والنسائي ( 6/ 225 ) في ( الخيل ) ، باب ( علف الخيل ) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ( : " مَن احْتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده ، فإن شِعَبَةُ ورية وروْثه وبوله في ميزانه يوم القيامة ".
    ... [ احتبس : وقف ] .
    ... وروى البخاري ( 1399 ) في ( كتاب الزكاة ) ، باب ( قول الله تعالى : ( وَفِي الرِّقَابِ ........... وَفِي سَبِيلِ اللّهِ ( ، ومسلم ( 987 ) في ( كتاب الزكاة ) ، باب ( تقديم الزكاة ومنعها ) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : ( وأما خالد ، فإنكم تظلمون خالداً ، فقد احتبس أدراعه وأعتدة في سبيل الله ) .
    ... [ احتبس : وقف . أدراعه : جمع درع ، وهو الزرد . أعتده : جمع عتاد ، وهو ما أعدّه الرجل من السلاح والدواب ، والآت الحرب ] .
    وقف المشاع
    ... المشاع هو الشئ المملوك المختلط بغيره بحيث لا يتميَّز بعضه عن بعض
    ... والمشاع أيضاً يصحّ وقفه ، سواء كان من المنقولات ، أم من العقارات ، سواء وقف الشخص الواحد جزءاً شائعاً ، أم وقف الجماعة أجزاء شائعة ، لا فرق بين هذا وذاك ، فكل جائز شرعاً .
    ... ودليل ذلك ما رواه النسائي ( 6/ 230، 231 ) في ( الاحتباس ) ، باب
    ( كيف يكتب المحتبس ) ، عن ابن عمر رضي الله عنهما : قال عمر رضي الله عنه للنبي ( : إن المائة السهم التي لي بخيبر لم أصب مالاً قط أعجب إلى منها قد أردت أن أتصدق بها ، فقال النبي ( : " احبس أصلها وسبل ثمرتها " .
    ... وروى البخاري ( 2619 ) في ( كتاب الوصايا ) ، باب ( إذا أوقف جماعة أرضاً مشاعاً فهو جائز ) ، عن أنس رضي الله عنه قال : أمر النبي ( ببناء المسجد ، فقال : " يا بني النجار ، ثامنوني بحائطكم هذا " ، قالوا : لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله .
    ... [ ثامنوني بحائطكم : ساوموني ببستانكم وخذوا ثمنه ] .
    ... قال الخطيب الشَّربيني في كتابه " مغنى المحتاج ، إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج " للإمام النووي رحمه الله تعالى : ( واتفقت الأمة في الأعصار على وقف الحُصر والقناديل في المساجد من غير نكير ) .
    3- شروط الموقوف عليه :
    ... الموقوف عليه قسمان :
    ... معَّين ، واحداً فأكثر .
    ... غير معَّين ، كالوقف على الجهات ، كالفقراء مثلاً . ولكل قسم منهما شروط .
    شروط الموقوف عليه المعَّين
    ... إذا كان الموقوف عليه معيناً ، واحداً فأكثر ، اشترط فيه الشرط التالي :
    ... إمكان تمليكه عند الوقف عليه ، وذلك بأن يكون موجوداً في واقع الحال .
    ... فلا يصحّ الوقف على ولد له ، والواقع أنه ليس له ولد . وكذلك لو وقف على الفقراء من أولاد فلان ، ولا فقير فيهم عند الوقف ، فإن هذا الوقف غير صحيح . ولا يصحّ الوقف أيضاً على جنين ، ولا على ميت ، ولا على دابة ، ولا على دار . وغير ذلك مما لا يتصور صحة تملكهم في حال الوقف عليهم .
    ... وعليه فلا يصحّ وقف المصحف وكتب العلم الشرعية على غير مسلم لعدم جواز تمليكه إيّاها . ولا يصحُ وقف من الواقف على نفسه أصالة ، لعدم الفائدة في ذلك ، لأنه من باب تحصيل الحاصل ، فهو ملكه قبل الوقف ، ولم يحدث بعد الوقف شئ جديد .
    الوقف على الكافر
    ... أجاز علماء الشافعية والوقف على كافر إذا كان ذمياً معيّناً ما دام الواقف لا يقصد بوقفه عليه معصية ، وذلك لأن الصدقة تجوز على الذمِّي ، فكذلك الوقف جائز عليه .
    ... فإذا لوحظ عند الوقف عليه مراعاة معصية ، كما لو وقف على خادم كنيسة لخدمته الكنيسة ، فإن هذا الوقف غير صحيح ، وذلك لمنافاة المعصية المشروعية الوقف .
    ... والمُعاهَد والمستأمن في صحة الوقف عليهما كالذميّ ، وما داما حالِّيْن في ديار المسلمين ، سارية عليهما عهودهم .
    ... أما الكافر الحربي والمرتد ، فلا يصحّ الوقف عليهما ، لأنهما ما داما كذلك ، فلا دوام لهما ، ولا يُقرِّان على كفرهما ، والوقف صَدَقَة جارية فكما لا يصحّ وقف ما لا دوام له ، لا يصح أيضاً الوقف على من لا دوام له . فقد ورد الشرع بقتالهما وقتلهما .
    ... روى البخاري ( 25 ) في ( كتاب الإيمان ) ، باب ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم ) ، ومسلم ( 22 ) في ( كتاب الإيمان ) ، باب ( الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ) ، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، قال : رسول الله ( : " أمرت أن أُقاتلَ الناس حَتَّى يشهدُوا أن لا إله إلا الله ، وأنَّ مُحمداً رسولُ الله ، ويُقيموا الصلاة ، ويُؤتُوا الزكاة ، فإذا فَعلُوا ذلك عَصَمُوا مّني دماءهم إلا بحقِّ الإسلام ، وحسابهم على الله " .
    ... [ عصموا مني دماءهم : حفظوها وحقنوها . إلا بحق الإسلام : أي إلا إذا فعلوا ما يستوجب عقوبة مالية أو بدنّية في الإسلام ، فإنهم يؤاخذون بذلك قصاصاً . وحسابهم على الله : أي فيما يتعلق بسرائرهم ، وما يضمرون ] .
    ... وروى البخاري ( 2795 ) في ( كتاب الجهاد ) ، باب ( لا يعذَّب بعذاب الله ) ، والترمذي ( 1458 ) في ( كتاب الحدود ) ، باب ( ما جاء في المرتد ) ، وغيرهما ، عن عكرمة رضي الله عنه : أن النبي ( قال : " مَن بدّل دينه فاقتلوه"
    شروط الموقوف عليه غير المعين :
    ... يشترط في الموقوف عليه غير المعين : كالفقراء ، والمساجد والمدارس وغيرها ، حتى يكون الوقف عليه صحيحاً شرعاً شرط واحد ، وهو :
    ... أن لا يكون في ذلك الوقف وقف على معصية من المعاصي ، لأن الوقف عندئذ إنما يكون إعانة على فعل المعاصي ، وتثبيتاً لوجودها ، والوقف إنما شُرِّع للتقرب إلى الله تعالى ، فهو والمعصية إذاً ضدّان لا يجتمعان .
    ... وبناءً على ما سبق ، فإنه لا يصحّ وقف يكون ريعه لمعابد الكفّار ، كالكنائس والبيعّ ، ولا على خدمتها ، وفرشها وقناديلها ، ولا على تأسيسها أو ترميمها ، وغير ذلك مما يتعلق بها .
    ... ومثل هذا وقف السلاح على أصحاب الفتن وقّطاع الطرق ، فإن ذلك لا يجوز أيضاً ، لأن فيه الإعانة على المعاصي ، كما سبق أن ذكرنا .
    ... يتضح مما سبق أن الوقف على الفقراء ، والعلماء والقرّاء والمجاهدين ، والكعبة والمساجد والمدارس والثغور ، والمستشفيات ، وتكفين الموتى ، كل ذلك جائز شرعاً ، بل هو قربة مستحبة ، دعا الدين إليها ، ووعد بالثواب عليها ، ودليل ذلك عموم تلك الأدلة التي دلّت على مشروعية الوقف ، والترغيب فيه ، وقد مرّ ذكرها .
    الوقف على الأغنياء
    ... هذا ويجوز شرعاً الوقف على الأغنياء لأن الصدقة تجوز عليهم ، وليس في الوقف عليهم معصية لله تعالى ، وكذلك فالوقف ، تمليك ، وهم أهل لهذا التمليك .
    حدّ الفقر والغني :
    ... لو وقف إنسان داراً ، وقال فيه : وقفتها ليكون ريعها للفقراء ، أو الأغنياء ، فمَن هو الفقير الذي يتناوله اللفظ ، ومن هو الغني أيضاً ؟
    الفقير :
    ... قالوا في تحديد الفقير في الوقف : إنه الفقير في الزكاة ، فما صحّت له الزكاة لفقره ، صحّ له الوقف لفقره أيضاً ، وما لا فلا .
    ... وعليه يجوز صرف الوقف على المساكين ، وهم أحسن حالاً من الفقراء لجواز صرف الزكاة إليهم ، ولا يجوز صرف الوقف إلى زوجة فقيرة لها زوج يَمُوْنها وينفق عليها ، ولا على أولاد مكفيِّين بنفقة أبيهم ، لأن الزكاة لا يجوز صرفها إليهم .
    الغنيّ :
    ... قالوا في تحديده : إنه مَن تحرم عليه الزكاة ، إما لملكه ، أو لقوّته وكسبه ، أو كفايته بنفقة غيره .
    الوقف على سبيل الخير ، أو سبيل الله
    ... لو قال الواقف في وقفة : وقفت أرضي ليكون ريعها في سبيل البِّر أو الخير ، أو الثواب ، فمن يستحق ريع هذا الوقف ؟
    ... وجوابه : أن الذي يستحق ريع هذا الوقف إنما هم أقرباء الواقف ، فإن لم يوجدوا ، فأهل الزكاة ما عدا العاملين والمؤلّفة قلوبهم .
    أما لو قال : في سبيل الله ، فإنما يستحق ذلك الريع الغزاة الذين هم " أهل الزكاة
    ... فإن جمع في وقفه بين سبيل الله وسبيل البر وسبيل الثواب ، كان ثلث هذا الوقف للغزاة ، وثلثه لأقرباء الواقف ، والثلث الأخير لأصناف الزكاة ماعدا العاملين عليها والمؤلّفة قلوبهم .
    الوقف على زخرفة المساجد
    وعمارة القبور
    قال الفقهاء : لا يصحّ الوقف على تزويق المسجد أو نقشه ، ولا على عمارة القبور ، لأن الموتى صائرون إلى البلى فلا يليق بهم العمارة ، ولا يجوز إضاعة المال وإتلافه في غير منفعة .
    ... أين هذا الذي قاله العلماء ، مما يفعله عّوام المسلمين اليوم ، وربما أقرّهم على ذلك علماؤهم ، أو سكتوا عليهم ؟ ! .
    ... فكم جمعوا أموالاً ، من الفقراء والأغنياء ، ومن غلاّت الأوقاف ، أو هبات الناس ليزوّقوا مسجداً ، أو ينقشوا فيه جداراً أو قُبَّة ، أو يضخِّموا فيه محراباً أو منبراً ، جاهلين أو متجاهلين أن ذلك سرف ممقوت ، وإضاعة مال في افتتان قلوب الناس في صلاتهم ، وشغل أفكارهم بهذه الزخارف عن عباداتهم !! كأنهم لم يقرؤوا قول الله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ{1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } [ المؤمنون : 1-2 ] . ومن أين يأتي الخشوع ، وبين يدي المصلى وفي قبلته وعن يمينه وشماله من الزخارف والنقوش ما يأخذ بقلبه ولُبّه ؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله .
    ... ومثل هذا السَرَف في المساجد السرف أيضاً في عمارة القبور ، وتسنيمها وتجصيصها ، وبناء القباب والقناطر عليها ، حتى ليخيَّل إليك أنها قصور وليست بقبور ، وكأن أصحابها أحياء ينعمون بتلك المباني !! .
    ... إن بعض الناس لينفقون من أموالهم على بناء قبورهم ، ويوصون أن تُجعل لهم قبور ضخمة فخمة يُوضعون فيها بعد موتهم ، فهذه وصايا باطلة شرعاً ، وأوقاف لاغية . قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في متن " المنهاج " : ( ويكره تجصيص القبور والبناء والكتابة عليه ، ولو بني في مقبرة مُسَبَّلة هُدم ) .
    ... قال الخطيب الشربيني في " مغني المحتاج " : ( يهدم البناء لأنه يضيق على الناس ، ولا فرق بين أن يبني قبة أو بيتاً أو مسجداً أو غير ذلك ) .
    وقف الكفّار على معابدهم
    ... قلنا فيما سبق : لا يجوز وقف المسلم مالاً على الكنيسة ونحوها ، لوجود المعصية في ذلك .
    ... وهنا نقول : لا نجوِّز للذمِّي أيضاً أن يقف لكنيسة أو معبد من معابدهم ، عملاً بشرعنا واعتقادنا ، هذا حين يترافعون إلينا ، ويطلبون منّا بيان الحكم في ذلك ، فإننا نقضي ببطلان أوقافهم على تلك الكنائس والبِيَع .
    ... أما إذا لم يترافعوا إلينا ، ولم يستفتونا في ذلك فإننا لا نتعرّض لهم ، ونتركهم وما يدينون به .
    ... أما ما وقفوه قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - على كنائسهم القديمة ، فلا نُبطله ، بل نقرّه حيث نقرّها .
    4- صيغة الوقف :
    ( 1 ) تعريف الصيغة :
    ... الصيغة : هي اللفظ المشعر بالمقصود ، أما ما يقوم مقام اللفظ ، كإشارة الأخرس المفهمة ، أو كتابته . ولا بدّ من الصيغة لصحة الوقف وإنشائه
    ( 2 ) أقسام الصيغة :
    ... الصيغة قسمان :
    أ – صريحة : وهي التي لا تحتمل إلا المعنى المراد ، مثل أن يقول وقفت داري على الفقراء ، أو هي موقوفة عليهم ، أو يقول : حبستها لهم ، أو سبّلتها لهم .
    ... ومثل هذه الألفاظ الصريحة الواضحة في الدلالة على المقصود لا تحتاج إلى نيّة لصحة الوقف ، شأنها شأن كل لفظ صريح في العقود ، بل يكفي فيها النطق بها .
    كناية : وهي اللفظ الذي يحتمل مع المعنى المراد غيره ، كأن يقول : مالي صدقة على الفقراء ، أو حرمته لهم ، أو أبّدته عليهم ، وهكذا .
    ...
    ... ومن كناية أيضاً كتابة الناطق .
    ... والكناية لا بدّ فيها من النّية مع اللفظ ، شأنها شأن كل ألفاظ الكناية في العقود ، حتى تنشأ العقود صحيحة .
    ( 3 ) شروط صيغة الوقف :
    ... لصيغة الوقف – صريحة كانت ، أم كناية – شروط نذكرها فيما يلي :
    أ – أن تكون لفظاً من ناطق يشعر بالمراد ، أو كتابة من أخرس مُفصحة عن المقصود .
    ب-أن تكون الصيغة خالية من التوقيف ، فإن قال : وقفت أرضي على طلاب العلم سنة ، بَطُلَ الوقف ، لعدم صحة هذه الصيغة ، لوجود التوقيف فيها ، وذلك لأن مقتضى الوقف التأبيد ، والتوقيت يُنافيه .
    ما يُستثنى من شرط التوقيت :
    ... لقد استثنى العلماء من هذا الشرط – شرط التوقيت – المساجد ، والرُبُط والمقابر ، وما يجري مجراها مما يشبه تحرير الرقاب ، ويضاهيه ، فحكموا بصحة الوقف ، على التأبيد ، وألغْوا الشرط . رغبة في تصحيح الصيغة ما أمكن . فلو قال : وقفت أرضي هذه مسجداً ، أو مقبرة أو رباطاً سنة ، صحّ الوقف مؤبداً وأُلغي الوقت .
    ج- بيان مصرف الوقف ، فلو قال وقفت ، أو سبّلت كذا ولم يبيّن المصرف لم ينعقد الوقف ، لعدم معرفة الجهة التي وقف عليها .
    د- عدم التعليق ، فإن الوقف عقد يقتضي الملك في الحال ، فلا يصحّ تعليقه على شرط .
    ... فإذا قال . وقفت داري على الفقراء إذا جاء زيد ، وسبّلت سيارتي لهم إن رضيت زوجتي ، فالوقف باطل ، لمنافاة مقتضى العقد لمثل هذه الشروط كما سبق أن قلنا . ويستثنى من هذا الشرط أيضاً ما يشبه تحرير الرقاب كما سبق وذكرنا . فلو قال إذا جاء رمضان فقد وقفت داري مسجداً ، وصحّ الوقف .
    هـ - الإلزام ، فلا يصح فيه خيار شرط له ، أو لغيره ، وكذلك خيار المجلس . فلو قال : وقفت دابتي على الفقراء ، ولي الخيار ثلاثة أيام ، أو لي خَيار بيعها متى شئت ، بطل هذا الوقف لعدم تنجيز الوقف في الحال حسب مقتضى الوقف.
    اشتراط قبول الموقوف عليه المعَّين الوقف :
    ... إذا كان الوقف على معين ، مثل أن يقف داراً على خالد مثلاً ، اشترط لصحة هذا الوقف قبول الموقوف عليه المعيّن الوقف ، ويجب أن يكون هذا القبول متصلاً بالإيجاب ، وهو قول الواقف : وقفت داري هذه على خالد . فإذا قبل خالد بهذا الوقف صحّ ، وإذا ردّه بَطل .
    ... أما إذا كان الوقف على غير معين : كالوقف على الفقراء ، أو على المسجد ، فلا يشترط لصحة هذا الوقف القبول ، لتعذّر ذلك .
    انتفاع الواقف من وقفه :
    ... ليس للواقف أن ينتفع بشئ من وقفه – كما سبق وقلنا : ليس له أن يقف على نفسه – لأن الوقف إخراج لملكية الموقوف من ملك الواقف ، وكذلك منافعه ، ولكن العلماء استْثَنْوا من هذا ، ما لو وقف مُلكه مسجداً أو مقبرة ، أو بئراً ، فله أن يكون كباقي المسلمين في الانتفاع من هذا الموقوف . وعليه يصحّ له أن يصلّي في ذلك المسجد الذي وقفه ، وأن يشب من ماء تلك البئر ، وأن يُدفن في المقبرة أيضاً .
    ... ودليل هذا حديث عثمان - رضي الله عنه - ، قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة ، وليس بها ماء يستعذب ، غير بئر رُومة ، فقال : " من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة " فاشتريتها من صلب مالي .
    ... رواه الترمذي ( 3704 ) بسند حسن ، في ( المناقف ) ، باب ( مناقب عثمان ) ، ورواه النسائي ( 6 / 235 ) في ( الأحباس ) ، باب ( وقف المساجد ) ، ورواه البخاري ( 2626 ) تعليقاً في ( كتاب الوصايا ) ، باب ( إذا وقف أرضاً أو بئراً ، أو اشترط لنفسه مثل دِلاء المسلمين ) .
    ... وبئر رومة : كانت ليهودي في المدينة يبيع ماءها للمسلمين ، كل قربة بدرهم ، فاشتراها عثمان - رضي الله عنه - ، ووقفها على المسلمين ، على أن له أن يشرب منها ، كما يشربون .
    لزوم الوقف ، وما يترتب عليه من أحكام :
    ... الوقف من العقود اللازمة ، التي يترتب عليها آثارها بمجرد إنشاء العقد الصحيح ، وليس هو كالوصية ، فإنها عقد جائز .
    ويترتب على لزوم عقد الوقف الأحكام التالية :
    ...
    عدم ثبوت الخيار في عقد الوقف ، فإذا وقف صحيحاً ، فليس له خيار مجلس ، كما أنه ليس له خيار شرط أيضاً .
    انتقال ملكية الموقوف إلى الله سبحانه وتعالى ، فلا يحق للمالك الأصلي التصرّف في الوقف على سبيل الملكية لا بيع ولا هبة ، ولا غير ذلك .
    ج- انتقال حق الانتفاع بالوقف إلى الجهة التي كان لها الوقف ، خاصّة كانت ، ... أو عامّة .
    ملكية الموقوف :
    ... إذا وقف الواقف عيناً ، عقاراً ، أو سيارة ، أو سلاحاً ، أو غير ذلك انتقل مُلك رقبة الموقوف إلى الله تعالى ، فلا يكون الموقوف للواقف ، ولا للموقوف عليه .
    منافع الموقوف :
    ...
    ... منافع العين الموقوفة مُلك للموقوف عليه إذا كان الموقوف عليه معيَّناً ، وله أن يستوفي هذه المنافع بنفسه ، أو بغيره ، بإعارة وإجارة .
    ... ويملك أيضاً فوائد الوقف الحاصلة بعده ، كثمر الأشجار الموقوفة عليه وصوف ولبن وأولاد الدواب الموقوفة عليه أيضاً .
    ... أما إذا كان الموقوف عليه غير معين ، وإنما هو جهة من الجهات كالفقراء مثلاً ، فإنهم لا يملكون منفعة الموقوف ، بل يملكون حق الانتفاع بها .
    التصرّف بالموقوف :
    ... لا يجوز التصرّف برقية العين الموقوفة بيعاً أو شراءً أو إرثاً ، لا من قبل الواقف ، ولا من قبل الموقوف عليه ، معيناً كان الموقوف عليه ، أو غير معين ، بل تبقى على ملكية الله تبارك وتعالى ، تصرف منافعها إلى مَن وُقفت عليه ، ويعمل بها ما أمكن بما نصّ عليه الواقف .
    ... دلّ على ذلك وقْف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه نصّ في وقفه :
    ( أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث ) رواه البخاري ( 2586 ) ، ومسلم
    ( 1632 ) .
    نفقة الموقوف :
    ... إذا كان للموقوف نفقة يحتاجها : كطعام الدواب ، أو ترميم المباني ، أو إصلاح الآلات ، فإن هذه النفقة على الوقف تكون من حيث شرطها الواقف من ماله ، أو من مال الوقف ، فإن لم يشترط الواقف شيئاً كانت النفقة من غلاّت الوقف إن كان له غلّة ، فإن لم يكن للموقوف غلّة ، أو تعطّلت منافعه ، فالنفقة تَجِبْ في بيت مال المسلمين ، لأنه مرصود لمصالحهم ، وفي النفقة على الموقوف مصلحة لهم .
    هلاك الموقوف والأحكام المتعلقة به :
    ... قد يهلك الموقوف ، فتتعلق به عند هلاكه أحكام ، تختلف باختلاف العين الموقوفة الهالكة ، وباختلاف نوعية الهلاك ، وهذه الأحكام هي :
    إذا كان الموقوف بهيمة غير مأكولة فماتت اختصّ بجلدها الموقوف عليه ، لأنه أولى به من غيره ، فإن دُبغ الجلد عاد وقفاً عليه ينتفع به ، ولا يجوز له بيعه حفظاً على مقصد الواقف ما أمكن .
    إذا كان الموقوف بهيمة مأكولة ، وقطع الموقوف عليه بأنها ستموت من شئ نزل بها جاز ذبحها للضرورة ، ويُباع لحمها ويُشترى به دابة من جنسها وتوقف مكانها ، وقيل يُترك أمر لحمها للحاكم يفعل فيه ما يراه مصلحة .
    ج- إذا أُتلفت العين الموقوفة ، فإن على مُتلفها ضمان قيمتها ، وذلك كأن أتلفها أحد تعدِّياً ، لم يملك الموقوف عليه قيمة العين الموقوفة التالفة ، بل يُشتري بالقيمة عين مماثلة لها ، وتصبح وقفاً مكانها ، وذلك مراعاة لغرض الواقف من استمرار الثواب ، وتعلّق حق البطن الثاني وما بعده بها ، فإن تعذّر شراء عين كاملة ، فبعض عين ، لأنه أقرب إلى مقصود الواقف ، فإن تعذّر شراء البعض ، فإن الموقوف يعود إلى أقرب الناس إلى الواقف ، وأما إذا تلفت العين الموقوفة من غير ضمان ، أو تلفت بنفسها ، فقد انتهى الوقف بزوال العين الموقوفة .
    د- إذا تعطّلت منفعة العين الموقوفة بسبب غير مضمون ، كأن وقف أشجاراً فجفّت ، أو قلعها الريح أو السَّيْل ، ولم يمكن إعادتها إلى مغرسها قبل جفافها ، لم ينقطع الوقف ، بل تبقى موقوفة ينتفع بها جذوعاً بإجارة ونحوها ، إدامة للوقف في عينها ، ولا تُباع ولا تُوهب ، فإن لم يمكن الانتفاع بها إلا باستهلاكها بإحراق ونحوه جاز للوقوف عليه ذلك ، إلا أنه لا يجوز بيعها ولا هبتها .
    هـ - إذا كان الموقوف حُصُر مسجد ونحوها فبليت ، أو جذوعاً فانكسرت ، ولم تصلح إلا للإحراق جاز بيعها ، لئلا تضيع ، أو يضيق المكان بها من غير فائدة ، وتحصيل مال يسير من ثمنها يعود إلى الوقف أولى من ضياعها ، وعلى هذا ، فإن ثمنها يُصرف في مصالح المسجد ، ويقدم شراء مثيل للتالف إن أمكن
    ... أما إذا صلحت لغير الإحراق ، لم يجز بيعها ، محافظة على استيفاء عينها ، تمشياً مع غرض الواقف .
    و- إذا انهدم مسجد وتعذّرت إعادته لم يجز بيعه بحال ، لإمكان إعادته في وقت ما ، فإن كان لهذا المسجد غلّة تُصرف على مصالحه ، فإن توقعنا عوده حفظت غلّته ، وإن لم نتوقع عوده جار صرف غلّته إلى أقرب المساجد إليه .
    ز- إذا خيف على مسجد جاز للحاكم نقضه ، وبنى بحجارته مسجداً آخر ، ولا يبني بحجارته وأنقاضه شيئاً آخر مراعاة لغرض الواقف .
    ... وبناؤه قريباً من المسجد المنقوض أولى .
    ح- ولو وقف أحد مالاً على قنطرة منصوبة على واد ، فانخرق الوادي وتعطلت القنطرة ، واحتاج الناس إلى قنطرة أخرى ، جاز نقل تلك القنطرة إلى محل الحاجة ، استبقاءً لمقصود الواقف ما أمكن .
    موت الموقوف عليه :
    إذا مات الموقوف عليه ، فإن عيِّن الواقف مصرفاً آخر غير ذلك الشخص الذي مات ينتقل إليه الوقف عند موته ، انتقل إلى الذي عيِّنه ، وذلك كأن يقول الواقف : وقفت هذه الدار ، أو السيارة على ولدي ، ثم على الفقراء . وإن لم يعيِّن مصرفاً آخر ينتقل إليه الوقف بقي الموقوف وقفاً ، وصرف إلى أقرب الناس للواقف يوم موت الموقوف عليه الأول .
    إذا وقف على شخصين ، ثم الفقراء : كأن قال وقفت أرضي على زيد وعمر ، ثم الفقراء ، فمات أحدهما ذهب نصيبه من الوقف إلى الشخص الآخر ، لأن الواقف شرط انتقال الوقف إلى الفقراء بموت الشخصين ، ولم يوجد ذلك .
    ج- إذا وقف شخصين ، وفصَّل بأن قال : وقفت على كل واحد منهما نصف هذه الدار ، ثم على الفقراء ، فهو وقفان ، فلا ينتقل نصيب أحدهما إلى الآخر ، بل ينتقل إلى الفقراء .
    حكم الوقف ابتداءً ودواماً :
    ... للوقف من حيث الابتداء والدوام أحكام متنوعة أهمها :
    إذا كان الوقف على موجود إلا إنه منقطع الآخر ، وذلك مثل قوله :
    وقفت هذه المكتبة على أولادي ، أو على زيد ، ثم نسله ، ولم يزد على ذلك ، صحّ الوقف ، لأن مقصود الوقف القربة والدوام ، فإذا بَّين مصرفه ابتداء سهَل إدامته على سبيل الخير ، فإذا انقرض المذكور بقي وقفاً ، ويصرف الوقف إلى أقرب الناس للواقف يوم انقراض المذكور ، لأن الصدقة على الأقارب من أفضل القربات ، فإن الصدقة على الأقارب ، صدقة وصلة ، كما جاء في حديث : رواه الترمذي ( 658 ) بسند حسن في ( كتاب الزكاة ) ، باب ( ما جاء في الصدقة على ذي القرابة ) والنسائي 8 ( 5 / 92 ) في ( الزكاة ) ، ( باب الصدقة على الأقارب ) ، وابن ماجه ( 1844 ) في ( الزكاة ) ، باب ( فضل الصدقة ) ، كلهم عن سلمان بن عامر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم ثنتان : صدقة وصلة " . ويختصّ الوقف عندئذ بفقراء قرابة الرحم ، لا الإرث ، فيقدم ابن بنت على ابن عم .
    إذا كان الوقف منقطع الأول ، كأن قال الواقف : هذه الدار على مَن سيولد لي ، ثم على الفقراء ، بطل هذا الوقف في الأول ، لعدم إمكان تمليكه في الحال ، كما مرّ بيانه ، وبطل في الثاني ، لأنه مرتب على الأول .
    ج- إذا كان الوقف منقطع الوسط ، كأن قال الواقف : وقفت هذا المتجر على أولاد خالد ، ثم على رجل ، ثم على الفقراء ، صحّ هذا الوقف ، لوجود المصرف في الحال ، والمآل ، ويصرف بعد أولاد خالد إلى الفقراء ، لا لأقرب الناس إلى الواقف ، لعدم معرفة أمد الانقطاع .
    الولاية على الموقوف :
    ... لا بدّ في الوقف من ناظر ينظر في أمره ، ويقوم على مصالحه ، والمحافظة عليه ، وإنفاق موارده في الجهات التي نصّ عليها الواقف .
    أحقّ الناس بالولاية على الوقف :
    ... أحقّ الناس بالولاية على الموقوف هو من يعيّنه الواقف نفسه .
    ... فإن شرط النظر على الوقف لنفسه ، كان له النظر عليه ، وكان أولى الناس به ، وإن شرطه لغيره واحداً كان أو أكثر اتُبع شرطه ، سواء فوّض الناظر بهذا النظر على الوقف حال حياته ، أم أوصى له به ، لأنه المتقرِّب إلى الله تعالى بالصدقة ، فيتبع شرطه في النظر كما يتبع في المصارف وغيرها . فإن جعل الولاية لفلان ، فإن مات فلفلان ، جاز تحقيقاً لرغبته في النظر على وقفه .
    ... وقد كان عمر - رضي الله عنه - يلي أمر صدقته ، ثم جعله لحفصة بنته رضي الله عنها تليه ما عاشت ، ثم يليه أولو الرأي من أهلها . رواه أبو داود ( 2879 ) في
    ( الوصايا ) ، باب ( ما جاء في الرجل يوقف الوقف ) وإن لم يشترط الواقف النظر على الوقف لأحد ، فالنظر عندئذ للقاضي ، لأن له النظر العام ، فكان أولى بالنظر في الوقف .
    شروط الوالي على الوقف :
    ... للناظر في الوقف شروط ، حتى يصح أن يكون ناظراً ، وهذه الشروط
    هي :
    العدالة ، وهي الاستقامة في أمور الدين ، وشرطت العدالة في الناظر ، لأن النظر ولاية ، والولاية لا تصح من غير عدل .
    الكفاية ، والمراد بها قوة الشخص وقدرته على التصرف فيما هو ناظر عليه ، واهتداؤه إلى محاسن أوجه التصرف .
    ... فإذا اختلّ في الناظر أحد هذين الشرطين نزع الحاكم الوقف منه ، ووليه هو بنفسه ، أو يوليه مَن أراد .
    ...
    ... فإن زال اختلاله ، وتحققت فيه شروط الولاية من جديد عاد إليه النظر على الوقف إن كان مشروطاً نظره في الوقت ، منصوصاً عليه بعينه من قبل الواقف نفسه .
    ... ولا يتصرف الناظر إلا في وجوه المصلحة ، والاحتياط ، لأنه ينظر في مصالح الغير ، فأشبه وليّ اليتيم .
    وظيفة الناظر على الوقف :
    ...
    ... للناظر على الوقف وظيفة نُجمِلها فيما يلي :
    القيام بشؤون الوقف من عمارة ، وإجارة وتحصيل غلّة ، وقسمتها على مستحقيها ، وحفظ الأصول والغلاّت على الاحتياط ، لأنه المعهود في مثله . وهذا التصرف إنما يتولاّه الناظر إذا أطلق الواقف له النظر ، أو فوّضه في جميع الأمور ، فإذا فوّض إليه النظر في بعض هذه الأمر لم يتعدّه اتباعاً لشرط الواقف ، شأنه في ذلك شأن الوكيل يتصرف في حدود ما وُكِّل به .
    إذا شرط الواقف النظر لاثنين لم يستقل أحدهما بالتصرّف ، ما لم ينصّ عليه ، فإن نصّ عليه جاز له التصرّف .
    أُجرة الناظر على الوقف :
    ... إذا شرط الواقف للناظر شيئاً من الريع جاز ، وكان له أخذه ، فإن لم يذكر الواقف للناظر أجرة ، فلا أجرة له .
    ... فلو رفع الناظر الأمور إلى الحاكم ، وطالب أن يقرِّر له أُجرة ، جاز للحاكم أن يقرِّر له الأجرة التي يراها مناسبة لعمله ، وهذا إذا لم يجد متبرعاً يقوم بالنظر على الوقف من غير أجر ، وللناظر أن يأكل من ثمرة الموقوف بالمعروف ، كما قال عمر - رضي الله عنه - : ( لا جُناح على مَن وليها أن يأكل منها بالمعروف ) .
    اختلاف الناظر والموقوف عليهم في النفقة :
    ... إذا ادّعى الناظر على الوقف صرف الريع إلى مستحقِّيه ، فأنكروا ذلك ، فإن كانوا معيِّنين ، فالقول قولهم ، ولهم مطالبته بالحساب ، وإن كان الموقوف عليهم غير معينين ، فللحاكم مطالبته بالحساب ، ويصَّدق في قدر ما أنفق عند الاحتمال ، فإن اتهمه الحاكم حلّفه .
    عزل الناظر :
    ... يُعزل الناظر بزوال أهليته كما مرّ ، وينعزل أيضاً بالإضافة إلى ذلك بعزل الواقف له ، ويصحّ الواقف له ، ويصحّ له عندئذ تولية غيره مكانه ، وذلك أن الناظر وكيل ، وللموكِّل عزل الوكيل متى شاء ، إلا أن يشرط الواقف نظره حال الوقف ، فلا يجوز له عزله ، ولو لمصلحة ، لأنه لا تغيير لما شرطه حال العقد ، كما لو وقف على أولاده الفقراء ، فلا يجوز تبديلهم بالأغنياء . لأنه كما قلنا لا تغيير لما شرطه في العقد .
    بعض مسائل الوقف :
    لو قال الواقف في وقفه : وقفت هذه الدار على أولادي ، وأولاد أولادي ، استحقّ الوقف جميعهم ، وقسم منافعه بينهم بالسوية ، لا فرق بين ذكر وأنثى ، وبين ولد وولد ولد ، لأن الواو لمطلق الجمع ، لا للترتيب ، كما هو الصحيح عند علماء الأصول .
    2- لو قال : وقفت هذه الدار على أولادي ، فإنه لا يدخل أولاد الأولاد في الوقف ، لأنه لا يقع عليهم اسم الولد حقيقة ، هذا إذا كان له أولاد ، وأولاد أولاد ، أما إذا لم يكن له إلا أولاد أولاد ، فإنهم يدخلون في اللفظ ، ويستحقّون الوقف ، لوجود القرينة ، وصيانة لكلام المكلّف عن الإلغاء .
    3- لو قال هذه الحديقة وَقْف على ذريتي ، أو نسلي ، أو عقبي : دخل فيه أولاد البنات ، وأولاد الأولاد ، قريبهم وبعيدهم ، وذكرهم وأنثاهم ، لأن اللفظ يشملهم .
    لو قال : وقَفْتُ أموالي على فقراء قرابتي ، دخل كل من اجتمع في النسب مع الواقف ، من فقراء قرابته ، سواء كان قريباً أم بعيداً ، ذَكَرَاً أم أنثى ، وارثاً أو غير وارث ، محرماً أو غير محرم .
    5- الصفة المتقدمة على جمل معطوفة تعتبر في الكل ، كما لو قال : وقفت هذه الأرض على محتاجي أولادي ، وأحفادي ، وإخوتي ، فصفة الحاجة مشروطة فيهم جميعاً ، وكذلك الصفة المتأخرة عليها ، كما لو قال ، وقفْتُ هذه الدار على أولادي ، وأحفادي ، وإخوتي الفقراء .
    6- لقد عُرف الوقف على القرابة والأولاد والأحفاد والذرية بالوقف الذري أو الأهلي .
    ...
    ... كما عرف الوقف على المصالح والجهات ، كالمساجد والمدارس ، والعلماء والفقراء بالوقف الخيري .
    الوقف
    من مفاخر المسلمين ومآثرهم الحميدة
    ... الوقف قربة من القربات ، وعبادة من العبادات ، والوقف يدل على صدق إيمان الواقف ، ورغبته في الخير ، وحرصه على مصالح المسلمين ، وحبّة لهم ولأجيالهم المتعاقبة . ومنافعهم المتلاحقة . ولقد ضرب المسلمون منذ عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم الأمثلة في ميادين الوقف ، فوقفوا أوقافاً لا تُحصى ، وسبّلوا أموالاً لا تُعدّ ، شملت أوقافهم جوانب كثيرة من جوانب الخير ، ونواحي المعروف ، ومرافق الحياة : مدارس ، مساجد ، مشافي ، أراضي ، مباني ، آبار ، مكاتب ، سلاح على الذراري ، على الفقراء ، على المجاهدين ، على العلماء ، وغير هذا كثير .
    ... فما تركوا ناحية من نواحي الحياة إلا وقفوا لها وقفاً ، وما من حاجة من حاجات المجتمع إلا حبسوا لها أموالاً ، ونظرة سريعة في ربوع العالم الإسلامي تنبئك عن أوقافهم التي وقفوها ، وأموالهم التي حبسوها في سبيل الله تبارك وتعالى ، اشترك في ذلك حاكمهم ومحكومهم ، قوّادهم وجنودهم ، تجّارهم وصنّاعهم ، ورجالهم ونساؤهم ، حتى غدا في كل بلد من بلدان المسلمين أوقاف يقدَّر ريعها بمئات الملايين ، وأصبح لهذه الأوقاف في كل قطر أقطارهم وزارة ، تدير تلك الأموال ، وتقوم عليها ، وهناك آلاف من الأُسر تعيش من ثمرات هذه الأوقاف وغلاّتها وهناك أيضاً مرافق كثيرة ، ومصالح عديدة ، استمرت ونَمَت في أحضان هذه الأوقاف ، وفي ربوع خيراتها . فجزي الله أولئك الصالحين خيراً ، وأجزل لهم الأجر والمثوبة . والأمر المؤسف والمُحزن ، أن الرغبة في أيامنا ، منذ أزمان قريبة قد قلت عند كثير من المسلمين في الوقف ، وشحّت نفوس كثيرين منهم في مثل هذه الصدقات الجارية ، والمَبَرَّات النافعة .
    ... وهذا مظهر مُحزن ، إن دلّ على شئ فإنما يدل على قلّة الرغبة في الأجر والثواب ، وضعف الإيمان بالآخرة ونعيمها ، وشدة الحب للدنيا وشهواتها ، وانشغال الناس بهذه الفانية ، وتفضيلها على الآخرة ونعيمها ، حتى صدق فينا قول الله تعالى { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [ الأعلى : 16 ] . وكأننا لم نسمع قوله تعالى : { وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [ الأعلى : 17 ] . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
    الوصية
    تعريف الوصية :
    ... الوصية في اللغة : الإيصال ، مأخوذة من : وصيت الشئ أصيه إذا وصلته
    ... والوصية ، والإيصاء في اللغة بمعنى واحد ، تقول : أوصيت لفلان بكذا ، أو أوصيت إلى فلان بكذا ، بمعنى عهدت إليه .
    ... وتكون الوصية اسم مفعول بمعنى المُوصى به ، ومنه قول الله تعالى :
    { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا } [ النساء : 12 ] . وتكون مصدراً بمعنى : الإيصاء ، ومنه قول الله عز وجل : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ } [ المائدة : 106 ] .
    ... لكن الفقهاء فرقوا بين اللفظين ، فقالوا : إن معنى أوصيت إليه : عهدت إليه بالإشراف على شؤون القاصرين مثلاً . وخصّوا هذا بالوصاية والإيصاء . ومعنى أوصيت له : تبرّعت له وملِّكته مالاً وغيره . وخصّوه بالوصية .
    ... والوصية شرعاً : تبرّع بحق مضاف لما بعد الموت . وسمي هذا التبرع بالوصية ، لأن المُوصي قد وصل به خير عُقْباه بخير دنياه .
    الفرق بين الوصية وبين أنواع التمليك الأخرى :
    ... يتبيَّن من تعريف الوصية ، وبين غيرها من أنواع التمليك الأخرى ، إذ إن التمليك في الوصية مضاف إلى ما بعد الموت ، بينما هو في العقود الأخرى كالهبة مثلاً تمليك في حال الحياة .
    دليل مشروعية الوصية :
    ... الوصية مشروعة ويدل على مشروعيتها الكتاب الكريم ، والسنّة النبوية الشريفة ، وعمل الصحابة رضي الله عنهم ، وإجماع علماء المسلمين .
    ... - أما الكتاب فقول الله عز وجل : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } [ البقرة :180 ] .
    ... [ كتب : فرض . خيراً : مالاً . بالمعروف : بالعدل ، الذي ليس فيه ظلم للورثة ] .
    ... وقوله تبارك وتعالى : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } [ النساء : 11 ] .
    ... وقوله عز من قائل : { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } [ المائدة : 106 ] .
    ... - أما السنّة فأحاديث عدّة :
    ... منها ما رواه البخاري ( 2587 ) في كتاب ( الوصايا ) ، باب ( الوصايا ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " وصية الرجل مكتوبة عنده " ) ، ومسلم ( 1627 ) في أول كتاب الوصية ، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
    " ما حق امرئ مسلم ، له شئ يوصى فيه ، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " .
    ... [ ما حق : لا ينبغي له ، وليس من حقه . إذ الحزم والاحتياط أن تكون وصيته مكتوبة عنده ، لأنه لا يدري متى يأتيه الموت ، فيحول بينه وبين ما يريد ] .
    ... ومن السنّة أيضاً ما رواه ابن ماجه ( 2700 ) في ( الوصايا ) ، باب
    ( الحث على الوصية ) ، عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
    " المحروم من حُرم الوصية " ، وقال عليه الصلاة والسلام : " من ماتَ على وصية مات على سبيل وسُنَّة ومات على تُقَىً وشهادة ، ومات مغفوراً له " رواه ابن ماجه ( 2701 ) في ( الوصايا ) ، باب ( الحث على الوصية ) .
    ... - أما الصحابة رضي الله عنهم ، فقد كانوا يوصون ببعض أموالهم تقرباً الله تعالى .
    ... أخرج عبد الرزاق بسند صحيح : أن أنساً رضي الله عنه قال : ( كانوا – أي الصحابة – يكتبون في صدور وصاياهم : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا ما أوصى به فلان بن فلان ، أن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ويشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم ، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين ، وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب : { إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ البقرة : 132 ] .
    ... - أما الإجماع ، فقد انعقد إجماع فقهاء المسلمين منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم على جواز الوصية ، ولم يؤثر عن أحد منهم منعها .
    الصدقة في حال الحياة أفضل من الوصية :
    ... الصدقة المُنجزة في حال الحياة ، أفضل ، وأكثر ثواباً ، وأعظم أجراً من تلك الصدقة التي يتصدّق بها الإنسان بعد موته ، وهي الوصية ، لأن الصدقة في الحياة ، أسبق في تحصيل الأجر والثواب ، وأكثر دلالة على صدق المؤمن في إيمانه ، ورغبته في الخير والإحسان ، وحبه لهما .
    ... قال تعالى : { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } [ المائدة : 48 ] ، وقال تبارك وتعالى : { وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } [ المنافقون : 10 ]
    ... روى البخاري ( 1353 ) في ( الزكاة ) ، باب ( أيّ الصدقة أفضل .. ) ، ومسلم ( 1032 ) في ( الزكاة ) ، باب ( أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح ) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله ، أي الصدقة أعظم أجراً ؟ قال : " أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر ، وتأمل الغني ، ولا تمهل حتى ، إذا بلغت الحلقوم ، قلت : لفلان كذا ، ولفلان كذا ، وقد كان لفلان " .
    ... [ شحيح : أي من شأنك الشح ، وهو البخل مع الحرص . بلغت الحلقوم : قاربت الروح الحلق ، والمراد شعرت بقرب الموت . لفلان كذا : أي أخذت توصي وتتصدق . وقد كان لفلان : أي أصبح مالك ملكاً لغيرك ، وهم الورثة ] .
    ... وروى الترمذي ( 2124 ) في ( الوصايا ) ، باب ( ما جاء في الرجل يتصدق أو يعتق عند الموت ) ، عن أبي الدرداء ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " مثل الذي يعتق عند الموت كمثل الذي يُهدي إذا شبع " .
    حكمة مشروعية الوصية :
    ... مقتضى القواعد الشرعية أن تكون الوصية غير جائزة ، لأنها مضافة إلى زمن قد انقطع فيه حق الموصي في ماله ، إذ الموت مُزيل للمُلك ، ولكن الشرع الحكيم أجاز الوصية ، لما فيها من مصلحة للموصي ، ولأقربائه وللمجتمع ، أما مصلحة الموصي ، فهي ما يناله من الأجر والثواب على وصيته ، والذكر الحسن الجميل بعد مماته .
    ... وأما مصلحة أقربائه فإن الغالب في الوصايا أن تكون للأقرباء الذين لا يرثون بموجب نظام الإرث في الشريعة الإسلامية ، فيستحقون بالوصية قدراً من المال ، وهم – غالباً – ممُن يحتاجون إليه .
    ... وأما مصلحة المجتمع ، فإن الوصية باب من أبواب الإنفاق في وجوه الخير العامة ، كالمساجد والمدارس والمكتبات ، والمستشفيات وغيرها ، وفي الجهات العامة كذلك كالفقراء ، والأيتام والعلماء .
    ... وبهذا كانت الوصية من قوانين التكافل الاجتماعي في نظام الإسلام ، ولا يخفى ما في ذلك من خير وفائدة .
    حكم الوصية : ...
    ... كانت الوصية في أول الإسلام واجبة بكل المال للوالدين والأقربين .
    ... وذلك بدليل قوله تعالى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 180 ] .
    ... [ كتب : فرض . خيراً : مالاً ] .
    ... لكن هذا الوجوب نسخ ، بآيات المواريث ، وبالنسّبة أيضاً ، وبقي استحبابها في وجوه الخير ، في الثلث فما دونه لغير الوارث .
    ... روى أبو داود ( 2869 ) في ( الوصايا ) ، باب ( ما جاء في نسخ الوصية للوالدين والأقربين ) ، والترمذي ( 2118 ) في ( الوصايا ) ، باب : رقم 2 ، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال : { إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } فكانت الوصية كذلك ، حتى نسختها آية المواريث .
    ... وروى عمرو بن خارجة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، خطب على ناقته ، وأنا تحت جرَانها ، وهي تقصع بجرتها ، وإن لعابها يسيل بين كتفي ، فسمعته يقول : " إن الله عز وجل أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث ) ، والولد للفراش ، وللعاهر الحجر " .
    رواه الترمذي ( 2122 ) في ( الوصايا ) ، باب ( ما جاء لا وصية لوارث ) ، ورواه النسائي ( 6 / 247 ) في ( الوصايا ) ، باب ( إبطال الوصية للوارث ) .
    ... [ جرانها : باطن عنقها مما يلي الأرض . بجرتها : ما تخرجه من بطنها لتجتره . تقصع : تمضغه بشدة . العاهر : الزاني . وإنما قال : له الحجر ، لأنه لا شئ له في الولد . أو أنه يرجم بالحجر ] .
    ... وروى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه ، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث " .
    أخرجه أبو داود ( 2870 ) في ( الوصايا ) ، باب (ما جاء في الوصية للوارث)
    أحكام أخرى للوصية :
    ... قلنا : إن الوصية مندوبة في وجوه الخير ، ولغير وارث ، لكنها قد يعتريها أحوال أخرى تُخرِجها عن الندب إلى :
    أ- الوجوب :
    ... ... فتجنب الوصية فيما إذا كان الإنسان حق شرعي لله تعالى ، كزكاة وحج ، وخشي أن يضيع إن لم يوص به . وكذلك حق لآدمي ، كوديعة ودين ، إذا لم يعلم بذلك من يثبت هذا الحق بقوله .
    ب- الحرمة :
    ... وتحرم الوصية إذا كانت بما حرّم الشرع فعله ، كالوصية بخمر ، أو إنفاق في مشاريع مؤذية للأخلاق العامة ، وهذه الوصية مع حرمتها باطلة ، لا تنفذ .
    ... ومن الوصية المحرمة ، الوصية بقصد الإضرار بالورثة ، ومنعهم من أخذ نصيبهم المقدر لهم شرعاً .
    ... وقد نهى الله تبارك وتعالى عن الإضرار بالوصية ، فقال عز من قائل :
    { غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } [ النساء : 12 ] .
    ... روى أبو هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ، ثم يحضرهما الموت ، فيضاران في الوصية ، فتجب لهما النار ، ثم قرأ أبو هريرة : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ } إلى قوله تعالى { وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } " .
    ...
    ... وتمام الآيتين : { وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ{12} تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [النساء : 12 : 13 ] .
    ... أخرجه أبو داود (2867) في ( الوصايا ) ، باب ( الإضرار في الوصية).
    ج- الإباحة :
    ... وهي الوصية لصديق ، أو لغني لم يوصفا بالعلم أو الصلاح ، فإن نوى في الوصية إليهما البر والصلة كانت الوصية مندوبة ، لما فيها من معنى الطاعة
    د- الكراهة :
    ... وتكره الوصية ، إذا كان الموصي قليل المال ، وكان له ورثة فقراء يحتاجون إلى المال ، كما تكره لأهل الفسق والمعاصي ، إذا غلب على ظن الموصي أنهم يستعينون بها على معاصيهم .
    أركان الوصية ، وشروط كل ركن :
    ... للوصية أربعة أركان ، وهي :
    ... الموصى ، والموصى له ، والموصي به ، الصيغة .
    ... ولكل ركن من هذه الأركان شروط ، لا بدّ من تحققها ، وإليك بيان ذلك :
    شروط الموصي : ...
    ... تصحّ الوصية ممّن اجتمعت فيه الشروط التالية :
    العقل ، وهو شرط لا بد منه ، وخاصة في الهبات والتبرعات ، فلا تصح الوصية من مجنون ومعتوه ، ولا من مغمى عليه ، ولا من سكران غير متعد بسكره ، لفقد هؤلاء العقل الذي هو مناط التكليف ، ففقدوا بذلك أهلية التبرع .
    ب- البلوغ ، وهو مناط التكليف كما قلنا ، وعليه فلا تصح الوصية من صبي ، ولو كان مميزاً ، لأنه ليس أهلاً للتبرع .
    ج- الاختبار ، فلا تصح من مكره ، لأن الوصية تبرّع بحق ، فلا بدّ فيه من رضا المتبرع واختباره .
    د – الحرية ، فلا تصح وصية من رقيق ، قنا كان ، أم مدبراً ، أم مكاتباً ، لأن الرقيق ليس بمالك ، بل هو وما معه مُلك لسيده .
    ... والشرع جعل الوصية حيث التوارث ، والرقيق لا يورث ، فلا يدخل في الأمر بالوصية .
    ... وبناءً على ما ذكر من شروط في الموصي ، فإنه تصح وصية :
    الكافر ، لأنه أهل للتبرع .
    المحجور عليه بسفه ، لصحة عبارته ، واحتياجه للثواب بعد موته .
    شروط الموصي له :
    ... الموصي له قسمان : معين ، وغير معين .
    ... ولكل منهما شروط تخصه :
    شروط الموصي له المعيَّن :
    ... يشترط في الموصى له المعين الشروط التالية :
    أن يكون ممن يتصور له الملك عند موت الموصي ، فلا تصح الوصية ليمت ، ولا الدابة ، لأن الميت ليس أهلاً للملك ، وكذلك الدابة ، هذا إذا لم يفصل الوصية للدابة ، فلو فصَّلها ، بأن أوصى بالصرف على علفها صحت الوصية ، وتكون عندئذ لمالكها ، لأن علفها عليه ، ويُلزم بصرف الوصية على علف الدابة ، رعاية لغرض الموصي .
    ... بناءً على ما ذكر ، فإنه تصح الوصية لحمل موجود عند الوصية ، وتنفذ إن انفصل عن أمه حياً حياة مستقرة لأقل من ستة أشهر ، لأنها أقل مدة الحمل.
    ب- عدم المعصية ، فلا تصح لكافر بعبد مسلم ، ولا بمصحف أيضاً ، كما لا تجوز الوصية لأهل الحرب بسلاح أو مال لوجود المعصية في كل ذلك .

    ج- أن يكون معيناً ، فلا تصح الوصية لأحد هذين الرجلين ، لأن الموصي له مجهول ، والجهالة تمنع من تسليم الموصي به إلى الموصي له ، فلا تفيد الوصية .
    د- أن يكون موجوداً عند الوصية فلا تصح لحمل سيوجد ، ولا لمسجد سيبني .
    ... ومما يلحق بالوصية لمعين الوصية لعمارة مسجد ، إنشاءً وترميماً ، أو لمصالحه .
    ... وفي معنى المسجد المدرسة ، والرباط ، والمستشفى ، لأن في ذلك قربة ، ولهذه الأشياء شخصية اعتبارية ، فالوصية لها مثل الوقف عليها .
    ... ولو أطلق لفظ الوصية ، بأن قال : أوصيت لهذا المسجد ، ولم يذكر عمارة ولا غيرها من مصالحه ، صحت الوصية ، وصرفت لمصالح المسجد ، لأن العرف يقضي بذلك .
    ... ومن خلال ما ذكر من الشروط يتبين أنه تصح الوصية للقاتل ، لأنها تمليك بعقد فأشبه الهبة . وكذلك تصح لوارث إن أجاز باقي الورثة ، كما سيأتي
    شروط الموصي له غير المعين :
    ... يشترط في الوصية لغير المعين ، كجهة من الجهات العامة مثل الفقراء والعلماء ، والمساجد والمدارس ، أن لا تكون الوصية لجهة معصية ، أو مكروه ، فلا تصحّ الوصية لإقامة معبد لغير المسلمين ، أو بناء ملهى تضيع فيه أوقاتهم ، ويتلهون فيه عن مصالحهم ، وأداء واجباتهم .
    ... ومن الجهات العامة التي تجوز الوصية لها الجهات التالية :
    في سبيل الله ، فلو قال : أوصيت بثلث مالي في سبيل الله ، صحّت وصيته ، لأن النفقة في سبيل الله قربة ، وتُصرف هذه الوصية إلى الغزاة من أهل الزكاة ، الوارد ذكرهم في قول الله تبارك وتعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ } [ التوبة : 60 ] .
    لأن هذا الاسم قد ثبت لهم في عرف الشرع فيحمل عليهم .
    معاينة عدد المشاهدات :
    تحميل عدد التحميلات :

    ليست هناك تعليقات: