معرفة المعضل
معرفة المعضل
النوع الحادي عشر: معرفة المعضل 6وهو لقب لنوع خاص من المنقطع. فكل معضل منقطع وليس كل منقطع معضلا.
وقوم يسمونه مرسلا كما سبق.
وهو عبارة عما سقط من إسناده اثنان فصاعدا.
وأصحاب الحديث يقولون: أعضله فهو معضَل، بفتح الضاد. وهو اصطلاح مشكل المأخذ من حيث اللغة، وبحثت فوجدت له قولهم: أمر
عضيل أي مستغلق شديد. ولا التفات في ذلك إلى معضِل- بكسر الضاد - وإن كان مثل عضيل في المعنى.
ومثاله: ما يرويه تابعي التابعي قائلا فيه: قال: رسول الله ، وكذلك ما يرويه من دون
تابعي التابعي عن رسول الله أو عن أبي بكر وعمر وغيرهما، غير ذاكر للوسائط بينه وبينهم.
وذكر أبو نصر السجزي الحافظ قول الراوي بلغني نحو قول مالك بلغني عن أبي هريرة: أن رسول الله قال: «للمملوك طعامه وكسوته..» الحديث وقال - أي السجزي - أصحاب الحديث يسمونه المعضل.
قلت: وقول المصنفين من الفقهاء وغيرهم: قال: رسول الله كذا وكذا، ونحو ذلك، كله من قبيل المعضل لما تقدم. وسماه الخطيب أبو بكر الحافظ في بعض كلامه مرسلا وذلك على مذهب من يسمى كل مالا يتصل مرسلا، كما سبق.
وإذا روى تابع التابع عن التابع حديثا موقوفا عليه، وهو حديث متصل مسند إلى رسول الله : فقد جعله الحاكم أبو عبد الله نوعا من المعضل.
مثاله: ما رويناه عن الأعمش عن الشعبي قال: يُقال للرجل يوم القيامة: عملت كذا وكذا ؟ فيقول: ما عملته، فيختم على فيه.. الحديث. فقد أعضله الأعمش، وهو عند الشعبي: عن أنس عن رسول الله ، متصل مسند.
قلت: هذا جيد حسن، لأن هذا الانقطاع بواحد مضموما إلى الوقف يشتمل على الانقطاع باثنين: الصحابي ورسول الله ، فذلك باستحقاق اسم الإعضال أولى، والله أعلم.
تفريعات
أحدها: الإسناد المعنعن وهو الذي يقال فيه فلان عن فلانعده بعض الناس من قبيل المرسل والمنقطع، حتى يتبين اتصاله بغيره.
والصحيح - والذي عليه العمل - أنه من قبيل الإسناد المتصل. وإلى هذا ذهب الجماهير من أئمة الحديث وغيرهم. وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم فيه وقبلوه، وكاد أبو عمر بن عبد البر الحافظ يدعي إجماع أئمة الحديث على ذلك. وادعى أبو عمرو الداني - المُقرئ الحافظ - إجماع أهل النقل على ذلك.
وهذا بشرط أن يكون الذين أضيفت العنعنة إليهم قد ثبتت ملاقاة بعضهم بعضا مع براءتهم من وصمة التدليس. فحينئذ يحمل على ظاهر الاتصال إلا أن يظهر فيه خلاف ذلك. وكثُر في عصرنا وما قاربه بين المنتسبين إلى الحديث استعمال عن في الإجازة، فإذا قال أحدهم: قرأت على فلان عن فلان أو نحو ذلك، فظن به أنه رواه عنه بالإجازة. ولا يخرجه ذلك من قبيل الاتصال على مالا يخفى، والله أعلم.
الثاني اختلفوا في قول الراوي أنَّ فلانا قال كذا وكذا هل هو بمنزلة عن في الحمل على الاتصال إذا ثبت التلاقي بينهما حتى يتبين فيه الانقطاع.
مثاله: مالك عن الزهري: أن سعيد بن المسيب قال كذا.
فروينا عن مالك رضي الله عنه أنه كان يرى عن فلان و أن فلاناسواء.
وعن أحمد بن حنبل رضي الله عنه: أنهما ليسا سواء.
وحكى ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم: أن عن و أنَّ سواء، وأنه لا اعتبار بالحروف والألفاظ وإنما هو باللقاء والمجالسة والسماع والمشاهدة، يعني مع السلامة من التدليس، فإذا كان سماع بعضهم من بعض صحيحا كان حديث بعضهم عن بعض - بأي لفظ ورد - محمولا على الاتصال حتى يتبين فيه الانقطاع.
وحكى ابن عبد البر عن أبي بكر البرديجي: أن حرف أن محمول على الانقطاع حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من جهة أخرى. وقال: عندي لا معنى لهذا لإجماعهم على أنَّ الإسناد المتصل بالصحابي سواء فيه قال: قال رسول الله أو: أن رسول الله قال أو: عن رسول الله أنه قال أو سمعت رسول الله يقول، والله أعلم.
قلت: ووجدت مثل ما حكاه عن البرديجي أبي بكر الحافظ للحافظ الفحل يعقوب بن شيبة في مسنده الفحل، فإنه ذكر ما رواه أبو الزبير عن ابن الحنفية عن عمار قال: أتيتُ النبي وهو يصلي فسلمت عليه فرد علي السلام. وجعله مسندا موصولا. وذكر رواية قيس بن سعد لذلك عن عطاء بن أبي رباح عن ابن الحنفية: أن عمارا مرَّ بالنبي وهو يصلي.. فجعله مرسلا، من حيث كونه قال: إن عمارا فعل ولم يقل عن عمار، والله أعلم.
ثم إن الخطيب مثَّل هذه المسألة بحديث نافع عن ابن عمر عن عمر: أنه سأل النبي : أينام أحدنا وهو جنب ؟. الحديث. وفي رواية أخرى: عن نافع عن ابن عمر أن عمر:قال يا رسول الله... الحديث. ثم قال: ظاهر الرواية الأولى يُوجب أن يكون من مسند عمر عن النبي . والثانية ظاهرها يُوجب أن يكون من مسند ابن عمر عن النبي .
قلت: ليس هذا المثال مماثلا لما نحن بصدده لأنَّ الاعتماد فيه في الحكم بالاتصال على مذهب الجمهور إنما هو على اللقي والإدراك، وذلك في هذا الحديث مشترك متردد لتعلقه بالنبي وبعمر رضي الله عنه وصحبة الراوي ابن عمر لهما، فاقتضى ذلك من جهة: كونَه رواه عن النبي ، ومن جهة أخرى: كونَه رواه عن عمر عن رسول الله ، والله اعلم.
الثالث: قد ذكرنا ما حكاه ابن عبد البر من تعميم الحكم بالاتصال فيما يذكره الراوي عمن لقيه بأيِّ لفظ كان. وهكذا أطلق أبو بكر الشافعي الصيرفي ذلك فقال: كل من عَلِمَ له سماع من إنسان فحدث عنه فهو على السماع حتى يعلم أنه لم يسمع منه ما حكاه. وكل من علم له لقاء إنسان فحدَّث عنه فحكمه هذا الحكم.
وإنما قال هذا فيمن لم يظهر تدليسه.
ومن الحُجة في ذلك وفي سائر الباب: أنه لو لم يكن قد سمعه منه لكان بإطلاقه الرواية عنه - من غير ذكر الواسطة بينه وبينه - مدلسا، والظاهر السلامة من وصمة التدليس، والكلام فيمن لم يُعرف بالتدليس.
ومن أمثلة ذلك: قوله قال فلان كذا وكذا مثل أن يقول نافع: قال ابن عمر. وكذلك لو قال عنه ذكر أو: فعل أو: حدَّث أو: كان يقول كذا وكذا وما جانس ذلك، فكل ذلك محمول ظاهرا على الاتصال وأنه تلقى ذلك منه من غير واسطة بينهما مهما ثبت لقاؤه له على الجملة.
ثم منهم من اقتصر في هذا الشرط المشترط في ذلك ونحوه على مطلق اللقاء أو السماع كما حكيناه آنفا. وقال فيه أبو عمرو المقري: إذا كان معروفا بالرواية عنه. وقال فيه أبو الحسن القابسي: إذا أدرك المنقول عنه إدراكا بيِّنا.
وذكر أبو المظفر السمعاني في العنعنة: أنه يشترط طول الصحبة بينهم.
وأنكر مسلم بن الحجاج في خطبة صحيحه على بعض أهل عصره حيث اشترط في العنعنة ثبوت اللقاء والاجتماع وادعى أنه قول مخترع لم يسبق قائله إليه وأن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار قديما وحديثا: أنه يكفي في ذلك أن يثبت كونهما في عصرٍ واحدٍ وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا أو تشافها.
وفيما قاله مسلم نظر، وقد قيل: إن القول الذي رده مسلم هو الذي عليه أئمة هذا العلم: علي بن المديني والبخاري وغيرهما، والله أعلم.
قلت: وهذا الحكم لا أراه يستمر بعد المتقدمين فيما وجد من المصنفين في تصانيفهم مما ذكروه عن مشايخهم قائلين فيه ذكر فلان ونحو ذلك، فافهم كل ذلك فإنه مهم عزيز، والله أعلم.
الرابع: التعليق الذي يذكره أبو عبد الله الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين وغيرُه من المغاربة في أحاديث من صحيح البخاري قطع إسنادها - وقد استعمله الدارقطني من قبل - صورته صورة الانقطاع وليس حكمه حكمه ولا خارجا ما وجد ذلك فيه منه من قبيل الصحيح إلى قبيل الضعيف، وذلك لما عرف من شرطه وحكمه، على ما نبهنا عليه في الفائدة السادسة من النوع الأول.
ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رده ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر - أو: أبي مالك -الأشعري عن رسول الله : «ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحرير والخمر والمعازف..» الحديث. من جهة أن البخاري أورده قائلا فيه: قال هشام بن عمار.. وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف. وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح.
والبخاري رحمه الله قد يفعل ذلك لكون ذلك الحديث معروفا من جهة الثِّقات عن ذلك الشخص الذي علقه عنه. وقد يفعل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع، والله أعلم.
وما ذكرناه من الحكم في التعليق المذكور فذلك فيما أورده منه أصلا ومقصودا لا فيما أوردهُ في معرض الاستشهاد، فإن الشواهد يحتمل فيها ما ليس من شرط الصحيح معلقا كان أو موصولا.
ثم إن لفظ التعليق وجدته مستعملا فيما حُذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر. حتى إن بعضهم استعمله في حذف كل الإسناد.
مثال ذلك: قوله: قال: رسول الله كذا وكذا. قال ابن عباس كذا وكذا. روى أبو هريرة كذا وكذا. قال سعيد بن المسيِّب عن أبي هريرة كذا وكذا. قال الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي كذا وكذا. وهكذا إلى شيوخ شيوخه.
وأما ما أورده كذلك عن شيوخه فهو من قبيل ما ذكرناه قريبا في الثالث من هذه التفريعات.
وبلغني عن بعض المتأخرين من أهل المغرب أنه جعله قسما من التعليق ثانيا وأضاف إليه قول البخاري في غير موضع من كتابه وقال لي فلان وزادنا فلان فوسم ذلك بالتعليق المتصل من حيث الظاهر المنفصل من حيث المعنى، وقال: متى رأيت البخارييقول وقال لي وقال لنا فاعلم أنه إسناد لم يذكره للاحتجاج به وإنما ذكره للاستشهاد به. وكثيرا ما يُعِّبر المحِدثُون بهذا اللفظ عما جرى بينهم في المذاكرات والمناظرات، وأحاديث المذاكرة قلَّما يحتجون بها.
قلت: وما ادعاه على البخاري مخالف لما قاله من هو أقدم منه وأعرف بالبخاري، وهو العبد الصالح أبو جعفر بن حمدان النيسابوري، فقد روينا عنه أنه قال: كل ما قال البخاري قال لي فلان فهو عرض ومناولة.
قلت: ولم أجد لفظ التعليق مستعملا فيما سقط فيه بعض رجال الإسناد من وسطه أو من آخره، ولا في مثل قوله يروى عن فلان، ويذكر عن فلان وما أشبهه مما ليس فيه جزم على من ذكر ذلك بأنه قاله وذكره. وكأن هذا التعليق مأخوذ من تعليق الجدار، وتعليق الطلاق ونحوه، لما يشترك الجميع فيه من قطع الاتصال، والله أعلم.
الخامس: الحديث الذي رواه بعض الثِّقات مرسلا وبعضهم متصلا: اختلف أهل الحديث في أنه ملحق بقبيل الموصول أو بقبيل المرسل.
مثاله: حديث «لا نكاح إلا بولي» رواه إسرائيل بن يونس في آخرين عن جده أبي إسحاق السبيعي، عن أبي بردة، عن أبيه، أبي موسى الأشعري، عن رسول الله مسندا هكذا متصلا.
ورواه سفيان الثوري، وشعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن النبي مرسلا هكذا.
فحكى الخطيب الحافظ: أن أكثر أصحاب الحديث يرون الحكم في هذا وأشباهه للمرسل.
وعن بعضهم: أن الحكم للأكثر.
وعن بعضهم: أن الحكم للأحفظ، فإذا كان من أرسله أحفظ ممن وصله فالحكم لمن أرسله، ثم لا يقدح ذلك في عدالة من وصله وأهليته.
ومنهم من قال: الحكم لمن أسنده إذا كان عدلا ضابطا، فيقبل خبره وإن خالفه غيره، سواء كان المخالف له واحدا أو جماعة.
قال الخطيب: هذا القول هو الصحيح.
قلت: وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله. وسُئل البخاري عن حديث: «لا نكاح إلا بولي» المذكور، فحكم لمن وصله، وقال: الزيادة من الثقة مقبولة، فقال البخاري: هذا مع أن من أرسله شعبة وسفيان، وهما جبلان، لهما من الحفظ والإتقان الدرجة العالية.
ويلتحق بهذا ما إذا كان الذي وصلهُ هو الذي أرسله، وصله في وقت وأرسله في وقت. وهكذا إذا رفع بعضهم الحديث إلى النبي ووقفه بعضهم على الصحابي. أو رفعه واحدٍ في وقتٍ ووقفهُ هو أيضا في وقتٍ آخر. فالحكم على الأصح في كل ذلك لما زاده الثقة من الوصل والرفع، لأنه مثبت وغيره ساكت، ولو كان نافيا فالمثبت مقدم عليه، لأنه علم ما خفي عليه. ولهذا الفصل تعلق بفصل زيادة الثقة في الحديث وسيأتي إن شاء الله تعالى، وهو أعلم
النوع الحادي عشر: معرفة المعضل 6وهو لقب لنوع خاص من المنقطع. فكل معضل منقطع وليس كل منقطع معضلا.
وقوم يسمونه مرسلا كما سبق.
وهو عبارة عما سقط من إسناده اثنان فصاعدا.
وأصحاب الحديث يقولون: أعضله فهو معضَل، بفتح الضاد. وهو اصطلاح مشكل المأخذ من حيث اللغة، وبحثت فوجدت له قولهم: أمر
عضيل أي مستغلق شديد. ولا التفات في ذلك إلى معضِل- بكسر الضاد - وإن كان مثل عضيل في المعنى.
ومثاله: ما يرويه تابعي التابعي قائلا فيه: قال: رسول الله ، وكذلك ما يرويه من دون
تابعي التابعي عن رسول الله أو عن أبي بكر وعمر وغيرهما، غير ذاكر للوسائط بينه وبينهم.
وذكر أبو نصر السجزي الحافظ قول الراوي بلغني نحو قول مالك بلغني عن أبي هريرة: أن رسول الله قال: «للمملوك طعامه وكسوته..» الحديث وقال - أي السجزي - أصحاب الحديث يسمونه المعضل.
قلت: وقول المصنفين من الفقهاء وغيرهم: قال: رسول الله كذا وكذا، ونحو ذلك، كله من قبيل المعضل لما تقدم. وسماه الخطيب أبو بكر الحافظ في بعض كلامه مرسلا وذلك على مذهب من يسمى كل مالا يتصل مرسلا، كما سبق.
وإذا روى تابع التابع عن التابع حديثا موقوفا عليه، وهو حديث متصل مسند إلى رسول الله : فقد جعله الحاكم أبو عبد الله نوعا من المعضل.
مثاله: ما رويناه عن الأعمش عن الشعبي قال: يُقال للرجل يوم القيامة: عملت كذا وكذا ؟ فيقول: ما عملته، فيختم على فيه.. الحديث. فقد أعضله الأعمش، وهو عند الشعبي: عن أنس عن رسول الله ، متصل مسند.
قلت: هذا جيد حسن، لأن هذا الانقطاع بواحد مضموما إلى الوقف يشتمل على الانقطاع باثنين: الصحابي ورسول الله ، فذلك باستحقاق اسم الإعضال أولى، والله أعلم.
تفريعات
أحدها: الإسناد المعنعن وهو الذي يقال فيه فلان عن فلانعده بعض الناس من قبيل المرسل والمنقطع، حتى يتبين اتصاله بغيره.
والصحيح - والذي عليه العمل - أنه من قبيل الإسناد المتصل. وإلى هذا ذهب الجماهير من أئمة الحديث وغيرهم. وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم فيه وقبلوه، وكاد أبو عمر بن عبد البر الحافظ يدعي إجماع أئمة الحديث على ذلك. وادعى أبو عمرو الداني - المُقرئ الحافظ - إجماع أهل النقل على ذلك.
وهذا بشرط أن يكون الذين أضيفت العنعنة إليهم قد ثبتت ملاقاة بعضهم بعضا مع براءتهم من وصمة التدليس. فحينئذ يحمل على ظاهر الاتصال إلا أن يظهر فيه خلاف ذلك. وكثُر في عصرنا وما قاربه بين المنتسبين إلى الحديث استعمال عن في الإجازة، فإذا قال أحدهم: قرأت على فلان عن فلان أو نحو ذلك، فظن به أنه رواه عنه بالإجازة. ولا يخرجه ذلك من قبيل الاتصال على مالا يخفى، والله أعلم.
الثاني اختلفوا في قول الراوي أنَّ فلانا قال كذا وكذا هل هو بمنزلة عن في الحمل على الاتصال إذا ثبت التلاقي بينهما حتى يتبين فيه الانقطاع.
مثاله: مالك عن الزهري: أن سعيد بن المسيب قال كذا.
فروينا عن مالك رضي الله عنه أنه كان يرى عن فلان و أن فلاناسواء.
وعن أحمد بن حنبل رضي الله عنه: أنهما ليسا سواء.
وحكى ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم: أن عن و أنَّ سواء، وأنه لا اعتبار بالحروف والألفاظ وإنما هو باللقاء والمجالسة والسماع والمشاهدة، يعني مع السلامة من التدليس، فإذا كان سماع بعضهم من بعض صحيحا كان حديث بعضهم عن بعض - بأي لفظ ورد - محمولا على الاتصال حتى يتبين فيه الانقطاع.
وحكى ابن عبد البر عن أبي بكر البرديجي: أن حرف أن محمول على الانقطاع حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من جهة أخرى. وقال: عندي لا معنى لهذا لإجماعهم على أنَّ الإسناد المتصل بالصحابي سواء فيه قال: قال رسول الله أو: أن رسول الله قال أو: عن رسول الله أنه قال أو سمعت رسول الله يقول، والله أعلم.
قلت: ووجدت مثل ما حكاه عن البرديجي أبي بكر الحافظ للحافظ الفحل يعقوب بن شيبة في مسنده الفحل، فإنه ذكر ما رواه أبو الزبير عن ابن الحنفية عن عمار قال: أتيتُ النبي وهو يصلي فسلمت عليه فرد علي السلام. وجعله مسندا موصولا. وذكر رواية قيس بن سعد لذلك عن عطاء بن أبي رباح عن ابن الحنفية: أن عمارا مرَّ بالنبي وهو يصلي.. فجعله مرسلا، من حيث كونه قال: إن عمارا فعل ولم يقل عن عمار، والله أعلم.
ثم إن الخطيب مثَّل هذه المسألة بحديث نافع عن ابن عمر عن عمر: أنه سأل النبي : أينام أحدنا وهو جنب ؟. الحديث. وفي رواية أخرى: عن نافع عن ابن عمر أن عمر:قال يا رسول الله... الحديث. ثم قال: ظاهر الرواية الأولى يُوجب أن يكون من مسند عمر عن النبي . والثانية ظاهرها يُوجب أن يكون من مسند ابن عمر عن النبي .
قلت: ليس هذا المثال مماثلا لما نحن بصدده لأنَّ الاعتماد فيه في الحكم بالاتصال على مذهب الجمهور إنما هو على اللقي والإدراك، وذلك في هذا الحديث مشترك متردد لتعلقه بالنبي وبعمر رضي الله عنه وصحبة الراوي ابن عمر لهما، فاقتضى ذلك من جهة: كونَه رواه عن النبي ، ومن جهة أخرى: كونَه رواه عن عمر عن رسول الله ، والله اعلم.
الثالث: قد ذكرنا ما حكاه ابن عبد البر من تعميم الحكم بالاتصال فيما يذكره الراوي عمن لقيه بأيِّ لفظ كان. وهكذا أطلق أبو بكر الشافعي الصيرفي ذلك فقال: كل من عَلِمَ له سماع من إنسان فحدث عنه فهو على السماع حتى يعلم أنه لم يسمع منه ما حكاه. وكل من علم له لقاء إنسان فحدَّث عنه فحكمه هذا الحكم.
وإنما قال هذا فيمن لم يظهر تدليسه.
ومن الحُجة في ذلك وفي سائر الباب: أنه لو لم يكن قد سمعه منه لكان بإطلاقه الرواية عنه - من غير ذكر الواسطة بينه وبينه - مدلسا، والظاهر السلامة من وصمة التدليس، والكلام فيمن لم يُعرف بالتدليس.
ومن أمثلة ذلك: قوله قال فلان كذا وكذا مثل أن يقول نافع: قال ابن عمر. وكذلك لو قال عنه ذكر أو: فعل أو: حدَّث أو: كان يقول كذا وكذا وما جانس ذلك، فكل ذلك محمول ظاهرا على الاتصال وأنه تلقى ذلك منه من غير واسطة بينهما مهما ثبت لقاؤه له على الجملة.
ثم منهم من اقتصر في هذا الشرط المشترط في ذلك ونحوه على مطلق اللقاء أو السماع كما حكيناه آنفا. وقال فيه أبو عمرو المقري: إذا كان معروفا بالرواية عنه. وقال فيه أبو الحسن القابسي: إذا أدرك المنقول عنه إدراكا بيِّنا.
وذكر أبو المظفر السمعاني في العنعنة: أنه يشترط طول الصحبة بينهم.
وأنكر مسلم بن الحجاج في خطبة صحيحه على بعض أهل عصره حيث اشترط في العنعنة ثبوت اللقاء والاجتماع وادعى أنه قول مخترع لم يسبق قائله إليه وأن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار قديما وحديثا: أنه يكفي في ذلك أن يثبت كونهما في عصرٍ واحدٍ وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا أو تشافها.
وفيما قاله مسلم نظر، وقد قيل: إن القول الذي رده مسلم هو الذي عليه أئمة هذا العلم: علي بن المديني والبخاري وغيرهما، والله أعلم.
قلت: وهذا الحكم لا أراه يستمر بعد المتقدمين فيما وجد من المصنفين في تصانيفهم مما ذكروه عن مشايخهم قائلين فيه ذكر فلان ونحو ذلك، فافهم كل ذلك فإنه مهم عزيز، والله أعلم.
الرابع: التعليق الذي يذكره أبو عبد الله الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين وغيرُه من المغاربة في أحاديث من صحيح البخاري قطع إسنادها - وقد استعمله الدارقطني من قبل - صورته صورة الانقطاع وليس حكمه حكمه ولا خارجا ما وجد ذلك فيه منه من قبيل الصحيح إلى قبيل الضعيف، وذلك لما عرف من شرطه وحكمه، على ما نبهنا عليه في الفائدة السادسة من النوع الأول.
ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رده ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر - أو: أبي مالك -الأشعري عن رسول الله : «ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحرير والخمر والمعازف..» الحديث. من جهة أن البخاري أورده قائلا فيه: قال هشام بن عمار.. وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف. وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح.
والبخاري رحمه الله قد يفعل ذلك لكون ذلك الحديث معروفا من جهة الثِّقات عن ذلك الشخص الذي علقه عنه. وقد يفعل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع، والله أعلم.
وما ذكرناه من الحكم في التعليق المذكور فذلك فيما أورده منه أصلا ومقصودا لا فيما أوردهُ في معرض الاستشهاد، فإن الشواهد يحتمل فيها ما ليس من شرط الصحيح معلقا كان أو موصولا.
ثم إن لفظ التعليق وجدته مستعملا فيما حُذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر. حتى إن بعضهم استعمله في حذف كل الإسناد.
مثال ذلك: قوله: قال: رسول الله كذا وكذا. قال ابن عباس كذا وكذا. روى أبو هريرة كذا وكذا. قال سعيد بن المسيِّب عن أبي هريرة كذا وكذا. قال الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي كذا وكذا. وهكذا إلى شيوخ شيوخه.
وأما ما أورده كذلك عن شيوخه فهو من قبيل ما ذكرناه قريبا في الثالث من هذه التفريعات.
وبلغني عن بعض المتأخرين من أهل المغرب أنه جعله قسما من التعليق ثانيا وأضاف إليه قول البخاري في غير موضع من كتابه وقال لي فلان وزادنا فلان فوسم ذلك بالتعليق المتصل من حيث الظاهر المنفصل من حيث المعنى، وقال: متى رأيت البخارييقول وقال لي وقال لنا فاعلم أنه إسناد لم يذكره للاحتجاج به وإنما ذكره للاستشهاد به. وكثيرا ما يُعِّبر المحِدثُون بهذا اللفظ عما جرى بينهم في المذاكرات والمناظرات، وأحاديث المذاكرة قلَّما يحتجون بها.
قلت: وما ادعاه على البخاري مخالف لما قاله من هو أقدم منه وأعرف بالبخاري، وهو العبد الصالح أبو جعفر بن حمدان النيسابوري، فقد روينا عنه أنه قال: كل ما قال البخاري قال لي فلان فهو عرض ومناولة.
قلت: ولم أجد لفظ التعليق مستعملا فيما سقط فيه بعض رجال الإسناد من وسطه أو من آخره، ولا في مثل قوله يروى عن فلان، ويذكر عن فلان وما أشبهه مما ليس فيه جزم على من ذكر ذلك بأنه قاله وذكره. وكأن هذا التعليق مأخوذ من تعليق الجدار، وتعليق الطلاق ونحوه، لما يشترك الجميع فيه من قطع الاتصال، والله أعلم.
الخامس: الحديث الذي رواه بعض الثِّقات مرسلا وبعضهم متصلا: اختلف أهل الحديث في أنه ملحق بقبيل الموصول أو بقبيل المرسل.
مثاله: حديث «لا نكاح إلا بولي» رواه إسرائيل بن يونس في آخرين عن جده أبي إسحاق السبيعي، عن أبي بردة، عن أبيه، أبي موسى الأشعري، عن رسول الله مسندا هكذا متصلا.
ورواه سفيان الثوري، وشعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن النبي مرسلا هكذا.
فحكى الخطيب الحافظ: أن أكثر أصحاب الحديث يرون الحكم في هذا وأشباهه للمرسل.
وعن بعضهم: أن الحكم للأكثر.
وعن بعضهم: أن الحكم للأحفظ، فإذا كان من أرسله أحفظ ممن وصله فالحكم لمن أرسله، ثم لا يقدح ذلك في عدالة من وصله وأهليته.
ومنهم من قال: الحكم لمن أسنده إذا كان عدلا ضابطا، فيقبل خبره وإن خالفه غيره، سواء كان المخالف له واحدا أو جماعة.
قال الخطيب: هذا القول هو الصحيح.
قلت: وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله. وسُئل البخاري عن حديث: «لا نكاح إلا بولي» المذكور، فحكم لمن وصله، وقال: الزيادة من الثقة مقبولة، فقال البخاري: هذا مع أن من أرسله شعبة وسفيان، وهما جبلان، لهما من الحفظ والإتقان الدرجة العالية.
ويلتحق بهذا ما إذا كان الذي وصلهُ هو الذي أرسله، وصله في وقت وأرسله في وقت. وهكذا إذا رفع بعضهم الحديث إلى النبي ووقفه بعضهم على الصحابي. أو رفعه واحدٍ في وقتٍ ووقفهُ هو أيضا في وقتٍ آخر. فالحكم على الأصح في كل ذلك لما زاده الثقة من الوصل والرفع، لأنه مثبت وغيره ساكت، ولو كان نافيا فالمثبت مقدم عليه، لأنه علم ما خفي عليه. ولهذا الفصل تعلق بفصل زيادة الثقة في الحديث وسيأتي إن شاء الله تعالى، وهو أعلم
الكلمات المفتاحية :
اعجاز الحديث النبوي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: