• 20‏/4‏/2016

    الشافعية الفقه - احكام الطلاق ج 16

    إذا طلق الزوج زوجته ثلاث تطليقات ، سواء كنّ متفرقات ، أم مجتمعات بلفظ واحد ، وسواء كان الطلاق قبل الدخول ، أو بعد الدخول ، بانت منه الزوجة ، ولم يعد له من سبيل إليها ، سواء أثناء العدّة أو
    بعدها ، إلا بعد اجتيازها خمس مراحل من الشروط :
    1ـ أن تنقضي عدّتها من زوجها .
    2ـ أن يعقد نكاحها بعد انقضاء عدّتها على زوج غير الأول عقداً طبيعياً صحيحاً .
    3ـ أن يدخل بها هذا الزواج الثاني دخولاً حقيقياً .
    4ـ أن يطلّقها بعد ذلك .
    5ـ أن تنقضي عدّتها منه .
    ثم إذا أراد بعد ذلك زوجها الأول أن يعود إليها كان له ذلك ، لكن بناءً على رضاها ، وبعقد ومهر جديدين . قال الله تعالى : { َإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ } [ البقرة : 230 ]
    وروى البخاري ( الشهادات ، باب : شهادة المختبي ، رقم : 2496 ) ، ومسلم ( في النكاح ، باب : لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلّقها حتى تنكح ….، رقم : 1433 ) عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاءت امرأة رفاعة القرظي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : كنت عند رفاعة ، فطلقني فأبتّ طلاقي ، فتزوجت عبد الرحمن بن الزَّبير ، إنما معه مثل هُدْبة الثوب ، فقال : ( أتريدين أن ترجعي إلاّ رفاعة ؟ ، حتى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك ) .
    [ أبتّ طلاقها : طلّقها ثلاثاً . هدبة الثوب : حاشيته ، شبّهت به استرخاء ذكره ، وأنه لا يقدر على الوطء . تذوقي عسيلته : هذا كناية عن الجماع . وعسيلة : قطعة صغيرة من العسل ، شبّه لذة الجماع بلذة ذوق العسل ] .
    الحكمة من توقف حل المطلقة ثلاثاً على هذه الشروط :
    ولعلّ الحكمة في إلزام المطلّقة بكل هذه الشروط التي ذكرنا لتحلّ لزوجها الأول هي :
    التنفير من الطلاق الثلاث ، وحمل الأزواج بذلك على أن لا يتورطوا في الطلاق الثلاث .
    (4/101)


    الخلاصة في الرجعة :
    اعلم أن المطلّقة بالنسبة لإمكان رجوعها إلى زوجها تسمى :
    ( رجعية ) إن طلِّقت طلقة واحدة أو طلقتين ، بعد الدخول بها ، وعدّتها لم تنقضِ بعد .
    وحكمها : جواز مراجعة زوجها لها ، بعقدها ومهرها السابقين وبموجب إرادته المنفردة
    ... ... ( بائنة بينونة صغرى ) : وهي :
    1ـ المطلّقة طلقة واحدة أو طلقتين قبل الدخول بها .
    2ـ المطلّقة طلقة واحدة أو طلقتين بعد الدخول بها ، وقد انقضت عدّتها .
    3ـ المخالعة على بَدَلَ مالي ، كما سبق بيانه .
    وحكمها : لا سبيل للزوج إليها إلا بعقد ومهر جديدين ، وباختيارها ورضاها .
    ( بائنة بينونة كبرى ) : وهي التي طلّقها زوجها ثلاث تطليقات ، سواء قبل الدخول بها ، أو بعده .
    وحكمها : لا تحلّ له إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره ، على نحو ما قد سبق إيضاحه .
    مشبهات الطلاق
    هنا ثلاث مسائل ، تشبه في نتائجها الطلاق ، أو هي قد تؤول إلى الطلاق . وهذه المسائل هي : الإيلاء ، الظهار ، اللعان . لذلك جمعناها إلى بعضها تحت هذا العنوان :
    ( مشبّهات الطلاق ) ثم لنشرح كلاً منها على حدة :
    أولاً ـ الإيلاء
    تعريف الإيلاء :
    الإيلاء في اللغة من الأليَّة ، بمعنى اليمين . يقال : آلى فلان : أي أقسم ، وعليه قول الله عزّ وجلّ : { وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ … } [ النور : 22 ] أي لا يحلف .
    والإيلاء اصطلاحاً : فهو أن يقسم الزوج المالك لحق الطلاق ألاّ يجامع زوجته مطلقاً ، أو مدة تزيد على أربعة أشهر .
    حكم الإيلاء :
    إذا أقسم الزوج على أن يجامع زوجته مطلقاً ، أو مدة تزيد على أربعة أشهر ، فهو مولٍ بذلك من زوجته . ويترتب على الزوج من الأحكام الشرعية ما يلي :
    يمهله الحاكم أربعة بدءاً من اليوم الذي أقسم فيه أن لا يطأ زوجته ، كفرصة يمكنه من الرجوع والتكفير عنها ، أو من تطليقها إن لم يرد الرجوع والتفكير .
    (4/102)


    فإذا انتهت الأشهر الأربعة ، وهو ملتزم يمينه ، فهو عندئذ مضار لزوجته ، ويلزمه الحاكم بسبب ذلك ـ بناءً على طلب الزوجة ـ بأحد أمرين :
    1ـ الرجوع عن يمينه ، والاتصال بزوجته ، ويكفّر عن يمينه ، إن كان قد أقسم بالله ، أو بعض صفاته ، أو يأتي بما أقسم به إن كان قد حلف على أن يفعل عملاً ، أو يتصدق بصدقة .
    2ـ أو الطلاق إن أبى إلا التمسك بيمينه .
    فإن أبى الزوج ، ورفض سلوك أحد هذين السبيلين ، أوقع القاضي عنه طلقة واحدة ، لأنه حق توجه عليه لرفع الضرر عن الغير ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتطليق عليه . وتقع النيابة فيه ، كقضاء الدين ، وأداء الحقوق العينية .
    ... هذا إذا لم يكن بالزوج عذر يمنعه من الوطء ، فأما إن كان عذر من مرض ونحوه ، طولب بالرجوع عن إيلائه بلسانه ، بأن يقول : إذا قدرت رجعت عن التزامي ويميني
    دليل أحكام الإيلاء :
    ودليل أحكام الإيلاء التي ذكرناها قول الله عز وجل : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{226} وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
    [ البقرة : 226 ـ 227 ] .
    [ يؤلون : يحلفون . تربص : انتظار . فاؤوا : رجعوا عن الحلف إلى الوطء . عزموا الطلاق : أوقعوه ] .
    وروى مالك رحمه الله تعالى في كتابه المؤطأ ( الطلاق ، باب : الإيلاء 2/556 ) عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يقول : إذا آلى الرجل من امرأته ، لم يقع عليه طلاق ، وإن مضت الأربعة أشهر ، حتى يوقف : فإما أن يطلّق ، وإما أن يفيء.
    وروى ... مثل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما .
    ومثل هذا الحكم لا يقال من قبل الرأي ، لذلك كان لهذا الحديث حكم المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
    ثانياً : الظهار :
    تعريف الظهار :
    الظهار ـ لغة ـ مأخوذ من الظهر ، لأن صورته الأصلية أن يقول الرجل لزوجته : أنت عليّ كظهر أمي .
    (4/103)


    وتعريف الظهار في الاصطلاح : أن تشبّه الزوج زوجته في الحرمة بإحدى محارمه : كأمه ، وأخته .
    وكان العرب في الجاهلية يعتبرون الظهار أسلوباً من أساليب الطلاق . ولكن الشريعة الإسلامية أعطته اعتباراً آخر ، وبَنَت عليه أحكاماً أخرى غير الطلاق .
    حكم الظهار من حيث الحلّ والحرمة :
    الظهار حرام بإجماع المسلمين ، وهو كبيرة من الكبائر ، بدليل أن الله عز وجل سماه منكراً من القول وزوراً ، قال تعالى : { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً } [المجادلة:2 ]
    ألفاظ الظهار :
    تنقسم الألفاظ التي تعتبر دالّة على الظهار إلى قسمين : صريح ، وكناية .
    أما اللفظ الصريح : وهو الذي لا يحتمل غير الظهار ـ فهو أن يقول لزوجته : أنت عليّ كظهر أمي . أو أنت عندي – كظهر أُمي . فإذا تلفظ بهذا الكلام ، فهو مظاهر من زوجته ، سواء وجت نيّة ذلك لديه أم لم توجد ، مادام ممّن يصحّ منهم الطلاق ، أ ما دام رشيداً واعياً لمعنى ما يقول .
    أما اللفظ الكنائي ـ وهو ما يحتمل الظهار وغيره ـ فهو مثل أن يقول لزوجته : أنت عليّ كأمي وأختي ، أو : أنت عندي مثل أمي وأختي .
    فإذا نطق بمثل هذه الألفاظ ، فإنها تنصرف إلى المعنى الذي أراده عند التلفّظ بها .
    فإن كان قصد بها الظهار كان مظاهراً ، وإن كان قصد بها تشبيه زوجته بأمه أو أخته في الكرامة والتقدير لم يكن مظاهراً ، وليس عليه شئ أبداً .
    أحكام الظهار :
    إذا نطق الزوج بلفظ الظهار الصريح ، أو بشيء من ألفاظه الكنائية ، وأراد بذلك معنى الظهار ، وهو تشبه الزوجة بمحارمه في الحرمة عليه ، فإنه ينظر :
    ـ فإن أتبع كلامه هذا بالطلاق ، فإن حكم الظهار يندرج في الطلاق ، ولا يبقى له من أثر ، إذ يأتي الطلاق بمثابة تفسير للفظ الظهار ، فيلغو حكم الظهار ، ويستقر الطلاق .
    (4/104)


    ـ أما إن لم يتبع ذلك بالطلاق ، ولم يحصل ما يقطع النكاح ، فإنه يعتبر عائداً في كلامه ، مخالفاً لما قاله ، فإن عدم انفصاله عن زوجته ، و قد شبّهها في الحرمة بمحاربة ـ يعتبر نقضاً منه لهذا التشبيه ، ومخالفة لمقتضاه . وعندئذ تلزمه كفّارة ، يُكلف بإخراجها على الفور .
    كفارة الظهار :
    وكفّارة الظهار مرتبة ـ حسب الإمكان ـ وفق ما يلي :
    1ـ عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المُخلّة بالكسب والعمل ، كالزمانة ، أو فَقْد عضو ، كرجْل مثلاً .
    2ـ فإن لم يكن رقيق كعصرنا اليوم ، أو كان ، ولكنه عجز عنه ، فصيام شهرين قمريين متتابعين .
    3ـ فإن لم يستطيع الصوم ، أو لم يستطيع الصبر على تتابع الصوم ، لمرض ، أو هرم ، فإطعام ستين مسكيناً ، لكل مسكين مدّ من غالب قوت البلد .
    دليل ترتيب الكفّارة :
    والدليل على هذا الترتيب في كفّارة الظهار ـ ما سيأتي في أحكام الظهار عامة ـ وما رواه الترمذي ( الطلاق ، باب : ما جاء في كفارة الظهار ، رقم : 1200) وغيره : أن سلمان بن صخر الأنصاري ، أحد بني بياضة ، جعل امرأته عليه كظهر أُمه ، حتى يمضي رمضان ، فلما مضى نصف من رمضان ، وقع عليها ليلاً ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر ذلك له ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أعتق رقبة " . قال : لا أجدها ، قال : " فصم شهرين متتابعين ". قال : لا أجد. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفروة بن عمرو : " أعطه ذلك العرق " وهو مكتل يأخذ خمسة عشر صاعاً ، أو ستة عشر ، إطعام ستين مسكيناً .
    كفارة الظهار تخرج فوراً :
    إن كفّارة الظهار يُطالب بها الزوج على الفور ، أي إنه لا يحلّ له وطء زوجته قبل التفكير بأيّ الأنواع الثلاثة التي سبق ذكرها ، فإذا وطىء زوجته قبل التفكير ، فقد عصى ، ولزمته الكفّارة ، لأن الوطء قبل التفكير حرام . لقول الله عزّ وجل : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا }
    [ المجادلة : 3 ] .
    (4/105)


    روى الترمذي ( الطلاق ، باب : ما جاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفر ، رقم : 1199 ) ، وابن ماجه ( الطلاق ، باب : المظاهر يجامع قبل أن يكفر ، رقم : 2065 ) وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ظاهر من امرأته ، فوقع عليها ، فقال : يا رسول الله ، إني قد ظاهرت من زوجتي ، فوقعت عليها قبل أن أُكفّر ، فقال : " وما حملك على ذلك ، يرحمك الله "؟ يرحمك الله " ؟ قال : رأيت خلخالها في ضوء القمر ، قال : " فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به " .
    دليل أحكام الظهار عامة :
    ويستدل لأحكام الظهار جملة : بما جاء عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة أوس بن الصامت ـ رضي الله عنها ـ جاءت تشتكي زوجها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تقول : يا رسول الله ، أكل شبابي ونثرت له بطني ، حتى إذا كبرت سنّي وانقطع ولدي ظاهر مني ، اللَّهمّ إني أشكو إليك ، فما برحت حتى نزل جبرائيل بهؤلاء الآيات : { قَدْ سَمِعَ } …
    رواه ابن ماجه ( الطلاق ، باب : الظهار، رقم : 2063 ) ، وأبو داود ( الطلاق ، باب : في الظهار ، رقم : 2214 ) ، والحاكم ( في المستدرك : التفسير ، تفسير سورة المجادلة : 2/481 ) ..
    والآيات هي :
    (4/106)


    { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ{1} الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ{2} وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ{3} فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ المجادلة : 1-4 ] .
    ثالثاً ـ اللعان
    تعريف اللعان :
    اللعان ـ لغة ـ مصدر لاعن ، وهو الطرد ، والإبعاد .
    منه : لعنه الله ، أي طرده وأبعده .
    وسمي بذلك لبعد الزوجين كلّ منهما عن الآخر .
    وأما اللعان شرعاً : فهو كلمات معينة ، جعلت حجة للمضطر إلى قذف من لطّخ فراشة ، وألحق العار به .
    وسمي لعاناً ، لاشتمال هذه الكلمات على لفظ اللعن ، ولأن كلا من المتلاعنين يبتعد عن الآخر باللعان .
    الحكمة من مشروعية اللعان :
    أعلم أن حكم اللعان جاء مخالفاً لما يقتضيه عموم حكم القذف ، من استحقاق القاذف الحدّ ، وبراءة المقذوف حكماً مما قد رماه به القاذف .
    ... فما هي حكمة هذه المخالفة ؟ ولماذا لم تنطبق أحكام القذف على مَن جاء بقذف زوجته بالفاحشة ؟
    والجواب : أن غير الزوج بالنسبة لزوجته غير مضطر إلى أن يرمي أحداً من الناس بالفاحشة ، صادقاً كان في ذلك أم كاذباً .
    (4/107)


    بل الأدب الإسلامي يقضي بأن يستر المسلم ما قد ينكشف له من عيوب الآخرين ،ويكتفي بالنصح لهم ، في ستر ونَجْوة من الناس .
    أما الزوج بالنسبة لزوجته ، فإنه يشبه أن يكون مضطراً إلى الكشف عن حقيقتها ، وواقع أمرها في ارتكاب الفاحشة ، لأن ارتكابها ذلك تلطيخ لفراشه ، وإلحاق للعار به . وهو عذر شرعي يعطيه حق الانفصال عنها .
    ولو انفصل عنها بطلاق لاستلزم ذلك أن يقع في ظلم آخر يلحقه بنفسه ، وهو الحكم لها بكامل المهر ، دون أن تستحق شيئاً منه بسبب سوء سلوكها .
    لذلك كان لابدّ ـ لإنصافه ـ من أن يشرع حكم خاص بهذه الحالة ، يضمن بقاء كل من الزوجين في كنف العدالة ، دون أن يذهب واحد منهما ضحّية لظلم الآخر .
    وكان هذا الحكم هو : حكم اللعان ، الذي سنقف على موجز لتفاصيله .
    ... وبهذا تدرك الحكمة من أن قذف الزوج لزوجته ، إذا جاء على النحو الذي رسمته الشريعة الإسلامية ، لا يستوجب حدّاً أبد له ، فإن القاذف إنما يُحدّ لاتهامه بالكذب من جانب ، ولعدم اهتمامه بستر حال المسلمين من جانب آخر .
    أما الزوج فإنه يبعد جداً أ، يقذف زوجته كاذباً ، لم يلحقه بسبب هذا الكذب من العار ، وسوء السمعة ، وهو معذور في أن لا يستر حال زوجته ، لأن ستره لها إلحاق للعار به ، وهو إسقاط لمروءته وحُسن سيرته بين الناس .
    حكم قذف الزوجة :
    القذف : هو أن يرمي زوجته بالزنى ، وللزوج الحق في أن يرميها بذلك إذا علم زناها ، أو ظنه ظناً مؤكداً : كظهور زناها بفلان من الناس ، مع رؤيتهما في خلوة منفردين . هذا الحكم ـ وهو إباحة رمي الزوجة بالزنى ـ إذا لم يكن هناك ولد ، أما إذا كان هناك ولد ، والزوج يعلم أنه ليس منه ، فإنه والحالة هذه يجب عليه أن يرمي زوجته ، وينفي الولد عن نفسه ، لأن ترك نفسي الولد عن نفسه يتضمن استلحاقه ، واستلحاق من ليس منه حرام ، كحرمة نفي مَن هو منه ، لكن كيف يعلم أن هذا الولد ليس منه .
    (4/108)


    طريق العلم بذلك أن يكون لم يطأ زوجته ، أو أن زوجته قد أتت بالولد لدون ستة أشهر من الوطء ، التي هي أقل مدة الحمل ، أو ولدته لأكثر من أربع سنين من الوطء ، التي هي أكثر مدة الحمل ، ففي هذه الحالات يثبت أن الولد ليس من هذا الزوج ، وعندئذ يجب نفيه عن نفسه ، لئلا يلحق به .
    كيفية لعان الزوج :
    إذا رمى الرجل زوجته بالزنى فعليه حدّ القذف ، إلا أن يقيم البيّنة ، والبيّنة أربعة شهداء ، بما فيهم الزوج .
    وهذا هو الحكم العام لمقتضى القذف ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهلال بن أُمية - رضي الله عنه - لما قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - :" البينّة أو حدّ في ظهرك " فقال هلال : والذي نعثك بالحق إني صادق ، فَلْينزلنّ الله ما يبرئ ظهري من الحدّ .
    وقد نزل حكم اللعان ، فكان السبيل الذي يدرأ به الزوج عن نفسه حدّ القذف ، إذا قذف زوجته بالزنى ، فكيف تكون الملاعنة إذاً ؟
    الملاعنة : أن يقول الزوج عند الحاكم أمام جَمْع من الناس ، يسنّ أن يكونوا من وُجهائهم ، وصالحيهم ، وأن يكون ذلك في المسجد ، فوق مكان مرتفع ، كمنبر وغيره ، يقول
    أشهد بالله إنني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة من الزنى ، وأن هذا الولد
    ( إن كان لها ولد ، أو حمل ) من الزنى وليس منّي .
    يقول ذلك أربع مرات ، يشير في كل مرة بيده إلى زوجته ، إن كانت حاضرة .
    ثم يقول في المرة الخامسة : بعد أن يعظه الحاكم ، ويحذّره من الكذب ، يقول : وعلىّ لعنة الله إن كنت من الكاذبين .
    دليل هذا اللعان :
    ويستدلّ على تشريع اللعان بالنسبة للزوج يقول الله عزّ وجلّ :
    { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ{6} وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } [النور: 6- 7 ]
    (4/109)


    ويستدل من السنة بما رواه البخاري ( الطلاق ، باب : التلاعن في المسجد ، رقم : 5003 ) ومسلم ( أول كتاب اللعان ، رقم : 1429 ) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - : أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله .أرأيتَ رجلاً وجد من امرأته رجلاً ، أيقتله ، أم كيف يفعل ؟ فأنزل الله في شأنه ما ذُكرَ في القرآن من أمر المتلاعنين ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :" قد قضى الله فيك وفي امرأتك " . قال فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد .
    ... وفي رواية : فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
    الأحكام التي تترتب على لعان الزوج :
    إذا لاعَنَ الزوج زوجته ، على الكيفية التي ذكرناها ، ترتب على ذلك خمسة أحكام :
    1ـ سقوط حدّ القذف عن الزوج .
    2ـ وجوب حدّ الزنى على الزوجة ، إلا أن تلاعن هي أيضاً .
    3ـ زوال الفراش ، أي انقطاع النكاح بينهما .
    4ـ نفي الولد ، وانقطاع نسبه عن الزوج إن نفاه في لعانه ، وإلحاقه بالزوجة .
    ... 5ـ حُرمة كلّ من الزوجين على الآخر إلى الأبد .
    ... روى البخاري ( الطلاق ، باب : يلحق الولد بالملاعنة ، رقم : 5559) ، ومسلم ( في اللعان ، رقم : 1494) عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعَنَ بين رجل وامرأته ، فانتفى مَن ولدها ، ففرق بينهما ، وألحق الولد بالمرأة .
    وروى أبو داود ( الطلاق ، باب : في اللعان ، رقم : 2250 ) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال : مضت السنّة بعدُ في المتلاعنين أن يفرّق بينهما ، ثم لا يجتمعان أبداً .
    كيفية لعان الزوجة :
    كما أن لعان الزوج هو السبيل الذي يدرأ عنه حدّ القذف ، فإن لعان الزوجة هو السبيل الذي يدرأ عنها حدّ الزنى ، الذي يتعلق بها بسبب لعان الزوج .
    إما كيفية لعان الزوجة ، فهو أن تقول :
    (4/110)


    أشهد بالله أن فلاناً من الكاذبين فيما رماني به من الزنى . تقول ذلك أربع مرات ، ثم تقول في المرة الخامسة : وعلىّ غضب الله إن كان من الصادقين . فإذا قالت ذلك سقط عنها حدّ الزنى
    دليل لعان الزوجة :
    والدليل على ذلك قول الله عز وجلّ : { وَيَدْرَأُ{7} عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ{8} وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ النور : 8ـ9] .
    من أهم شرائط اللعان :
    1ـ أن يتقدم القذف على اللعان .
    2ـ أن يتقدم لعان الزوج على لعان الزوجة .
    3ـ أن يلتزم كل من الزوج والزوجة نصّ الكلمات التي ذكرناها ، فلو أبدل أحد الزوجين لفظ الشهادة بغيرها : كالحلف ، أو القسم ، أو أبدل لفظ الغضب باللعن ، أو العكس ، لم يصحّ اللعان . لأن ألفاظ اللعان وردت بنصّها في صريح كتاب الله عزّ وجلّ ، فيجب المحافظة عليها في صيغة الملاعنة .
    4ـ أن يكون بين الشهادات الخمس التي يشهدها كل من الزوجين موالاة وتتابع ، فلا يجوز أن يقع ما يعدّ في العُرف فاصلاً بينهما .
    5ـ يجب على الحاكم أن ينصح كلاً من الزوجين ، ويحذره الكذب ومغبّته ، وأن يقول لهما: حسابكما على الله ، أحدكما كاذب ، فهل منكما من تائب .
    ... روى الترمذي ( الطلاق ، باب : ما جاء في اللعان ، رقم : 1202 ) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الرجل ، فتلا عليه الآيات ، ووعظه وذكره ، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فقال : لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها .
    ثم ثنى بالمرأة فوعظها وذكرها ، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فقالت : لا والذي بعثك بالحق ما صدق .
    قال فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات إنه لمن الصادقين ، والخامسة إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين .
    (4/111)


    ثم ثنى بالمرأة ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ثم فرّق بينهما .
    وفي رواية عند البخاري ( الطلاق ، باب : قول الإمام للمتلاعنين : أحدكما كاذب ….، رقم : 5006 ) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما " حسابكما على الله ، أحدكما كاذب ، لا سبيل لك عليها " .
    وروى البخاري ( الطلاق ، باب : يبدأ الرجل بالتلاعن ، رقم : 5001 ) عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن هلال بن أمّية قذف امرأته ، فجاء فشهد ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب " .
    وروى أبو داود ( الطلاق ، باب : التغليظ في الانتفاء ، رقم 2263 ) وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حين نزلت آية المتلاعبين :" أيّما امرأة أدخلت على قوم مَن ليس منهم ، فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته . وأيما رجل جحد ولده ، وهو ينظر إليه احتجب الله منه ، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين ".
    نسأل الله تعالى اللطف في الدنيا والآخرة .
    العدَّة
    تعريف العدة :
    العدّة ـ لغة ـ اسم مصدر عدّ يعدّ ، أما المصدر : فهو ( عدّ ) والعدّة : مأخوذة من العدد ، لاشتمالها عليه ، من الأقراء ، والأشهر .
    والعدة اصطلاحاً: اسم لمدة معينة تتربصها المرأة ، تعبداً لله عزّ وجلّ ، أو تفجعاً على زوج ، أو تأكداّ من براءة الرحم .
    دليل مشروعية العدة :
    لقد ثبتت مشروعية العدّة بعدد من آيات القرآن الكريم ، وبكثير من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وانعقد إجماع الأمة على مشروعيتها .
    وسيأتي ـ أثناء البحث ـ الكثير من أدلة الكتاب والسنّة التي تفصل أحكام العدّة وتبيِّنها ، وتدل على مشروعيتها .
    الحكمة من مشروعية العدة :
    ـ أما المتوفى عنها زوجها ، فقد شرعت العدة في حقها ، للمعاني التالية :
    (4/112)


    أولاً : للوفاء بحق زوجها الراحل ، فإن ما قد فرضه الله عليها من التقدير والوفاء وحُسن المعاملة له ، لا يتناسب مع إعراضها عنه بمجرد وفاته ، ورحيله عنها .
    ثانياً : للتعويض عن العُرْف الجاهلي ، الذي كان يفرض على الزوجة إذا مات زوجها أن تحبس نفسها في وكر مظلم عاماً كاملاً ، وأن تضمخ نفسها خلال ذلك بالسواد ، وتلبس البشع المستقذر من ثيابها .
    ذلك لأن القضاء على عادة متطرفة في المجتمع ، لا يتم إلا إذا ملىء مكان تلك العادة بمبدأ معتدل سليم ، يحقّق محاسن العادة الأولى دون أن يجرّ على الناس شيئاً من مساوئها .
    ـ وأما المفارقة بفسخ أو طلاق :
    فإن كانت الزوجة من ذوات الحيض ، أو كانت حاملاً : فإن الحكمة من وجوب العدّة في حقها : ضبط الأنساب ، وحفظ المسؤوليات ، والتأكد من براءة الرحم ، والأمر في ذلك واضح .
    أما إن كانت الزوجة صغيرة ، أو آيسة لا تحيض ، فالحكمة من وجوب العدّة عليها تظهر فيما يلي .
    1ـ المعنى التعبدي ، الذي يتضمن الانصياع لأمر الله عزّ وجلّ ، وهذا في الحقيقة معنى جدير بالوقوف عنده ، وهو يتناول العدّة بكل أنواعها .
    2ـ تفخيم أمر النكاح ، وإعطاؤه الأهمية الشرعية التي تناسبه . وواضح أنه لا يتناسب مع شيء من هذا التفخيم والأهمية أن تتحول الزوجة في اليوم التالي من فراقها إلى زوج آخر ، وإن كانت صغيرة ، أو آيسة مقطوعاً ببراءة رحمها من الحمل من زوجها . إن هذه السرعة في التنقل تُذيب أهمية النكاح ، وهيبته أمام الأنظار ، وتثير في النفس والخيال شأن السفاح وصورته ، وكيف تنتقل البغي من شخص إلى آخر دون أي انتظار
    3ـ مزيد من الحيطة للتأكد من براءة الرحم ، إذ لا يؤمن عدم وقوع أحوال ووقائع شاذة عن القانون والعُرْف الطبيعي ، بين كل حين وآخر من الزمن .
    أنواع العدّة :
    تنقسم العدّة التي تلزم بها المرأة إلى قسمين :
    1ـ عدة وفاة .
    2ـ وعدة فراق .
    أولاً : عدّة الوفاة :
    (4/113)


    أما عدّة الوفاة ، فهي التي تجب على من مات عنها زوجها :
    أ ـ فإن كانت حاملاً منه أثناء الوفاة فعدّتها تنتهي بوضع الحمل ، طالت المدة أو قصرت .
    ب ـ وإن كانت المرأة غير حامل ، أو كانت حاملاً بحمل لا يمكن أن يكون من زوجها المتوفى عنها ، كأن يكون زوجها غير بالغ ، أو ثبت غيابه عنها منذ أكثر من أربع سنوات ، فعدّتها تنتهي بنهاية أربعة أشهر وعشرة أيام ، سوا ء دخل بها الزوج ، أو لم يدخل .
    دليل ذلك :
    والدليل على ما ذكر قول الله عز وجل : { وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق: 4] . وقوله سبحانه وتعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ البقرة : 234 ] .
    [ يتربصن : ينتظرن . بلغن أجلهنّ : انقضت عدّتهنّ ومدّتهنّ المذكورة . فلا جناح : لا خرج ولا إثم . فيما فعلن في أنفسهنّ : أي من التزين ، والتعرّض للخطاب ، وللزواج . بالمعروف : بالوجه الذي يقرّه الشرع ، ولا ينكره] .
    فالآية الثانية من الآيتين عامّة تشمل المرأة الحامل وغيرها ، أما الأولى منهما فقد أخرجت من ذلك العموم النساء الحوامل ، وجعلت لهنّ حكماً خاصاً بهنّ ، فكان هذا هو دليل التفريق بين عدّة المرأة التي توفي عنها زوجها وهي حامل منه ، وبين عدّة المرأة التي توفي عنها زوجها وهي غير حامل .
    (4/114)


    والدليل من السنة أن الحامل تنتهي عدّتها بوضع الحمل : ما رواه البخاري ( الطلاق ، باب : { وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ …. } ، رقم : 5014 ) عن المسور بن مخرمة - رضي الله عنه - :أن سُبيْعة الأسلمية رضي الله عنها نُفسَتْ بعد وفاة زوجها بليال ، فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه أن تنكح ، فأذن لها ، فنكحت . [ نفست : ولدت ] .
    ثانياً : عدة الفراق :
    وأما عدّة الفراق فهي التي تجب على المرأة التي فارقت زوجها ، بفسخ أو طلاق ، بعد وطئها :
    أ ـ فإن كانت حاملاً فعدّتها تنتهي بوضع الحمل . ودليل ذلك عموم قول الله عزّ وجل :
    { وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4].
    ب ـ وإن كانت حامل ، وهي من ذوات الحيض ، فعدّتها بمرور ثلاثة أطهار من بعد الفراق .
    ودليل ذلك قول الله سبحانه وتعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [ البقرة: 228 ]
    ج ـ وإن كانت لا ترى حيضاً : بأن كانت صغيرة ، أو آيسة ، أي متجاوزة سن الحيض ذلك قول الله تعالى : { وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } [ الطلاق : 4 ] .
    [ واللائي لم يحضن : الصغيرات ، فعدّتُهنّ أيضاً ثلاثة أشهر . إن ارتبتم : شككتم في حكمهنّ ، ولم تعرفوا كيف يعتدن ] .
    المطلّقة قبل الدخول بها :
    ... ... أما المرأة التي فارقها زوجها بفسخ ، أو طلاق ، قبل الدخول بها ، فلا يجب عليها أن تلتزم بأيّ عدّة .
    (4/115)


    ... ودليل ذلك قول الله عزّ وجل ّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [ الأحزاب : 49 ] .
    أحكام العدة وما تفرضه من التزامات :
    هناك أحكام والتزامات تفرضها العدّة ، وسنبيّنها فيما يلي :
    أولاً عدّة الطلاق :
    إذا كانت المرأة معتدّة من زوجها عدّة طلاق ، فإما أن يكون طلاقها : رجعياً ، أو بائناً
    الأول : فإن كانت معتدّة من طلاق رجعي ترتب على عدّتها الأحكام التالية :
    أ ـ وجوب المسكن لها مع الزوج ، والأفضل أن يكون مسكن طلاقها ، إن كان لائقاً بها ، ولم يمنع منه مانع شرعي ، ونحوه .
    ب ـ وجوب النفقة لها بسائر أصنافها : من مؤنة ، وكسوة ، وغير ذلك ، سواء كانت حاملاً ، أو حائلاً ، وذلك لبقاء سلطان الزوج عليها ، وانحباسها تحت حكمه ، حيث يمكنه أن يرجعها ما دامت في العدّة .
    ج ـ يجب عليها ملازمة مسكنها ، فلا تفارقه إلا لضرورة . ودليل هذه الأحكام الثلاثة قول الله عزّ وجلّ : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 6 ] وقال الله تعالى :
    { َا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } [ الطلاق : 1 ] .
    د ـ يحرّم عليها التعرّض لخطبة الرجال ، إذ هي لا تزال حبيسة على زوجها ، وهو الأحقّ والأولى من سائر الرجال . قال الله عز وجل : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً } [ البقرة : 228 ] .
    الثاني :
    (4/116)


    إن كانت معتدّة بفراق بائن ، وهي عندئذ : إما أن تكون حاملاً ، وإما أن تكون حائلاً ، أي غير حامل :
    فإن كانت حاملاً : ترتب على ذلك الأحكام التالية :
    أ ـ وجوب المسكن لها على الزوج ، ودليل ذلك قوله تعالى في الآية السابقة : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } [ الطلاق:1] . والآية هذه عامّة في المطلّقة الرجعية والبائنة.
    ب - النفقة بأنواعها المختلفة ، ودليل ذلك قول الله تعالى: { وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق:6)
    ج – ملازمة البيت الذي تعتدّ فيه ، فلا تخرج منه إلا لحاجة ، كأن تحتاج إلى طعام ونحوه ، أو تحتاج إلى بيع متاع لها تتكسب منه ، وليس ثمة مَن يقوم مقامها في ذلك ، أو كانت موظفة في عمل ، ولا يسمح لها بالبقاء في بيتها مدة عدّتها ، أو كانت تضطر – إزالة لوحشتها – أن تسمر عند جارة لها ، فلا يحرم خروجها من بيتها لمثل ذلك .
    ... أما دليل المنع من الخروج لغير حاجة ، فقول الله تعالى: { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ } [ الطلاق:1)
    ... أما دليل جواز الخروج للحاجة : فما رواه مسلم ( الطلاق ، باب : جواز خروج المعتدّة البائن .. لحاجتها ، رقم : 1483 ) عن جابر - رضي الله عنه - قال : طلّقت خالتي ، فأرادت أن تجُدَّ نخلها ، فزجرها رجل أن تخرج ، فأتت النبي - رضي الله عنه - فقال : " بلى اخرجي ، فجُدّي نخلك ، فإنك عسى أن تَصَدَّقَي ، أو تفعلي معروفاً " .
    وإن كانت حائلاً : ترتب كل ما ذكر في الفقرة السابقة ، إلا النفقة بأنواعها المختلفة من مؤنة ، وملبس ، وغير ذلك . فلا تثبت لها ، وإنما يجب لها المسكن ، وتجب عليها ملازمته .
    (4/117)


    ودليل ذلك : ما رواه أبو داود ( الطلاق ، باب : في نفقة المبتوتة ، رقم : ( 229 ) في قصة فاطمة بنت قيس ، حين طلّقها زوجها تطليقة كانت بقيت لها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها : " لا نفقة لك إلا أن تكوي حاملاً
    ثانياً : عدّة الوفاة :
    وإن كانت المرأة معتدّة من وفاة ، وجبت في حقّها الأحكام التالية :
    أ ـ الإحداد على الزوج : بأن تمتنع عن مظاهر الزينة والطيب ، فلا تلبس ثياباً ذات ألوان زاهية ، ولا تكتحل ، ولا تستعمل شيئاً من الأصباغ ، ولا تتزين بشيء من الحلي : ذهباً أو فضة ، أو غيرهما ، فإن فعلت شيئاً من ذلك فهي آثمة .
    ودليل ذلك : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :" لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحدّ على ميت فوق ثلاث ليال ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ".
    رواه البخاري ( الطلاق ، باب : تحدُ المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً ، رقم : 5024 ) ، ومسلم ( الطلاق ، باب : وجوب الإحداد في عدّة الوفاة رقم : 1486ـ 1489 ) عن أُم حبيبة رضي الله عنها .
    دلّ هذا الحديث على حرمة إحداد المرأة على غير الزوج ، ووجوبها على الزوج أربعة أشهر وعشرة أيام . ورخّص - صلى الله عليه وسلم - في إظهار الحزن ، وأمر بالتعزية خلال ثلاثة أيام فقط ، لأن النفوس لا تستطيع فيها الصبر ، وإخفاء الحزن .
    وروى البخاري ( الحيض ، باب : الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض ، رقم 307 ) ومسلم (الجنائز ، باب : نهي النساء عن اتباع الجنائز، رقم : 938 ) عن أُم عطية الأنصارية ، رضي الله عنها قالت : كنا نُنهى أن نحدّ على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ، ولا نكتحل ، ولا نتطيب ، ولا نلبس ثوباً مصبوغاً ، إلا ثوب عَصْب ، وقد رخص لنا عند الطهر ، إذا اغتسلت إحدانا من محيضها ، في نُبْذة من كست أظفار ، وكنا ننهى عن اتّباع الجنائز .
    (4/118)


    [ ثوباً مصبوغاً : مما يعدّ لبسه زينة في العادة . ثوب عَصْب : نوع من الثياب ، تشدّ خيوطها ، وتصبغ قبل نسجها . نبذة: قطعة صغيرة كُسْت أظفار : نوع من الطيب ] .
    ب ـ يجب عليها ملازمة بيتها الذي تعتدّ فيه ، فلا تخرج إلا لحاجة ، كالتي ذكرناها بالنسبة للمعتدّة من الطلاق .
    روى الترمذي ( الطلاق ، باب : أين تعتدّ المتوفى عنها زوجها ، رقم : 1204) وأبو داود ( الطلاق ، باب : في المتوفى عنها تنتقل ، رقم :2300 ) وغيرهما ، عن زينب بنت كعب بن عجرة : أن الفُريْعة بنت مالك بن سنان ـ وهي أُخت أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أخبرتها أنها جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدْرة ، وأن زوجها خرج في طلب أعبد له أبَقُوا ، حتى إذا كان بطوف القدوم لحقهم ، فقتلوه . قالت : فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أرجع إلى أهلي ، فإن زوجي لم يترك لي مسكناً يملكه ، ولا نفقة . قالت : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" نعم " . قالت : فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ( أو في المسجد ) ناداني رسول الله ـ أو أمر بي فنوديت له ـ فقال : زوجني . قال : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً .
    قالت : فلما كان عثمان - رضي الله عنه - ، أرسل إلي فسألنيّ عن ذلك ، فأخبرته ، فاتبعه وقضى به .
    ... أما ما يتصوره كثير من العوّام من أنه لا يجوز للمعتدّة أن تكلم أحداً ، وأن أحداً من الناس لا يجوز أن يسمع صوتها ، فلا أصل له ، وإنما حكمه أثناء العدة وخارج العدة سواء .
    خلاصة في أحكام العدة :
    ... والحاصل أن جميع أنواع العدّة تخضع لقدر مشترك من الحكم ، وهو :
    ... ـ حُرمة الخروج من المسكن الذي تعتدّ فيه المرأة إلا لحاجة . ثم تختصّ المعتدّة بالوفاة بحكم مستقل ، وهو : وجوب الإحداد على الزوج ، وذلك بأن تمتنع عن الطيب والزينة ، على نحو ما قدّمنا .
    (4/119)


    ... كما تختصّ المعتدّة بالطلاق الرجعي مطلقاً ، والطلاق البائن إن كانت حاملاً بوجوب المسكن ، وجميع أنواع النفقة لها .
    ... وتختصّ المعتدّة بالطلاق البائن – إن لم تكن حاملاً – بوجوب المسكن فقط ، دون سائر أنواع النفقات ..
    خاتمة :
    ... ونختم هذا البحث ببيان أمر هام ، ألا وهو حُرمة إحداد النساء على مَن عدا الزوج من أقاربهنّ ، نساءً وذكوراً ، وهو إحداد بشع يتخذ شكلاً من أشكال الجاهلية العتيقة ، حيث تلزم المرأة التي توفي لها قريب أو قريبة لبس السواد ، أو ما يشبهه ، إعلاناً عن حزنها ، وتتجنب حضور الأماكن العامة ، والظهور في مواسم الأفراح ومناسباتها ، وتظل على ذلك عاماً ، أو يزيد ، وربما كانت نفسها خلال أكثر العام لا تنطوي على أيّ حزن أو كرب ، ولكنها تتصنع ذلك أمام أبصار الناس ، وتتكلفه ، وتتباهى به أمامهم .
    ... إن هذا الالتزام ليس إلا معارضة صريحة وحادة لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديثة الواضح الصحيح :" لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله وباليوم الآخر أن تُحدّ على ميت فوق ثلاث ليال ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ".
    ... رواه البخاري ( الطلاق ، باب : تحدُّ المتوف عنها زوجها .، رقم : 5024 ) ومسلم
    ( الطلاق ، باب : وجوب الإحداد في عدّة الوفاة ، رقم : ( 1486ـ 1498 ) عن أم حبيبة رضي الله عنها .
    ... وقد روى البخاري ومسلم ، عن زينب بنت أبي سلمة قالت : دخلت على زينب بنت جحش رضي الله عنهما حين توفي أخوها ، فدعت بطيب فمست منه ثم قالت : والله ما لي في الطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا يحل لمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " ( البخاري ومسلم المواضع السابقة ) .
    (4/120)


    ... ولا فرق في هذا الحكم بين هذا التصنّع المتكلَّف الممجوج الذي تلتزمه النساء فيما بينهنّ ، وما يفعله الرجال من التزام شعارات الحزن ، في ربطة العنق ، ونحوها ، وهو تقليد أجنبي بشع مغموس في الحُرمة والإثم .
    ... نسأل الله تعالى أن يحقّقنا بمعنى العبودية الخالصة له ، وأن يلبسنا كسوة الرضى بحكمه ، والتجمّل بشرعه ، وهدي نبيّه ، عليه الصلاة والسلام .
    ثالثاً : النفقات وما يتعلق بها .
    النفقات
    تعرف النفقات :
    النفقات : جمع نفقه ، والنفقة لغة : مأخوذة من الإنفاق.
    وهو في الأصل بمعنى الإخراج ، والنفاد ، ولا يستعمل الإنفاق إلا في الخير .
    والنفقة اصطلاحاً : كلُّ ما يحتاجه الإنسان ، من طعام وشراب ، وكسوة ومسكن .
    ... وسمي نفقة ، لأنه ينفد ويزول ، في سبيل هذه الحاجات .
    أنواع النفقات :
    للنفقات أنواع خمسة نذكرها فيما يلي :
    1ـ نفقة الإنسان على نفسه .
    2ـ نفقة الفروع على الأصول .
    3ـ نفقة الأصول على الفروع .
    4ـ نفقة الزوجة على الزوج .
    5ـ نفقات أخرى .
    ... ولنبدأ بشرح أحكام كل نوع من هذه الأنواع على هذا الترتيب .
    1ـ نفقة الإنسان على نفسه :
    إن أدنى ما يجب على الإنسان من الإنفاق أن يبدأ بنفسه ، إذا قدر على ذلك ، وهي مقدمة على نفقة غيرة .
    وتشمل هذه النفقة كل ما يحتاجه المرء من مسكن ، ولباس ، وطعام ، وشراب ، وغير ذلك .
    (4/121)


    ودليل ذلك ما رواه البخاري ( الأحكام ، باب : بيع الإمام على الناس أموالهم وضياعهم ، رقم : 6763 ) ، ومسلم ( الزكاة ، باب : الابتداء في النفقة بالنفس ….، رقم : 997 ) وغيره عن جابر - رضي الله عنه - قال : أعتق رجل من بني عُذْرَة عبدّ له عن دُبُر ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال : " ألك ما غيره" . فقال : لا . فقال : - صلى الله عليه وسلم - : " مَن يشتريه مني " ؟ فاشتراه نُعيم بن عبدالله العدوي رضي الله عنه بثمانمائة درهم ، فجاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدفعها إليه ، ثم قال : " ابدأ بنفسك فتصدّق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل عن أهلك شيء فَلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء ، فهكذا وهكذا ".
    يقول : فبين يديك ، وعن يمينك ، وعن شمالك .
    معنى قوله :" عن دُبُر " أي علق عتقه بموته ، فقال : أنت حر يوم أموت .
    2ـ نفقة الفروع على الأصول :
    ... يجب على الوالد ـ وإن علا ـ نفقة ولده ، وإن سفل .
    ... فالأب مكلف بالإنفاق ـ على اختلاف أنواع النفقة ـ على أولاده ذكوراً وإناثاً ، فإن لم يكن لهم أب ، كلَّف بالإنفاق عليهم الجد أبو الأب القريب ، ثم الذي يليه .
    ... ودليل ذلك من الكتاب قول الله عز وجل : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [الطلاق :6]
    ... فإيجاب الأُجرة على الزوج لرضاعة أولاده ، يقتضي إيجاب مؤونتهم المباشرة من باب أولى . وقال الله سبحانه وتعالى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 233] .
    (4/122)


    ... فإن نسبة الولد إلى أبيه بلام الاختصاص ، وهي ( له ) تقتضي مسؤولية صاحب الاختصاص ، وهو الأب ، عن نفقة ولده ومؤونته . وكذلك وجوب نفقة المُرضِعة للوليد وكسوتها تدلّ على وجوب نفقة الولد وكسوته من باب أولى كما علمت .
    ... وأما دليل ذلك من السنّة : فما رواه البخاري ( النفقات ، باب : إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ .، رقم:5049 ) ، ومسلم ( الأقضية ، باب : قضية هند ، رقم:1714) عن عائشة رضي الله عنها ، أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي ، إلا ما أخذت منه ، وهو لا يعلم ، فقال، " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ".
    ... يقصد : خذي من مال أبي سفيان .
    ... هذا ، ويلحق الأحفاد بالأولاد بجامع النسبة والحاجة في كل .
    ... شروط وجوب نفقة الفروع على الأصول:
    ... ويشترط لوجوب نفقة الفروع على الأصول تحقّق الشروط التالية:
    ... أولاً: أن يكون الأصل موسراً بما يزيد عن قوت نفسه ، وقوت زوجته مدّة يوم وليلة.
    ... فلو كان الذي يملكه لا يكفي – خلال هذه المدة – غير نفسه هو ، أو غير نفسه وزوجته ، لم يكن مكلفاً بالإنفاق على فروعة .
    ... ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - :" ابدأ بنفسك ".
    ... رواه مسلم ( الزكاة ، باب : الابتداء في النفقة بالنفس …، رقم 997) .
    ... ثانياً : أن يكون الفرع فقيراً ، ويشترط مع فقره ، واحد من الأوصاف الثلاثة :
    1ـ فقر ، وصغر .
    2ـ فقر ، وزمانة .
    3ـ فقر ، وجنون .
    فالصغير الفقير يكلّف أبوه ، بالإنفاق عليه ، فإن لم يكن أبوه فجده .
    وكذلك الفقير الزمن ، وهو العاجز عن العمل .
    وكذلك الفقير المجنون .
    والمقصود بالفقر : العجز عن الاكتساب .
    فلو كان الولد صحيحاً بالغاً ، قادراً على الاكتساب ، لم تجب نفقته على أبيه ، وإن لم يكن مكتسباً بالفعل .
    فإن عاقه عن الاكتساب اشتغال بالعلم مثلاُ ، فإنه ينظر :
    (4/123)


    فإن كان العلم متعلقاً بواجباته الشخصية : كأمور العقيدة ، والعبادة ، فذلك يُعدّ عجزاً عن الكسب ، وتجب نفقته على أبيه .
    أما إن كان العلم الذي يشتغل به من العلوم الكفائية التي يحتاج إليها المجتمع ، كالطب ، والصناعة ، وغيرهما ، فلا يخرج الولد بالاشتغال بها عن كونه قادراً على الكسب ، والأب عندئذ مخيّر : بين أن يمكِّنه من العكوف على ذلك العلم الذي يشتغل به وينفق عليه ، وبين أن يقطع عنه النفقة ، ويلجئه بذلك إلى الكسب والعمل :
    مقدار النفقة:
    ليس لهذه النفقة حدّ تقدّر به إلا الكفاية ، والكفاية تكون حسب العُرْف ، ضمن طاقة المنفق ، قال الله عزّ وجل : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } [ الطلاق : 7]
    هل تصير هذه النفقة ديناً على الأصل إذا فات وقتها :
    لا تصير نفقة الفروع بمضي الزمان ديناً على المنفق ، لأنها مواساة من الأصل لفرعه ، فهي ليست تمليكاً لحق معين ، ولكنها تمكين له بدافع صلة القربى .
    أي يتناول حاجته من النفقة ، فإذا مرّت الحاجة ، ولم يشأ أن يسّدها بما قد مكّنة الأصل منه ، تعففاً ، أو نسياناً ، أو غير ذلك ، فإن ذمّة أبيه لا يعقل أن تنشغل بدين لولده مقابل الحاجة التي تعفّف ولده عنها ، أو شغل عنها ، أو نسيها حتى فات وقتها .
    هذا هو الأصل ، وهو الحكم ، عندما تكون الأمور بين الأولاد وأبيهم جارية على سَننها الطبيعي .
    (4/124)


    فأما إذا وقع خلاف ، تدخل القاضي بسببه فيما بينهم ، وفرض القاضي على الأب نفقة معينة ، أو أذِنَ للأولاد أن يستقرضوا على ذمّة أبيهم ديناً معيناً من المال ، أو القدر الذي يحتاجون إليه ، فإن هذه النفقة تصبح ديناً بذمة الوالد ، إذا فات وقتها ، ولا تسقط بمضي الزمن ، لأنها قد آلت ، بحكم القاضي ، إلى تمليك ، بعد أن كانت مجرد مواساة وتمكين .
    3ـ نفقة الأصول على الفروع :
    كما تجب نفقة الفروع على أصولهم بالأدلة والشروط التي أوضحناها .
    كذلك تجب نفقة الأصول ـ أي الأب والأم ، والجدّ والجدّة ، وإن علاَ كل منهما ـ على فروعهم ، بناءً على الأدلة التالية ، وطبقاً للشروط التي سنذكرها .
    الأدلة على وجوب هذه النفقة :
    ويستدل لوجوب النفقة على الأصول ، بأدلة من الكتاب والسنّة ، والقياس :
    ـ أما من الكتاب : فقول الله عزّ وجلّ : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } [ لقمان : 15] وقوله سبحانه وتعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [الإسراء: 23] .
    ... والمعروف الذي يقدّمه الولد لوالديه ، والإحسان الذي يحسنه إليهما ، لا يكون إلاّ بنهوض الولد بمسؤولية نفقتهما عند الاحتياج.
    ـ وأما من السنّة : فما رواه أبو داود ( البيوع والإجارات ، باب : في الرجل يأكل من مال ولده ، رقم : ( 3528 ) والترمذي ( الأحكام ، باب : الوالد يأخذ من مال ولده ، رقم :
    ( 1358 ) وغيرهما ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وولده من كسبه ". وقال - صلى الله عليه وسلم - :" أنت ومالك لوالدك ، إن أولادكم من أطيب كسبكم ، فكلوا من كسب أولادكم ".
    رواه أبو داود ( البيوع والإجازات ، باب : في الرجل يأكل من مال ولده ، رقم : 3530 ) .
    (4/125)


    وروى النسائي ( الزكاة ، باب : أيّتهما اليد العليا : 5/61) عن طارق المحاربي - رضي الله عنه - قال : قَدِمت المدينة ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر يخطب الناس ، وهو يقول : " يد المُعطي العليا ، وابدأ بمن تعول ، أُمك وأباك ، وأُختك وأخاك ، ثم أدناك أدناك ".
    وروى أبو داود ( الأدب ، باب : في برِّ الوالدين ، رقم : 5140 ) عن كليب بن منفعة عن جده - رضي الله عنه - : أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، مَن أبر ؟ قال : " أُمك وأباك ، وأختك وأخاك ، ومولاك الذي يلي ذاك ، حق واجب ، ورحم موصولة ".
    ـ أما دليل القياس والاجتهاد : فقياس الأصول على الفروع ، إذ كما وجبت نفقة الفروع ـ عند العجز ـ على الأصول كذلك تجب نفقة الأصول عند العجز على الفروع ، بجامع شيوع البعضية بينهما ، وهي أساس القرابة التي هي ثابتة الأصول والفروع.
    شروط وجوب نفقة الأصول على الفروع :
    أولاً : أن يكون الفرع موسراً بما يزيد عن الضروري من نفقته ،و نفقة زوجته ، يومه وليلته ، فلو كان الذي عنده من النفقة لا يكفي لأكثر من حاجته ، وحاجة زوجته ، مدة يوم وليلة ، لم يكلّف الإنفاق على أبيه وأُمه ، لأن نفقة الفقير لا تجب على فقير مثله ، فإن أيسر بجزء من نفقتهما الضرورية تقدم بها إليهما ، فإن ضاقت عنهما قدّم أمه على أبيه ، ذلك لأن ما لا يدرك كله لا ينبغي أن يترك كله .
    ثانياً : أن يكون الأصل فقيراً ، والمراد بالفقر هنا : أن لا يكتسب ما يسدّ حاجته الضرورية ، سواء كان قادراً على الكسب ، أم لا . بخلاف ما مرّ الزمانة ، أو الجنون ، أي مع صفة العجز .
    والفرق بينهما : أن الأصل لا يقبح منه تكليف الفرع القادر على الاكتساب .
    ولكن الفرع يقبح منه أن يكلف أصله ـ الذي طالما اكتسب وجدّ من أجله ـ بالاكتساب ، ولا سيما مع كبر السن .
    (4/126)


    ثالثاً : أن لا تكون الأم مكفيّة بنفقة زوجها فعلاً ، أو حكماً . ومعنى هذا الشرط : أن نفقة الأُم تجب على ولدها في حالتين :
    الحالة الأولى : أن يكون والده عاجزاً عن الإنفاق عليها .
    الحالة الثانية : أن يكون والده متوفى ، وهي خليّة على الزوج . وقدرتها على النكاح لا يلغي هذا الواجب أي يجب على ولدها أن ينفق عليها حتى ولو كان ثمّة كفء يتقدم بطلب الزواج منها .
    كما أن معنى هذا الشرط أن نفقتها تسقط في حالتين :
    الحالة الأولى : أن يكون والده قادراً على الإنفاق عليها .
    الحالة الثانية : أن تكون متزوجة من غير أبيه ، سواء كان زوجها موسراً بنفقتها ، أو مسعراً بها .
    ... فإذا طالبت الأم في حالة إعسار زوجها بالفسخ ، وفسخ النكاح ، وجب حينئذ أن ينفق عليها ابنها .
    لا تتأثر نفقة الفروع والأصول باختلاف الدين :
    إذا لاحظت هذه الشروط ، سواء ما شرط منها لنفقة الأصول على الفروع ، وما شرط منها لنفقة الفروع على الأصول ، أدركت أن وحدة الدين بين الأصول والفروع لا تعتبر شرطاً لوجوب هذه النفقة .
    إذاً فإن وجوب هذه النفقة من الأصل والفرع ، ومن الفرع للأصل لا يتأثر باختلاف الدين ] .
    ... فيكلف الولد المسلم بالإنفاق على والديه غير المسلمين ، ويكلُف الوالد المسلم بالإنفاق على أولاده غير المسلمين ، إذا تحققت باقي الشروط التي ذكرناها.
    ولكن يستثنى من ذلك المرتد ، فلا تجري النفقة عليه ، سواء كان أصلاً للمنفق ، أو فرعاً له .
    (4/127)


    ودليل جواز النفقة على الأصل ، ولو كان مشركاً : ما رواه البخاري ( الأب ، باب : صلة الوالد المشرك ، رقم : 5633) ، ومسلم ( الزكاة ، باب : فضل النفقة والصدقة على الأقربين …، رقم : 1003) وغيره عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ، قالت : قدمت عليّ أُمي ، وهي مشركة ، في عهد قريش إذ عاهَدَهُم ، فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ، قدمت عليّ أمي ، وهي راغبة ، أفأصلُ أمي ؟ قال : " نعم ، صِلِي أُمك ".
    [ وهي راغبة : أي راغبة بالصلة ، أو راغبة عن الإسلام . في عهد قريش : أي ما بين صلح الحديبية وفتح مكة ] .
    مقدار نفقة الأصول على الفروع :
    هذه النفقة أيضا ليست مقّدرة بحد معين ، وإنما هي مقدرة بالعرف المتبع .
    وهي أيضاً لا تصبح ديناً في ذمة الفرع إذا مرّ وقتها ، ولم يتمتع الأصل بها . إلا إذا وقع خلاف بين الأصل والفرع ، ففرض القاضي بموجبه جراية معينة على الفرع ، فإنها تصبح حينئذ ـ كما قلنا سالفاً ـ ديناً في ذمته بمرور الوقت .
    ترتيب الأصول والفروع في الإنفاق :
    إذا كان الوالدين فقيرين ، وكان لهما فروع ، واستووا في القُرب ، أنفقوا عليهما ، لأن عّلة إيجاب النفقة تشملهم جميعاً . وتكون حصة الأُنثى من النفقة كنصف حصة الذكر ، كالإرث . وإن اختلفوا في درجة القُرب ، كابن ، وابن ابن ، فإن النفقة إنما تجب على الأقرب ، وارثاً كان أو غير وارث ، ذَكَراً كان أو أُنثى ، لأن القُرْب أولى بالاعتبار .
    ومَن كان فقيراً ، وله أبوان موسران فنفقته على الأب ، لأنه هو المكلف بالإنفاق على ولده الصغير ، بدليل قوله تعالى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [ الطلاق : 6] .
    (4/128)


    ... وأما نفقة على الكبير الفقير ، فاستصحاباً لما كان في الصغر. ومن كان فقيراً ، وله أًصل وفرع غنيّان ، قدم الفرع في وجوب النفقة ، وإن بعد ، لأن عصوبة الفرع أقوى من عصوبة الأصل ، وهو أولى بالقيام بشأن أبيه ، لعظم حرمته .
    وإذا تعدّد المحتاجون من أُصول وفروع وغيرهم ، وكان ما يفضل عن حاجته لا يتسع لنفقة جميعهم ، فإنه يقدّم بعضهم على بعض وفق الترتيب التالي :
    ... يقدم بعد نفسه :
    أ ـ زوجته ، لأن نفقتها آكد ، فإنها لا تسقط بمضي الزمان ، بخلاف نفقة الأصول والفروع ، فإنها تسقط بمضي الوقت ، كما ذكرنا سابقاً .
    ب ـ ولده الصغير ، ومثله البالغ المجنون ، وذلك لشدّة عجزهما عن الكسب .
    ج ـ الأُم ، لعجزها أيضاً ، ولتأكيد حقها بالحمل والوضع ، والإرضاع والتربية .
    د ـ الأب ، لعظيم فضله أيضاً .
    هـ ـ الابن الكبير الفقير ، لقربه من أبيه ، وللقرب مزية فضيلة .
    و ـ الجد وإن علا ، لأن حرمته من حرمة الأب ، وهو أصل تجب رعاية حقوقه .
    4ـ نفقة الزوجة على الزوج :
    تجب نفقة الزوجة على الزوج بالإجماع ، بشرط معينة سنذكرها ، فيما بعد .
    دليل وجوب هذه النفقة على الزوج :
    ويستدل لوجوب نفقة الزوجة على الزوج : بالكتاب ، والسنّة .
    أما دليل الكتاب : فقول الله عز وجل : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [ النساء : 34 ] .
    فقد دلّت هذه الآية على أن الزوج هو المسئول عن النفقة . وقوله الله سبحانه وتعالى :
    { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة :233] .
    والمولود له في الآية هو الزوج ، والضميري في { رِزْقُهُنَّ } عائد إلى الوالدات ، وهن الزوجات .
    والمعنى إذاً : و على الأزواج تَجِب نفقة الزوجات .
    (4/129)


    وأما دليل السنة : فما رواه مسلم ( الحج ، باب : حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، رقم : 1218) عن جابر - رضي الله عنه - في حديث حجة الوداع الطويل :
    قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله ، ولكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به ، كتاب الله ".
    الحكمة من إيجاب نفقة الزوجة على الزوج :
    إن الحياة الزوجية لابُدّ أن تنهض على أحد أُسس ثلاثة :
    الأساس الأول : أن يتولى الزوج الإشراف على بيت الزوجية ، وأن يكون هو المسئول عن النفقة على الزوجة والأولاد.
    الأساس الثاني : أن تتولى الزوجة ذلك كله بدلاً من الزوج .
    الأساس الثالث : أن يتعاون الزوجان في النهوض بالمسئوليات المادية ، وتقديم النفقة .
    فما الذي يحدث لو استبعدنا الأساس الأول : الذي هو حكم الشريعة الإسلامية ، واستعضنا عنه بأحد الأساسين الثاني ، أو الثالث ؟.
    تحدث عندئذ مجموعة النتائج التالية :
    الأول : لابد أن ينعكس ذلك على المهر أيضاً .
    فأما أن تتقدم المرأة بالمهر كله إلى الرجل ، أو أن يلزما بالاشتراك في تقديمه .
    ومن النتائج الحتمية لهذا الواقع أن تتحول المرأة ، فتصبح طالبة للزوج بعد أن شرّفها الله عز وجل ، فجعلها مطلوبة . ذلك لأن الذي يتقدم بالمال يكون هو الطالب لمن يأخذ المال . وإذا أصبحت الزوجة هي الساعية بحثاً عن زوجها ، فإنها لن تعثر على الزوج الذي تستطيع أن تركن إليه ، حتى تسقط السقطات المتتالية ، بخِداع الرجال ، وأكاذيبهم عليها .
    ثانياً : لابدّ أن تتجه المرأة هي الأخرى إلى سبل الكدح ، والعمل من أجل الرزق ، وأن تناكب الرجال سعياً وراء الأعمال المختلفة .
    وإذا فعلت المرأة ذلك ، أصبحت ـ لا محالة ـ عرضة للسوء والانحراف .
    (4/130)


    والواقع المشاهد أكبر دليل على ذلك .
    كما أن البيت يعوزه عندئذ مَن يدبر شأنه ، ويرعى حاله ،ويربي صغاره ، إذ يصبح عندئذ فارغاً موحشاً ، ومصدراً للفوضى ، والقلق والاضطراب بدلاً من أن يكون موئلا للسعادة ، ومنبعاً للأنس وملجأ للراحة والاستجمام .
    والواقع المشاهد أيضاً أكبر دليل على ذلك .
    ثالثاً : إذا قامت الحياة الزوجية على أحد من الأساسين المذكورين ، فلا بد أن يكون حق الطلاق بيدها ، على سبيل المشاركة ، أو الاستقلال . ذلك لأن القانون الاقتصادي والاجتماعي يقول : ( مَن ينفق يشرف ).
    وقد علمت في باب الطلاق الحكمة الباهرة من كون الطلاق ـ في أعم الأحوال ـ حقا للزوج .
    ... فمن أجل أن يكون كل من الزوجين عنصر إسعاد للآخر ، ومن أجل أن يكون بيت الزوجية عامراً بالرعاية والتهذيب والأنس ، ومن أجل أن تظل المرأة عزيزة يطلبها الرجال ، ولا تصبح مهينة تلحق الرجال ، وهو عنها مُعرض ، أو لها مُخادع . من أجل ذلك كله كان الإنفاق على بيت الزوجية واجباً على الزوج دون الزوجة .
    شروط وجوب نفقة الزوجة على الزوج :
    إنما تجب نفقة الزوجة على الزوج بالشروط التالية :
    أولاً : تمكين الزوجة نفسها من الزوج ، بأن لا تمنعه من وجوه الاستمتاع المشروع بها . فلو منعته ، ولو عن بعض ذلك فقط ، لم تجب نفقتها على الزوج .
    ... أما إن أرادها على وجه مُحرّم من الاستمتاع ، كأن أراد أن يأتيها وهي في المحيض ، فإن امتناعها لا يسقط حقّها في النفقة عليها .
    (4/131)


    ثانياً : أن تتبعه في المكان والبيت الذي يختاره ، ويستقر فيه ، ما لم يكن المكان أو البيت غير صالح للسكن ، أو البقاء فيه شرعاً . فلو كان يقيم في بلدة لا يلحقها ضرر شرعي صحيح بالإقامة معه فيها ، أو في بيت مستوف للشروط الشرعية المعتبرة ، ولم تقبل بالإقامة معه فيها ، أو في بيت مستوف للشروط الشرعية المعتبرة ، ولم تقبل بالإقامة معه في تلك البلدة ، أو ذلك المنزل ، لم يكلّف بالإنفاق عليها ، لأنها تُعدّ ناشزة حينئذ .
    إذا توفرت هذه الشروط وجب على الزوج أن يقدّم للزوجة جميع النفقات التي تحتاجها ، مما سيأتي تفصيله . وبذلك تعلم أن النفقة لا تجب على الزوج لمجرد العقد وحده .
    النفقة على الزوجة تقدّر حسب حال الزوج :
    اعلم أن النفقة على الزوجة مقدّرة ، ولكنها تتفاوت كّماِّ ونوعاً ،حسب تفاوت حال الزوج ، في العسر والُيسر .
    أما اختلاف حال الزوجة في ذلك فلا أثر له في هذا التفاوت .
    ذلك لأن التفاوت إنما يخضع لنسبة الاستطاعة ، وهي عائدة إلى حال المنفق ، لا إلى حال المنفق عليه .
    والدليل على هذا : قول الله عزّ وجلّ : لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } [ الطلاق : 7 ]
    ... ... فقد جعل ميزان الإنفاق تابعاً إلى حالة الزوج سعة وضيقاً ، لا إلى مستوى الزوجة ومكانتها . إذا عرفت هذا ، فاعلم أن حالة الزوج تصنّف شرعاً ضمن ثلاث درجات :
    1ـ درجة اليُسْر : ( الغنى ) . 2ـ درجة التوسط . 3ـ درجة الفقر .
    والعُرف العام هو المحكم في تحديد ما يكون الإنسان به موسراً ، أو متوسط الحال ، أو فقيراً .
    أ ـ فأما الزوج الموسر ، فيكلف من النفقة ما يلي :
    (4/132)


    ... أولاً : ما يساوي مد ( حفنتين كبيرتين ) كل يوم غالب قوت البلد التي هي فيها ، مع تكلفة طحنه وخبزه ، وما يتبع ذلك ، أو يقدم ذلك خبزاً جاهزاً .
    ثانياً : يقدم من الأدم ما اعتاده أهل تلك البلدة ، وما يقدّمه عادة أمثاله من أهل اليُسْر والغنى .
    وقد أطال الفقهاء في تفصيل ذلك ، ولكن المدار فيه على كل حال إنما هو عرف أهل البلدة .
    ثالثاً : الكسوة اللائقة بزوجات الموسرين في تلك البلدة ، ويظهر أثر العُرف في الكسوة ، في نوعها جودة ورداءة ، أما العدد والكمية ، فإنما يتبع ذلك الحاجة لا العُرْف . ويدخل في حكم الكسوة ما يتبعها من أثاث وفراش ، وأدوات مطبخ ونحو ذلك .
    ... ... واعلم أن دليل العُرْف في ذلك كله ، هو قول الله عزّ وجلّ : { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة :233 ] .
    ب ـ أما الزوج المتوسط فيكلف من النفقة بما يلي :
    ... أولاً : ما يساوي مدّاً ونصف مدّ من غالب قوت البلد التي هي فيه كل يوم .
    مع مراعاة ما ذكرنا بالنسبة لحال الموسر .
    ثانياً : الأدم الذي جرت به عادة أهل تلك البلدة بالنسبة لأوساط الناس ، نوعاً وكماً .
    ثالثاً : الكسوة اللائقة لزوجات أمثاله في ذلك المكان ، وما يتبعها من بقية حاجات المنزل المختلفة .
    ج ـ أما الزوج الفقير فيكلّف من النفقة بما يلي :
    أولاً : ما يساوي مدّاً واحداً من غالب قوت البلد كل يوم .
    ثانياً : الأدم الذي جرت به عادة الفقراء على اختلافه في تلك البلدة .
    ثالثاً : الكسوة اللائقة لزوجات أمثاله في ذلك المكان .
    ويستدل لمراعاة حال الزوج في كل ما سبق بما رواه أبو داود ( النكاح ، باب : في حق المرأة على زوجها ، رقم 2144) عن معاوية القشيري - رضي الله عنه - قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : ما تقول في نسائنا . قال : :" أطعموهنّ مما تأكلون ، واكسوهنّ مما تكتسون ، ولا تضربوهنّ ، ولا تقبِّحوهنّ .
    (4/133)




    مما يدخل في نفقة الزوجة إضافة لما سبق :
    ويدخل في نفقة الزوجة على اختلاف حال الزوج إضافة لما سبق ما يلي :
    أولاً : منزل مناسب لحال الزوج يسكن في زوجته ، على أن تتوفر فيه الضرورات التي لابدّ منها .
    ثانياً : كلّ ما لابدّ منه للنظافة والتنزه من الأدران والأوساخ ، وأدوات الزينة ، إذا كان الزوج طالباً منها أو تتزين له .
    ثالثاً : الخادم إذا كانت الزوجة ممّن يخدم مثلها في بيت أبيها ، سواء كان الزوج موسراً، أو متوسط الحال ، أ, كان فقيراً ، فيجب عليه أن يقدم لها مَن يخدمها بالقدر الذي تندفع به الحاجة .
    وينبغي أن يكون هذا الخادم أُنثى، أو طفلاً مميزاً غير بالغ ، أو محرماً لها . وأُجره هذا الخادم إنما هي على الزوج .
    هل نفقة الزوجة تمليك أم تمكين ؟
    لقد عرفت الفرق بين التمليك والتمكين ، عند حديثنا عن نفقة الأصول على الفروع ، ونفقة الفروع على الأصول .
    ... ... ونقول الآن :
    إذا كانت الزوجة تأكل مع زوجها ـ كما هي الغالبة في أيامنا ـ وتسكن معه دون أن يتفقا على قدر معين من القوت والأدم ، يلتزم به الزوج ، فهذه النفقة ، تُعد من قبيل التمكين ، لا التمليك ، وتسقط بمضي الزمن .
    ـ أما إذا كانت الزوجة قد اتفقت مع زوجها على قدر معين من النفقة يُجريه عليها ، أو كان القاضي قد ألزمه بقدر معين من النفقة لها ، فهي عندئذ مقدّرة ، تطالب بها ، حتى بعد مرور وقتها ، لأنها تُعدّ ـ والحالة هذه ـ من قبيل التمليك ، لا التمكين ، ولها أن تعتاض عنها بما تحب .
    أثر العُرْف في تقدير النفقة :
    مما سبق تعلم أن القوت الأساسي الذي لابدّ منه في الطعام ، لا أثر للعْرف في تقدير كميته .
    وإنما هو محدّد ـ كما علمت ـ في سائر الظروف والأحوال :
    بمدّين ، للموسر .
    ... ... ومدّ ونصف المدّ ، للمتوسط .
    ... ... ومدّ واحد ، للفقير .
    يقدّمه كل منهم لزوجته خبزاً ، أو حبّاً مع تقديم كلفة طحنه وخبزه .
    وذلك لأن قوت ضروري لا يتأثر باختلاف العُرْف .
    معاينة عدد المشاهدات :
    تحميل عدد التحميلات :

    ليست هناك تعليقات: