الفقه الحنبلي - الموات - الوقف

(فصل) وقد روى وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضا فأرسل معاوية أن
اعطه اياه أو أعلمه اياه.
حديث صحيح، واقطع الزبير حضر فرسه فأجرى فرسه حتى قام ورمى بسوطه فقال " أعطوه من حيث وقع السوط " رواه سعيد وأبو داود، وذكر البخاري عن أنس قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصار ليقطع لهم بالبحرين فقالوا يا رسول الله ان فعلت فاكتب لاخواننا من قريش بمثلها، وروي أن أبا بكر أقطع طلحة بن عبيد الله أرضا، وأقطع عثمان خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير وسعدا وابن مسعود وأسامة بن زيد وخباب بن الارت وروي عن نافع أبي عبد الله أنه قال لعمران قبلنا ارضا بالبصرة ليست من ارض الخراج ولا تضر بأحد من المسلمين فان رايت ان تقطعنيها اتخذ فيها قصيلا لخيلي قال فكتب عمر إلى ابي موسى ان كانت كما يقول فاقطعها اياه.
روى هذه الآثار كلها أبو عبيد في الاموال.
إذا ثبت هذا فان من اقطعه الامام شيئا من الموات لم يملكه بذلك لكن يصير أحق به كالمتحجر الشارع في الاحياء على ما ذكرنا من حديث بلال بن الحارث حيث استرجع منه عمر ما عجز عن احيائه، ولو ملكه لم يجز استرجاعه ورد عمر ايضا قطيعة ابي بكر لعيينة بن حصن فسأل عيينة بن حصن ابا بكر ان يجدد له كتابا فقال والله لا اجدد شيئا رده عمر رواه أبو عبيد.
فعلى هذا يكون المقطع أحق بها من سائر الناس واولى باحيائه وحكمه حكم المتحجر الشارع سواء وقد مر ذكره ومذهب الشافعي على نحو ما ذكرنا * (مسألة) * (وله اقطاع الجلوس في الطرق الواسعة ورحاب المساجد ما لم يضيق على الناس) القطائع ضربان (احدهما) اقطاع موات لمن يحييه وقد ذكرناه (والثاني) اقطاع ارفاق وذلك كاقطاع مقاعد الاسواق والطرق الواسعة ورحاب المساجد فللامام اقطاعها لمن يجلس فيها لان له في ذلك اجتهادا
من حيث إنه لا يجوز الجلوس الا فيما لا يضر بالمارة فكان للامام ان يجلس فيها من لا يرى انه يتضرر بجلوسه، ولا يملكها المقطع بذلك بل يكون احق بالجلوس فيها من غيره بمنزلة السابق إليها من غير اقطاع الا في ان السابق إذا نقل متاعه عنها فلغيره الجلوس فيها لان استحقاقه لها بسبقه إليها ومقامه فيها فإذا انتقل عنها زال استحقاقه لزوال المعنى الذي استحق به وهذا استحق باقطاع الامام فلا يزول حقه بنقل متاعه ولا لغيره الجلوس فيه، وحكمه في التظليل على نفسه بما ليس بيتا ومنعه من
البناء ومنعه إذا طال مقامه حكم السابق على ما نذكره * (مسألة) * فان لم يقطعها فلمن يسبق إليها الجلوس فيها ويكون احق بها ما لم ينقل قماشه عنها) ما كان من الشوارع والطرقات والرحاب بين العمران فليس لاحد احياؤه سواء كان واسعا أو ضيقا وسواء ضيق على الناس بذلك أو لم يضيق لان ذلك يشترك فيه المسلمون وتتعلق به مصلحتهم اشبه مساجدهم ويجوز الارتفاق بالقعود في الواسع من ذلك للبيع والشراء على وجه لا يضيق على احد ولا يضر بالمارة لاتفاق اهل الامصار في جميع الاعصار على اقرار الناس على ذلك من غير انكار، ولانه ارتفاق بمباح من غير اضرار فلم يمنع منه كالاجتياز قال احمد في السابق إلى دكاكين السوق غدوة فهو له إلى الليل وكان هذا في سوق المدينة فيما مضى وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " منى مناخ من سبق " وله أن يظلل على نفسه بما لا ضرر فيه من بارية وكساء ونحوه لان الحاجة تدعو إليه من غير مضرة فيه، وليس له أن يبني دكة ولا غيرها لانه يضيق على الناس وتعثر به المارة بالليل والضرير في الليل والنهار وتبقى على الدوام وربما ادعى ملكه بذلك والسابق أحق به ما كان فيه فان قام وترك متاعه فيه لم يجز لغيره ازالته لان يد الاول
عليه وان نقل متاعه كان لغيره أن يقعد فيه لان يده قد زالت * (مسألة) * (فان طال مقامه منع في أحد الوجهين) لانه يصير كالملك ويختص بنفع يساويه غيره في استحقاقه (والثاني) لا يمنع لانه سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم * (مسألة) * (وان سبق اثنان إليه احتمل أن يقرع بينهما واحتمل أن يقدم الامام من يرى منهما فان كان الجالس يضيق على المارة لم يحل له الجلوس فيه وليس للامام تمكينه بعوض ولا غيره) قال أحمد ما كان ينبغي لنا أن نشتري من هؤلاء الذين يبيعون على الطريق قال القاضي هذا محمول على أن الطريق ضيق أو يكون يؤذي المارة لما تقدم وقال لا يعجبني الطحن في العروب إذا كانت في طريق الناس وهي السفن التي يطحن فيها في الماء الجاري انما كره ذلك لتضييقها طريق السفن المارة في الماء قال احمد ربما غرقت السفن فأرى للرجل ان يتوقى الشراء مما يطحن بها (فصل) وإن سبق إلى معدن فهو احق بما ينال منه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سبق
إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو احق به " وسواء كان المعدن ظاهرا أو باطنا إذا كان في موات فان اخذ قدر حاجته واراد الاقامة فيه بحيث يمنع غيره منع من ذلك لانه يضيق على الناس بما لا نفع فيه له اشبه ما لو وقف في مشرعة الماء لغير حاجة * (مسألة) * (وهل يمنع إذا طال مقامه للاخذ؟ على وجهين) (احدهما) يمنع لانه يصير كالمتملك والآخر لا يمنع لاطلاق الحديث، وإن استبق إليه اثنان أو اكثر وضاق المكان عنهما اقرع بينهما لانه لا مزية لاحدهما على الاخر ويحتمل ان يقسم بينهما لانه يمكن قسمته وقد
تساويا فقسم بينهما كما لو تداعيا عينا في ايديهما ولا بينة لاحدهما ويحتمل ان يقدم الامام من يرى منهما لان له نظرا وذكر القاضي وجها رابعا وهو ان الامام ينصب من يقسم بينهما وهذا التفصيل مذهب الشافعي * (مسألة) * (ومن سبق إلى مباح كصيد أو عنبر وحطب وثمر ولقطة ولقيط وما ينبذه الناس رغبة عنه أو يضيع منهم مما لا تتبعه النفس وما يسقط من البلح وسائر المباحات فهو أحق به باذن الامام وغير اذنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به " وان سبق إليه اثنان قسم بينهما لان قسمته ممكنة فلا يؤخر حق أحدهما لانه لا مزية لاحدهما على الآخر، وان سبق إلى موات أو بئر عادية فهو أحق بها لما ذكرنا * (مسألة) * (وإذا كان الماء في نهر غير مملوك كمياه الامطار فلمن في أعلاه أن يسقي ويحبس الماء حتى يصل إلى الكعب ثم يرسل إلى من يليه) وجملة ذلك انه لا يخلو الماء من حالين إما أن يكون جاريا أو واقفا والجاري ضربان (أحدهما) أن يكون في نهر غير مملوك وهو قسمان [ أحدهما ] أن يكون نهرا عظيما كالنيل والفرات الذي لا يستضر أحد بالسقي منهما فهذا لا تزاحم فيه ولكل أحد أن يسقي منها متى شاء وكيف شاء [ القسم الثاني ] أن يكون نهرا صغيرا يزدحم الناس فيه ويتشاحون في مائه أو سيل يتشاح فيه أهل الارضين الشاربة منه فيبدأ بمن في أول النهر فيسقي ويحبس الماء حتى يبلغ الكعب ثم يرسل إلى الذي يليه فيصنع كذلك وعلى هذا حتى تنتهي الاراضي كلها فان لم يفضل عن الاول شئ أو عن
الثاني أو عمن يليهما فلا شئ للباقين لانهم ليس لهم إلا ما فضل فهم كالعصبة في الميراث وهذا قول فقهاء المدينة ومالك والشافعي ولا نعلم فيه مخالفا لما روى عبد الله بن الزبير ان رجلا من الانصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم " اسق يا زبير ثم ارسل الماء إلى جارك " فغضب الانصاري فقال يا رسول الله أن كان ابن عمنك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال " يا زبير اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر " فقال الزبير فوالله اني لاحسب هذه الآية نزلت فيه (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) متفق عليه، وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال نظرنا في قول النبي صلى الله عليه وسلم " ثم احبس حتى يبلغ الجدر " وكان ذلك إلى الكعبين، قال أبو عبيد: الشراج جمع شرج والشرج نهر صغير والحرة أرض ملتبسة بحجارة سود، والجدر الجدار وانما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير أن يسقي ثم يرسل تسهيلا على غيره فلما قال الانصاري ما قال استوفى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه وروى مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن عمر بن حزم انه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزوز ومذينيب " يمسك حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الاعلى على الاسفل " قال ابن عبد البر: هذا حديث مدني مشهور عند أهل المدينة يعملون به عندهم.
قال عبد الملك بن حبيب: مهزوز ومذينيب واديان من أودية المدينة يسيلان بالمطر يتنافس أهل الحوائط في سيلهما وروى أبو داود باسناده عن ثعلبة بن أبي مالك انه سمع كبراءهم يذكرون أن رجلا من قريش كان له سهم في بني قريظة فخاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهزوز السيل الذي يقتسمون ماءه فقضى بينهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الماء إلى الكعبين لا يحبس الاعلى على الاسفل، ولان من أرضه قريبة من رأس النهر سبق إلى المكان فكان أولى به كالسابق إلى المشرعة فان كانت أرض صاحب الاعلى مختلفة منها عالية ومنها مستفلة سقى كل واحدة منها على حدتها، فان استوى اثنان في القرب من أول النهر اقتسما الماء بينهما ان أمكن وإلا أقرع بينهما فقدم من تقع له القرعة فان كان الماء لا يفضل عن أحدهما سقى من تقع له القرعة بقدر حقه من الماء ثم تركه للآخر، وليس له السقي بجميع الماء لمساواة الآخر له في استحقاق
الماء وانما القرعة للتقديم في استيفاء الحق لا في أصل الحق بخلاف الاعلى مع الاسفل فانه ليس للاسفل حق الا في الفاضل عن الاعلى فان كانت أرض إحداهما أكبر من أرض الآخر قسم الماء بينهما على قدر الارض لان الزائد من أرض أحدهما مساو في القرب فاستحق جزءا من الماء كما لو كان لثالث * (مسألة) * (فان أراد انسان احياء أرض ليسقيها من ماء النهر جاز ما لم يضر بأهل الارض الشاربة منه) إذا كان لجماعة رسم شرب من نهر غير مملوك أو سيل فجاء انسان ليحيي مواتا أقرب من رأس النهر من أرضهم لم يكن له أن يسقي قبلهم لانهم أسبق إلى النهر منه ولان من ملك أرضا ملكها بحقوقها ومرافقها ولا يملك غيره إبطال حقوقها وهذا من حقوقها، وهل لهم منعه من إحياء ذلك الموات؟ فيه وجهان (أحدهما) ليس لهم منعه لان حقهم في النهر لا في الموات (والثاني) لهم منعه لئلا يصير ذلك ذريعة إلى منعهم حقهم من السقي لتقديمه عليهم في القرب إذا طال الزمان وجهل الحال، فإذا قلنا ليس لهم منعه فسيق إلى مسيل ماء أو نهر غير مملوك فأحيا في أسفله مواتا ثم أحيا آخر فوقه ثم أحيا ثالث فوق الثاني كان للاسفل السقى أولا ثم الثاني ثم الثالث، ويقدم السبق الي الاحياء على السبق إلى أول النهر لما ذكرنا
(فصل) الضرب الثاني الجارى في نهر مملوك وهو قسمان (أحدهما) أن يكون الماء مباح الاصل مثل أن يحفر انسان نهرا صغيرا يتصل بنهر كبير مباح فما لم يتصل الحفر لا يملكه وانما هو تحجر وشروع في الاحياء فإذا اتصل الحفر ملكه لان الملك بالاحياء ان تنتهي العمارة إلى قصدها بحيث يتكرر الانتفاع بها على صورتها وهذا كذلك وسواء أجرى فيه الماء أو لم يجره لان الاحياء يحصل بهيئته للانتفاع به دون حصول المنفعة فيصير مالكا لقرار النهر وحافتيه، وهواؤه حق له وكذلك حريمه وهو ملقى الطين من جوانبه، وعند القاضي ان ذلك غير مملوك لصاحب النهر وانما هو حق من حقوق الملك، وظاهر قول الخرقي انه مملوك لغير صاحبه قياسا على قوله في حريم البئر انه يملكه.
إذا تقرر ذلك فكان النهر لجماعة فهو بينهم على حسب العمل والنفقة لانه انما ملك بالعمارة والعمارة بالنفقة، فان كفى جميعهم فلا كلام وإن لم يكفهم فتراضوا على قسمته بالمهايأة أو غيرها جاز لان حقهم لا يخرج عنهم، وان تشاحوا فيه قسمه الحاكم بينهم على قدر أملاكهم لان كل واحد منهم يملك من النهر بقدر ذلك فتؤخذ خشبة أو حجر
مستوى الطرفين والوسط فتوضع على موضع مستو من الارض في مصدم الماء فيه حزوز أو ثقوب متساوية في السعة على قدر حقوقهم من كل حز أو ثقب ساقية مفردة لكل واحد منهم فإذا حصل الماء في ساقيته انفرد به فان كانت أملاكهم مختلفة قسم على قدر ذلك، فإذا كان لاحدهم نصفه وللثاني ثلثه وللثالث سدسه جعل فيه ستة ثقوب: لصحاب النصف ثلاثة نصب في ساقيته ولصاحب الثلث اثنان ولصاحب
قسدس واحد، فان كان لواحد الخمسان والباقي لاثنين على السواء جعل عشرة ثقوب: لصاحب الخمسين أربعة نصب في ساقيته ولكل واحد من الآخرين ثلاثة، فان كان النهر لعشرة - لخمسة منهم أراض الريبة من أول النهر ولخمسة أراض بعيدة جعل لاصحاب القريبة خمسة ثقوب لكل واحد ثقب وجعل للباقين خمسة تجري في النهر حتى تصل إلى أرضهم، ثم تقسم بينهم قسمة أخرى فان أراد أحدهم أن يجري ماءه في ساقية غيره ليقاسمه في موضع آخر لم يجز بغير رضاه لانه يتصرف في ساقيته ويخرب حابتيها بغير إذنه ويخلط حقه بحق غيره على وجه لا يتميز فلم يجز ذلك، ويجئ على قولنا إن الماء لا يملك ان حكم الماء في هذا النهر حكمه في نهر غير مملوك وان الاسبق أحق بالسقي ثم الذي يليه على ما ذكرنا، ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله على نحو ما ذكرنا (فصل) وإذا حصل نصيب انسان في ساقية فله أن يسقي به ما شاء من الارض سواء كان لها رسم شرب من هذا النهر أو لم يكن، وله أن يعطيه من يسقي به، وقال القاضي وأصحاب الشافعي ليس له سقي أرض ليس لها رسم شرب من هذا الماء لان ذلك دال على ان لها قسما من هذا الماء فربما جعل سقيها منه دليلا على استحقاقها لذلك فيستضر الشركاء ويصير هذا كما لو كان له دار بابها في درب لا ينفذ ودار بابها في درب آخر ظهرها ملاصق لظهر داره الاولى فأراد تنفيذ إحداهما إلى الاخرى لم يجز لانه يجعل لنفسه استطراقا من كل واحدة من الدارين ولنا أن هذا ماء انفرد باستحقاقه فكان له أن يسقي منه ما شاء كما لو انفرد به من أصله ولا نسلم
ما ذكره في الدارين وان سلمنا فالفرق بينهما ان كل دار يخرج منها إلى درب مشترك لان الظاهر أن
لكل دار سكانا فيجعل لسكان كل واحدة منهما استطراقا إلى درب غير نافذ لم يكن لهم حق في استطراقه وههنا انما يسقي من ساقيته المفردة التي لا يشاركه غيره فيها، فلو صار لتلك الارض رسم من الشرب من ساقيته لم يتضرر بذلك أحد، ولو كان يسقي من هذا النهر بدولاب فأحب أن يسقي بذلك الماء أرضا لا رسم لها في الشرب من ذلك النهر فالحكم في ذلك على ما ذكرنا من الخلاف، وان كان الدولاب يغرف من نهر غير مملوك جاز أن يسقى بنصيبه من الماء أرضا لا رسم لها في الشرب منه بغير خلاف نعلمه فان ضاق الماء قدم الاسبق فالاسبق على ما مضى (فصل) ولكل واحد منهم أن يتصرف في ساقيته المختصة به بما أحب من إجراء ماء غير هذا الماء فيها أو عمل رحى عليها أو دولاب أو عبارة وهي خشبة تمد على طرفي النهر أو قنطرة يعبر فيها الماء أو غير ذلك من التصرفات لانها ملكه ولا حق فيها لغيره فاما النهر المشترك فليس لواحد منهم أن يتصرف فيه بشئ من ذلك لانه تصرف في النهر المشترك أو في حريمه بغير إذن شركائه وقال القاضي في العبارة هذا ينبني على الروايتين فيمن أراد أن يجري ماءه في أرض غيره والصحيح أنه
لا يجوز ههنا ولا يصح قياس هذا على إجراء الماء في أرض غيره لان اجراء الماء في أرض ينفع صاحبها لانه يسقي عروق شجره ويشربه أولا وآخرا وهذا لا ينفع النهر بل ربما أفسد حافته ولا يسقي له شيئا، ولو أراد أحد الشركاء أن يأخذ من النهر قبل قسمته شيئا يسقي به أرضا في أول النهر أو في غيره أو أراد إنسان غيرهم ذلك لم يجز لانهم صاروا أحق بالماء الخاص في نهرهم من غيرهم ولان الاخذ من الماء ربما احتاج إلى تصرف في حافة النهر المملوك لغيره أو المشترك بينه وبين غيره، ولو فاض ماء هذا النهر إلى أرض إنسان فهو مباح كالطائر يعشش في ملك إنسان ومذهب الشافعي في ذلك على نحو ما ذكرنا.
(فصل) وان قسموا ماء النهر المشترك بالمهايأة جاز إذا تراضوا به وكان حق كل واحد منهم معلوما مثل أن يجعلوا لكل حصة يوما وليلة، وان قسموا النهار فجعلوا لواحد من طلوع الشمس إلي الزوال وللآخر من الزوال إلى الغروب ونحو ذلك جاز، وان قسموه ساعات وأمكن ضبط ذلك
بشئ معلوم جاز فإذا حصل الماء لاحدهم في نوبته فأراد أن يسقي به أرضا ليس لها رسم شرب من هذا أو بؤثر به إنسانا أو يقرضه إياه على وجه لا يتصرف في حافة النهر جاز وعلى قول القاضي وأصحاب الشافعي ينبغي أن لا يجوز لما تقدم، وان أراد صاحب النوبة أن يجري مع مائه ماء له آخر يسقي
به أرضه التي لها رسم شرب من النهر أو أرضا له أخرى أو سأله إنسان أن يجري له ماء مع مائه في هذا النهر ليقاسمه إياه في موضع آخر على وجه لا يضر بالنهر ولا باحد جاز ذلك في قياس قول أصحابنا فانهم قالوا فيمن استأجر أرضا جاز أن يجري فيها ماء في نهر محفور إذا كان فيها ولانه مستحق لنفع النهر في نوبته باجراء الماء فأشبه ما لو استأجرها لذلك.
(فصل) القسم الثاني أن يكون منبع الماء مملوكا مثل ان اشترك جماعة في استنباط عين وإجرائها فانهم يملكونها أيضا لان ذلك احياء لها، ويشتركون فيها وفي ساقيتها على حسب ما أنفقوا عليها وعملوا فيها كما ذكرنا في النهر في القسم الذى قبله الا أن الماء غير مملوك ثم لانه مباح دخل ملكه فأشبه ما لو دخل بستانه صيد، وههنا يخرج على روايتين أصحهما أنه غير مملوك أيضا وقد ذكرنا ذلك في كتاب البيع وعلى كل حال فلكل أحد أن يستقي من الماء الجاري لشربه ووضوئه وغسله وغسل ثيابه وينتفع به في اشباه ذلك مما لا يؤثر فيه من غير إذنه إذا لم يدخل إليه في مكان محوط عليه ولا يحصل لصاحبه المنع من ذلك لما روي أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل كان يفضل ماء بالطريق فمنعه ابن السبيل " رواه البخاري وعن بهيسة عن أبيها أنه قال يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال الماء قال يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال
" الملح " قال يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال " أن تفعل الخير خير لك " رواه أبو داود ولان ذلك لا يؤثر في العادة وهو فاضل عن حاجة صاحب النهر، واما ما يؤثر كسقي الماشية الكثيرة فان فضل عن حاجته لزمه بذله والا لم يلزمه وقد ذكرناه (فصل) إذا كان النهر أو الساقية مشتركا بين جماعة فأرادوا اكراءه أو سد بثق فيه أو اصلاح
حائطه أو شئ منه كان ذلك عليهم على حسب ملكهم فيه فان كان بعضهم أدنى إلى أوله من بعض اشترك الكل في إصلاحه وأكرائه إلى ان يصلوا إلى الاول ثم لا شئ على الاول ويشترك الباقون حتى يصلوا إلى الثاني ثم يشترك من بعده كذلك كلما انتهى العمل إلى موضع واحد منهم لم يكن عليه فيما بعده شئ وبهذا قال الشافعي وحكي عن أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد يشترك جميعهم في اكرائه كله لانهم ينتفعون بجميعه فان ما جاوز الاول مصب لمائه وان لم يسق أرضه ولنا أن الاول إنما ينتفع بالماء الذي في موضع شربه وما بعده إنما يختص بالانتفاع به من دونه فلا يشاركهم في مؤنته كما لا يشاركهم في نفعه فان كان يفضل عن جميعهم منه ما يحتاج إلى مصرف فمؤنته على جميعهم لاشتراكهم في الحاجة إليه والانتفاع به فكانت مؤنته عليهم كلهم كأوله
* (مسألة) * (وللامام أن يحمي أرضا من الموات ترعى فيها دواب المسلمين التي يقوم بحفظها ما لم يضيق على الناس، ولا يجوز ذلك لغيره) معنى الحمى أن يحمى أرضا يمنع الناس رعى جشيشها ليختص بها وكانت العرب في الجاهلية تعرف ذلك فكان منهم من إذا انتجع بلدا أقام كلبا على نشز ثم استعواه ووقف له من كل ناحية من يسمع صوته بالعواء فحيث انتهى صوته حماه من كل ناحية لنفسه ويرعى مع الناس فيما سواه فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه لما فيه من التضييق على الناس ومنعهم من الانتفاع بشئ لهم فيه حق فروى الصعب بن جثامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا حمى إلا لله ولرسوله " رواه أبو داود وقال عليه الصلاة والسلام " الناس شركاء في ثلاث في الماء والنار والكلا " رواه الخلال فليس لاحد من الناس أن يحمي سوى الائمة لما ذكرنا من الخبر والمعنى، فاما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان له أن يحمي لنفسه وللمسلمين لقوله " لا حمى إلا لله ولرسوله " ولم يحم لنفسه شيئا وانما حمى للمسلمين فروى ابن عمر قال حمى النبي صلى الله عليه وسلم النقيع لخيل المسلمين رواه أبو عبيد والنقيع بالنون موضع ينتقع فيه الماء فيكثر فيه الخصب لمكان الماء الذي يصير فيه، وأما سائر أئمة المسلمين فليس لهم أن يحموا لانفسهم شيئا ولكن لهم أن يحموا مواضع لترعى فيها خيل المجاهدين ونعم الجزية وإبل الصدقة وضوال
الناس التى يقوم الامام بحفظها وماشية الضعيف من الناس على وجه لا يستضر به من سواه من الناس وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي في صحيح قوليه، وقال في الآخر ليس لغير النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمي لقوله " لا حمى إلا لله ولرسوله " ووجه الاول أن عمر وعثمان حميا واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكر عليهما فكان اجماعا فروى أبو عبيد باسناده عن عامر بن عبد الله بن الزبير أحسبه عن أبيه قال أتى اعرابي عمر فقال يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الاسلام علام؟ تحميها قال فاطرق عمر وجعل ينفخ ويفتل شاربه وكان إذا كربه أمر فتل شاربه ونفخ فلما رأى الاعرابي ما به جعل يردد ذلك فقال عمر المال مال الله والعباد عباد الله والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الارض شبرا في شبر.
قال خالك بلغني أنه كان يحمل في كل عام على أربعين الفا من الظهر، وعن أسلم قال سمعت عمر يقول لهني حين استعمله على حمى الربذة يا هني اضمم جناحك عن الناس واتق دعوة المظلوم فانها مجابة وأدخل رب الصريمة والغنيمة ودعني من نعم ابن عوف ونعم ابن عفان فانهما إن هلكت ماشيتهما رجعا إلى نخل وزرع وان هذا المسكين ان هلكت ماشيته جاء يصرخ يا أمير المؤمنين فالكلا أهون علي أم غرم الذهب والورق انها أرضهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الاسلام وانهم ليرون أنا نظلمهم ولولا النعم التي نحمل عليها في سبيل الله
لما حميت على الناس من بلادهم شيئا أبدا وهذا اجماع؟؟؟؟؟؟ ولان ما كان لمصالح المسلمين قامت الائمة فيه مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما أطعم الله لنبي طعمة الا جعلها طعمة من بعده " والخبر مخصوص وما حماه لنفسه يفارق حمى النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه لان صلاحه يعود إلى صلاح المسلمين وماله كان يرده على المسلمين، وليس لهم أن يحموا الا قدرا لا يضيق عن المسلمين ويضر بهم لانه انما جاز لما فيه من المصلحة لما يحمى وليس من المصلحة ادخال الضرر على أكثر الناس * (مسألة) * (وما حماه النبي صلى الله عليه وسلم فليس لاحد نقضه ولا تغييره مع بقاء الحاجة إليه) لان ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم نص لا يجوز نقضه بالاجتهاد ومن احيا منه شيئا لم يملكه وان زالت
الحاجة إليه ففيه وجهان أصحهما أنه لا يجوز نقضه لما ذكرنا، فأما ما حماه غيره من الائمة فغيره هو أو غيره من الائمة جاز، وان أحياه انسان ملكه في أحد الوجهين لان حمى الائمة اجتهاد وملك الارض بالاسياء نص والنص يقدم على الاجتهاد والوجه الآخر لا يملكه لان اجتهاد الامام لا يجوز نقضه كما لا يجوز نقض حكمه والاول أولى لان الاجتهاد في حماء في تلك المدة دون غيره ولهذا ملك الحامي نقضه ومذهب الشافعي في هذا على نحو ما ذكرنا
كتاب الوقف وهو تحبيس الاصل وتسبيل المنفعة وهو مستحب، والاصل فيه ما روى عبد الله بن عمر قال أصاب عمر أرضا بخير فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال يا رسول الله انى أصبت أرضا بخيبر لم أصب قط مالا أنفس عندي منه فما تأمرني فيه؟ قال " ان شئت حبست أصلها وتصدقت بها غير أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث " قال فتصدق بها عمر في الفقراء وذوي القربى والرقاب وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقا بالمعروف غير متاثل فيه أو غير متمول فيه متفق عليه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولده صالح يدعو له " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ورواه مسلم (فصل) والقول بصحة الوقف قول أكثر أهل العلم من السلف ومن بعدهم، قال جابر لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف ولم يره شريح وقال لا حبس عن فرائض الله قال احمد هذا مذهب أهل الكوفة وحديث ابن عمر حجة على من خالفه وهو صريح في الحكم مع صحته وقول جابر نقل للاجماع فلا يلتفت إلى خلاف ذلك
* (مسألة) * وفيه روايتان احداهما أنه يحصل بالقول والفعل الدال عليه مثل أن يبني مسجدا ويأذن للناس في الصلاة فيه أو يجعل أرضه مقبرة ويأذن لهم في الدفن فيها أو سقاية ويشرعها لهم) ظاهر المذهب ان الوقف يحصل بالفعل مع القرائن الدالة عليه التي ذكرناها قال احمد في رواية أبي داود
وأبي طالب فيمن أدخل بيتا في المسجد واذن فيه: لم يرجع فيه وكذلك إذا اتخذ المقابر واذن للناس والسقاية فليس له الرجوع هذا قول أبي حنيفة، الرواية الاخرى لا يصح الا بالقول ذكرها القاضي وهو مذهب الشافعي وأخذه القاضي من قول احمد إذ سأله الاثرم عن رجل أحاط حائط على أرض ليجعلها مقبرة ونوى بقلبه ثم بدا له العود فقال ان كان جعلها لله فلا يرجع قال شيخنا وهذا لا ينافي الرواية الاولى فانه ان أراد بقوله ان كان جعلها لله أي نوى بتحويطها جعلها لله فهذا تأكيد للرواية الاولى وزيادة عليها إذ منعه من الرجوع بمجرد التحويط مع النية وان أراد بقوله جعلها لله أي اقترنت بفعله قرائن دالة على ارادة ذلك مع اذنه للناس في الدفن فيها فهو الرواية الاولى بعينها وان أراد إذا وقفها بقوله فيدل بمفهومه على أن الوقف لا يحصل بمجرد التحويط والنية وهذا لا ينافي الرواية الاولى لانه في الاولى انضم إلى فعله، اذنه للناس في الدفن ولم يوجد ههنا فلا تنافي بينهما ولم يعلم مراده من هذه الاحتمالات فانتفت هذه الرواية وصار المذهب رواية واحدة واحتجوا بان هذا تحبيس على وجه القربة فوجب أن لا يصح بدون اللفظ كالوقف على الفقراء
ولنا أن العرف جار بذلك وفيه دلالة على الوقف فجاز ان يثبت به كالقول وجرى مجرى من قدم إلى ضيفه طعاما كان اذنا في أكله ومن ملا خابية ماء على الطريق كان تسبيلا له ومن نثر نثارا كان اذنا في أخذه كذلك دخول الحمام واستعمال مائه من غير اذن مباح بدلالة الحال وقد ذكرنا في البيع أنه يصح بالمعاطاة وكذلك الهبة والهدية لدلالة الحال كذلك هذا وأما الوقف على المساكين فلم تجر به عادة بغير لفظ ولو كان شئ جرت به العادة أو دلت الحال عليه كان كمسئلتنا * (مسألة) * وصريحه وقفت وسبلت وحبست فمتى أتى بواحدة منها صار وقفا من غير انضمام أمر زائد لان هذه الالفاظ ثبت لها عرف الاستعمال بين الناس وانضم إلى ذلك عرف الشرع بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر " ان شئت حبست أصلها وسلبت ثمرتها " فصارت هذه الالفاظ في الوقف كلفظ التطليق في الطلاق والكناية تصدقت وحرمت وأبدت فليست صريحة لان لفظة الصدقة والتحريم مشتركة فان الصدقة تستعمل في الزكاة والهبات والتحريم يستعمل في الظهار والايمان ويكون تحريما على نفسه
وعلى غيره، والتأبيد يحتمل تأبيد التحريم وتأييد الوقف فلم يثبت لهذه الالفاظ عرف الاستعمال فلا يصح الوقف بمجردها ككنايات الظاهر فإذا انضم إليها أحد ثلاثة أشياء حصل الوقف بها (أحدها) أن ينوي الوقف فيكون على ما نوى إلا أن النية تجعله وقفا في الباطن دون الظاهر لعدم الاطلاع عليها فان اعترف بما نواه لزم في الحكم لظهوره، وإن قال ما أردت الوقف فالقول قوله لانه أعلم بما نوى
(الثاني) أن يضيف إليها لفظة تخلصها من الالفاظ الخمسة فيقول صدقة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو مؤبدة أو محرمة أو يقول هذه محرمة موقوفة أو محتبسة أو مسبلة أو مؤبدة (الثالث): أن يصفها بصفات الوقف فيقول صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث لان هذه القرينة تزيل الاشتراك.
* (مسألة) * (ولا يصح الوقف إلا بشروط أربعة: (أحدها) أن يكون في عين يجوز بيعها ويمكن الانتفاع بها دائما مع بقاء عينها كالحيوان والعقار والاثاث والسلاح) وجملة ذلك أن الذي يصح وقفه ما جاز بيعه مع بقاء عينه وكان أصلا يبقى بقاء متصلا كالعقار والحيوان والسلاح والاثاث وأشباه ذلك قال احمد في رواية الاثرم انما الوقف في الدور والارضين على ما وقف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيمن وقف خمس نخلات على مسجد: لا بأس به، وهذا قول الشافعي، وقال أبو يوسف لا يجوز وقف الحيوان ولا الرقيق ولا العروض الا الكراع والسلاح والغلمان والبقر والآلة في الارض الموقوفة تبعا لها لان هذا حيوان لا يقاتل عليه فلم يجز وقفه كما لو كان الوقف إلى مدة، وعن مالك في الكراع والسلاح روايتان ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أما خالد فانه قد احتبس أدراعه واعتاده في سبيل الله " متفق
عليه وفي رواية أعتده أخرجه البخاري قال الخطابي الاعتاد ما يعده الرجل من مركوب وسلاح وآلة
الجهاد، وروي أن أم معقل جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ان أبا معقل جعل ناصحه في سبيل الله واني أريد الحج أفأركبه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اركبيه فان الحج والعمرة من سبيل الله " ولانه يحصل فيه تحبيس الاصل وتسبيل المنفعة فصح وقفه كالعقار والفرس الحبيس أو نقول يصح وقفه مع غيره فصح وحده كالعقار (فصل) قال احمد رحمه الله في رجل له دار في الربض أو قطيعة فاراد التنزه منها قال يقفها وقال القطائع ترجع إلى الاصل أراد جعلها للمساكين فظاهر هذا اباحة وقف السواد وهو في الاصل وقف ومعناه أن وقفها يطابق الاصل لا انها تصير بهذا القول وقفا * (مسألة) * (ويصح وقف المشاع وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف، وقال محمد بن الحسن لا يصح وبناه على أصله في أن القبض شرط وهو لا يصح في المشاع ولنا أن في حديث عمر انه أصاب مائة سهم من خيبر فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فيها فأذن له في وقفها وهذا صفة المشاع ولانه عقد يجوز على بعض الجملة مقررا فجاز عليه مشاعا كالبيع ولان الوقف تحبيس الاصل وتسبيل المنفعة وهذا يحصل في المشاع كحصوله في المقرر ولا نسلم اعتبار القبض وان سلمها
(فصل) وان وقف داره على جهتين مختلفتين مثل أن يقفها على أولاده وعلى المساكين نصفين أو أثلاثا أو كيفما كان جاز وسواء جعل مآل الموقوف على أولاده على المساكين أو على جهة سواهم لانه إذا جاز وقف الجزء مفردا جاز وقف الجزئين، وان أطلق الوقف فقال وقفت داري هذه على أولادي وعلى المساكين فهي بينهما نصفين لان اطلاق الاضافة اليهما يقتضي التسوية بين الجهتين ولا تتحقق الا بالتنصيف وان قال وقفتها على زيد وعمرو والمساكين فهي بينهم اثلاثا * (مسألة) * (ويصح وقف الحلي على اللبس والعارية) لان ذلك نفع مباح مقصود يجوز أخذ الاجرة عليه فصح الوقف عليه كوقف السلاح في سبيل الله ولما روى نافع قال ابتاعت حفصة حليا بعشرين الفا فحبسته على نساء آل الخطاب فكانت لا تخرج زكاته رواه الخلال باسناده ولانه عين يمكن الانتفاع بها مع بقائها دائما فصح وقفها كالعقار وهو قول
الشافعي وروي عن احمد انه لا يصح وقفها عليه وأنكر الحديث عن حفصة في وقفه ووجه هذه الرواية أن التحلي ليس هو المقصود الاصلي من الاثمان فلم يصح وقفها عليه كما لو وقف الدنانير والدراهم والمذهب الاول لما ذكرنا، والتحلي من المقاصد المهمة والعادة جارية به وقد اعتبره الشرع في اسقاط الزكاة عن متخذه وجوز اجارته لذلك ويفارق الدراهم والدنانير فان العادة لم تجر بالتحلي بها ولا اعتبر الشرع ذلك في اسقاط زكاة ولا ضمان نفعه في الغصب بخلاف مسئلتنا
* (مسألة) * (ولا يصح الوقف في الذمة كعبد ودار وسلاح غير معين) لان الوقف ابطال لمعنى الملك فيه فلم يصح في غير معين كالعتق * (مسألة) * (ولا يصح في غير معين كأحد هذين العبدين) لانه انقل للملك على وجه القربة فلم يصح في غير معين كالهبة * (مسألة) * (ولا يصح وقف ما لا يجوز بيعه كام الولد والكلب والمرهون وكذلك الخنزير وسائر سباع البهائم التي لا تصلح للصيد وجوارح الطير التي لا يصاد بها) لانه نقل للملك فيها في الحياة فلم يجز كالبيع ولان الوقف تحبيس الاصل وتسبيل المنفعة وما لا منفعة فيه مباحة فلا يحصل فيه تسبيل المنفعة والكلب أبيح الانتفاع به على خلاف الاصل للضرورة فلم يجز التوسع فيها، والمرهون في وقفه ابطال حق المرتهن منه فلم يجز ابطاله ولا يصح وقف الحمل المنفرد لانه لا يجوز بيعه.
(فصل) ولا يصح وقف ما لا ينتفع به مع بقائه دائما كالاثمان والطعوم والرياحين) ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدراهم والدنانير والمشروب وأشباهه من الرياحين لا يجوز وفقه في قول عامة الفقهاء وأهل العلم الا شيئا حكي عن مالك والاوزاعي في وقف الطعام انه يجوز ولم يحكه أصحاب مالك وليس بصحيح لان الوقف تحبيس الاصل وتسبيل المنفعة وما لا ينتفع به إلا بالاتلاف لا يصح ذلك
فيه وقيل في الدراهم والدنانير يصح وقفها عند من أجاز اجارتها ولا يصح لان تلك المنفعة ليست المقصود
الذي خلقت له الاثمان ولهذا لا تضمن في الغصب فلم يجز الوقف له كوقف الشجر على نشر الثياب والغنم على دوس الطين والشمع ليتجعل به ولذلك لا يصح وقف الشمع للاشعال لانه يتلف بالانتفاع به فهو كالمأكول (الثاني) أن يكون على بر كالمساكين والمساجد والقناطر والاقارب مسلمين كانوا أو من أهل الذمة.
وجملة ذلك ان الوقف لا يصح إلا على بر أو معروف لولده وأقاربه والمساجد والقناطر وكتب الفقه والعلم والقرآن والسقايات والمقابر وسبيل الله وإصلاح الطرق ونحو ذلك من القرب ويصح على أهل الذمة لانهم يملكون ملكا محترما وتجوز الصدقة عليهم قال الله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم) وإذا جازت الصدقة عليهم جاز الوقف عليهم كالمسلمين، وروي ان صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم وقفت على أخ لها يهودي ولان من جاز أن يقف عليه الذمي جاز أن يقف المسلم عليه كالمسلم ولو وقف على من ينزل كنائسهم وبيعهم من المارة والمجتازين من أهل الذمة وغيرهم صح لان الوقف عليهم لا على الموضع * (مسألة) * (ولا يصح على الكنائس وبيوت النار والبيع وكتب التوراة والانجيل) لان ذلك معصية فان هذه المواضع بنيت للكفر وكتبهم مبدلة منسوخة ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم على عمر حين رأى معه صحيفة فيها شئ من التوراة وقال " أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي " ولو لا ان ذلك معصية ما غضب منه.
وحكم
الوقف على قناديل البيعة وفرشها ومن يخدمها ومن يعمرها كالوقف عليها لانه يراد لتعظيمها والمسلم والذمي في ذلك سواء، قال أحمد في نصارى وقفوا على البيعة ضياعا وماتوا ولهم أبناء نصارى فأسلموا والضياع بيد النصارى فلهم أخذها وللمسلمين عونهم حتى يستخرجوها من أيديهم وهذا مذهب الشافعي قال شيخنا ولا نعلم فيه مخالفا لان ما لا يصح من المسلم الوقف عليه لا يصح وقف الذي كغير المعين فان قيل فقد قلتم ان أهل الكتاب إذا عقدوا عقودا فاسدة وتقابضوا ثم أسلموا وترافعوا الينا لم ننقض ما فعلوه فكيف أجزتم الرجوع فيما وقفوه علي كنائسهم؟ قلنا الوقف ليس بعقد معاوضة انما هو إزالة ملك في الموقوف على وجه القربة فإذا لم يقع صحيحا لم يزل الملك بحاله كالعتق، وقد روي عن أحمد
رحمه الله فيمن أشهد في وصيته ان غلامه فلانا يخدم البيعة خمس سنين ثم هو حر ثم مات مولاه وخدم سنة ثم أسلم ما عليه؟ قال هو حر ويرجع على الغلام بأجر خدمة مبلغ أربع سنين، وروي عنه قال هو حر ساعة مات مولاه لان هذه معصية وهذه الرواية أصح وأوفق لاصوله، ويحتمل ان قوله يرجع عليه بخدمة أربع سنين لم يكن لصحة الوظيفة بل لانه انما أعتقه بعوض يعتقدان صحته فإذا تعذر العوض باسلامه كان عليه ما يقوم مقامه كما لو تزوج الذمي ذمية على ذلك ثم أسلم فانه يجب عليه المهر كذا ههنا يجب عليه العوض والاول أولى
* (مسألة) * (ولا يصح الوقف على حربي ولا مرتد) لان أموالهم مباحة في الاصل تجوز إزالتها فما يتجدد لهم أولى والوقف يجب أن يكون لازما لانه تحبيس الاصل * (مسألة) * (ولا يصح على نفسه في إحدى الروايتين، فان وقف على غيره واستثنى الاكل منه مدة حياته صح) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيمن وقف على نفسه ثم على المساكين أو على ولده فقال في رواية أبي طالب وقد سئل عن هذا فقال لا أعرف الوقف إلا ما أخرجه لله تعالى أو في سبيله فإذا وقفه عليه حتي يموت فلا أعرفه، فعلى هذه الرواية يكون الوقف عليه باطلا وهل يبطل على من بعده؟ على وجهين بناء على الوقف المنقطع الابتداء وهذا مذهب الشافعي لان الوقف تمليك للرقبة أو للمنفعة ولا يجوز أن يملك الانسان نفسه من نفسه كما لو يجوز أن يبيع ماله من نفسه ولان الوقف على نفسه انما حاصله منع نفسه من التصرف في رقبة الملك فلم يصح ذلك كما لو أفرده بأن يقول لا أبيع هذا ولا أهبه ولا أورثه، ونقل جماعة ان الوقف صحيح اختاره ابن أبي موسى.
قال ابن عقيل وهو أصح وهو قول ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبي يوسف وابن شريح لما نذكره في المسألة بعدها ولانه يصح أن يقف وقفا عاما فينتفع به كذلك إذا خص نفسه بانتفاعه والاول أقيس (فصل) ومن وقف وقفا صحيحا على انسان فقد صارت منافعه جميعها للموقوف عليه وزال ملكه
عن الوقف وملك منافعه فلم يجز أن ينتفع بشئ منها فأما ان وقف شيئا للمسلمين دخل في جملتهم مثل أن يقف مسجدا فله أن يصلي فيه أو مقبرة فله الدفن فيها أو بئر للمسليمن فله أن يسقي منها أو سقاية أو شيئا يعم المسلمين فكيون كأحدهم لا نعلم في ذلك خلافا وقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه سبل بئر رومة وكان دلوه فيها كدلاء المسلمين * (مسألة) * (وان وقف على غيره واستثنى الاكل منه مدة حياته صح) إذا وقف وقفا على غيره وشرط أن ينفق منه على نفسه صح الوقف والشرط نص عليه أحمد قال الاثرم قيل لابي عبد الله اشترط في الوقف اني أنفق على نفسي وأهلي؟ قال نعم واحتج قال سمعت ابن عيينة عن ابن طاوس عن أبيه عن حجر المدري أن في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل أهله منها بالمعروف غير المنكر قال القاضي يصح الوقف رواية واحدة لان أحمد نص عليها في رواية جماعة وبذلك قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبو يوسف والزبيري وابن شريح وقال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن لا يصح الوقف لانه ازالة الملك فلم يجز اشتراط نفعه لنفسه كالبيع والهبة وكما لو اعتق عبدا واشترط أن يخدمه ولان ما ينفقه على نفسه مجهول فلم يصح اشتراطه كما لو باع شيئا واشترط أن ينتفع به.
ولنا ان الخبر الذي ذكره الامام أحمد ولان عمر رضي الله عنه لما وقف قال لا بأس على من
وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقا غير متمول منه وكان الوقف في يده إلى ان مات ولانه إذا وقف وقفا عاما كالمساجد والسقايات والمقابر كان له الانتفاع به وكذلك ههنا ولا فرق بين أن يشترط لنفسه الانتفاع به مدة حياته أو مدة معلومة معينة وسواء قدر ما يأكل منه أو أطلقه فان عمر لم يقدر ما يأكله الوالي ويطعم الا بقوله بالمعروف وفي حديث صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شرط أن يأكل أهله منها بالمعروف غير المنكر إلا أنه إذا شرط أن ينتفع بها مدة معينة فمات فيها فينبغي أن يكون ذلك لورثته كما لو باع دارا واشترط أن يسكنها سنة فمات في اثنائها (فصل) ويصح أن يشترط ان يأكل منها أهله لان النبي صلى الله عليه شرط ذلك في صدقته وان
شرط أن يأكل منه من وليه ويطعم صديقا صح لان عمر شرط ذلك في صدقته التي استأمر فيها رسول الله عليه وسلم فان وليها الواقف كان له أن يأكل ويطعم صديقا لان عمر ولي صدقته وان وليها أحد من أهله فله ذلك لان حفصة بنت عمر كانت تلي صدقته بعد موته ثم وليها بعدها عبد الله بن عمر (فصل) فان اشترط أن يبيعه متى شاء أو يهبه أو يرجع فيه بطل الوقف والشرط لا نعلم في بطلان الشرط خلافا لانه ينافي مقتضى الوقف ويحتمل أن يبطل الشرط ويصح الوقف بناء على الشروط الفاسدة في البيع وان شرط الخيار في الوقف فسد نص عليه أحمد وبه قال الشافعي وقال أبو يوسف في رواية عنه يصح لان الوقف تمليك المنافع فجاز شرط الخيار فيه كالاجارة
ولنا أنه شرط ينافي مقتضى العقد فلم يصح كما لو شرط ان له بيعه متى شاء ولانه إزالة ملك لله تعالى فلم يصح شرط الخيار فيه كالعتق ولانه ليس بعقد معاوضة فلم يصح اشتراط الخيار فيه كالهبة بخلاف الاجارة فانها عقد معاوضة وههنا لو ثبت الخيار لثبت مع ثبوت حكم الوقف فافترقا (فصل) وان شرط في الوقف أن يخرج من شاء من أهل الوقف ويدخل من شاء من غيرهم لم يصح لانه شرط ينافي مقتضى الوقف فأفسده كما لو شرط أن لا ينتفع به فأما ان شرط للناظر ان يعطي من يشاء من اهل الوقف ويمنع من يشاء جاز لان ذلك ليس باخراج للموقوف عليه من الوقف وإنما علق استحقاق الوقف بصفة فكأنه جعل له حقا في الوقف إذا اتصف بارادة الناظر عطيته ولم يجعل له حقا إذا انتفت تلك الصفة فيه فأشبه ما لو وقفه على المشتغلين بالعلم من ولده فانه يستحق منهم من اشتغل دون من لم يشتغل فمتى ترك المشتغل الاشتغال زال استحقاقه فان عاد إليه عاد استحقاقه * (فصل) * إذا جعل علو داره مسجدا دون أسفلها أو أسفلها دون علوها صح وقال أبو حنيفة لا يصح لان المسجد يتبعه هواؤه ولنا أنه يصح بيعها كذلك فصح وقفها كالدار جميعها ولانه تصرف يزيل الملك إلى من يثبت له حق الاستقرار والتصرف فجاز فيما ذكرنا كالبيع * (فصل) * فان جعل وسط داره مسجدا ولم يذكر الاستطراق صح وقال أبو حنيفة لا يصح حتى
يذكر الاستطراق
ولنا أنه عقد يبيح الانتفاع من ضرورته الاستطراق فصح وإن لم يذكره كما لو أجر بيتا من داره * (مسألة) * (الثالث أن يقفه على معين يملك ولا يصح على مجهول كرجل ومسجد) لانه تمليك أشبه البيع ولان الوقف تمليك للعين أو للمنفعة فلا يصح على غير معين كالاجارة * (مسألة) * (ولا يصح على حيوان لا يملك كالعبد القن وأم الولد والمدبر والميت والحمل والملك والبهيمة والجن) قال أحمد فيمن وقف على مماليكه لا يصح الوقف حتى يعتقهم وذلك لان الوقف تمليك فلا يصح على من لا يملك فان قيل فقد جوزتم الوقف على المساجد والسقايات وأشباهها وهي لا تملك قلنا الوقف هناك على المسلمين الا أنه عين في نفع خاص لهم فان قيل فينبغي أن يصح الوقف على الكنائس ويكون الوقف على أهل الذمة والوقف عليهم جائز قلنا على الجهة التي عين صرف الوقف فيها ليست نفعا بل هي معصية محرمة يزدادون بها عقابا واثما بخلاف المساجد فان قيل فلم لا يصح الوقف على العبد إذا قلنا إنه يملك بالتمليك؟ قلنا لان الوقف يقتضي تحبيس الاصل والعبد لا يملك ملكا لازما ولا يصح على المكاتب وان كان يملك لان ملكه غير مستقر * (مسألة) * (الرابع أن يقف ناجزا فإذا علقه على شرط لم يصح إلا أن يقول هو وقف بعد
موتي فيصح في قول الخرقي وعند أبي الخطاب لا يصح) لا يصح تعليق ابتداء الوقف على شرط في الحياة مثل أن يقول إذا جاء رأس الشهر قداري وقف أو فرسي حبيس أو إذا ولد لي ولد أو إذا قدم غائب ونحو ذلك ولا نعلم في هذا خلافا لانه نقل للملك فيما لم يبن على التغليب والسراية فلم يجز تعليقه على شرط في الحياة كالهبة (فصل) فأما إذا قال هو وقف بعد موتي فظاهر كلام الخرقي أنه يصح ويعتبر من الثلث كسائر الوصايا وهو ظاهر كلام أحمد وقال القاضي لا يصح هذا لانه تعليق للوقف على شرط فلم يصح كما لو علقه
على شرط في حياته وحمل كلام الخرقي على أنه قال قفوا بعد موتي فتكون وصية بالوقف لا اياقفا ولنا على صحة الوقف المعلق بالموت ما احتح به أحمد أن عمرا وصى فكان في وصيته هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين ان حدث به حدث ان ثمنا صدقة والعبد الذي فيه والسهم الذي بخيبر ورقيقه الذي فيه والمائة وسق الذي أطعمني محمد صلى الله عليه وسلم تليه حفصة ما عاشت ثم يليه ذو الرأي من أهله لا يباع ولا يشترى ينفقه حيث يرى من السائل والمحروم وذوي القربى ولا حرج على من وليه ان أكل أو اشتري رقيقا رواه أبو داود بنحو من هذا وهذا نص في مسئلتنا ووقفه هذا كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولانه اشتهر في الصحابة ولم ينكر فكان إجماعا ولان هذا تبرع معلق بالموت فصح كالهبة والصدقة المطلقة أو نقول صدقة معلقة بالموت فأشبهت غير الوقف وفارق هذا التعليق على شرط في الحياة
بدليل الصدقة المطلقة أو الهبة وغيرهما وذلك لان هذا وصية والوصية أوسع من التصرف في الحياة بدليل جوازها بالمجهول والمعدوم وللمجهول وللحمل وغير ذلك وبهذا يبين فساد قياس من قاس على هذا الشرط بقية الشروط وسوى المتأخرون من أصحابنا بين تعليقه بالموت وتعليقه بشرط في الحياة ولا يصح لما ذكرنا من الفرق بينهما (فصل) ولا يشترط القبول الا أن يكون على آدمي معين ففيه وجهان أحدهما يشترط فان لم يقبل أو رده بطل في حقه دون من بعده وصار كما لو وقف على من لا يجوز ثم على من يجوز يصرف في الحال إلى من بعده وجملة ذلك أن الوقف إذا كان على غير معين كالمساكين أو من لا يتصور منه القبول كالمساجد والقناطر لم يفتقر إلى القبول ون كان على آدمي معين ففيه وجهان أحدهما لا يشترط اختاره القاضي لانه أحد نوعي الوقف فلم يشترط له القبول كالنوع الآخر ولانه إزالة ملك تمنع البيع والهبة والميراث فلم يعتبر فيه قبول كالعتق والثاني يشترط لانه تبرع لآدمي معين فكان من شرطه القبول كالهبة والوصية يحققه أن الوصية إذا كانت لادمي معين وقفت على قبوله وان كانت لغير معين كالمساكين أو لمسجد أو نحوه لم تفتقر إلى قبول كذا هاهنا والاول أولى والفرق بينه وبين الهبة والوصية أو الوقف لا يختص المعين بل يتعلق
به حق من يأتي من البطون في المستقبل فيكون الوقف على جميعهم الا أنه مرتب فصار بمنزلة الوقف
على الفقراء الذي لا يبطل برد واحد منهم ولا يقف على قبوله والوصية للمعين بخلافه وهذا مذهب الشافعي وإذا قلنا لا يفتقر إلى القبول لم يبطل بالرد كالعتق وإن قلنا يفتقر إلى القبول فرده بطل في حقه دون من بعده وصار كالوقف المنقطع الابتداء يخرج في صحته في حق من سواه وبطلانه وجهان بناء على تفريق الصفقة * (فصل) * إذا وقف على من لا يجوز ثم على من يجوز فهو وقف منقطع الابتداء كالوقف على عبده وأم ولده أو مجهول فان لم يذكر له مآلا فالوقف باطل وكذلك ان جعل له مآلا لا يجوز الوقف عليه لانه أخل بأحد شرطي الوقف فبطل كما لو وقف ما لا يجوز وقفه، وإن جعل له مآلا يجوز الوقف عليه كمن يقف على عبده ثم على المساكين ففي صحته وجهان بناء على تفريق الصفقة، وللشافعي قولان كالوجهين، فإذا قلنا يصح وهو قول القاضي وكان من لا يجوز الوقف عليه لا يمكن اعتبار انقراضه كالميت والمجهول والكنائس صرف في الحال إلى من يجوز الوقف عليه لاننا لما صححنا الوقف مع ذكر ما لا يجوز الوقف عليه فقد ألغيناه لتعذر التصحيح مع اعتباره، وان كان من لا يجوز الوقف عليه يمكن اعتبار انقراضه كأم ولده وعبد معين فكذلك ذكره أبو الخطاب وفيه وجه آخر أنه يصرف في الحال إلى مصرف الوقف المنقطع إلى أن ينقرض من لا يجوز الوقف عليه فإذا انقرض صرف إلى من يجوز ذكره القاضي وابن عقيل لان الواقف انما جعله وقفا على من يجوز بشرط انقراض هذا فلا يثبت بدونه، ويفارق ما لا يمكن اعتبار انقراضه لتعذر اعتباره ولاصحاب الشافعي وجهان كهذين * (فصل) * فان كان الوقف صحيح الطرفين منقطع الوسط كمن وقف على ولده ثم على عبيده ثم على
المساكين خرج في صحة الوقف وجهان على ما نذكره في الوقف المنقطع الانتهاء، ثم ينظر فيما لا يجوز الوقف عليه فان لم يمكن اعتبار انقراضه ألغيناه إذا قلنا بالصحة وان أمكن اعتبار انقراضه فهل يعتبر أو يلغى؟ على وجهين كما تقدم، فان كان منقطع الطرفين صحيح الوسط كمن وقف على عبده ثم على اولاده ثم على الكنيسة خرج في صحته أيضا وجهان ومصرفه بعد من يجوز الوقف عليه إلى مصرف الوقف المنقطع
* (مسألة) * (وان وقف على جهة تنقطع ولم يذكر له مآلا أو وقف على من يجوز ثم على من لا يجوز أو قال وقفت وسكت انصرف بعد انقراض من يجوز الوقف عليه إلى ورثة الواقف وقفا عليهم في احدى الروايتين، والاخرى إلى اقرب عصبته وهل يختص به فقراءهم؟ على وجهين، وقال القاضي في موضع يكون وقفا على المساكين) وجملة ذلك أن الوقف الذي لا اختلاف في صحته عند القائلين بصحة الوقف ما كان معلوم الابتداء والانتهاء غير منقطع مثل أن يجعل علي المساكين أو طائفة لا يجوز بحكم العادة انقراضهم، وان كان معلوم الانتهاء مثل أن يقف على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة ولم يجعل آخره للمساكين ولا لجهة غير منقطعة فهو صحيح أيضا وبه قال مالك وأبو يوسف والشافعي في أحد قوليه، وقال محمد بن الحسن لا يصح وهو القول الثاني للشافعي لان الوقف مقتضاه التأبيد فإذا كان منقطعا صار وقفا على مجهول فلم يصح كما لو وقف على مجهول في الابتداء
ولنا أنه تصرف معلوم المصرف فصح كما لو صرح بمصرفه المتصل ولان الاطلاق إذا كان له عرف حمل عليه كنقد البلد وعرف الصرف ههنا أولى الجهات به فكأنه عينهم.
إذا ثبت هذا فانه ينصرف عند انقراض الموقوف عليهم إلى أقارب الواقف وبه قال الشافعي إلا أنه قال يكون وقفا على أقرب الناس إلى الواقف الذكر والانثى فيه سواء، وعن أحمد أنه يصرف إلى المساكين اختاره القاضي والشريف أبو جعفر لانهم مصرف الصدقات وحقوق الله تعالى من الكفارات ونحوها فإذا وجدت صدقة غير معينة الصرف انصرفت إليهم كما لو نذر صدقة مطلقة، وعن أحمد رواية ثالثة انه يجعل في بيت مال المسلمين لانه مال لا مستحق له فأشبه مال من لا وارث له وقال أبو يوسف يرجع إلى الواقف وإلى ورثته الا أن يقول صدقة موقوفة ينقق منها على فلان وفلان فإذا انقرض المسمى كانت على الفقراء والمساكين لانه جعلها صدقة على مسمى فلا تكون على غيره، ويفارق ما إذا كان ينفق منها على فلان وفلان فانه جعل الصدقة مطلقة.
ولنا أنه أزال ملكه لله تعالى فلم يجز أن يرجع إليه كما لو أعتق عبدا، والدليل على صرفه إلى
أقارب الواقف أنهم أولى الناس بصدقته لقول النبي صلى الله عليه وسلم " صدقتك على غير ذي رحمك صدقة وصدقتك على ذي رحمك صدقة وصلة " وقال " انك ان تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " ولانهم أولى الناس بصدقاته النوافل والمفروضات فكذلك صدقته المنقولة.
إذا ثبت فانه يكون
للفقراء منهم والاغنياء في احدى الروايتين عن أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي لان الوقف لا يخص الفقراء ولانه لو وقف على أولاده تناول الاغنياء والفقراء كذا ههنا، وفيه وجه آخر أنه يختص الفقراء منهم لانهم أهل الصدقات دون الاغنياء ولاننا خصصنا الاقارب بالوقف لكونهم أولى الناس بالصدقة وأولى الناس بالصدقة الفقراء دون الاغيناء، واختلفت الرواية فيمن يستحق الوقف من أقرباء الواقف ففي احدى الروايتين يختص بالورثة منهم لانهم الذين صرف الله إليهم ماله بعد موته واستغنائه عنه فكذلك يصرف إليهم من ماله ما لم يذكر له مصرفا، فعلى هذا يكون بينهم على حسب ميراثهم ويكون وقفا عليهم نص عليه أحمد وذكره القاضي لان الوقف يقتضي التأبيد، وإنما صرفناه إلى هؤلاء لانهم أحق الناس بصدقته فيصرف إليهم مع بقائه صدقة ويحتمل أن يصرف إليهم على سبيل الارث على ما ذكره الخرقي ويبطل الوقف فيه كقول أبي يوسف والرواية الثانية يكون وقفا على أقرب غصبة الواقف دون بقية الوراث ودون البعيد من العصبات فيقدم الاقرب فالاقرب على حسب استحقاقهم لولاء الموالي لانهم خصوصا بالعقل عنه وبميراث مواليه فخصوا بهذا أيضا، قال شيخنا وهذا لا يقوى عندي فان استحقاقهم لهذا دون غيرهم من الناس لا يكون إلا بدليل من نص أو إجماع ولا نعلم فيه نصا ولا اجماعا ولا يصح قياسه على ميراث ولاء الموالي لان علته لا تتحقق ههنا، وأقرب الاقوال فيه صرفه إلى المساكين لانهم مصارف مال الله وحقوقه فان كان في أقارب الواقف مساكين كانوا أولى
به لا على سبيل الوجوب كما أنهم أولى بزكاته وصلاته مع جواز الصرف إلى غيرهم ولانا إذا صرفناه إلى أقاربه على سبيل التعيين فهي أيضا جهة منقطعة فلا يتحقق اتصاله الا بصرفه إلى المساكين فان لم يكن للواقف أقارب أو كان له أقارب فانقرضوا صرف إلى الفقراء أو المساكين وقفا عليهم لان
القصد به الثواب الجاري عليه على وجه الدوام، وإنما قدمنا الاقارب على المساكين لكونهم أولى فإذا لم يكونوا فالمساكين أهل لذلك فصرف إليهم إلا على قول من قال انه يصرف إلى ورثة الواقف ملكا لهم فانه يصرف عند عدمهم إلى بيت المال لانه بطل الوقف فيه بانقطاعه فصار ميراثا لا وارث له فكان بيت المال أولى به (فصل) وان وقف على من يجوز ثم على من لا يجوز كمن وقف على أولاده ثم على البيع صح الوقف أيضا ويرجع بعد انقراض من يجوز الوقف عليه إلى من يصرف إليه الوقف المنقطع كالمسألة قبلها لان ذكر من لا يجوز الوقف عليه وعدمه واحد ويحتمل أن لا يصبح الوقف لانه جمع بين ما يجوز وما لا يجوز فأشبه تفريق الصفقة (فصل) فان قال وقفت هذا وسكت أو قال صدقة موقوفة ولم يذكر سبيله فلا نص فيه وقال ابن حامد يصح الوقف قال القاضي هو قياس قول أحمد فانه قال في النذر المطلق ينعقد موجبا لكفارة اليمين وهو قول مالك والشافعي في أحد قوليه لانه إزالة ملك على وجه القربة فوجب أن يصح
مطلقا كالاضحية والوصية، ولو قال وصيت بثلث مالي صح وإذا صح صرف إلى مصارف الوقف المنقطع عند انقراض الموقوف عليه كما ذكرنا * (مسألة) * (وان قال وقفت داري سنة أو إلى يوم يقدم الحاج لم يصح في أحد الوجهين) لان مقتضى الوقف التأبيد وهذا ينافيه (والوجه الآخر) يصح لانه منقطع الانتهاء فهو كما لو وقف على منقطع الانتهاء فان قلنا يصح فهو كمنقطع الانتهاء يصرف إلى مصرف الوقف المنقطع الانتهاء (فصل) فان قال هذا وقف على ولدي سنة ثم على المساكين صح وكذلك ان قال وقف على ولدي مدة حياتي ثم هو بعد موتي للمساكين صح لانه وقف متصل الابتداء والانتهاء، وان قال وقف على المساكين ثم على أولادي صح ويكون وقفا على المساكين ويلغو قوله على أولادي لان المساكين لا انقراض لهم * (مسألة) * (ولا يشترط اخراح الوقف عن يده في إحدى الروايتين)
ظاهر المذهب أن الوقف يزول به ملك الواقف ويلزم بمجرد اللفظ لان الوقف يحصل به وعن أحمد أنه لا يلزم الا بالقبض واخراج الوقف عن يده فانه قال الوقف المعروف أن يخرجه من يده إلى غيره يوكل فيه من يقوم به اختاره ابن أبي موسى وهو قول محمد بن الحسن لانه تبرع بما لم يخرجه عن المالية فلم يلزمه بمجرده كالهبة والوصية
ولنا ما رويناه من حديث عمر ولانه تبرع يمنع البيع والهبة والميراث فيلزم بمجرده كالعتق، ويفارق الهبة فانها تمليك مطلق والوقف تحبيس الاصل وتسبيل المنفعة فهو بالعتق أشبه والحاقه به أولى.
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: