وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا
لمحة في قوله "وَجَرَيْنَ بِهِم"
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ22
1-الالتفات:
هذه الظاهرة الأسلوبية معدودة-نظريا- من أفراد البديع ،لكن في وسعنا أن نتلمس لها مع ذلك صلة بالبيان..
وقد ذكر المفسرون الوجهين:
حاصل الوجه البديعي يدور على فكرة تحسين الأسلوب بتغيير وتيرته وتحويل اتجاهه ...
أما الوجه البياني فقد تعددت اقتراحاتهم بشأنه مع تقاربها:
-فعلى رأي الفخر الرازي "أن الانتقال في الكلام من لفظ الغيبة إلى لفظ الحضور فإنه يدل على مزيد التقرب والإكرام . وأما ضده وهو الانتقال من لفظ الحضور إلى لفظ الغيبة ، يدل على المقت والتبعيد ".
-ومن رأي صاحب البحر المحيط أن صدر الآية خطاب شامل للناس بأسرهم ولما كان بين أظهرهم مؤمنون حسن الخطاب بالحضور ..ولما تمحض جمع المشركين حسن خطابهم بالغيبة إشارة إلى معنى الإعراض والمقت ..
-أما ابن عاشور فسار على خطى أبي حيان في اعتبار التقسيم إلى الفريقين مضيفا إليه تقسيما باعتبار الحالين وهذا كلامه:
"ومن بديع الأسلوب في الآية أنها لما كانت بصدد ذكر النعمة جاءت بضمائر الخطاب الصالحة لجميع السامعين ، فلما تهيأت للانتقال إلى ذكر الضراء وقع الانتقال من ضمائر الخطاب إلى ضمير الغيبة لتلوين الأسلوب بما يخلصه إلى الإفضاء إلى ما يخص المشركين فقال : وجَرين بهم على طريقة الالتفات ، أي وجرين بكم . وهكذا أجريت الضمائر جامعة للفريقين إلى أن قال : فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق فإن هذا ليس من شيم المؤمنين فتمحض ضمير الغيبة هذا للمشركين ، فقد أخرج من الخبر مَن عدا الذين يبغون في الأرض بغير الحق تعويلاً على القرينة لأن الذين يبغون في الأرض بغير الحق لا يشمل المسلمين ".
هذا،وسنحاول أن نكتشف مزيدا من دلالات هذا الالتفات من منظور بلاغة التلقي فنقول:
وقْع الالتفات في آية يونس مشهود :
-لأنه حدث قبل تمام الجملة و حسن السكوت.فقد عطفت الآية "جَرَيْنَ بِهِم""، التي اشتملت على الضمير المتحول إليه، مباشرة على" إِذَا كُنتُمْ"التي اشتملت الضمير المعدول عنه...مما ينشيء عند المتلقي إحساسا بالمفاجأة والدهشة.
-لا يفصل بين الضميرين إلا " فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ"مما يجعل تعاقب الضميرين في السماع قريبا جدا ...
قارن مع مطلع الشاعر النابغة:
يا دار ميّة بالعَلْياء فالسَّند ... أقْوَت وطال عليها سالف الأمَد
حدث الالتفات سريعا هنا أيضا ،لكن المتلقي قد لا يشعر بهذا الالتفات الذي بهتت الآن معالمه بسبب شدة تأثيرالتحول الشامل في الأسلوب من الإنشاء إلى الخبر..
لكن الآية أرادت أن تلفت بقوة نظر القاريء إلى التحول الذي حدث في أسلوب الخطاب حتى أن بعض الجهال من الطاعنين في القرآن توهموا أن في الآية خطأ ما!
إذن:
في الآية التفات مع إلفات إليه!
لكن ما المضمون البلاغي لهذا الالتفات؟
أ-بديعيا:
جاء الالتفات ليعكس باهر الاتساق المشهود في السياق:
فالتطابق بين الحضور و الغيبة في الالتفات صورة مصغرة لما اشتملت عليه الآية من تطابقات:
-الْبَرِّ /َالْبَحْرِ.
-رِيحٍ طَيِّبَةٍ / رِيحٌ عَاصِفٌ.
-لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ/ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ.
-أُحِيطَ بِهِمْ/ أَنْجَاهُمْ.
-يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ/ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ.
-مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا/ مَرْجِعُكُمْ.
كما أبرزت الآية معنى التحول على آكثر من صعيد:
-تحول البحر من الهدوء إلى الهيجان
-وتحول المكلف من التوحيد إلى الشرك
-وتحول الإنسان من دار الابتلاء إلى دار الإنباء.
ب-بيانيا:
الانتقال من الحضور إلى الغيبة بتلك السرعة الفجائية ينشيء عند المتلقي نوعا من التوتر ويستدعيه للوقوف والتأمل..وفي الوقت ذاته تنبهه على مقصدية الآيات وكأن لسان حال الالتفات يقول:
هذا الانتقال غير المعتاد من ضمير إلى ضمير والذي يستثير السؤال هو لمسة شكلية حافزة لتصوير الانتقال المعنوي المفاجيء:
-البحر هاديء ثم يهيج على غير توقع...أهو التفات للبحر!
-والإنسان يوحد ثم يشرك على غير توقع أهو التفات للمكلف!!
-والإنسان يعاهد بكل صدق وقوة ثم ينقض عهوده عند أول شعور له بالأمن..أهو التفات للقلب!!!
فانظر إلى هذا التجانس المعجز بين الشكل والمضمون!!!!
ثم انظر إلى الدور البياني العظيم للالتفات فقد شحذ عند المتلقي الإحساس بحدة التحول ،وصقل فيه الوعي بالتغير ،ومثل له استعظام الانتقال المصطنع،ليحس ويعي ويستعظم ما في سلوك الناس من انتقال من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام!
- لاحظ أن استمرارية الخطاب –من غير التفات(جرين بكم-فرحتم-ظننتم-دعوتم..) يؤسس نوعا من العتاب أواللوم أوالتقريع...وهذا خارج عن مقصدية الآية المتمثلة في وصف نحيزة المشرك ورصد طبيعته الثابتة في جميع العصور...فيكون الالتفات قد أسبغ على المعنى كثيرا من التعميم والوصف الموضوعي..
- فإن قلت لمً لمْ يسق الكلام كله على صيغة الغائب ؟ قلنا لنكتة لطيفة في الالتفات : فقد استهل خطاب الامتنان.. هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ..فلما أعرض الناس عن الشكر ...أعرض الله عن خطابهم ف"غيًّبهم" جزاء وفاقا!!
2-التصوير:
تنبيه:
الصورة لا تنطبع في الخيال ،ولا تثير النفس، إلا عند اعتبارها في كليتها والوعي بها كشيء عضوي متجانس،لكن التحليل يقتضي منهجيا إرجاع الكل إلى عناصره فنعتذر عن هذه التجزيئية التي لا مناص منها والتي للاسف الشديد تفقد الصورة طراوتها...
1-المشهد زاخر بالحركة:
حركة خارجية:
فكل شيء محكوم هنا بالحركة والانتقال في الفضاء:
أ-سير الناس في البر والبحر.
ب-جري الفلك على الماء.
ج-هبوب الريح طيبة ثم عاصفة.
د-مجيء الموج من كل مكان.
هذه الحركة الخارجية يوازيها حركة داخلية هي نبض القلب مع تعاقب الحالات عليه..
أ-حالة الاستبشار والفرح في بداية الرحلة.
ب-حالة الشك والسؤال عند تغير حال البحر.
ج-حالة الياس التام من الحياة واليقين بالهلاك.
د-حالة ارتفاع القلب بالدعاء تحت سياط غريزة الرغبة في البقاء.
2-مشهد حرب وحصار:
جاءتها...جاءتهم...أحيط بهم.
كلمة"الإحاطة "مرتبطة في الوجدان العربي بأجواء الحروب والغارات.
قال القرطبي مذكرا بالاصل الحماسي للكلمة:
"وأصل هذا أن العدوّ إذا أحاط بموضع فقد هلك أهله" .
قال الألوسي مرجعا الاستعارة إلى أصلها:
"وقيل : إن الإحاطة استعارة لسد مسالك الخلاص تشبيهاً له بإحاطة العدو بإنسان ثم كنى بتلك الاستعارة عن الهلاك لكونها من روادفها ولوازمها ".
وقال ابن عاشور:
"فالعرب يقولون : أحاط العَدو بالقبيلة إذا تمكن منها وغلبها ، لأن الإحاطة بها تدل على الإحداق بها وتطويقها . ولما كان ذلك هزيمة وامتلاكاً لها صار ترتيب أحيط بهم استعارة تمثيلية للهلاك".
من شأن التعبير بالإحاطة إذن أن توجه المتلقي إلى استحضار صورة المعركة وأن يؤول الريح والموج وفق تشاكل /حرب/...
وقد كان البيان الباهر معجزا عندما خالف بين المفعولين:
فالريح جاءت الفلك..
والموج جاء الناس.
فما أشبه العنصرين بفيلقين وزعا المهام بينهما ففيلق تكلف بتدمير العتاد وفيلق تكلف بتدمير العدد! وكل ميسر لما خلق له...
ومعنى التدبير والتخطيط يؤكده" تشخيص" العنصرين و"تعقيلهما"فالريح والموج لهما مجيء –هي الإرادة إذن!-ولهما من وراء المجيء قصد-هي الحكمة إذن!-.
وفي الترتيب معنى بديع أيضا:
مجيء العاصفة أولا لتدمير "المحل" ثم الموج بعد ذلك لتلقي "الحالين "المنكوبين..
ونلحظ- في عبورنا- قيد "مِن كُلِّ مَكَانٍ"الذي ينبيء بإحكام الحصار حول العدو.
3-مشهد ومسمع..
الصورة القرآنية تستثير الذاكرة السمعية عند المتلقي كما استثارت الذاكرة البصرية فيصبح رائيا سامعا:
-صرير الريح العاصفة في البحر.
-خفقان الأشرعة..
-هدير الموج العاتي.
-صراخ المنكوبين بالدعاءالمتواصل.
4-الهلاك غرقا وإخلاص التوحيد..
مقصد الآية أن تحمل الإنسان على التوحيد الخالص..لذا اختارت مشهد الغرق دون غيره من المشاهد التي تعبر عن الهلاك...ولن تجد في غير هذه الصورة ما يسد كل الطرق الشركية حقيقة أو توهما...
لك أن تقارن مثلا بين صورة الهلاك البحرية في آيتنا هذه وصورة الهلاك البرية (في الصحراء مثلا أو في معركة خاسرة) لتلمس الفرق الكبير:
هنا أمران للاعتبار:
-الموج يسد كل الاتجاهات...
-الغرق تهديد للتنفس..والحاجة إلى التنفس سريعة جدا.
القرآن قال: وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ"
لماذا "من كل مكان" مع أن موجة واحدة- من مكان واحد- كفيلة بإغراقهم جميعا؟
إن الآية لها مقصد أعظم من تحديد سبب الهلاك....
عندما يأتي الخطر الماحق من جهة فإن الإنسان على نحو غريزي يلتفت إلى جهة أخرى بحثا عن مفر أو غوث...
"وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ"
عبارة سدت كل المنافذ الممكنة..فلم يترك الموج للخيال فسحة أن يتصور جهة ما منها تأتي إغاثة ولو على سبيل الفرض والوهم...
فلم يبق إلا التوحيد...
وبتأمل الأمر الثاني تتضاعف الحاجة إلى التوحيد..
الموج يهلك بسرعة.. والمسألة معدودة بالثواني!
فالحاجة ملحة إلى منقذ أسرع من العاصفة ويتجاوز الحصار المضروب من قبل الموج..فأين يمكن تصور أو توهم هذا المنقذ؟
فلم يبق مرة أخرى إلا التوحيد.
هذه المعاني لا يمكن أن تتقرر لو كان الهلاك في الصحراء مثلا:فللوهم أن يتخيل قافلة ممكنة آتية على غير توقع...كما أن الهلاك جوعا أو عطشا ليس سريعا -مثل الغرق-وأثناء الموت البطيء يمكن للإنسان أن يمني نفسه أو يوهمها بقادم أو عابر...
هذا، وفي الآية صوت حجاجي قد نصغي إليه لاحقا.
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
وقال في الإسراء:
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
"التسيير" أنسب هنا من "الحمل" للتشاكل الحاصل مع الريح التي سيذكرها...فيكون صدر الآية تنبيها على الفاعل الحقيقي وقصرا عليه...في مقابل الريح الطيبة" المسير" الذي سيفرح به القوم..
"فرحوا بها" هو الفعل الدال على الانحراف والشرك..ولا ريب أن الفرح هنا أكثر من حالة شعورية...بل هو موقف له لوازم وامتدادات خطيرة:
-من لوازم الفرح بالريح إسناد فاعلية حقيقية لها –شرك السبب-
-من لوازم الفرح بالريح الإطمئنان إليها والتوكل عليها.
-من لوازم الفرح بالريح المحبة لها.
-من لوازم الفرح بالريح استحقاقها الشكر والحمد...
فيكون تعبير القرآن" فرحوا بها" أبلغ في الدلالة على الشرك في جل تجلياته!
ثم يأتي تسفيه القوم بالحجاج:
-أي مسوغ لفرح القوم فإن كانت هذه الريح الطيبة جاءت بتقدير فالمستحق للشكر هو مرسلها..
وإن كانت جاءت اعتباطا فلا وجه للفرح بها لأن الاعتباط لا حكمة فيه فلا يستقر على حال.. فإذا جاءت الريح طيبة عشوائيا ...فقد تأتي عاصفة -أيضا- عشوائيا، وهذا ما حدث بالفعل... فيكون فرحهم الشركي لا معنى له!!
لاحظ أن مقتضى التقابل أن يقال عندما جاءتهم ريح عاصف "وحزنوا لها"
-في مقابل فرحوا بها-لكن الأمر جدي ...فالمسألة حياة أو موت...و الجدي لا ينفع معه إلا جدي: دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.
فتكون الآية قد سجلت تناقض المشركين مرتين:
-فهم يتناقضون في تأليه الأسباب:يقبلون الريح طيبة ولا يقبلونها عاصفة.
-وهم يتناقضون في عبادة الله:يدعونه في الشدة و يشكرون غيره في الرخاء.
تحميل الموضوع ملف وورد :
الكلمات المفتاحية :
حدائق القرأن
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: