التصوّف ( عبودية لله تعالى )
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على أشرف النبيين وآله وصحبه أجمعين ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين .
أمّا بعد :
قال الشيخ الإمام سيدي أحمد زروق الفاسي
رضي الله عنه ( قد فسّر التصوّف وعرّف بوجوه تبلغ نحو ألفين مرجع كلّها إلى صدق التوجّه إلى الله تعالى ) أو كما قاله في قواعده .
قلت :
من فهم من التصوّف غير ما عرّفه به الشيخ سيدي أحمد زرّوق رضي الله عنه فقد أخطأ طريق التصوّف من أوّل قدم , بل التصوّف في حقيقته هو ( عبودية الله تعالى الحقّة ) أمّا غير هذا فلا يعدّ تصوّف وجاز لمن حارب من خرج عن هذا الأصل الجامع لقوله تعالى ( وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون ) قال ابن عباس رضي الله عنه ( أي ليعرفون ) لأنّ حقيقة العبادة لا تدلّ إلا على الله تعالى ولا تعرّفك إلاّ به فالعبودية أصل وثمرتها التي هي المعرفة فرع ( أصلها ثابت وفرعها في السماء ) ثابت في أرض العبودية وفرعها في السماء عنوان تيجان الخصوصية , ثابتة في أرض الخمول عبودية وبادية في فرع الظهور خصوصية , ثابت أصلها يسقى من ماء طهور وعاليا فرعها عمود من نور.
فالتصوّف لم أعرفه غير العبودية لله تعالى ومن قال غير هذا فقد كذب على الله تعالى لهذا عرّف الإحسان في قوله عليه الصلاة والسلام ( أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ) قد يسأل سائل : ولكن كيف تكون تلك العبادة وهي في محلّ الرؤية فهل تشتغل بالعبادة أم بالرؤية عنها ؟ الجواب : أنّ تلك العبادة هي الرؤية في حدّ ذاتها , عبادة النظر وهي أسمى وأرقى وأكمل العبادات وإنّما وقع التشبيه بأداته ( كأنّ ) وهي من أخوات التوكيد لعدم الإحاطة بما تراه وتعاينه فأنت مهما رأيت أو نظرت فإنّك تراه بقدر عبوديتك ومقامك فليس رؤيته عليه الصلاة والسلام كرؤيتك أنت وكذلك جميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام لهذا تنوّعت الأعمال وإختلفت الأحوال فكلّ له مقام معلوم إلاّ أهل يثرب فلا مقام لهم .
لذا لا يكون العارف عارفا حتّى يتنزّه عن المقامات . كما قال عليه الصلاة والسلام لمّا فضّلوه على الأنبياء والمرسلين وهو أفضلهم وأشرفهم :( إنّما أنا عبد الله ورسوله فقولوا عبد الله ورسوله ) وقال : لا تفضّلوني على أخي يونس لأنّ التفضيل يكون عن ملاحظة المقامات وهذا أمر لا يسبق العبودية بل العبودية تسبقه فأنت متى علمت معرفتك ومقامك عند الله تعالى فقدّمته على عبوديتك وحاججت به ربّك والناس أرداك ذلك المقام إلى الهاوية لهذا قال إبليس لعنه الله تعالى ( أنا خير منه ) فلاحظ مقامه قبل عبوديته التي هي أمره بالسجود فحكمت عليه الحضرة أنّه من المتكبّرين لأنّه راعى مقامه قبل عبوديته لذا قالت الملائكة الكرام عليهم جميعا السلام فهم ساداتنا ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمد ونقدّس لك ) فما إحتجّت بمقامها بل إحتجّت بعبوديتها لهذا لم تزلّ كما زلّ إبليس لعنه الله تعالى فما ذكرت غير جانب عبوديتها لهذا لم تقل مثلا ( نحن خلقتنا من نور ) .
فكلّ من راعى مقامه في معاملته مع ربّه ثمّ مع خلقه قبل مراعاة عبوديته فعن قريب سيكون من الكافرين المتكبرين ومن هنا سقط الكثير من أهل السلوك لهذا تحتّم وجود الشيخ .
قصّة :
مرّة علم شيخنا رضي الله عنه أنّي عزمت على الإسترواح في كتاب الله العزيز بما يقذفه الله تعالى في قلبي من معاني فحضرت له مذاكرة كانت في ليلة المولد الشريف فممّا قاله وكان يقصدني وكنت جالسا في آخر المجلس أو أقلّ بقليل : من هذا الذي سيتجرّأ على كتاب الله تعالى يريد تفسيره ويستروح في آياته ثمّ قال قولا غليظا يرهب القلوب والأرواح منها أنّ الفقير جاء كي يطهّر نفسه من الذنوب ويحافظ على صلواته في أوقاتها فنحلّيه باطنا ثمّ ظاهرا , إلاّ أنّ الله تعالى تداركني بلطفه فقال له أحد ساداتنا الفقراء من العارفين بالله تعالى : يا سيدي ومن جاءته واردات ألا يكتبها ؟ فقال شيخنا رضي الله عنه : بل يكتبها ولا يطلع عليها أحدا غير شيخه فإنّ من قال في القرآن برأيه فهو كذا وكذا .. إلخ من الزجر والوعيد الشديد ... وقد كان شيخنا عالما عارفا واصلا رضي الله عنه فنعم الشيخ هو رضي الله تعالى عنه .
أعود :
وكذلك فعل السامري لعنه الله تعالى فقد راعى خصوصيته قبل مراعاته عبوديته فخرج من التوحيد إلى الشرك كما خرج الأوّل من التوحيد إلى الكفر إلاّ أنّهما إتّحدا في الدلالة على الشرك فهؤلاء يعبدون الشيطان فجعلوه شريكا لله تعالى وأؤلائك يعبدون الدجّال ظنّا منهم أنّه الله تعالى , تعالى الله علوّا كبيرا .
فلمّا راعى خصوصيته ذكرها لمّا سأله سيّدنا موسى عليه السلام ( قال فما خطبك ياسامري ) فردّ عليه ( قال بصرت بما لم يبصروا به ) , فراعى إبليس لعنه الله تعالى مقامه الظاهري في قوله ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) بينما راعى السامري لعنه الله تعالى مقامه الباطني من حيث عالم الملكوت لمّا رأى أثر جبريل وأخذ منه فلمّا سبقت خصوصيتهما عبوديتهما وكانا من العارفين إنحدرا إلى أسفل السافلين بخلاف آدم فإنّه ما راعى قطّ مقامه أو حاله أو علمه بل فقط لم يراعي أمر ربّه له بعدم الأكل من الشجرة فكان آدم راسخا في العبودية غير متكبر بتلك الخصوصية ..
لهذا فإنّ السالك تتتبرّج له الأكوان السفلية عند بعض الطرق قبل أن تتبرّج له الأكوان العلوية عند عامّة الطرق فكما ورد في الحكمة فإنّ ذلك التبرّج يقول له ( إنّما نحن فتنة فلا تكفر ) كما في الحكم العطائية , أنظر قولها ( فلا تكفر ) فتتوارد على السالك عوالم وعوالم وحور وقصور ونعيم مقيم ولكنّه لا يأبه لذلك وهو قاصد إلى العلي القدير غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب وإنّما متى وقف به السير فلأنّه لا يريد أن يعبد الله كأنّه يراه فإنّه لو أراد هذا ما نظرت عيناه أو إنفتحت بصيرته على غير مولاه وخالقه وإنّما ورد في السنّة تكحيل العين فلأنّها لا تنظر إلاّ إلى نور الله تعالى فهذا هو التصوّف وما عدا ذلك فهو كذب وخداع وغشّ في طريق الله تعالى وهو طريق إبليس لعنه الله تعالى والسامري لعنه الله تعالى ..
فكلّ من لم يدلّك على الله مقاله وأنشطك حاله , كما قال في الحكمة ( لا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله ) فاعلم يا أخي أنّ علم التصوّف وحقيقته هو ما ورد في كتاب الحكم العطائية مع شروحها فكلّ من لم يهتمّ بالحكم ويفهمها ويتذوّقها حقيقة سائرة فلا تأبه له في طريق السادة الصوفية ...
فلا تقف عينك على غيره سبحانه فلا تراعي أحدا سواه فإنّه على قدر مراعاتك الخلق تسقط من عين الربّ ...
تحميل الموضوع ملف وورد :
والصلاة والسلام على أشرف النبيين وآله وصحبه أجمعين ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين .
أمّا بعد :
قال الشيخ الإمام سيدي أحمد زروق الفاسي
رضي الله عنه ( قد فسّر التصوّف وعرّف بوجوه تبلغ نحو ألفين مرجع كلّها إلى صدق التوجّه إلى الله تعالى ) أو كما قاله في قواعده .
قلت :
من فهم من التصوّف غير ما عرّفه به الشيخ سيدي أحمد زرّوق رضي الله عنه فقد أخطأ طريق التصوّف من أوّل قدم , بل التصوّف في حقيقته هو ( عبودية الله تعالى الحقّة ) أمّا غير هذا فلا يعدّ تصوّف وجاز لمن حارب من خرج عن هذا الأصل الجامع لقوله تعالى ( وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون ) قال ابن عباس رضي الله عنه ( أي ليعرفون ) لأنّ حقيقة العبادة لا تدلّ إلا على الله تعالى ولا تعرّفك إلاّ به فالعبودية أصل وثمرتها التي هي المعرفة فرع ( أصلها ثابت وفرعها في السماء ) ثابت في أرض العبودية وفرعها في السماء عنوان تيجان الخصوصية , ثابتة في أرض الخمول عبودية وبادية في فرع الظهور خصوصية , ثابت أصلها يسقى من ماء طهور وعاليا فرعها عمود من نور.
فالتصوّف لم أعرفه غير العبودية لله تعالى ومن قال غير هذا فقد كذب على الله تعالى لهذا عرّف الإحسان في قوله عليه الصلاة والسلام ( أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ) قد يسأل سائل : ولكن كيف تكون تلك العبادة وهي في محلّ الرؤية فهل تشتغل بالعبادة أم بالرؤية عنها ؟ الجواب : أنّ تلك العبادة هي الرؤية في حدّ ذاتها , عبادة النظر وهي أسمى وأرقى وأكمل العبادات وإنّما وقع التشبيه بأداته ( كأنّ ) وهي من أخوات التوكيد لعدم الإحاطة بما تراه وتعاينه فأنت مهما رأيت أو نظرت فإنّك تراه بقدر عبوديتك ومقامك فليس رؤيته عليه الصلاة والسلام كرؤيتك أنت وكذلك جميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام لهذا تنوّعت الأعمال وإختلفت الأحوال فكلّ له مقام معلوم إلاّ أهل يثرب فلا مقام لهم .
لذا لا يكون العارف عارفا حتّى يتنزّه عن المقامات . كما قال عليه الصلاة والسلام لمّا فضّلوه على الأنبياء والمرسلين وهو أفضلهم وأشرفهم :( إنّما أنا عبد الله ورسوله فقولوا عبد الله ورسوله ) وقال : لا تفضّلوني على أخي يونس لأنّ التفضيل يكون عن ملاحظة المقامات وهذا أمر لا يسبق العبودية بل العبودية تسبقه فأنت متى علمت معرفتك ومقامك عند الله تعالى فقدّمته على عبوديتك وحاججت به ربّك والناس أرداك ذلك المقام إلى الهاوية لهذا قال إبليس لعنه الله تعالى ( أنا خير منه ) فلاحظ مقامه قبل عبوديته التي هي أمره بالسجود فحكمت عليه الحضرة أنّه من المتكبّرين لأنّه راعى مقامه قبل عبوديته لذا قالت الملائكة الكرام عليهم جميعا السلام فهم ساداتنا ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمد ونقدّس لك ) فما إحتجّت بمقامها بل إحتجّت بعبوديتها لهذا لم تزلّ كما زلّ إبليس لعنه الله تعالى فما ذكرت غير جانب عبوديتها لهذا لم تقل مثلا ( نحن خلقتنا من نور ) .
فكلّ من راعى مقامه في معاملته مع ربّه ثمّ مع خلقه قبل مراعاة عبوديته فعن قريب سيكون من الكافرين المتكبرين ومن هنا سقط الكثير من أهل السلوك لهذا تحتّم وجود الشيخ .
قصّة :
مرّة علم شيخنا رضي الله عنه أنّي عزمت على الإسترواح في كتاب الله العزيز بما يقذفه الله تعالى في قلبي من معاني فحضرت له مذاكرة كانت في ليلة المولد الشريف فممّا قاله وكان يقصدني وكنت جالسا في آخر المجلس أو أقلّ بقليل : من هذا الذي سيتجرّأ على كتاب الله تعالى يريد تفسيره ويستروح في آياته ثمّ قال قولا غليظا يرهب القلوب والأرواح منها أنّ الفقير جاء كي يطهّر نفسه من الذنوب ويحافظ على صلواته في أوقاتها فنحلّيه باطنا ثمّ ظاهرا , إلاّ أنّ الله تعالى تداركني بلطفه فقال له أحد ساداتنا الفقراء من العارفين بالله تعالى : يا سيدي ومن جاءته واردات ألا يكتبها ؟ فقال شيخنا رضي الله عنه : بل يكتبها ولا يطلع عليها أحدا غير شيخه فإنّ من قال في القرآن برأيه فهو كذا وكذا .. إلخ من الزجر والوعيد الشديد ... وقد كان شيخنا عالما عارفا واصلا رضي الله عنه فنعم الشيخ هو رضي الله تعالى عنه .
أعود :
وكذلك فعل السامري لعنه الله تعالى فقد راعى خصوصيته قبل مراعاته عبوديته فخرج من التوحيد إلى الشرك كما خرج الأوّل من التوحيد إلى الكفر إلاّ أنّهما إتّحدا في الدلالة على الشرك فهؤلاء يعبدون الشيطان فجعلوه شريكا لله تعالى وأؤلائك يعبدون الدجّال ظنّا منهم أنّه الله تعالى , تعالى الله علوّا كبيرا .
فلمّا راعى خصوصيته ذكرها لمّا سأله سيّدنا موسى عليه السلام ( قال فما خطبك ياسامري ) فردّ عليه ( قال بصرت بما لم يبصروا به ) , فراعى إبليس لعنه الله تعالى مقامه الظاهري في قوله ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) بينما راعى السامري لعنه الله تعالى مقامه الباطني من حيث عالم الملكوت لمّا رأى أثر جبريل وأخذ منه فلمّا سبقت خصوصيتهما عبوديتهما وكانا من العارفين إنحدرا إلى أسفل السافلين بخلاف آدم فإنّه ما راعى قطّ مقامه أو حاله أو علمه بل فقط لم يراعي أمر ربّه له بعدم الأكل من الشجرة فكان آدم راسخا في العبودية غير متكبر بتلك الخصوصية ..
لهذا فإنّ السالك تتتبرّج له الأكوان السفلية عند بعض الطرق قبل أن تتبرّج له الأكوان العلوية عند عامّة الطرق فكما ورد في الحكمة فإنّ ذلك التبرّج يقول له ( إنّما نحن فتنة فلا تكفر ) كما في الحكم العطائية , أنظر قولها ( فلا تكفر ) فتتوارد على السالك عوالم وعوالم وحور وقصور ونعيم مقيم ولكنّه لا يأبه لذلك وهو قاصد إلى العلي القدير غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب وإنّما متى وقف به السير فلأنّه لا يريد أن يعبد الله كأنّه يراه فإنّه لو أراد هذا ما نظرت عيناه أو إنفتحت بصيرته على غير مولاه وخالقه وإنّما ورد في السنّة تكحيل العين فلأنّها لا تنظر إلاّ إلى نور الله تعالى فهذا هو التصوّف وما عدا ذلك فهو كذب وخداع وغشّ في طريق الله تعالى وهو طريق إبليس لعنه الله تعالى والسامري لعنه الله تعالى ..
فكلّ من لم يدلّك على الله مقاله وأنشطك حاله , كما قال في الحكمة ( لا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله ) فاعلم يا أخي أنّ علم التصوّف وحقيقته هو ما ورد في كتاب الحكم العطائية مع شروحها فكلّ من لم يهتمّ بالحكم ويفهمها ويتذوّقها حقيقة سائرة فلا تأبه له في طريق السادة الصوفية ...
فلا تقف عينك على غيره سبحانه فلا تراعي أحدا سواه فإنّه على قدر مراعاتك الخلق تسقط من عين الربّ ...
تحميل الموضوع ملف وورد :
الكلمات المفتاحية :
العبودية
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: