فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي 2
بسم الله الرحمان الرحيم - نزيد في هذا الفصل : قلت : الأصل في الإيمان بالله تعالى هو هذا النفخ للروح في آدم فلو لا هذا النفخ لما استوى بشرا سويّا , فهذا النفخ
هو حبل الله الممدود بينه وبين خلقه فهو لا يعطي مفهوما إتّحاديّا ولا حلوليّا , فإنّ الروح مخلوقة ومنها روح آدم وروح كلّ إنسان نفخت فيه وهو في بطن أمّه , فهي قادمة من عالمها الذي هو عالم الغيب وهو عالم المعنى ( وما أدراك ما عالم المعاني ) هذا العالم الذي أحاط بكلّ عالم فهو البحر المحيط , لذا نبغ أهل المعاني في العلوم لأنّ علوم الحقيقة كلّها معاني وهي المراد في أخصّ خصوصياتها بالعلم اللدني. فروح الإنسان لا بدّ لها من روح تقوم بها في حياتها وإدراكها وسمعها وبصرها وإلاّ فإنّها لا تقوم بنفسها كما أنّ الجسم لا يقوم بنفسه فمتى عدم الروح مات وفني فكذلك الروح تنعدم وتفنى وتجهل متى عدمت النفخ الإلهي فيها وهو المعبّر به عند القوم ( بسرّ الإله في عبيده ) كما قال سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه في قصيد له : - أنا لست إنسان ولا من الجنّ --- أنا سرّ الرحمان أنا الكلّي منّي – فهو يعبّر عن مشهد السرّ وهو مشهد الجمع وأنّ جميع المخلوقات قائمة بالله تعالى فلا حركة لها ولا سكون , هذا في أعمّ عمومياتها من حيث الوجود الكلّي لقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). فذكر وجوب التفكّر الذي هو دلالة الإيقان بالآيات والدلالات التي تدلّ عليه لأنّه خلقهما بالحقّ , وكذلك القرآن ( بالحقّ نزل ) ثمّ هذه المخلوقات لها مقام أدنى وأعلى في الإكرام والتشريف , فأعلى ما ناله مخلوق هو الإنسان لقوله تعالى : (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ). فهو شاهد على أنّ أعلى مقاما من المقامات لا يناله إلاّ بني الإنسان لذا كرّمه الله تعالى وشرّفه بمقام الخلافة ونفخ الروح فيه فقد خلقه بيديه. وعلى هذا كان ارتباط الإنسان بخالقه ارتباط العبد بمعبوده وربّه فهو لا يتنفّس إلاّ به ولا يتكلّم إلاّ به ولا يقوم ولا ينام ولا يفعل إلا به ... لأنّه في الشاهد لو تلاحظ أنّه لا يقام لجسمك وأعضائك إلاّ بروحك فلو عدمت الروح متّ في الوقت ولو لا أنّ الروح تمدّك بشعاعها عند نومك لمتّ وأنت نائم فهي ترعاك في كلّ وقت وحين فالروح قائمة بجسدك غاية القيام فلا تغفل عنه. ولله المثل الأعلى فكذلك الحضرة لا تغفل عن روحك أبدا بل هي معك في كلّ نفس أو شأن لقوله تعالى ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) فكانت روحك لا قيام لها البتّة إلاّ بالله تعالى , فصحّ أنّه لا قيام لك في جملتك إلاّ بالله تعالى , لذا أمدّك بأسماء هذا القيام : كقولك : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله في تصرّفك , وكقولك : الله أعلم في معلوماتك , وكقولك حسبنا الله ونعم الوكيل في مأزقك , وكقولك : إنّ لله وإنّ إليه راجعون في مصابك , وكقولك : بسم الله والحمد لله في بدايتك ونهايتك ..وهكذا .. فمتى استشعرت ما تقوله من هذا استشعرت قرب الله تعالى منك , وهذا أمر معقول دلّت عليه النصوص من الكتاب والسنّة وأقوال العارفين. فمتى علمت بأنّك عبد لله عشت على هذه الحقيقة ولا تعيش على أي حقيقة أخرى غيرها لأنّها وهم وخيال , وهكذا ترى الأنبياء والمرسلين في كلّ شأن من شؤونهم يرجعون في ذلك إلى الله تعالى. وكان شيخي رضي الله عنه يقول لي في كلّ أمر أشكو منه : قدّر الله وما شاء فعل , ويقول لي : وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله , فما رأيت في زمني هذا وما خالطت أحد أكثر تسليما لله تعالى من شيخي رضي الله عنه فتعلّمت منه الكثير , ومرّة قال لي : يا سيدي ما تكتبه أو تقوله ممّا يوافق العقل والنقل ويدلّ عليه شاهد من الكتاب والسنّة فليس هو لك ولكنّه لي رزقني المولى إيّاه فأنت تنفق من مال أبيك. فما حبّبني شيء في العارفين وأهل الله تعالى أكثر من محبّتهم لله تعالى والهيمان والأدب على بابه , فوالله ما إن تجالس عارف بالله تعالى حتّى تبدّل لديك الأرض غير الأرض والسماوات كما ورد في الحديث ( يا رسول الله عندما نكون عندك وتحدّثنا عن الجنّة والنّار فكأنّنا نراها رأي عين ) فهذا الحديث وإلاّ فلا. فكان قرب الله من العبد واضح تشهد له آيات وأحاديث كقوله تعالى: ( فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي ). وكقوله تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ). وكقوله تعالى في نفس الآية : ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ). فأنظر حباك الله إلى هذا القرب الذي ليس بعده قرب , وأنت تبحث عن مولاك فكأنّه غائبا مخفيّا وهو الظاهر سبحانه فليس فوقه شيء كما أنّه الباطن فليس بعده شيء , حتّى أنّ الصحابة لمّا علت تكبيراتهم في الطريق إلى العمرة نهاهم رسول الله عليه الصلاة والسلام رفقا بهم فقال : ( أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا قريبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ). فكاشفهم رسول الله عليه الصلاة والسلام بهذه الحقيقة الناصعة التي شمسها واضحة. ليس الغريب أن يكون قرب الله منّا في هذا المستوى بل هذا ثابت في القرآن والسنّة وفي جميع الحقائق , وإنّما الغريب أن لا يستشعر الإنسان هذا القرب حتّى فسّر آيات القرآن على طريق البعد كما فعل فرعون لمّا أمر وزيره أن يبني له صرحا يطّلع به في السماء كما قال تعالى : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ). فجعل نفسه إله في الأرض وظنّ أنّ إله موسى في السماء لذا نبّهه موسى عليه السلام أنّ الإله إله سواء في الأرض أو في السماء كما قال تعالى : ( قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ). فهو ربّ الأرض والسماء ¸ وكذلك (وهو الذي في السماء اله وفي الأرض اله ) في ربّ السماوات والأرض وإله فيهما وليس بعد هذا إيضاح. والمقصود أنّ قرب الإله من عبده يدلّ عليه طبيعة خلق آدم وأنّ الله خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته فجمع كلّ هذا : منها : أنّ منشأه في العالم العلوي. ومنها : أنّ قربه من ربّه بقدر ما علمت من كيفية خلقه. ومنها : ما امتاز به من العلم الذي استوجب سجود الملائكة له. ومنها : أنّه محبّب عنده لأنّ الله تعالى غضب على من رفض السجود له لذا قال له : ( قَالَ يا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ). ومنها : أنّه أسكنه الجنّة وجعلها دارا له. ومنها : أنّه نهاه عن الأكل شهوة البطن ليستشعر وهو في جنّته أمر مولاه فلا يغفل عنه أبدا. ومنها : أنّه تاب عليه بعد أن عصاه لحبّه له وقربه منه. ومنها : أنّه جعل في ذرّيته الإمامة والخلافة وجميع مراتب الخصوصية فكان سيّد العالمين من البشر وهو سيّدنا ومولانا محمّد رسول الله عليه الصلاة والسلام. ومنها : أنّ الجنّة لا يدخلها أحد قبل البشر. ومنها : أنّ الكون جميعه سخّره لبني آدم لذا أعطاهم عقولا فكانوا حكّاما ومتصرّفين في غيرهم ونيابة وخلافة. ومنها : أنّه يستجيب دعاءهم ويرحمهم ويتوب عليهم في كلّ نفس ويعفو عنهم. ومنها : أنّه من محبّته لهم يفنيهم عن أنفسهم فيغيبون عنها ليشهدهم جماله. فإنّ محبّة الله تعالى لعباده تفوق الخيال فمن عرف الله تعالى فني فيه حبّا وهياما وآدابا ... قال تعالى : ( فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي ). فهل سعدت يوما بأجمل من هذا الخطاب وهو يخاطب ملائكته ويتباهى بهذا العبد فأمرهم بالسجود له فسجدوا ولا زالوا ساجدين. فهذا القرب الذي لا نهاية له ولا يكيّف ولا يطاق هو مشمول موضوع التصوّف ذلك العلم الذي عزّ وجوده في هذا الزمان ولا ندّعي أنّنا نجده. فليس الصوفي إلاّ عبدا أحبّه الله تعالى وقرّبه وأدناه فعرف وغرف من بحار المعاني وتفكّر وتدبّر القرآن وهام بتلك الروح في ميادين الإحسان وشاهد هناك الجمال وحبي بالدلال وعدم نهايات الكمال. فليس بينك وبين ربّك غير أفراح العبودية التي هي في الحقيقة أعظم وأكرم خصوصية وبهذا قال إمامنا سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه , فكن عبدا لله يكون ربّا لك , أمّا غير ذلك فلا , من هنا قال العارفون ليس بينك وبين ربّك غير خطوة ( لو تقدّمت خطوة لاخترقت ). هذا واعلموا رحكم الله أنّ الدين الصحيح الحقيقي الذي جاء به محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام ناله وحفظه ساداتنا الصوفية من كبار العارفين بالله تعالى وسيقول لهم الجمع يوم القيامة ( يا إخواننا ما أنصفتمونا ) فسيقولون لهم : ( وأنتم هل أنصفتمونا في الدنيا ) فسيشهدون أنّهم كانوا يصومون كما يصومون ويصلّون كما يصلّون ولكن هل كنتم تحبّون كما كانوا يحبّون وهل كنتم تتفكّرون كما كانوا ينفكّرون وهل كنتم تتفكّرون وتتدبّرون كما كانوا يتدبّرون ( السابقون السابقون أؤلائك المقرّبون ).
تحميل الموضوع ملف وورد :
هو حبل الله الممدود بينه وبين خلقه فهو لا يعطي مفهوما إتّحاديّا ولا حلوليّا , فإنّ الروح مخلوقة ومنها روح آدم وروح كلّ إنسان نفخت فيه وهو في بطن أمّه , فهي قادمة من عالمها الذي هو عالم الغيب وهو عالم المعنى ( وما أدراك ما عالم المعاني ) هذا العالم الذي أحاط بكلّ عالم فهو البحر المحيط , لذا نبغ أهل المعاني في العلوم لأنّ علوم الحقيقة كلّها معاني وهي المراد في أخصّ خصوصياتها بالعلم اللدني. فروح الإنسان لا بدّ لها من روح تقوم بها في حياتها وإدراكها وسمعها وبصرها وإلاّ فإنّها لا تقوم بنفسها كما أنّ الجسم لا يقوم بنفسه فمتى عدم الروح مات وفني فكذلك الروح تنعدم وتفنى وتجهل متى عدمت النفخ الإلهي فيها وهو المعبّر به عند القوم ( بسرّ الإله في عبيده ) كما قال سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه في قصيد له : - أنا لست إنسان ولا من الجنّ --- أنا سرّ الرحمان أنا الكلّي منّي – فهو يعبّر عن مشهد السرّ وهو مشهد الجمع وأنّ جميع المخلوقات قائمة بالله تعالى فلا حركة لها ولا سكون , هذا في أعمّ عمومياتها من حيث الوجود الكلّي لقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). فذكر وجوب التفكّر الذي هو دلالة الإيقان بالآيات والدلالات التي تدلّ عليه لأنّه خلقهما بالحقّ , وكذلك القرآن ( بالحقّ نزل ) ثمّ هذه المخلوقات لها مقام أدنى وأعلى في الإكرام والتشريف , فأعلى ما ناله مخلوق هو الإنسان لقوله تعالى : (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ). فهو شاهد على أنّ أعلى مقاما من المقامات لا يناله إلاّ بني الإنسان لذا كرّمه الله تعالى وشرّفه بمقام الخلافة ونفخ الروح فيه فقد خلقه بيديه. وعلى هذا كان ارتباط الإنسان بخالقه ارتباط العبد بمعبوده وربّه فهو لا يتنفّس إلاّ به ولا يتكلّم إلاّ به ولا يقوم ولا ينام ولا يفعل إلا به ... لأنّه في الشاهد لو تلاحظ أنّه لا يقام لجسمك وأعضائك إلاّ بروحك فلو عدمت الروح متّ في الوقت ولو لا أنّ الروح تمدّك بشعاعها عند نومك لمتّ وأنت نائم فهي ترعاك في كلّ وقت وحين فالروح قائمة بجسدك غاية القيام فلا تغفل عنه. ولله المثل الأعلى فكذلك الحضرة لا تغفل عن روحك أبدا بل هي معك في كلّ نفس أو شأن لقوله تعالى ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) فكانت روحك لا قيام لها البتّة إلاّ بالله تعالى , فصحّ أنّه لا قيام لك في جملتك إلاّ بالله تعالى , لذا أمدّك بأسماء هذا القيام : كقولك : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله في تصرّفك , وكقولك : الله أعلم في معلوماتك , وكقولك حسبنا الله ونعم الوكيل في مأزقك , وكقولك : إنّ لله وإنّ إليه راجعون في مصابك , وكقولك : بسم الله والحمد لله في بدايتك ونهايتك ..وهكذا .. فمتى استشعرت ما تقوله من هذا استشعرت قرب الله تعالى منك , وهذا أمر معقول دلّت عليه النصوص من الكتاب والسنّة وأقوال العارفين. فمتى علمت بأنّك عبد لله عشت على هذه الحقيقة ولا تعيش على أي حقيقة أخرى غيرها لأنّها وهم وخيال , وهكذا ترى الأنبياء والمرسلين في كلّ شأن من شؤونهم يرجعون في ذلك إلى الله تعالى. وكان شيخي رضي الله عنه يقول لي في كلّ أمر أشكو منه : قدّر الله وما شاء فعل , ويقول لي : وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله , فما رأيت في زمني هذا وما خالطت أحد أكثر تسليما لله تعالى من شيخي رضي الله عنه فتعلّمت منه الكثير , ومرّة قال لي : يا سيدي ما تكتبه أو تقوله ممّا يوافق العقل والنقل ويدلّ عليه شاهد من الكتاب والسنّة فليس هو لك ولكنّه لي رزقني المولى إيّاه فأنت تنفق من مال أبيك. فما حبّبني شيء في العارفين وأهل الله تعالى أكثر من محبّتهم لله تعالى والهيمان والأدب على بابه , فوالله ما إن تجالس عارف بالله تعالى حتّى تبدّل لديك الأرض غير الأرض والسماوات كما ورد في الحديث ( يا رسول الله عندما نكون عندك وتحدّثنا عن الجنّة والنّار فكأنّنا نراها رأي عين ) فهذا الحديث وإلاّ فلا. فكان قرب الله من العبد واضح تشهد له آيات وأحاديث كقوله تعالى: ( فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي ). وكقوله تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ). وكقوله تعالى في نفس الآية : ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ). فأنظر حباك الله إلى هذا القرب الذي ليس بعده قرب , وأنت تبحث عن مولاك فكأنّه غائبا مخفيّا وهو الظاهر سبحانه فليس فوقه شيء كما أنّه الباطن فليس بعده شيء , حتّى أنّ الصحابة لمّا علت تكبيراتهم في الطريق إلى العمرة نهاهم رسول الله عليه الصلاة والسلام رفقا بهم فقال : ( أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا قريبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ). فكاشفهم رسول الله عليه الصلاة والسلام بهذه الحقيقة الناصعة التي شمسها واضحة. ليس الغريب أن يكون قرب الله منّا في هذا المستوى بل هذا ثابت في القرآن والسنّة وفي جميع الحقائق , وإنّما الغريب أن لا يستشعر الإنسان هذا القرب حتّى فسّر آيات القرآن على طريق البعد كما فعل فرعون لمّا أمر وزيره أن يبني له صرحا يطّلع به في السماء كما قال تعالى : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ). فجعل نفسه إله في الأرض وظنّ أنّ إله موسى في السماء لذا نبّهه موسى عليه السلام أنّ الإله إله سواء في الأرض أو في السماء كما قال تعالى : ( قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ). فهو ربّ الأرض والسماء ¸ وكذلك (وهو الذي في السماء اله وفي الأرض اله ) في ربّ السماوات والأرض وإله فيهما وليس بعد هذا إيضاح. والمقصود أنّ قرب الإله من عبده يدلّ عليه طبيعة خلق آدم وأنّ الله خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته فجمع كلّ هذا : منها : أنّ منشأه في العالم العلوي. ومنها : أنّ قربه من ربّه بقدر ما علمت من كيفية خلقه. ومنها : ما امتاز به من العلم الذي استوجب سجود الملائكة له. ومنها : أنّه محبّب عنده لأنّ الله تعالى غضب على من رفض السجود له لذا قال له : ( قَالَ يا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ). ومنها : أنّه أسكنه الجنّة وجعلها دارا له. ومنها : أنّه نهاه عن الأكل شهوة البطن ليستشعر وهو في جنّته أمر مولاه فلا يغفل عنه أبدا. ومنها : أنّه تاب عليه بعد أن عصاه لحبّه له وقربه منه. ومنها : أنّه جعل في ذرّيته الإمامة والخلافة وجميع مراتب الخصوصية فكان سيّد العالمين من البشر وهو سيّدنا ومولانا محمّد رسول الله عليه الصلاة والسلام. ومنها : أنّ الجنّة لا يدخلها أحد قبل البشر. ومنها : أنّ الكون جميعه سخّره لبني آدم لذا أعطاهم عقولا فكانوا حكّاما ومتصرّفين في غيرهم ونيابة وخلافة. ومنها : أنّه يستجيب دعاءهم ويرحمهم ويتوب عليهم في كلّ نفس ويعفو عنهم. ومنها : أنّه من محبّته لهم يفنيهم عن أنفسهم فيغيبون عنها ليشهدهم جماله. فإنّ محبّة الله تعالى لعباده تفوق الخيال فمن عرف الله تعالى فني فيه حبّا وهياما وآدابا ... قال تعالى : ( فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي ). فهل سعدت يوما بأجمل من هذا الخطاب وهو يخاطب ملائكته ويتباهى بهذا العبد فأمرهم بالسجود له فسجدوا ولا زالوا ساجدين. فهذا القرب الذي لا نهاية له ولا يكيّف ولا يطاق هو مشمول موضوع التصوّف ذلك العلم الذي عزّ وجوده في هذا الزمان ولا ندّعي أنّنا نجده. فليس الصوفي إلاّ عبدا أحبّه الله تعالى وقرّبه وأدناه فعرف وغرف من بحار المعاني وتفكّر وتدبّر القرآن وهام بتلك الروح في ميادين الإحسان وشاهد هناك الجمال وحبي بالدلال وعدم نهايات الكمال. فليس بينك وبين ربّك غير أفراح العبودية التي هي في الحقيقة أعظم وأكرم خصوصية وبهذا قال إمامنا سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه , فكن عبدا لله يكون ربّا لك , أمّا غير ذلك فلا , من هنا قال العارفون ليس بينك وبين ربّك غير خطوة ( لو تقدّمت خطوة لاخترقت ). هذا واعلموا رحكم الله أنّ الدين الصحيح الحقيقي الذي جاء به محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام ناله وحفظه ساداتنا الصوفية من كبار العارفين بالله تعالى وسيقول لهم الجمع يوم القيامة ( يا إخواننا ما أنصفتمونا ) فسيقولون لهم : ( وأنتم هل أنصفتمونا في الدنيا ) فسيشهدون أنّهم كانوا يصومون كما يصومون ويصلّون كما يصلّون ولكن هل كنتم تحبّون كما كانوا يحبّون وهل كنتم تتفكّرون كما كانوا ينفكّرون وهل كنتم تتفكّرون وتتدبّرون كما كانوا يتدبّرون ( السابقون السابقون أؤلائك المقرّبون ).
تحميل الموضوع ملف وورد :
الكلمات المفتاحية :
العبودية
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: