الفقه الحنبلية - اللقيط - الوصايا

أرش الجناية على العبد وان كان الارش تحمله العاقلة إذا كان حرا سقط عن العاقلة ولم يجب على الجاني لان اقراره بالرق يتضمن اقراره بالسقوط عن العاقلة ولم يقبل اقراره على الجاني فسقط، وقيل لا يتحول عن العاقلة وعلى قول من قال: يقبل اقراره في الاحكام كلها يوجب الارش على الجاني والله أعلم
* (مسألة) * (وان قال اني كافر لم يقبل قوله وحكمه حكم المرتد، وقيل يقبل الا أن يكون قد نطق بالاسلام وهو لا يعقله) وجملة ذلك أنا في الموضع الذي حكمنا باسلام اللقيط انما ذلك ظاهرا لا يقينا لاحتمال أن يكون ولد كافرين ولهذا لو أقام كافر بينة انه ولده ولد على فراشه حكمنا له به وسنذكر ذلك، ومتى بلغ اللقيط حدا يصح فيه اسلامه وردته فوصف الاسلام فهو مسلم سواء كان ممن حكم باسلامه أو كفره ولا يقبل اقراره بالكفر بعد ذلك لانه انكار بعد اقراره فلا يقبل كغيره وان وصف الكفر وهو ممن حكم باسلامه بالدار فهو مرتد لا يقر على كفره، وبهذا قال أبو حنيفة، وذكر القاضي وجها أنه يقر على كفره، وهو منصوص الشافعي لان قوله أقوى من ظاهر الدار وهذا وجه بعيد لان دليل الاسلام وجد عريا عن المعارض فثبت حكمه واستقر فلا تجوز ازالة حكمه كما لو كان ابن مسلم ولان قوله لا دلالة فيه أصلا لانه لا يعرف في الحال من كان أبوه ولا ما كان دينه؟ وانما يقول هذا من تلقاء نفسه فعلى هذا إذا بلغ استتيب ثلاثا فان تاب والا قتل فأما على قولهم فقال القاضي ان وصف
كفرا يقر عليه بالجزية عقدت له الذمة، فان امتنع من التزامها ووصف كفرا لا يقر أهله ألحق بمأمنه، قال شيخنا وهذا بعيد جدا فان هذا اللقيط لا يخلو إما أن يكون ابن حربي فهو حاصل في أيدي المسلمين بغير عهد ولا عقد فيكون لواجده ويصير مسلما باسلام سابيه، أو يكون ابن ذميين أو احدهما ذمي فلا يقر على الانتقال إلى غير دين أهل الكتاب، أو يكون ابن مسلم أو مسلمين فيكون مسلما، وقد قال احمد في امة نصرانية ولدت من فجور، ولدها مسلم لان ابويه يهودانه وينصرانه وهذا ليس معه الا امه، وإذا لم يكن لهذا الولد حال يحتمل ان يقر فيها على دين لا يقر اهله عليه فكيف يرد إليه دار الحرب؟ * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (وإن أقر انسان أنه ولده الحق به مسلما كان أو كافرا رجلا أو امرأة حيا كان اللقيط أو ميتا) وجملة ذلك أنه إذا ادعى مدع نسب اللقيط لم يخل من قسمين (أحدهما) أن يدعيه واحد ينفرد
بدعوته فان كان المدعي حرا مسلما لحقه نسبه إذا أمكن أن يكون منه بغير خلاف بين أهل العلم، لان الاقرار محض يقع للطفل لايصال نسبه ولا ضرر على غيره فيه فقبل كما لو أقر له بمال فان كان المقر به ملتقطه أقر في يده، وان كان غيره فله أن ينزعه من الملتقط لانه قد ثبت أنه أبوه فيكون أحق به كما لو قامت به بينة.
(فصل) فان كان المدعي عبدا ألحق به لان لمائه حرمة فلحق به نسبه كالحر وهذا قول الشافعي وغيره غير أنه لا تثبت له حضانة لانه مشغول بخدمة سيده ولا تجب عليه نفقته لانه لا مال له ولا تجب على سيده لان الطفل محكوم بحريته فعلى هذا تكون نفقته في بيت المال (فصل) فان كان المدعي ذميا لحق به لانه أقوى من العبد في ثبوت الفراش فان يثبت له النكاح والوطئ في الملك وقال أبو ثور لا يلحق به لانه محكوم باسلامه ولنا أنه أقر بنسب مجهول النسب يمكن أن يكون منه وليس في اقراره اضرار لغيره فيثبت اقراره كالمسلم.
* (مسألة) * ولا يتبع الكافر في دينه الا ان يقيم بينة انه ولد علي فراشه) وجملة ذلك انه يتبع الكافر في النسب لا في الدين ولا حق له في حضانته ولا يسلم إليه لانه لا ولاية للكافر على المسلم وقال الشافعي في أحد قوليه يتبعه في دينه لان كل ما لحق به بنسبه لحقه به في دينه كالبينة الا أنه يحال بينه وبينه ولنا أن هذا محكوم باسلامه فلا يقبل قول الذمي في كفره كما لو كان معروف النسب ولانها دعوى تخالف الظاهر فلم تقبل بمجردها كدعوى رقه، ولانه لو تبعه في دينه لم يقبل اقراره بنسبه لانه يكون اضرارا به فلا يقبل كدعوى الرق، أما مجرد النسب بدون اتباعه في الدين فمصلحة عارية
عن الضرر فقبل قوله فيه ولا يجوز قبوله فيما هو أعظم الضرر والخزي في الدنيا والآخرة، فان أقام بينة أنه ولد على فراشه لحق به نسبا ودينا كذلك ذكره ههنا وهو قول بعض اصحابنا لانه ثبت أنه
ابنه ببينة، وقياس المذهب أنه لا يلحقه في الدين الا أن تشهد البينة أنه ولد كافرين حيين لان الطفل يحكم باسلامه باسلام أحد ابويه أو موته (فصل) فان كان المدعي امرأة فروي عن أحمد أن دعوتها تقبل ويلحقها نسبه لانها أحد الابوبن اشبهت الاب، ولانه يمكن كونه منها كما يمكن أن يكون من الرجل بل أكثر لانها تأتي به من زوج ووطئ شبهة ويلحقها ولدها من الزنا دون الرجل، وقد روي في قصة داود وسليمان عليهما السلام حين تحاكم اليهما امرأتان كان لهما ابنان فذهب الذئب باحدهما فادعت كل واحدة منهما أن الباقي ابنها فحكم به داود للكبرى وحكم به سليمان للصغرى بمجرد الدعوى منهما، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، فعلى هذه الرواية يلحق بها دون زوجها لانه لا يجوز أن يلحقه نسب ولد لم يقر به، ولذلك إذا ادعى الرجل نسبه لم يلحق بزوجته، فان قيل الرجل يمكن أن يكون له ولد من امرأة أخرى ومن أمته والمرأة لا يحل لها نكاح غير زوجها ولا يحل لغيره وطؤها قلنا يمكن ان تلد من وطئ شبهة أو غيره، وإن كان الولد يحتمل أن يكون موجودا قبل تزوجها بهذا الزوج أمكن أن يكون من زوج آخر، فان قيل إنما قبل الاقرار بالنسب من الزوج لما فيه من المصلحة ودفع العار عن الصبي وصيانته عن النسبة
إلى كونه ولد زنا ولا يحصل هذا بالحاق نسبه بالمرأة بل في الحاق نسبه بها دون زوجها يطرق العار إليه واليها قلنا بل قبلنا دعواه لانه يدعي حقا لا منازع له فيه ولا مضرة فيه على أحد فقبل قوله فيه كدعوى المال وهذا متحقق في دعوى المرأة، وروي عن احمد انها إن كانت ذات زوج لم يثبت النسب بدعوتها لافضائه إلى الحاق النسب بزوجها بغير اقراره ولا رضائه أو إلى أن امرأته وطئت بزنا أو شبهة وفي ذلك ضرر عليه فلا يقبل قولها فيما يلحق الضرر به وإن لم يكن لها زوج قبلت دعوتها لعدم الضرر، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي أيضا، وروى عن احمد رواية ثالثة نقلها الكوسنج عن احمد في امرأة ادعت ولدا ان كان لها اخوة أو نسب معروف فلا تصدق الا ببينة وان لم يكن لها دافع لم يخل بينهما وبينه لانه إذا كان لها أهل وناس معروف لم تخف ولادتها عليهم ويتضررون بالحاق النسب بها لما فيه من تعييرهم بولادتها من غير زوجها وليس كذلك إذا لم يكن لها أهل قال شيخنا
ويحتمل أن لا يثبت النسب بدعوتها بحال وهذا قول الثوري والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن النسب لا يثبت بدعوة المرأة لانها يمكنها إقامة البينة على الولادة فلا يقبل قولها بمجرده كما لو علق زوجها طلاقها بولادتها ولنا أنها أحد الوالدين أشبهت الاب وامكان البينة لا يمنع قبول القول كالرجل فان يمكنه إقامة
البينة ان هذا ولد على فراشه وان كان المدعي أمة أي كالحرة إلا أنا إذا قبلنا دعوتها في نسبه لم نقبل قولها في رقه لاننا لا نقبل الدعوى فيما يضره كما لم نقبل الدعوى في كفره إذا ادعى نسبه كافر * (مسألة) * (فان ادعان اثنان أو أكثر لاحدهما بينة قدم بها فان استووا في بينة أو عدمها عرض معهما على القافة أو مع أقاربهما إن ماتا) الكلام في ذلك في فصول (أحدها) أنه إذا ادعاه مسلم وكافر وحر وعبد فهما سواء وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة المسلم اولى من الذمي والحر أولى من العبد لان على اللقيط ضررا في الحاقه بالعبد والذمي فيكون الحاقه بالحر المسلم اولى كما لو تنازعوا في الحضانة ولنا ان كل واحد لو انفرد صحت دعوته فإذا تنازعوا تساووا في الدعوى كالاحرار المسلمين وما ذكروه من الضرر لا يتحقق فاننا لا نحكم برقه ولا كفره ولا يشبه النسب الحضانة بدليل اننا نقدم في الحضانة الموسر والحضري ولا نقدمهما في دعوى النسب ولان الحضانة انما يراعي فيهما حق الطفل حسب وههنا ينبغي ان يراعى حق المدعي ايضا قال ابن المنذر إذا كان عند امرأته أمة في أيديهما صبي فادعى رجل من العرب امرأته عربية أنه ابنه من امرأته وأقام العبد بينة بدعواه فهو ابنه في قول أبي ثور وغيره وقال أصحاب الرأي يقضى به للعربي للعتق الذي يدخل فيه وكذلك ان كان المدعي من الموالي عندهم قال شيخنا وهذا غير صحيح لان العرب وغيرهم في أحكام الله تعالى ولحوق النسب بهم سواء.
(الفصل الثاني) انه إذا ادعاه اثنان أو اكثر وكان لاحدهما بينة فهو ابنه وان اقام كل واحد
منهم بينة تعارضت وسقطت لانه لا يمكن استعمالها ههنا لان استعمالها في المال اما بقسمته بين المتنازعين ولا يمكن ههنا أو بالقرعة لا يثبت بها النسب فان قيل إنما يثبت ههنا بالبينة لا بالقرعة وإنما القرعة مرجحة قلنا فيلزم انه إذا اشترك رجلان في وطئ امرأة وأتت بولد أن يقرع بينهما ويكون لحوقه بالوطئ لا بالقرعة (الفصل الثالث) انه إذا لم تكن بينة أو تعارضت بينتان وسقطتا أري القافة معهما أو مع عصبتهما عند فقدهما فنلحقه بمن الحقته به منهما هذا قول أنس وعطاء والاوزاعي والليث والشافعي وأبي وقال أصحاب الرأي لا حكم للقافة ويلحق بالمدعيين جميعا لان الحكم بالقيافة مبني على الشبه والظن والتخمين فان اشبه يوجد بين الاجانب وينتفي بين الاقارب ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا أتاه فقال يا رسول الله ان امرأتي ولدت غلاما أسود فقال " هل لك من إبل؟ قال نعم - قال - فما ألوانها؟ قال حمر - قال فيها من أورق؟ قال - نعم - قال اين أتاها ذلك؟ قال لعل عرقا نزع قال - وهذا لعل عرقا نزع " متفق عليه قالوا ولو كان الشبه كافيا لاكتفي به في ولد الملاعنة وفيها إذا أقر أحد الورثة بأخ فأنكره الباقون.
ولنا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسرورا تبرق
أسارير وجهه فقال " الم تري أن محرزا نظر آنفا إلى زيد وأسامة وقد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال ان هذه الاقدام بعضها من بعض؟ " متفق عليه فلو لا جواز الاعتماد على القيافة لما سر به النبي صلى الله عليه وسلم ولا اعتمد عليه ولان عمر رضي الله عنه قضى به بحضرة الصحابة فلم ينكره منكر فكان إجماعا ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في ولد الملاعنة " انظروها فان جاءت به حمش الساقين كأنه وحرة فلا اراه الا قد كذب عليها وان جاءت به جعدا جماليا سابغ الاليتين خدلج الساقين فهو الذي رميت به " فاتت به على النعت المكروه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لو لا الايمان لكان لي ولها شأن " فحكم به النبي صلى الله عليه وسلم الذى اشبهه منهما وقوله " لو لا الايمان لكان لي ولها شأن يدل على انه لم يمنعه من العمل بالشبه الا الايمان فإذا انتفى المانع يجب العمل به لوجود مقتضيه وكذلك قول
النبي صلى الله عليه وسلم في ابن امة زمعة حين راى به شبها بينا بعتبة بن ابي وقاص احتجبي منه يا سودة فعمل بالشبه في حجب سودة فان قيل فالحديثان حجة عليكم إذ لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالشبه فيهما بل الحق الولد بزمعة وقال لعبد بن زمعة " هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر " ولم يعمل بشبه ولد الملاعنة في إقامة الحد عليها لشبهه بالمقذوف قلنا إنما لم يعمل به في ابن أمة زمعة لان الفراش أقوى وترك العمل بالبينة لمعارضة ما هو اقوى منها لا يوجب الاعراض
عنها إذا خلت عن المعارض ولذلك ترك إقامة الحد عليها من اجل أيمانها بدليل قوله " لو لا الايمان لكان لي ولها شأن " علي ان ضعف الشبه عن إقامة الحد لا يوجب ضعفه عن إلحاق النسب، فان الحد في الزنا لا يثبت إلا بأقوى البينات واكثرها عددا واقوى الاقرار حتى يعبر فيه تكراره اربع مرات وتدرأ بالشبهات، والنسب يثبت بشهادة امرأه على الولادة ويثبت بمجرد الدعوى مع ظهور انتفائه حتى لو ان امرأة اتت بولد وزوجها غائب منذ عشرين سنة لحقه ولدها فكيف يجنح إلى نفيه بعدم إقامة الحد؟ ولانه حكم بظن غالب ورأي راجح ممن هو من اهل الخبرة فجاز كقول المقومين وقولهم ان الشبه يجوز وجوده وعدمه قلنا الظاهر وجوده ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم حين قالت ام سلمة أو ترى ذلك المراة؟ قال " فمن اين يكون الشبه، والحديث الذي احتجوا به حجة عليهم لان إنكار الرجل ولده لمخالقة لونه لونه وعزمه على نفيه لذلك يدل على ان العادة خلافه وان في طباع الناس إنكاره فان ذلك إنما يوجد نادرا وإنما الحقه النبي صلى الله عليه وسلم به لوجود الفراش وتجوز مخالفة الظاهر للدليل ولا يجوز تركه لغير دليل ولان ضعفه عن نفي النسب لا يلزم منه ضعفه عن اثباته، فان النسب يحتاط له لاثباته ويثبت بأدنى دليل ويلزم من ذلك التشديد في نفيه وانه لا ينتفي الا بأقوى الادلة كما أن الحد لما انتفى بالشبهة لم يثبت الا بأقوى دليل فلا يلزم حينئذ من المنع من نفيه بالشبه في الخبر المذكور أن لا يثبت به
النسب في مسئلتنا، فان قيل فههنا إذا عملتم بالقيافة فقد نفيم النسب عمن لم تلحقه القافة به قلنا انما انتسب ههنا لعدم دليله لانه لم يوجد الا مجرد الدعوى وقد عارضها مثلها فسقط حكمها وكان الشبه مرجحا
لاحدهما فانتفت دلالة الاخرى فلزم انتفاء النسب لانتفاء دليله، وتقديم اللعان عليه لا يمنع العمل به عند عدمه كاليد تقدم عليها البينة ويعمل بها عند عدمها.
(فصل) والقافة قوم يعرفون الانساب بالشبه ولا يختص ذلك بقبيلة معينة بل من عرف منه المعرفة بذلك وتكررت منه الاصابة فهو قائف، وقيل أكثر ما يكون في بنى مدلج رهط محرز الذي رأي اسامة وزيدا قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال ان هذه الاقدام بعضها من بعض، وكان اياس بن معاوية المزني قائفا وكذلك قيل في شريح * (مسألة) * (فان ألحقته بأحدهما لحق به ليرجح جانبه وان ألحقته بهما لحق بهما وكان ابنها يرثهما ميراث ابن ويرثانه جميعا ميراث أب واحد) يروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما، وهو قول أبي ثور وقال أصحاب الرأي يلحق بهما بمجرد الدعوى، وقال الشافعي لا يلحق باكثر من واحد فان ألحقته بهما سقط قولهما ولم يحكم به واحتج برواية عن عمر رضي الله عنه ان القافة قالت اشتركا فيه، فقال عمر وال أيهما شئت ولانه لا يتصور كونه من رجلين فإذا ألحقته القافة بهما تبينا كذبهما فسقط قولهما كما لو ألحقته بأمين ولان المتداعيين
لو اتفقا على ذلك لم يثبت، ولو ادعاه كل واحد منهما وأقام بينة سقطتا، ولو جاز أن يلحق بهما لثبت باتفاقهما وألحق بهما عند تعارض بينتهما ولنا ما روى سعيد في سننه ثنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن عمر في امرأة وطئها رجلان في طهر فقال الافئف قد اشتركا فيه جميعا فجعله بينهما، وباسناده عن الشعبي قال وعلي يقول هو ابنهما وهما أبواه يرثهما ويرثانه، رواه الزبير بن بكار باسناده عن عمر، وقال الامام احمد حديث قتادة عن سعيد عن عمر جعله بينهما، وقال قابوس عن أبيه عن علي جعله بينهما، وروى الاثرم باسناده عن سعيد بن المسيب في رجلين اشتركا في طهر امرأة فحملت فولدت غلاما يشبههما فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فدعى القافة فنظروا فقالوا نراه يشبههما فألحقه بهما وجعله يرثهما ويرثانه، قال سعيد عصبته الباقي منهما وما ذكروه عن عمر لا نعلم صحته وان صح فيحتمل أنه ترك
قولهما لامر آخر إما لعدم ثقتها وإما لانه ظهر له من قولهما واختلافه ما يوجب تركه فلا ينحصر المانع من قبول قولهما انهما اشتركا فيه.
قال أحمد إذا ألحقته القافة بهما ورثهما وورثاه، فان مات أحدهما فهو للباقي منهما ونسبه من الاول قائم لا يزيله شئ، ومعنى قوله هو للباقي منهما والله أعلم أنه يرثه ميراث أب كامل كما أن الجدة إذا انفردت أخذت ما تأخذه الجدات، والزوجة تأخذ وحدها ما يأخذه جميع الزوجات.
* (مسألة) *) ولا يلحق بأكثر من أم واحدة) إذا ادعت امرأتان نسب اللقيط فهو مبني على قبول دعوتهما، وقد ذكرنا ذلك، وإن كانت احداهما ممن تقبل دعوتها دون الاخرى فهو ابنها كالمنفردة، وإن كانتا ممن لا تقبل دعوتهما فوجودها كعدمها وإن كانتا جميعا ممن تقبل دعوتهما فهما في اثباته بالبينة وكونه يرى القافة عند عدمها أو تعارضهما كالرجلين).
قال احمد في رواية بكر بن محمد في يهودية ومسلمة ولدتا فادعت اليهودية ولد المسلمة فتوقف فقيل يرى القافة فقال ما أحسنه، ولان الشبه يوجد بينهما وبين ابنها كوجوده بين الرجل وابنه بل أكثر لاختصاصها بحمله وتعذيته، والكافرة والمسلمة، والحرة والامة، في الدعوة واحدة كقولنا في الرجال، وهذا قول اصحاب الشافعي على الوجه الذى يقولون بقبول دعوتها، إذا ثبت ذلك فانه لا يلحق بأكثر من أم واحدة، فان ألحقته القافة بأمين سقط قولهما لاننا لا نعلم خصأه قطعا، وقال أصحاب الرأي يلحق بهما بمجرد الدعوى لان الام أحد الابوين فجاز ان يلحق باثنتين كالآباء ولنا ان هذا محال يقينا فلم يجز الحكم به كما لو كان اكبر منهما أو مثلهما بخلاف الرجلين فان كونه منهما ممكن فانه يجوز اجتماع نطفتي الرجلين في رحم امرأة فيمكن ان يخلق منهما ولدكما يخلق من نطفة الرجل وامرأة ولذلك فال القائف لعمر قد اشتركا فيه ولا يلزم من الحاقه بمن يتصور كونه منه الحاقه بمن يستحيل ذلك منه كما لا يلزم من الحاقه بمن يولد مثله لمثله الحاقه بأصغر منه
(فصل) فان ادعى نسبه رجل وامرأة فلا تنافي بينهما لامكان كونه منهما بنكاح كان بينهما أو وطئ شبهه فيلحق
بهما جميعا ويكون ابنهما بمجرد دعوتهما كما لو انفرد كل واحد منهما بالدعوة وإن قال الرجل هذا ابني من زوجتي وادعت زوجته ذلك وادعته امرأة اخرى فهو ابن الرجل وترجح زوجته على الاخرى لان زوجها ابوه فالظاهر انها امه، ويحتمل ان يستاويا لان كل واحدة منهما لو انفردت الحق بها فإذا اجتمعتا تساوتا (فصل) ولو ولدت امرأتان ابنا وبنتا فادعت كل واحدة منهما ان الابن ولدها احتمل وجهين (احدهما) ان يرى المرأتان القافة مع الولدين فيلحق كل منهما بمن الحقته به كما لو لم يكن لهما ولد آخر.
(والثاني) يعرض لبنهما على اهل الطب والمعرفة فان لبن الذكر يخالف لبن الانثى في طبعه وزنته وقد قيل لبن الابن ثقيل ولبن البنت خفيف فيعتبران بطباعهما ووزنهما وما يختلفان به عند اهل المعرفة فمن كان لبنها لبن فهو ولدها والبنت للاخرى، فان لم يوجد قافة اعتبر باللبن خاصة فاما ان تنازعا احد الوالدين وهما ذكران أو ابنتان عرضوا على القافة كما ذكرنا فيما تقدم (فصل) فان ادعى اللقيط رجلان فقال احدهما هو ابني وقال الآخر هو ابنتي فان كان ابنا فهو لمدعيه وان كان بنتا فهي لمدعيها لان كل واحد منهما لا يستحق غير ما ادعاه فان كان خنثى مشكلا اري القافة لانه ليس قوله كل واحد منهما اولى من الآخر، فان اقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه فالحكم فيها كالحكم فيما لو انفرد كل واحد منهما بالدعوى لان بينة الكاذب منهما كاذبة فوجودها كعدمها والاخرى صادقة فيتعين الحكم بها
* (مسألة) * (فان ادعاه أكثر من اثنين فألحقته بهم لحق وان كثروا) وقد نص أحمد في رواية مهنا انه يلحق بثلاثة، ومقتضى هذا انه يلحق بمن ألحقته القافة وان كثروا، وقال ابن حامد لا يلحق بأكثر من اثنين وهو قول أبي يوسف لاننا صرنا إلى ذلك للاثر فيقتصر عليه وقال القاضي: لا يلحق بأكثر من ثلاثة وهو قول محمد بن الحسن وروي ذلك عن أبي يوسف أيضا ولنا أن المعنى الذي لاجله ألحق باثنين موجود فيما زاد عليه فيقاس عليه، وإذا جاز أن يخلق من اثنين جاز أن يخلق من أكثر منهما، وقولهم: ان إلحاقه باثنين على خلاف الاصل ممنوع وان سلمناه لكنه ثبت لمعنى موجود في غيره فيجب تعدية الحكم به كما ان اباحة أكل الميتة عند المخمصة أبيح على خلاف
الاصل ولا يمنع من أن يقاس على ذلك مال الغير والصيد الحرمي وغيرهما من المحرمات لوجود المعنى وهو إبقاء النفس وتخليصها من الهلاك، وأما قول من قال يجوز إلحاقه بثلاثة ولا يزاد عليه فتحكم فانه لم يقتصر على المنصوص عليه ولا عدى الحكم إلى ما في معناه ولا نعلم في الثلاثة معنى خاصا يقتضي الحاق النسب بهم دون ما زاد عليهم فلم يجز الاقتصار عليه بالتحكم * (مسألة) * (فان نفته القافة عنهم أو أشكل عليهم أو لم يوجد قافة ضاع نسبه في أحد الوجهين وفي الآخر يترك حتى يبلغ فينتسب إلى من شاء أومأ إليه أحمد) وجملة ذلك انه إذا ادعاه أكثر من واحد وأري القافة فنفته عنهم أو لم يوجد قافة أو تعارضت أقوالهم أو لم يوجد من يوثق بقوله لم يرجح أحدهم بذكر علامة في جسده لان ذك لا يرجح به في سائر الدعاوى سوى الالتقاط في المال واللقيط ليس بمال، فعلى هذا يضيع نسيه، هذا قول أبي بكر لانه
لا دليل لاحدهم أشبه من لم يدع أحد نسبه، وقال ابن حامد نتركه حتى يبلغ فينتسب إلى من شاء منهم قال القاضي وقد أومأ أحمد إلى هذا في رجلين وقعا على امرأة في طهر واحد إلى أن الابن يخير أيهما أحب وهو قول الشافعي في الجديد وقال في القديم حتى يميز لقول عمر: وال أيهما شئت ولان الانسان يميل طبعه إلى قريبه دون غيره ولانه مجهول النسب أقر به من هو من أهل الاقرار فثبت نسبه كما لو انفرد، وقال أصحاب الرأي: يلحق بالمدعيين بمجرد الدعوى لان كل واحد منهم لو انفرد سمعت دعواه فإذا اجتمعا وأمكن العمل بهما وجب كما لو أقر له بمال ولنا أن دعواهما تعارضت ولا حجة لواحد منهما فلم يثبت كما لو ادعى رقه وليس هو في أيديهما قال شيخنا وقول أبي بكر أقرب لما ذكرنا وقولهم يميل طبعه إلى قرابته قلنا انما يميل إلى قرابته بعد معرفة أنه قرابته فالمعرفة بذلك سبب الميل فلا يثبت قبله ولو سلم ذلك فانه يميل أيضا إلى من أحسن إليه فان القلوب جبلت على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها وقد يميل إليه لاساءة الآخر إليه وقد يميل إلى أحسنهما خلقا وأعظمهما قدرا أو جاها أو مالا فلا يبقى للميل أثر في الدلالة على النسب، ولا خلاف بين أصحابنا في أنه لا يثبت نسبه بالانتساب قبل البلوغ، قولهم انه صدق المقر بنسبه
قلنا لا يحل له تصديقه فان النبي صلى الله عليه وسلم لعن من ادعى إلى غير أبيه وهذا يعلم أنه أبوه فلا نامن أن يكون ملعونا بتصديقه، ويفارق ما إذا انفرد فان المنفرد يثبت النسب بقوله من غير تصديق، وقول عمر رضي الله عنه وال أيهما شئت لم يثبت ولو ثبت لم يكن فيه حجة لانه انما أمره بالموالاة لا بالانتساب وعلى قول من جعل له الانتساب إلى أحدهما إذا انتسب إلى أحدهما ثم عاد فانتسب إلى الآخر أو نفى نسبه من الاول ولم
ينتسب إلى أحد لم يقبل منه لانه قد ثبت نسبه فلا يقبل رجوعه عنه كما لو ادعى منفرد نسبه ثم أنكره ويفارق الصبي الذي يخير بين أبويه فيختار أحدهما ثم يرد إلى الآخر إذا اختاره فانه لا حكم لقول الصبي وانما تبع اختياره وشهوته فهو كما لو اشتهى طعاما في يوم وغيره في يوم آخر، فأما إن قامت للآخر بينة بنسبه عمل بها لانها تبطل قول القافة الذي هو مقدم على الانتساب فأولى أن تبطل الانتساب وإن وجدت قافة بعد انتسابه فألحقته بغير من انتسب إليه بطل انتسابه لانه أقوى فبطل به الانتساب كالبينة مع القافة * (مسألة) * وكذلك الحكم إن وطئ امرأة اثنان بشبهة أو جارية مشتركة بينهما في طهر واحد أو وطئت زوجة رجل أو أم ولده بشبهة وأتت بولد يمكن أن يكون منه فادعى الزوج أنه من الواطئ أري القافة معهما) كاللقيط فألحق بمن ألحقوه به منهما سواء ادعياه أو جحداه أو أحدهما وقد ثبت الافتراش ذكره القاضي وشرط أبو الخطاب في وطئ الزوجة أن يدعي الزوج أنه من الشبهة ذكره في المحرر وكذلك ان تزوجها كل واحد منهما تزويجا فاسدا وكان نكاح أحدهما صحيحا والآخر فاسدا مثل أن يطلق امرأته فينكحها غيره في عدتها ويطؤها أو يبيع أمة فيطؤها المشتري قبل استبرائها وتاتي بولد يمكن أن يكون منهما فانه يرى القافة معما فبأيهما ألحقوه لحق، والخلاف فيه كالخلاف في اللقيط على ما ذكرنا * (مسألة) * (ولا يقبل قول القائف الا أن يكون ذكرا عدلا مجربا في الاصابة) وفي اعتبار حريته وجهان من المحرر قول القافة قوم يعرفون الانساب بالشبه ولا يختص ذلك بقبيلة، وقد قيل أكثر ما يكون ذلك في بني مدلج رهط محرز المدلجي وكان اياس بن معاوية المزني قائفا ولا يقبل قول القائف الا أن يكون ذكرا عدلا مجربا في الاصابة لان قوله حكم فاعتبرت له هذه الشروط، قال القاضي في معرفة القائف بالتجربة هو أن يترك الصبي مع عشرة رجال غير من يدعيه
ويرى اياهم فان ألحقه بواحد منهم سقط قوله لتبين خطئه وان لم يلحقه بواحد منهم أريناه اياه مع عشرين منهم مدعيه فان ألحقه به لحق، ولو اعتبر بأن يرى صبيا معروف النسب مع قوم فيه أبوه أو أخوه فإذا ألحقه بقريبه عرفت اصابته وإن ألحقه بغيره سقط قوله جاز وهذه التجربة عند عرضه على القائف للاحتياط في معرفة اصابته ولو لم يجربه بعد أن يكون مشهورا بالاصابة وصحة المعرفة في مرات كثيرة جاز، فقد روي أن رجلا شريفا شك في ولده من جاريته وأبى أن يستلحقه فمر به اياس بن معاوية في المكتب ولا يعرفه فقال له ادع لي أباك فقال له المعلم ومن ابو هذا؟ قال فلان، قال من أين علمت أنه أبوه؟ قال هو أشبه به من الغراب بالغراب فقام المعلم مسرورا إلى أبيه فأعلمه بقول اياس فخرج
الرجل وسأل اياسا من أين علمت أن هذا ولدي؟ فقال سبحان الله وهل يخفى ذلك على أحد إنه لاشبه بك من الغراب بالغراب فسر الرجل واستلحق ولده (فصل) نقل عن أحمد أنه لا يقبل الا قول اثنين من القافة ولفظ الشهادة منهما فروى عنه الاثرم أنه قيل له إذا قال أحد القافة هو لهذا وقال الآخر هو لهذا قال لا يقبل قول واحد حتى يجتمع اثنان فيكونان شاهدين فإذا شهد اثنان من القافة أنه لهذا فهو لهذا لانه قول يثبت به النسب أشبه الشهادة ولانه حكم بالشبه في الخلقة فاعتبر فيه اثنان كالحكم بالمثل في جزاء الصيد، وقال القاضي يقبل قول الواحد لانه حكم ويكتفي في الحكم قول واحد وحمل كلام أحمد على ما إذا تعارض قول القائفين فقال إذا خالف القائف غيره تعارضا وسقطا، ولان النبي صلى الله عليه وسلم اكتفي بقول محرز وحده فان قال اثنان قولا وخالفهما واحد فقولهما أولى لانه أقوى من قول واحد، وإن عارض قول اثنين قول اثنين سقط قول الجميع، فان عارض قول اثنين قول ثلاثة أو اكثر لم يرجح وسقط الجميع كما لو كانت احدى البينتين اثنين والاخرى ثلاثة فأما ان ألحقته القافة بواحد فجاءت قافة أخرى فألحقته بآخر كان للاول لان قول القائف جرى مجرى حكم الحاكم إذا حكم حكما لم ينتقض بمخالفة غيره ولذلك لو ألحقته بواحد ثم عادت فألحقته بغيره كذلك، وإن أقام الآخر بينة أنه ولده حكم له وسقط قول القائف لانه بدل فسقط بوجود الاصل كالتيمم مع الماء
(فصل) وإذا ألحقته القافة بكافر أو رقيق لم يحكم بكفره ولا رقه لان الحرية والاسلام ثبتا له بظاهر الدار فلا يزول ذلك بمجرد الشبه والظن كما لم يزل ذلك بمجرد الدعوى من المنفرد لها وانما قبلنا قول القافة في النسب للحاجة إلى اثباته ولكونه غير مخالف للظاهر ولهذا اكتفينا فيه بمجرد الدعوى من المنفرد ولا حاجة إلى اثبات رقه وكفره واثباتهما يخالف الظاهر (فصل) لو ادعى نسب اللقيط انسان فألحق نسبه به لانفراده بالدعوى ثم جاء آخر فادعاه لم يزل نسبه عن الاول لانه حكم له به فلا يزول بمجرد الدعوى فان ألحقته به القافة لحق به وانقطع عن الاول لانها بينة في إلحاق النسب فيزول بها الحكم الثابت بمجرد الدعوى كالشهادة
كتاب الوصايا (وهي الامر بالتصرف بعد الموت) الوصايا جمع وصية مثل العطايا جمع عطية والوصية بالمال هي المتبرع به بعد المو ت، وقال أبو الخطاب هو التبرع بمال يقف نفوذه على خروجه من الثلث، فعلى قوله تكون العطية في مرض الموت وصية، والصحيح أنها ليست وصية لانها تخالفها في الاسم والحكم في أشياء ذكرناها في عطية المريض، والاصل فيها الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقوله سبحانه (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية) وقوله (من بعد وصية يوصي بها أو دين) وأما السنة فروى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني الا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال " لا " قلت فبالشطر يا رسول الله؟ قال لا قلت فبالثلث؟ قال " الثلث والثلث كثير انك ان تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " متفق عليه وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما حق أمرئ مسلم له ما يوصي ففيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده "
متفق عليه وعن أبي امامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ان الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح وعن علي رضي الله عنه قال
انكم تقرؤن هذه الآية (من بعد وصية يوصي بها أو دين) وان النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية رواه الترمذي وأجمع العلما في جميع الامصار والاعصار على جواز الوصية (فصل) ولا تجب إلا على من عليه دين أو عنده وديعة أو عليه واجب يوصي بالخروج منه لان الله تعالى أوجب أداء الامانات إلى أهلها وطريقه الوصية فتكون واجبة عليه، فأما الوصية ببعض ماله فليست واجبة عند الجمهور يروى ذلك عن الشعبي والنخعي والثوري ومالك وأصحاب الرأي والشافعي وغيرهم، قال ابن عبد البر أجمعوا على أن الوصية غير واجبة إلا على من عليه حق بغير بينة أو أمانة بغير إشهاد إلا طائفة شذت فأوجبتها فروي عن الزهري أنه قال: جعل الله الوصية حقا مما قل أو كثر، وقيل لابي مجلز على كل ميت وصية؟ قال ان ترك خيرا وقال أبو بكر عبد العزيز هي واجبة للاقربين الذين لا يرثون وبه قال داود وحكي ذلك عن مسروق وطاوس واياس وقتادة وابن جرير واحتجوا بالآية وبخبر ابن عمر فقالوا تستحب الوصية للوالدين والاقربين الوارثين وبقيت فيمن لا يرث من الاقربين
ولنا أن أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوصوا ولم ينقل لذلك نكير ولو كانت واجبة لم يخلوا بذلك ولنقل عنهم نقلا ظاهرا ولانها عطية لا تجب في الحياة فلم تجب بعد الموت كعطية الاجانب فأما الآية فقال ابن عباس نسخها قول سبحانه (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون) الآية وقال ابن عمر نسختها آية الميراث وبه قال عكرمة ومجاهد ومالك والشافعي وذهب جماعة ممن يرى نسخ القرآن بالنسبة إلى أنها نسخت بقول النبي صلى الله عليه وسلم " ان الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " وحديث ابن عمر محمول على من عليه واجب أو عنده وديعة * (مسألة) * (وتصح من البالغ الرشيد) عدلا كان أو فاسقا رجلا أو امرأة مسلما أو كافرا لان هبتهم صحيحة فالوصية أولى * (مسألة) * (وتصح من السفيه في أصح الوجهين) المحجور عليه للسفه تصح وصيته في قياس قول أحمد قال الخبري وهو قول الاكثرين وفيه وجه
آخر أنها لا نصح حكاه أبو الخطاب لانه محجور عليه في تصرفانه فلم تصح منه كالهبة ولنا أنه عاقل مكلف فصحت وصيته كالرشيد ولان وصيته محض مصلحة من غير ضرر لانه
ان عاش لم يذهب من ماله شئ وان مات فهو محتاج إلى الثواب فصحت وصيته كعباداته (فصل) وتصح من الصبي العاقل إذا جاوز العشر ولا تصح ممن له دون السبع وفيما بينهما روايتان المنصوص من أحمد صحة وصية الصبي العاقل إذا جاوز العشر رواه عنه صالح وحنبل قال أبو بكر لا يختلف المذهب ان من له عشر سنين تصح وصيته ومن له دون السبع لا تصح وصيته وفيما بين السبع والعشر روايتان وقال ابن أبي موسى لا تصح وصية الغلام لدون العشر ولا الجارية لدون تسع قولا واحدا وما زاد على العشر فيصح على المنصوص وفيه وجه آخر لا تصح حتى يبلغ وقال القاضي وأبو الخطاب تصح وصية الصبي إذا عقل وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه أجاز وصية الصبي وهو قول عمر بن عبد العزيز وشريح وعطاء والزهري واياس وعبد الله بن عتبة والشعبي والنخعي ومالك واسحاق، قال اسحاق إذا بلغ اثنتي عشرة، وحكاه ابن المنذر عن احمد وعن ابن عباس لا تصح
وصيته حتى يبلغ وبه قال الحسن ومجاهد وأصحاب الرأي وللشافعي قولان كالمذهبين ولانه تبرع بالمال فلا يصح من الصبي كالهبة والعتق ولنا ما روي أن صبيا من غسان له عشر سنين وصى لاخوال له فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأجاز وصيته رواه سعيد، وروى مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه أن عمرو بن سليم أخبره أنه قيل لعمر بن الخطاب ان ههنا غلاما يفاعا لم يحتلم وورثته بالشام وهو ذو مال وليس له ههنا لا ابنة عم فقال عمر فليوص لها فأوصى بمال يقال له بئر خشم قال عمرو بن سليم فبعث ذلك المال بثلاثين ألفا وابنة عمه التي اوصى لها هي أم عمر بن سليم قال أبو بكر وكان الغلام بن عشر أو اثنتي عشرة سنة وهذه قضية انتشرت ولم تنكر ولانه تصرف محض نفع للصبي فصح منه كالاسلام والصلاة وذلك لان الوصية صدقة يحصل ثوابها له بعد غناه عن ملكه فلا يلحقه ضرر في عاجل دنياه
ولا أخراه بخلاف الهبة والمعتق المنجز فانه يفوت من ماله ما يحتاج إليه وإذا ردت رجعت إليه وههنا لا يرجع إليه بالرد والطفل لا عقل له ولا تصح عباداته ولا اسلامه وأما من له فوق السبع ولم يبلغ العشر فقد ذكرنا فيه روايتين (احداهما) تصح وصيته وهو ظاهر قول القاضي وأبي الخطاب لانه عاقل يصح اسلامه
يؤمر بالصلاة وتصح منه أشبه من جاوز العشر (والثانية) لا تصح كمن له دون السبع والاول أقيس والله أعلم قال الخرقي ومن جاوز العشر فوصيته جائزة إذا وافق الحق يريد إذا وصى وصية يصح مثلها من البالغ صحت منه ومالا فلا قال شريح وعبد الله بن عتبة وهما قاضيان من أصاب الحق أجزنا وصيته * (مسألة) * (ولا تصح من غير عاقل كالطفل والمجنون والمبرسم، وفي السكران وجهان) أما الطفل ومن له دون سبع سنين والمجنون والمبرسم فلا وصية لهم في قول الاكثرين منهم حميد بن عبد الرحمن ومالك والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي ومن تبعهم قال شيخنا ولا نعلم أحدا خالفهم إلا إياس بن معاوتة فانه قال في الصبي والمجنون إذا وافقت وصيتهما الحق جازت وليس بصحيح فانه لا حكم لكلامهما ولا تصح عبداتهما ولا شئ من تصرفاتهما فكذلك الوصية بل أولى فانه إذا لم يصح اسلامه وصلاته التي هي محض نفع لا ضرر فيها فأولى أن لا يصح بذله لمال يتضرر به وارثه فاما من يفيق في الاحيان فإذا أوصى حال جنونه لم يصح، وان أوصى حال افاقته صحت وصيته لانه بمنزلة العقلاء في شهادته ووجوب العبادات عليه فكذلك وصيته ولا تصح وصية السكران في أصح الوجهين وفيه وجه آخر أنها تصح بناء على
طلاقه والاول أصح لانه غير عاقل أشبه المجنون وطلاقه انا أوقعه من أوقعه تغليظا عليه لارتكابه المعصية فلا يتعدى هذا إلى وصيته فانه لا ضرر عليه فيها انما الضرر على وارثه فأما الضعيف في عقله فان منع ذلك رشده في ماله فهو كالسفيه والا فهو كالعاقل والله أعلم * (مسألة) * (وتصح وصية الاخرس بالاشارة ولا تصح ممن اعتقل لسانه بها ويحتمل أن تصح) إذا فهمت اشارة الاخرس صحت وصيته بها لانها أقيمت مقام نطقه في طلاقه ولعانه وغيرهما فان لم تفهم اشارته فلا حكم لهاربه قال أبو حنيفة والشافعي وغيرهما فأما الناطق إذا اعتقل لسانه فعرضت
عليه وصيته فاشار بها رفعت اشارته فلا تصح وصيته إذا لم يكن مأيوسا من نطقه ذكره القاضي وابن عقيل وبه قال الثوري والاوزاعي وأبو حنيفة ويحتمل أن يصح وهو قول الشافعي وابن المنذر لانه غير قادر على الكلام أشبه الاخرس واحتج ابن المنذر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى وهو قاعد فأشار إليهم فقعدوا رواه البخاري وخرجه ابن عقيل وجها إذا اتصل باعتقال لسانه الموت ولنا أنه غير مأيوس من نطقه فلم تصح وصيته بالاشارة كالقادر على الكلام والخبر لا يلزم فان النبي صلى الله عليه وسلم كان قادرا على الكلام ولا خلاف في أن اشارة القادر لا تصح بها وصيته ولا اقراره وفارق الاخرس فانه مأيوس من نطقه
(فصل) وان وصى عبد أو مكاتب أو أم ولد وصية ثم ماتوا على الرق فلا وصية لهم لانه لا مال لهم وان عتقوا ثم ماتوا ولم يغيروا وصيتهم صحت لان لهم قولا صحيحا وأهلية تامة وفارقوا الحر بانهم لا مال لهم والوصية تصح مع عدم المال كما لو وصى الفقير ولا شئ له ثم استغنى وان قال أحدهم متى عتقت ثم مت فثلثي لفلان وصية فعتق ثم مات صحت وصيته وبه قال أبو يوسف ومحمد وأبو ثور ولا أعلم عن غيرهم خلافهم * (مسألة) * (وان وجدت وصيته بخطه صحت وعنه لا تصح حتى يشهد عليها) نقل اسحاق بن ابراهيم عن احمد أنه قال من مات فوجدت وصيته مكتوبة عند رأسه ولم يشهد عليها وعرف خطه وكان مشهور الخط يقبل ما فيها ووجه ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " ما حق امرئ مسلم له شئ يوصي فيه ببيت ليلتين الا ووصيته مكتوبة عنده ولم يذكر شهادة " ولان الوصية يتسامح فيها ويصح تعليقها على الخطر والغرر وتصح للحمل وبالحمل وبما لا يقدر على تسليمه فجاز أن يتسامح فيها بقبول الخط كرواية الحديث وكما لو كتب الطلاق ولم يلفظ به وعن أحمد ما يدل على أنه لا يقبل الخط في الوصية ولا يشهد على الوصية المختومة حتى يسمعها الشهود منه أو تقرأ عليه فيقر بما فيه
وبهذا قال الحسن وأبو قلابة والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، لان الحكم لا يجوز برؤية خط
الشاهد بالشهادة فكذا ههنا وأبلغ من هذا ان الحاكم لو رأى حكمه خطه تحت ختمه ولم يذكر أنه حكم به أو رأى الشاهد شهادته بخطه ولم يذكر الشهادة لم يجز للحاكم انفاذ الحكم بما وجده ولا للشاهد الشهادة بما رأى خطه به فههنا أولى، وان كتب وصيته وقال اشهدوا علي بما في هذه الورقة أو قال هذه وصيتي فاشهدوا علي بها فقد حكي عن أحمد أن الرجل إذا كتب وصيته وختم عليها وقال للشهود اشهدوا علي بما في هذا الكتاب لا يجوز حتى يسمعوا منه ما فيه أو يقرأ عليه فيقر بما فيه وهو قول من سمينا في المسألة الاولى ويحتمل جوازه على ما نقله عن أحمد اسحاق بن ابراهيم في المسألة قبلها وذكره الخرقي، وممن قال ذلك عبد الملك بن يعلي ومكحول ونمير بن ابراهيم ومالك والليث والاوزاعي ومحمد بن مسلمة وأبو عبيد واسحاق وروي عن سالم بن عبد الله وقتادة وسوار بن عبد الله بن الحسن ومعاذ بن معاذ العنبريين وهو مذهب فقهاء أهل البصرة وقضاتهم واحتج أبو عبيد بكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عماله وأمرائه في أمر ولايته وأحكامه وسننه ثم ما عمل به الخلفاء الراشدون المهديون بعده من كتبهم إلى ولاتهم بالاحكام التي فيها الدماء والفروج والاموال
مختومة لا يعلم حاملها ما فيها وأمضوها على وجهها وذكر استخلاف سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز بكتاب كتبه وختم عليه، ولا نعلم أحدا أنكر ذلك مع شهريه وانتشاره في علماء العصر فيكون اجماعا، ووجه القول الاول أنه كتاب لا يعلم الشاهد ما فيه فلم يجز أن يشهد عليه ككتاب القاضي إلى القاضي والاولى الجواز ان شاء الله تعالى لظهور دليله والاصل لنافيه منع (فصل) وأما إذا ثبتت الوصية بشهادة أو اقرار الورثة به فانه يثبت حكمه ويعمل به ما لم يعلم رجوعه عنه وان تطاولت مدته وتغيرت أحوال الموصي مثل أن يوصي في مرض فيبرأ منه ثم يموت بعد أو بقتل لان الاصل بقاؤه فلا يزول حكمه بمجرد الاحتمال والشك كسائر الاحكام (فصل) ويستحب أن يكتب الموصي وصيته وبشهد عليها لانه أحوط لها وأحفظ لما فيها وقد ذكرنا حديث ابن عمر وروى أنس رضي الله عنه قال كانوا يكتبون في صدور وصاياهم بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به فلان أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده
ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم ويطيعوا الله ورسوله ان كانوا مؤمنين وأوصاهم بما أوصى به ابراهيم بنيه ويعقوب (يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن الا وأنتم مسلمون) أخرجه سعيد عن فضيل بن عياض
عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أنس، وروي عن ابن مسعود أنه كتب في وصيته بسم الله الرحمن الرحيم هذا ذكر ما أوصى به عبد الله بن مسعود ان حدث بي حادث الموت من مرضه هذا أن مرجع وصيتي إلى الله تعالى ثم إلى الزبير بن العوام وابنه عبد الله وانهما في حل وبل مما وليا وقضيا وأنه لا يزوج امرأة من بنات عبد الله الا باذنهما، وروى ابن عبد قال كان في وصيته أبى الدرداء بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى أبو الدرداء أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق وان الله يبعث من في القبور وأنه يؤمن بالله ويكفر بالطاغوت على ذلك يحيى ويموت ان شاء الله وأوصى فيما رزقه الله بكذا وكذا وأن هذه وصيته إذ لم يغيرها.
* (فصل) * قال رحمه الله (والوصية مستحبة لمن ترك خيرا وهو المال الكثير بخمس ماله وتكره لغيره ان كان له ورثة) وجملة ذلك أن الوصية مستحبة لمن ترك خيرا لقول الله تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم المو ت ان ترك خيرا) الوصية فنسخ الوجوب وبقي الاستحباب في حق من لا يرث، وروى ابن عمر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا ابن آدم جعلت لك نصيبا من مالك حين أخذت بكظمك لا طهرك وازكيك " وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم " رواهما ابن ماجه، وقال الشعبي من أوصى بوصية فلم يجر ولم يحف كان له من الاجر مثل ما لو أعطاه وهو صحيح، فأما الفقير الذي له ورثة محتاجون فلا يستحب له ان يوصي لان الله تعالى قال في الوصية ان ترك خيرا وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد " انك ان تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم
عالة يتكففون الناس " وقال ابدأ بنفسك ثم بمن تعول وقال علي رضي الله عنه لرجل أراد أن يوصي انك لم تدع طائلا إنما تركت شيئا يسيرا فدعه لورثتك، وروي عنه أنه قال في أربعمائة دينار ليس فيها فضل عن الوراث وروى عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال لها لي ثلاثة آلاف درهم وأربعة أولاد أفأوصي؟ فقالت اجعل الثلاثة للاربعة وعن ابن عباس قال من ترك سبعمائة درهم ليس عليه وصية وقال عروة دخل علي على صديق له يعوده فقال الرجل اني أريد أن أوصي فقال له علي ان الله تعالى يقول ان ترك خيرا وانك انما تدع شيئا يسيرا فدعه لورثتك، واختلف أهل العلم في القدر الذي
لا نستحب الوصية لمالكه فروي عن أحمد إذا ترك دون الالف لا تستحب له الوصية وعن علي أربعمائة دينار وعن ابن عباس إذا ترك الميت سبعمائة درهم فلا يوصي وقال من ترك ستين دينارا ما ترك خيرا وقال طاوس الخير ثمانون دينارا، وقال النخعي الف إلى خمسمائة وقال أبو حنيفة القليل أن يصيب أقل الورثة سهما خمسون درهما، قال شيخنا والذي يقوى عندي انه متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة لم تستحب الوصية لان النبي صلى الله عليه وسلم علل المنع من الوصية بقوله " انك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة، ولان اعطاء القريب المحتاج خير من اعطاء الاجنبي فمتى لم يبلغ الميراث غناءهم كان تركه لهم كعطيتهم اياه فيكون أفضل من الوصية به لغيرهم.
فعلى هذا تختلف الحال باختلاف الورثة في كثرتهم وقلتهم وغنائهم وحاجتهم فلا يتقيد بقدر من المال وقد قال الشعبي ما من مال أعظم أجرا من مال يتركه الرجل لولده يغنيهم به عن الناس (فصل) والاولى أن لا يستوعب الثلث بالوصية وان كان غنيا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " والثلث كثير " قال ابن عباس لو أن الناس نقصوا من الثلث فان النبي صلى الله عليه وسلم قال " الثلث كثير " متفق عليه وقال القاضي وأبو الخطاب إن كان غنيا استحب الوصية بالثلث
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد " والثلث كثير " مع اخباره إياه بكثرة ماله وقلة عياله فانه قال في الحديث: إن لي مالا كثيرا ولا يرثني الا ابنتي.
وروى سعيد ثنا خالد بن عبد الله ثنا عطاء بن
الساثب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن سعد بن مالك قال مرضت مرضا فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي " أوصيت؟ " فقلت نعم أوصيت بمالي كله للفقراء وفي سبيل الله فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " أوص بالعشر؟ فقلت يا رسول الله مالي كثير وورثتي أغنياء فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يناقصني وأناقصه حتى قال " أوص بالثلث والثلث كثير " قال أبو عبد الرحمن لم يكن منا من يبلغ في وصيته الثلث حتى ينقص منه شيئا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " الثلث والثلث كثير " إذا ثبت هذا فالافضل للغني الوصية بالخمس روى نحو هذا عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبى طالب رضي الله عنهما وهو ظاهر قول السلف وعلماء أهل البصرة، ويروى عن عمر رضي الله عنه أنه جاءه شيخ فقال يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير ومالي كثير ويرثني اعراب موالي كلالة منزوح بينهم أفأوصي بمالي كله؟ قال لا فلم يزل يحطه حتى بلغ العشر وقال اسحاق السنة الربع الا أن يكون الرجل يعرف في ماله حرمة شبهات أو غيرها فله استيعاب الثلث
ولنا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أوصى بالخمس وقال رضيت بما رضي الله به لنفسه يريد قوله تعالى (واعلموا انما غنتم من شئ فأن لله خمسه) وروي أن أبا بكر وعليا رضي الله عنهما أوصيا بالخمس، وعن علي رضي الله عنه انه قال لان اوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع وعن ابراهيم قال كانوا يقولون صاحب الربع أفضل من صاحب الثلث وصاحب الخمس أفضل من صاحب الربع وعن الشعبي قال كان الخمس أحب إليهم من الثلث فهو منتهى الجامح، وعن العلاء بن زياد قال أوصى أبي أن أسأل العلماء أي الوصية أعدل فما تتابعوا عليه فهو وصية فتتابعوا على الخمس.
(فصل) والافضل أن يجعل وصيته لاقاربه الذين لا يرثون إذا كانوا فقراء في قول عامة أهل العلم قال ابن عبد البر لا خلاف بين العلماء علمت في ذلك إذا كانوا ذوي حاجة وذك لان الله تعالى كتب الوصية للوالدين والاقربين فخرج منه الوارثون بقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا وصية لوارث " وبقي سائر الاقارب على الوصية لهم وأقل ذلك الاستحباب، وقد قال الله تعالى (وآت ذا القربى حقه) وقال
تعالى (وأتى المال على حبه ذوي القربى) فبدأ بهم ولان الصدقة عليهم في الحياة أفضل فكذلك بعد
الموت فان أوصى لغيرهم وتركهم صحت وصيته في قول أكثر أهل العلم منهم سالم وسليمان بن يسار وعطاء ومالك والثوري والاوزاعي وأصحاب الرأي والشافعي واسحاق وحكي عن طاوس والضحاك وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا ينزع عنهم ويرد إلى قرابته، وعن سعيد بن المسيب والحسن وجابر بن زيد للذي أوصى له ثلث الثلث والباقي يرد إلى قرابة الموصي لانه لو أوصى بماله كله لجاز منه الثلث والباقي يرد على الورثة وأقاربه الذين لا يرثونه في استحقاق الوصية كالورثة في اسحقاق المال كله.
ولنا ما روى عمران بن حصين أن رجلا أعتق في مرضه ستة أعبد لم يكن له مال غيرهم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء ثم أقرع بينهم فاعتق اثنين وارق اربعة فأجاز العتق في ثلثه لغير أقاربه ولانها عطية فجازت لغير اقاربه كالعطية في الحياة * (مسألة) * (فأما من لا وارث له فتجوز وصيته بجميع ماله وعنه لا يجوز الا الثلث) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيمن لم يخلف من وراثه عصبة ولا ذا فرض فروي عنه أن وصيته جائزة بكل ماله ثبت ذلك عن ابن مسعود وبه قال عبيدة السلماني ومسروق واسحاق وأهل العراق والرواية الاخرى لا يجوز إلا الثلث وبه قال مالك والاوزاعي وابن شبرمة والشافعي والعنبري
لان له من يعقل عنه فلم تنفذ وصيته في اكثر من الثلث كما لو ترك وارثا ولان المسلمين يرثونه وهو بيت المال.
ولنا ان المنع من الزيادة على الثلث إنما كان لتعلق حق الورثة به بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " انك ان تدع ورثتك اغنياء خير من ان تدعهم عالة يتكففون الناس " وههنا لا وارث له يتعلق حقه بماله فأشبه حال الصحة ولانه لم ينعق بماله حق وارث ولا غريم اشبه حال الصحة والثلث (فصل) وان خلف ذا فرض لا يرث جميع المال كبنت أو أم لم تكن له الوصية باكثر من
الثلث لان سعدا قال للنبي صلى الله عليه وسلم لا يرثني إلا ابنة فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم من الزيادة على الثلث، ولانها تستحق جميع المال بالفرض والرد فأشبه العصبة وان كان للميتة زوج أو كان للرجل امرأة فكذلك لان الوصية تنقص حقه لانه إنما يستحق فرضه بعد الوصية لقول الله تعالى (من بعد وصية يوصي بها أو دين) وقيل تبطل في قدر فرضه من الثلثين فإذا كان للميتة زوج فله الثلث وإن كان للميت امرأة فلها السدس وهو ربع الباقي بعد الثلث والباقي للموصى له وهذا أولى إن شاء الله تعالي لان الثلث ليس للوارث فيه أمر إنما اجازته ورده في الثلثين ولم ينقص عليه منهما شئ فأما ذوو
الارحام فظاهر كلام الخرقي أنه لا يمنع الوصية بجميع المال لانه قال ومن أوصى بجميع ماله ولا عصبة له ولا مولى فجائز وذلك لان ذا الرحم إرثه كالفضلة والصلة ولذلك لا يصرف إليه شئ إلا عند عدم الرد والمولى، ولا تجب نفقتهم في الصحيح ويحتمل كلام شيخنا في الكتاب المشروح أنه لا تنفذ وصيته فيما زاد على الثلث لان له وارثا فيدخل في معنى قوله عليه السلام " إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " ولانهم ورثة يستحقون ماله بعد موته فأشبهوا ذوي الفروض والعصبات وتقديم غيرهم عليهم لا يمنع مساواتهم لهم في مسئلتنا كذوي الفروض الذين يحجب بعضهم بعضا (فصل) فان خلف ذا فرض لا يرث المال كله بفرضه أو قال أوصيت لفلان بثلثي على أنه لا ينقص ذا الفرض شيئا من فرضه أو خلف امرأة وقال أوصيت لك بما فضل من المال عن فرضها صح في المسألة الاولى لان ذا الفرض يرث المال كله لو لا الوصية فلا فرق في الوصية بين أن يجعلها من رأس المال أو يجعلها من الزائد على الفرض، فأما المسألة الثانية فتنبني على الوصية بجميع المال فان قلنا تصح ثم صحت ههنا لان الباقي عن فرض الزوجة مال لا وارث له فصحت الوصية به كما لو لم تكن زوجة وان قلنا لا تصح ثم فههنا مثله لان بيت المال جعل كالوارث فصار كأنه ذو ورثة يستغرقون
المال إذا عين الوصية من نصيب العصبة منهم، فعلى هذا يعطى الموصى له الثلث من رأس المال ويسقط تخصيصه.
* (مسألة) * (ولا يجوز لمن له وارث بزيادة على الثلث لاجنبي ولا لوارثه بشئ إلا باجازة الورثة) وجملة ذلك أن الوصية لغير الوارث تلزم في الثلث من غير إجازة وما زاد على الثلث يقف على إجازة الورثة فان أجازوه جاز وان ردوه بطل في قول أكثر العلماء لقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد حين قال أوصي بمالي كله؟ قال " لا - الحديث إلى أن قال - فبالثلث والثلث كثير " وقوله عليه السلام " ان الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند مماتكم " يدل على أنه لا شئ له في الزائد عليه وحديث عمران ابن حصين في المملوكين السنة الذين أعتقهم المريض ولم يكن له مال سواهم.
فجزأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء فأعتق اثنين وأرث أربعة وقال له قولا شديدا يدل على أنه لا يصح تصرفه فيها زاد على الثلث إذا لم تجز الورثة وتجوز باجازتهم لان الحق لهم وقد قيل ان الوصية بما زاد على الثلث باطلة كما يذكر فيما إذا أوصى للوارث، وحكم الوصية للوارث كالحكم في الوصية لغيره بالزيادة على الثلث في أنها تبطل بالرد بغير خلاف بين العلماء، قال ابن المنذر وابن عبد البر أجمع أهل العلم على هذا
وجاءت الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فروى أبو أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ان الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي ولان النبي صلى الله عليه وسلم منع من تفضيل بعض ولده عنى بعض في حال الصحة مع إمكان تلافي العدل بينهم باعطاء الذي لم يعطه فيما بعد ذلك لما فيه من إيقاع العدواة والحسد بينهم ففي حال موته وتعلق الحقوق به وتعذر تلافي العدل بينهم أولى وأحرى فان أجازها باقي الورثة جازت في قول الجمهور من أهل العلم وقال بعض أصحابنا الوصية باطلة وان أجازها الورثة إلا أن يعطوه عطية مبتدأه أخذا من ظاهر قول أحمد رحمه اله في رواية حنبل لا وصية لوارث وهذا قول المزني وأهل الظاهر وقول للشافعي واحتجوا بظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا وصية لوارث " وظاهر مذهب أحمد والشافعي ان الوصية صحيحة في نفسها لانه تصرف صدر من اهله في محله فصح كما لو وصى لاجنبي والخبر قد روي فيه " إلا أن يجيز الورثة " والاستثناء من النفي اثبات فيكون ذلك دليلا
على صحة الوصية عند الاجازة ولو خلا من الاستثناء جاز أن يكون معناه لا وصية نافذة أو لازمة أو ما أشبه هذا أو يقدر فيه لا وصية لوارث عند عدم الاجازة من غيره من الورثة، وفائدة الخلاف ان الوصية إذا كانت صحيحة فاجازة الورثة تنفيذ واجازة محضة يكفي فيها قول الوارث أجزت وان كانت باطلة كانت الاجازة هبة مبتدأة وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى (فصل) وان أسقط عن وارثه دينا أو وصى بقضاء دينه أو أسقطت المرأة صداقها عن زوجها أو عفى عن جناية موجبها المال فهي كالوصية له وان عفى عن القصاص وقلنا الواجب القصاص عينا سقط إلى غير بدل وان قلنا الواجب أحد شيئين سقط القصاص ووجب المال وان عفى عن حد القذف سقط مطلقا، وان وصى لغريم وارثه صحت الوصية وكذلك ان وهب له وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة وقال أبو يوسف هي وصية للوارث لان الوارث ينتفع بهذه الوصية ويستوفى دينه منها ولنا أنه وصى لاجنبي فصح كما لو وصى لمن عادته الاحسان إلى وارثه، وان وصى لولد وارثه صح فان كان يقصد بذلك نفع الوارث لم يجز فيما بينه وبين الله تعالى قال طاوس في قوله تعالى فمن خاف من موص جنفا أو إثما قال أن يوصي لولد ابنته وهو يريد ابنته رواه سعيد وقال ابن عباس الجنف في الوصية والاضرار فيها من الكبائر
* (مسألة) * (فان وصى لكل وارث بمعين قدر نصيبه كرجل خلف ابنا وبنتا وعبدا قيمته مائة وأمة قيمتها خمسون فوصى للابن بالعبد وللبنت بالامة صحت الوصية في أحد الوجهين) لان حق الوارث في القدر لا في العين بدليل ما لو عاوض المريض بعض ورثته أو أجنبيا بجميع ماله فانه يصح إذا كان بثمن المثل وان تضمن فوات عين المال (والثاني) يقف على إجازة الورثة لان في الاعيان غرضا صحيحا فكما لا يجوز ابطال حق الوارث من قدر حقه لا يجوز من عينه * (مسألة) * (وإن لم يف الثلث بالوصايا تحاصوا فيه وادخل النقص على كل واحد بقدر وصيته وعنه يقدم العتق) إذا خلت الوصايا من العتق وتجاوزت الثلث فرد الورثة الزيادة فان الثلث يقسم بين الموصى لهم على
قدر وصاياهم ويدخل النقص على كل واحد منهم بقدر ماله في الوصية كمسائل العول إذا زادت الفروض عن المال فلو وصي لرجل بثلث ماله ولآخر بمائة ولآخر بمعين قيمته خمسون ووصى بفداء أسير بثلاثين ولعمارة مسجد بعشرين وثلث ماله مائة جمعت الوصايا كلها فبلغت ثلاثمائة ونسبت منها الثلث فكان
ثلثها فيعطى كل واحد منهم ثلث وصيته فلصاحب الثلث ثلث المائة وكذلك صاحب المائة ولصاحب الخمسين سدسها ولفداء الاسير عشرة ولعمارة المسجد ستة وثلثان وان كان فيها عتق ففيها روايتان (احداهما) أن الثلث يقسم بين الوصايا والعتق كما لو لم يكن فيها عتق وهذا قول ابن سيرين والشعبي وأبي ثور لانهم تساووا في سبب الاستحقاق فتساووا فيه كسائر الوصايا (والروية الثانية) يقدم العتق وما فضل منه يقسم بين سائر الوصايا على قدر وصاياهم روي ذلك عن عمر وبه قال شريح ومسروق وعطاء الخراساني وقتادة والزهري ومالك والثوري واسحاق لان فيه حقا لله وللآدمي فكان آكد ولانه لا يلحقه فسخ ويلحق غيره ولانه أقوى بدليل سرايته ونفوذ من الراهن والمفلس وروي عن الحسن والشافعي كالروايتين (فصل) والعطايا المعلقة بالمو ت كقوله إذا مت فاعطوا فلانا كذا أو اعتقوا فلانا ونحوه وصايا حكمها حكم غيرها من الوصايا في مقدمها ومؤخرها والخلاف في تقديم العتق منها لانها تلزم بالموت فتتساوى كلها.
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: