خبر الواحد 1
فإن قال قائلٌ: فأين الدّلالة على قبول خبر الواحد عن رسول اللّه؟ قيل له: إن شاء اللّه كان النّاس مستقبلي بيت المقدس، ثمّ حوّلهم اللّه إلى البيت الحرام، فأتى أهل قباء آتٍ وهم في الصّلاة فأخبرهم أنّ اللّه أنزل على رسوله كتابًا، وأنّ القبلة حوّلت إلى البيت الحرام، فاستداروا إلى الكعبة وهم في الصّلاة، وإنّ أبا طلحة وجماعةً كانوا يشربون فضيخ بسرٍ، ولم يحرم يومئذٍ من الأشربة شيءٌ، فأتاهم
آتٍ فأخبرهم أنّ الخمر قد حرّمت، فأمروا أناسًا فكسروا جرار شرابهم ذلك. ولا شكّ أنّهم لا يحدّثون في مثل هذا إلّا ذكروه لرسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم إن شاء اللّه، ويشبه أن لو كان قبول خبر من أخبرهم، وهو صادقٌ عندهم، ممّا لا يجوز لهم قبوله أن يقول لهم رسول اللّه: قد كنتم على قبلةٍ ولم يكن لكم أن تحوّلوا عنها، إذ كنت حاضرًا معكم حتّى أعلمكم أو يعلمكم جماعةٌ، أو عددٌ يسمّيهم لهم، ويخبرهم أنّ الحجّة تقوم عليهم بمثلها، إلّا بأقلّ منها إن كانت لا تثبت عنده بواحدٍ. والفساد لا يجوز عند رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ولا عند عالمٍ، وهراقة حلالٍ فسادٌ، فلو لم تكن الحجّة أيضًا تقوم عليهم بخبر من أخبرهم بتحريمٍ، لأشبه أن يقول قد كان لكم حلالًا ولم يكن لكم إفساده حتّى أعلمكم أنّ اللّه جلّ وعزّ حرّمه، أو يأتيكم عددٌ يحدّه لهم يخبر عنّي بتحريمه. وأمر رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أمّ سلمة أن تعلّم امرأةً أن تعلّم زوجها إن قبّلها وهو صائمٌ لا يحرم عليه، ولو لم ير الحجّة تقوم عليه بخبرها إذا صدّقها لم يأمرها إن شاء اللّه به، وأمر رسول اللّه أنيسًا الأسلميّ أن يغدو على امرأة رجلٍ، فإن اعترفت رجمها، فاعترفت، فرجمها، وفي ذلك إفاتة
نفسها باعترافها عند أنيسٍ، وهو واحدٌ، وأمر عمرو بن أميّة أن يقتل أبا سفيان، وقد سنّ عليه إن علمه أسلم لم يحلّ له قتله، وقد يحدث الإسلام قبل أن يأتيه عمرو بن أميّة، وأمر أنيسًا أو عبد اللّه بن أنيسٍ - شكّ الرّبيع - أن يقتل خالد بن سفيان الهذليّ فقتله، ومن سنّة رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم لو أسلم أن لا يقتله، وكلّ هؤلاء من معاني ولاته وهم واحدٌ واحدٌ فتصوّر الحكم بأخبارهم، وبعث رسول اللّه بعمّاله واحدًا واحدًا، وإنّما بعث عمّاله ليخبروا النّاس بما أخبرهم به رسول اللّه من شرائع دينهم، ويأخذوا منهم ما أوجب اللّه عليهم ويعطوهم ما لهم، ويقيموا عليهم الحدود وينفّذوا فيهم الأحكام، ولم يبعث منهم واحدًا إلّا مشهورًا بالصّدق عند من بعثه إليه، ولو لم تقم الحجّة عليهم بهم إذ كانوا في كلّ ناحيةٍ وجّههم إليها أهل صدقٍ عندهم، ما بعثهم إن شاء اللّه. وبعث أبا بكرٍ واليًا على الحجّ، فكان في معنى عمّاله، ثمّ بعث عليًّا بعده بأوّل سورة براءةٍ فقرأها في مجمع النّاس في الموسم، وأبو بكرٍ واحدٌ، وعليٌّ واحدٌ، وكلاهما بعثه بغير الّذي بعث به صاحبه، ولو لم تكن الحجّة تقوم عليهم ببعثته كلّ واحدٍ منهما إذ كانا مشهورين عند عوامّهم بالصّدق، وكان من جهلهما من عوامّهم يجد من يثق به من أصحابه يعرف صدقهما، ما بعث منهما واحدٌ فقد بعث عليًّا يعطيهم نقض مددٍ، وإعطاء مددٍ ونبذٍ إلى قومٍ ونهيٍ عن أمورٍ وأمرٍ بأخرى وما كان لأحدٍ من المسلمين بلّغه على أنّ لهم مدّة أربعة أشهرٍ أن يعرض لهم في مدّتهم، ولا مأمورٌ بشيءٍ ولا منهيٌّ عنه برسالةٍ على أن يقول له: أنت واحدٌ، ولا تقوم عليّ الحجّة بأنّ رسول اللّه بعثك إليّ بنقض شيءٍ جعله لي، ولا بإحداث شيءٍ لم يكن لي، ولا لغيري، ولا بنهيٍ عن أمرٍ لم أعلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عنه، ولا بإحداث أمرٍ لم أعلم رسول اللّه أحدثه، وما يجوز هذا لأحدٍ في شيءٍ قطعه عليه عليٌّ برسالة النّبيّ ولا أعطاه إيّاه ولا أمره به، ولا نهاه عنه، بأن يقول: لم أسمعه من رسول اللّه أو ينقله إلى عددٍ أو لا أقبل فيه خبرك وأنت واحدٌ، ولا كان لأحدٍ وجّه إليه رسول اللّه عاملًا يعرفه أو لا يعرفه له من يصدّقه صدقه أن يقول له العامل: عليك أن تعطي كذا وكذا، أو تفعل بك كذا، فيقول: لا أقبل هذا منك؛ لأنّك واحدٌ حتّى ألقى رسول اللّه فيخبرني أنّ عليّ ما قلت إنّه عليّ، فأفعله عن أمر رسول اللّه لا عن خبرك. وقد يمكن أن يغلّط أو يجهل بيّنةً عامّةً بشرطٍ في عددهم وإجماعهم على الخبر عن رسول اللّه وشهادتهم معًا أو متفرّقين، ثمّ لا يذكر أحدٌ من خبر العامّة عددًا أبدًا إلّا وفي العامّة عددٌ أكثر منه، ولا من اجتماعهم حين يخبرون وتفرّقهم تثبيتًا إلّا أمكن في زمان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أو بعض زمانه حين كثر أهل الإسلام، فلا يكون لتثبيت الأخبار غايةٌ أبدًا ينتهي إليها، ثمّ لا يكون هذا لأحدٍ من النّاس أجوز منه لمن قال هذا، ورسول اللّه بين ظهرانيه؛ لأنّه قد يدرك لقاء رسول اللّه، ويدرك ذلك له أبوه وولده وإخوته وقرابته ومن يصدّقه في نفسه، ويفضّل صدقه له بالنّظر له، فإنّ الكاذب قد يصدّق نظرًا له، وإذا لم يجز هذا لأحدٍ يدرك لقاء رسول اللّه، ويدرك خبر من يصدّق من أهله والعامّة عنه، كان لمن جاء بعد رسول اللّه ممّن لا يلقاه في الدّنيا أولى أن لا يجوز. ومن زعم أنّ الحجّة لا تثبت بخبر المخبر الصّادق عند من أخبره، فما يقول في معاذٍ إذ بعثه رسول اللّه إلى أهل اليمن واليًا ومحاربًا من خالفه، ودعا قومًا لم يلقوا النّبيّ عليه السّلام إلى أخذ الصّدقة منهم وغيرها، فامتنعوا فقاتلهم، وقاتلهم معه من أسلم منهم بأمر رسول اللّه، ولم يكن عند من قاتل معه أو أكثرهم إلّا صدق معاذٍ عندهم بأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمره بقتالهم، إذ كانوا مطيعين للّه تعالى بنصر معاذٍ وتصديقه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانت الحجّة قائمةً على من ردّ على معاذٍ ما جاء به معاذٌ حتّى قتله معاذٌ، وهو محجوجٌ، ومعاذٌ للّه مطيعٌ. وما يقول فيمن كان رسول اللّه يبعثه في جيوشه وسراياه إلى من بعث، فيدعوهم إلى الإسلام أو إعطاء الجزية، فإن أبوا قاتلهم، أكان أمير الجيش
والسّريّة، والجيش والسّريّة مطيعين للّه فيمن قاتلوا؟ ومن امتنع ممّن دعوه محجوجًا، وقد كانت سراياه أو تكون عشرة نفرٍ أو أقلّ أو أكثر أم لا؟ فإن زعم أنّ من جاءه معاذٌ أو أمراء سراياه محجوجًا بخبرهم، فقد زعم أنّ الحجّة تقوم بخبر الواحد، وإن زعم أن لم تقم عليهم حجّةٌ فقد أعظم القول، وإن قال: لم يكن هذا أنكر خبر العامّة عمّن وصف وصار إلى طرح خبر الخاصّة والعامّة. وما يقول في امرئٍ بباديةٍ منّ اللّه عليه بالإسلام، ثمّ تنحّى إلى باديته، فجاء أخوه وأبوه وهما صادقان عنده فأخبراه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حرّم شيئًا أو أحلّه فحرّمه أو أحلّه أو يكون مطيعًا للّه بقبول خبرهما؟ فإن قال: نعم فقد ثبت خبر الواحد، وإن قال لا خرج ممّا لم أعلم فيه مخالفًا، فإنّي لم أحفظ عن أحدٍ لقيته، ولم أعلمه حكي لي عمّن لم ألق من أهل العلم أن لا يثبت إلّا ما وصفت عن أمر أبي بكرٍ وعليٍّ وغيرهما من عمّال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الانفراد، ولا يجوز أن يبعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلّا بما تقوم به الحجّة لمن يبعث إليه وعلى من بعث إليه النّبيّ، ولم أعلم مخالفًا من أهل العلم في أن لم يكن لأحدٍ وصل إليه عامل رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ورسله ممّن سمّينا أو لم نسمّ من عمّاله ورسله أن يمنعه شيئًا أعلمه أنّه يجب عليه، ولا أن يردّ حكمًا حكم به عليه، ولا أن يعصيه فيما أمره به ممّا لم يعلم لرسول اللّه فيه سنّةً تخالفه؛ لأنّ رسول اللّه لا يبعث إلّا بما تقوم به الحجّة، فكلّ من بعث رسول اللّه واحدٌ. ثمّ لم أعلم لناسٍ منذ قبض اللّه رسوله اختلفوا في أنّ خليفتهم ووالي المصر لهم وقاضي المصر واحدٌ، وليس من هؤلاء واحدٌ عدلٌ يقضي، فيقول: شهد عندي فلانٌ وفلانٌ وهما عدلان على فلانٍ أنّه قتل فلانًا، أو أنّه ارتدّ عن الإسلام، أو أنّه قذف فلانًا، أو أنّه أتى فاحشةً ممّا يجوز فيه شاهدان إلّا جاز أن يقام عليه ما وصفه هؤلاء، ولا حاكمٌ يعرف بعدلٍ يكتب بأنّه قضى لفلانٍ على فلانٍ بكذا من المال وبالدّار الّتي في موضع كذا، ولا لأحدٍ بأنّه ابن فلانٍ ووارثه، ولا بشيءٍ من حقوق النّاس إلّا أنفذه الحاكم المكتوب إليه، وكلّ حاكمٍ جاء بعده، ولا يكتب به إلّا حاكمٌ ببلدٍ من بلدان أهل الإسلام لأحدٍ ولا على أحدٍ إلّا أنفذه له، وليس فيه عند أحدٍ أنفذه له علمٌ إلّا بقول الحاكم الّذي قضى به، ولا عند الحاكم المكتوب إليه أنّ أحدًا شهد عند القاضي الّذي ذكر أنّه شهد عنده إلّا
بخبر ذلك القاضي. والقاضي واحدٌ فقد أجاز وأخبره في جميع أحكام النّاس. فكذلك الخليفة والوالي العدل، وفيما وصفت من أنّهم لم يختلفوا، في هذا دليلٌ على أنّ الحجّة في الحكم الّذي لم يكلّفه العباد كلّهم تقوم بخبر الواحد، مع أنّي لم أعلم أحدًا حكي عنه من أصحاب رسول اللّه والتّابعين إلّا ما يدلّ على قبول خبر الواحد. وكان عمر بن الخطّاب في لزومه رسول اللّه حاضرًا ومسافرًا، وصحبته له ومكانه من الإسلام، وأنّه لم يزايل المهاجرين بمكّة والمهاجرين والأنصار بالمدينة، ولم يزايله عامّةٌ منهم في سفرٍ له، وأنّه مقدّمٌ عندهم في العلم والرّأي وكثرة الاستشارة لهم، وأنّهم يبدءونه بما علموا فيقبله من كلّ من جاء به، وأنّه يعلم أنّ قوله حكمٌ ينفذ على النّاس في الدّماء والأموال والفروج، يحكم بين أظهرهم أنّ في الإبهام خمس عشرة من الإبل، وفي المسبّحة والوسطى عشرًا عشرًا، وفي الّتي تلي الخنصر تسعًا، وفي الخنصر ستًّا، فمضى على ذلك كثيرٌ ممّن حكى عنه في زمانه، والنّاس عليه حتّى وجد كتابٌ عند آل عمرو بن حزمٍ كتبه رسول اللّه لعمرو بن حزمٍ فيه: «وفي كلّ أصبعٍ ممّا هنالك عشرٌ من الإبل» فصار النّاس إليه وتركوا ما قضى به عمر ممّا وصفت، وسوّوا بين الخنصر الّتي قضى فيها عمر بستٍّ والإبهام الّتي قضى فيها بخمس عشرة، وكذلك يجب عليهم ولو علمه عمر كما علموه لقبله وترك ما حكم به إن شاء اللّه، كما فعل في غيره ممّا علم فيه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم غير ما كان هو يقول، فترك قوله بخبرٍ صادقٍ عن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وكذلك يجب عليه. قال الشّافعيّ: ولا أحسبه قال بما قال من ذلك وقبل ذلك من قبله من المقضيّ له والمقضيّ عليه وغيرهم، إلّا أنّه وإيّاهم قد علموا أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قضى في اليد بخمسين من الإبل، وكانت اليد خمسة أطرافٍ فاجتهد فيها على قدر منافعها وجمالها، ففضّل بعضها على بعضٍ، ولو لم يكن عن
رسول اللّه أنّ في كلّ أصبعٍ عشرًا صرنا إلى ما قال عمر أو ما أشبهه، وعلمنا أنّ الخنصر لا تشبه الإبهام في الجمال ولا المنفعة، وفي هذا دليلٌ على ما قلت من أنّ الخبر عن رسول اللّه يستغني بنفسه ولا يحتاج إلى غيره، ولا يزيده غيره إن وافقه ولا يوهنه إن خالفه غيره، وأنّ بالنّاس كلّهم الحاجة إليه والخبر عنه، فإنّه متبوعٌ لا تابعٌ، وأنّ حكم بعض أصحاب رسول اللّه إن كان يخالفه فعلى النّاس أن يصيروا إلى الخبر عن رسول اللّه وأن يتركوا ما يخالفه، ودليلٌ على أن يصيروا إلى الخبر عن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وأن يتركوا ما يخالفه، ودليلٌ على أنّه يعزب على المتقدّم الصّحبة الواسع العلم الشّيء يعلمه غيره. وكان عمر بن الخطّاب يقضي أنّ الدّية للعاقلة، ولا يورّث المرأة من دية زوجها حتّى أخبره الضّحّاك بن سفيان أنّ رسول اللّه كتب إليه أن يورّث امرأة أشيم الضّبابيّ من دية زوجها، فرجع إليه عمر .
التــــــــالـــــــــــــــــــــــــــــــــــي
آتٍ فأخبرهم أنّ الخمر قد حرّمت، فأمروا أناسًا فكسروا جرار شرابهم ذلك. ولا شكّ أنّهم لا يحدّثون في مثل هذا إلّا ذكروه لرسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم إن شاء اللّه، ويشبه أن لو كان قبول خبر من أخبرهم، وهو صادقٌ عندهم، ممّا لا يجوز لهم قبوله أن يقول لهم رسول اللّه: قد كنتم على قبلةٍ ولم يكن لكم أن تحوّلوا عنها، إذ كنت حاضرًا معكم حتّى أعلمكم أو يعلمكم جماعةٌ، أو عددٌ يسمّيهم لهم، ويخبرهم أنّ الحجّة تقوم عليهم بمثلها، إلّا بأقلّ منها إن كانت لا تثبت عنده بواحدٍ. والفساد لا يجوز عند رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ولا عند عالمٍ، وهراقة حلالٍ فسادٌ، فلو لم تكن الحجّة أيضًا تقوم عليهم بخبر من أخبرهم بتحريمٍ، لأشبه أن يقول قد كان لكم حلالًا ولم يكن لكم إفساده حتّى أعلمكم أنّ اللّه جلّ وعزّ حرّمه، أو يأتيكم عددٌ يحدّه لهم يخبر عنّي بتحريمه. وأمر رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أمّ سلمة أن تعلّم امرأةً أن تعلّم زوجها إن قبّلها وهو صائمٌ لا يحرم عليه، ولو لم ير الحجّة تقوم عليه بخبرها إذا صدّقها لم يأمرها إن شاء اللّه به، وأمر رسول اللّه أنيسًا الأسلميّ أن يغدو على امرأة رجلٍ، فإن اعترفت رجمها، فاعترفت، فرجمها، وفي ذلك إفاتة
نفسها باعترافها عند أنيسٍ، وهو واحدٌ، وأمر عمرو بن أميّة أن يقتل أبا سفيان، وقد سنّ عليه إن علمه أسلم لم يحلّ له قتله، وقد يحدث الإسلام قبل أن يأتيه عمرو بن أميّة، وأمر أنيسًا أو عبد اللّه بن أنيسٍ - شكّ الرّبيع - أن يقتل خالد بن سفيان الهذليّ فقتله، ومن سنّة رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم لو أسلم أن لا يقتله، وكلّ هؤلاء من معاني ولاته وهم واحدٌ واحدٌ فتصوّر الحكم بأخبارهم، وبعث رسول اللّه بعمّاله واحدًا واحدًا، وإنّما بعث عمّاله ليخبروا النّاس بما أخبرهم به رسول اللّه من شرائع دينهم، ويأخذوا منهم ما أوجب اللّه عليهم ويعطوهم ما لهم، ويقيموا عليهم الحدود وينفّذوا فيهم الأحكام، ولم يبعث منهم واحدًا إلّا مشهورًا بالصّدق عند من بعثه إليه، ولو لم تقم الحجّة عليهم بهم إذ كانوا في كلّ ناحيةٍ وجّههم إليها أهل صدقٍ عندهم، ما بعثهم إن شاء اللّه. وبعث أبا بكرٍ واليًا على الحجّ، فكان في معنى عمّاله، ثمّ بعث عليًّا بعده بأوّل سورة براءةٍ فقرأها في مجمع النّاس في الموسم، وأبو بكرٍ واحدٌ، وعليٌّ واحدٌ، وكلاهما بعثه بغير الّذي بعث به صاحبه، ولو لم تكن الحجّة تقوم عليهم ببعثته كلّ واحدٍ منهما إذ كانا مشهورين عند عوامّهم بالصّدق، وكان من جهلهما من عوامّهم يجد من يثق به من أصحابه يعرف صدقهما، ما بعث منهما واحدٌ فقد بعث عليًّا يعطيهم نقض مددٍ، وإعطاء مددٍ ونبذٍ إلى قومٍ ونهيٍ عن أمورٍ وأمرٍ بأخرى وما كان لأحدٍ من المسلمين بلّغه على أنّ لهم مدّة أربعة أشهرٍ أن يعرض لهم في مدّتهم، ولا مأمورٌ بشيءٍ ولا منهيٌّ عنه برسالةٍ على أن يقول له: أنت واحدٌ، ولا تقوم عليّ الحجّة بأنّ رسول اللّه بعثك إليّ بنقض شيءٍ جعله لي، ولا بإحداث شيءٍ لم يكن لي، ولا لغيري، ولا بنهيٍ عن أمرٍ لم أعلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عنه، ولا بإحداث أمرٍ لم أعلم رسول اللّه أحدثه، وما يجوز هذا لأحدٍ في شيءٍ قطعه عليه عليٌّ برسالة النّبيّ ولا أعطاه إيّاه ولا أمره به، ولا نهاه عنه، بأن يقول: لم أسمعه من رسول اللّه أو ينقله إلى عددٍ أو لا أقبل فيه خبرك وأنت واحدٌ، ولا كان لأحدٍ وجّه إليه رسول اللّه عاملًا يعرفه أو لا يعرفه له من يصدّقه صدقه أن يقول له العامل: عليك أن تعطي كذا وكذا، أو تفعل بك كذا، فيقول: لا أقبل هذا منك؛ لأنّك واحدٌ حتّى ألقى رسول اللّه فيخبرني أنّ عليّ ما قلت إنّه عليّ، فأفعله عن أمر رسول اللّه لا عن خبرك. وقد يمكن أن يغلّط أو يجهل بيّنةً عامّةً بشرطٍ في عددهم وإجماعهم على الخبر عن رسول اللّه وشهادتهم معًا أو متفرّقين، ثمّ لا يذكر أحدٌ من خبر العامّة عددًا أبدًا إلّا وفي العامّة عددٌ أكثر منه، ولا من اجتماعهم حين يخبرون وتفرّقهم تثبيتًا إلّا أمكن في زمان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أو بعض زمانه حين كثر أهل الإسلام، فلا يكون لتثبيت الأخبار غايةٌ أبدًا ينتهي إليها، ثمّ لا يكون هذا لأحدٍ من النّاس أجوز منه لمن قال هذا، ورسول اللّه بين ظهرانيه؛ لأنّه قد يدرك لقاء رسول اللّه، ويدرك ذلك له أبوه وولده وإخوته وقرابته ومن يصدّقه في نفسه، ويفضّل صدقه له بالنّظر له، فإنّ الكاذب قد يصدّق نظرًا له، وإذا لم يجز هذا لأحدٍ يدرك لقاء رسول اللّه، ويدرك خبر من يصدّق من أهله والعامّة عنه، كان لمن جاء بعد رسول اللّه ممّن لا يلقاه في الدّنيا أولى أن لا يجوز. ومن زعم أنّ الحجّة لا تثبت بخبر المخبر الصّادق عند من أخبره، فما يقول في معاذٍ إذ بعثه رسول اللّه إلى أهل اليمن واليًا ومحاربًا من خالفه، ودعا قومًا لم يلقوا النّبيّ عليه السّلام إلى أخذ الصّدقة منهم وغيرها، فامتنعوا فقاتلهم، وقاتلهم معه من أسلم منهم بأمر رسول اللّه، ولم يكن عند من قاتل معه أو أكثرهم إلّا صدق معاذٍ عندهم بأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمره بقتالهم، إذ كانوا مطيعين للّه تعالى بنصر معاذٍ وتصديقه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانت الحجّة قائمةً على من ردّ على معاذٍ ما جاء به معاذٌ حتّى قتله معاذٌ، وهو محجوجٌ، ومعاذٌ للّه مطيعٌ. وما يقول فيمن كان رسول اللّه يبعثه في جيوشه وسراياه إلى من بعث، فيدعوهم إلى الإسلام أو إعطاء الجزية، فإن أبوا قاتلهم، أكان أمير الجيش
والسّريّة، والجيش والسّريّة مطيعين للّه فيمن قاتلوا؟ ومن امتنع ممّن دعوه محجوجًا، وقد كانت سراياه أو تكون عشرة نفرٍ أو أقلّ أو أكثر أم لا؟ فإن زعم أنّ من جاءه معاذٌ أو أمراء سراياه محجوجًا بخبرهم، فقد زعم أنّ الحجّة تقوم بخبر الواحد، وإن زعم أن لم تقم عليهم حجّةٌ فقد أعظم القول، وإن قال: لم يكن هذا أنكر خبر العامّة عمّن وصف وصار إلى طرح خبر الخاصّة والعامّة. وما يقول في امرئٍ بباديةٍ منّ اللّه عليه بالإسلام، ثمّ تنحّى إلى باديته، فجاء أخوه وأبوه وهما صادقان عنده فأخبراه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حرّم شيئًا أو أحلّه فحرّمه أو أحلّه أو يكون مطيعًا للّه بقبول خبرهما؟ فإن قال: نعم فقد ثبت خبر الواحد، وإن قال لا خرج ممّا لم أعلم فيه مخالفًا، فإنّي لم أحفظ عن أحدٍ لقيته، ولم أعلمه حكي لي عمّن لم ألق من أهل العلم أن لا يثبت إلّا ما وصفت عن أمر أبي بكرٍ وعليٍّ وغيرهما من عمّال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الانفراد، ولا يجوز أن يبعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلّا بما تقوم به الحجّة لمن يبعث إليه وعلى من بعث إليه النّبيّ، ولم أعلم مخالفًا من أهل العلم في أن لم يكن لأحدٍ وصل إليه عامل رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ورسله ممّن سمّينا أو لم نسمّ من عمّاله ورسله أن يمنعه شيئًا أعلمه أنّه يجب عليه، ولا أن يردّ حكمًا حكم به عليه، ولا أن يعصيه فيما أمره به ممّا لم يعلم لرسول اللّه فيه سنّةً تخالفه؛ لأنّ رسول اللّه لا يبعث إلّا بما تقوم به الحجّة، فكلّ من بعث رسول اللّه واحدٌ. ثمّ لم أعلم لناسٍ منذ قبض اللّه رسوله اختلفوا في أنّ خليفتهم ووالي المصر لهم وقاضي المصر واحدٌ، وليس من هؤلاء واحدٌ عدلٌ يقضي، فيقول: شهد عندي فلانٌ وفلانٌ وهما عدلان على فلانٍ أنّه قتل فلانًا، أو أنّه ارتدّ عن الإسلام، أو أنّه قذف فلانًا، أو أنّه أتى فاحشةً ممّا يجوز فيه شاهدان إلّا جاز أن يقام عليه ما وصفه هؤلاء، ولا حاكمٌ يعرف بعدلٍ يكتب بأنّه قضى لفلانٍ على فلانٍ بكذا من المال وبالدّار الّتي في موضع كذا، ولا لأحدٍ بأنّه ابن فلانٍ ووارثه، ولا بشيءٍ من حقوق النّاس إلّا أنفذه الحاكم المكتوب إليه، وكلّ حاكمٍ جاء بعده، ولا يكتب به إلّا حاكمٌ ببلدٍ من بلدان أهل الإسلام لأحدٍ ولا على أحدٍ إلّا أنفذه له، وليس فيه عند أحدٍ أنفذه له علمٌ إلّا بقول الحاكم الّذي قضى به، ولا عند الحاكم المكتوب إليه أنّ أحدًا شهد عند القاضي الّذي ذكر أنّه شهد عنده إلّا
بخبر ذلك القاضي. والقاضي واحدٌ فقد أجاز وأخبره في جميع أحكام النّاس. فكذلك الخليفة والوالي العدل، وفيما وصفت من أنّهم لم يختلفوا، في هذا دليلٌ على أنّ الحجّة في الحكم الّذي لم يكلّفه العباد كلّهم تقوم بخبر الواحد، مع أنّي لم أعلم أحدًا حكي عنه من أصحاب رسول اللّه والتّابعين إلّا ما يدلّ على قبول خبر الواحد. وكان عمر بن الخطّاب في لزومه رسول اللّه حاضرًا ومسافرًا، وصحبته له ومكانه من الإسلام، وأنّه لم يزايل المهاجرين بمكّة والمهاجرين والأنصار بالمدينة، ولم يزايله عامّةٌ منهم في سفرٍ له، وأنّه مقدّمٌ عندهم في العلم والرّأي وكثرة الاستشارة لهم، وأنّهم يبدءونه بما علموا فيقبله من كلّ من جاء به، وأنّه يعلم أنّ قوله حكمٌ ينفذ على النّاس في الدّماء والأموال والفروج، يحكم بين أظهرهم أنّ في الإبهام خمس عشرة من الإبل، وفي المسبّحة والوسطى عشرًا عشرًا، وفي الّتي تلي الخنصر تسعًا، وفي الخنصر ستًّا، فمضى على ذلك كثيرٌ ممّن حكى عنه في زمانه، والنّاس عليه حتّى وجد كتابٌ عند آل عمرو بن حزمٍ كتبه رسول اللّه لعمرو بن حزمٍ فيه: «وفي كلّ أصبعٍ ممّا هنالك عشرٌ من الإبل» فصار النّاس إليه وتركوا ما قضى به عمر ممّا وصفت، وسوّوا بين الخنصر الّتي قضى فيها عمر بستٍّ والإبهام الّتي قضى فيها بخمس عشرة، وكذلك يجب عليهم ولو علمه عمر كما علموه لقبله وترك ما حكم به إن شاء اللّه، كما فعل في غيره ممّا علم فيه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم غير ما كان هو يقول، فترك قوله بخبرٍ صادقٍ عن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وكذلك يجب عليه. قال الشّافعيّ: ولا أحسبه قال بما قال من ذلك وقبل ذلك من قبله من المقضيّ له والمقضيّ عليه وغيرهم، إلّا أنّه وإيّاهم قد علموا أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قضى في اليد بخمسين من الإبل، وكانت اليد خمسة أطرافٍ فاجتهد فيها على قدر منافعها وجمالها، ففضّل بعضها على بعضٍ، ولو لم يكن عن
رسول اللّه أنّ في كلّ أصبعٍ عشرًا صرنا إلى ما قال عمر أو ما أشبهه، وعلمنا أنّ الخنصر لا تشبه الإبهام في الجمال ولا المنفعة، وفي هذا دليلٌ على ما قلت من أنّ الخبر عن رسول اللّه يستغني بنفسه ولا يحتاج إلى غيره، ولا يزيده غيره إن وافقه ولا يوهنه إن خالفه غيره، وأنّ بالنّاس كلّهم الحاجة إليه والخبر عنه، فإنّه متبوعٌ لا تابعٌ، وأنّ حكم بعض أصحاب رسول اللّه إن كان يخالفه فعلى النّاس أن يصيروا إلى الخبر عن رسول اللّه وأن يتركوا ما يخالفه، ودليلٌ على أن يصيروا إلى الخبر عن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وأن يتركوا ما يخالفه، ودليلٌ على أنّه يعزب على المتقدّم الصّحبة الواسع العلم الشّيء يعلمه غيره. وكان عمر بن الخطّاب يقضي أنّ الدّية للعاقلة، ولا يورّث المرأة من دية زوجها حتّى أخبره الضّحّاك بن سفيان أنّ رسول اللّه كتب إليه أن يورّث امرأة أشيم الضّبابيّ من دية زوجها، فرجع إليه عمر .
التــــــــالـــــــــــــــــــــــــــــــــــي
الكلمات المفتاحية :
اعجاز الحديث النبوي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: