الفقه الحنبلي - احياء الموات
كل ما تعلق بمصالح العامر من
طرقه ومسيل مائه ومطرح قمامته ولقى ترابه وآلاته لا يجوز احياؤه بغير خلاف في المذهب وكذلك ما تعلق بمصالح القرية كفنائها ومرعى ماشيتها ومحتطبها وطرقها ومسيل مائها لا يملك بالاحياء لا نعلم فيه أيضا خلافا بين أهل العلم وكذلك حريم البئر والنهر والعين وكل مملوك لا يجوز احياء ما تعلق بمصالح لقوله عليه السلام " من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم فهي له " مفهومه أن ما تعلق به حق مسلم لا يملك بالاحياء ولانه تابع للمملوك ولو جوزنا احياءه لبطل الملك في العامر على أهله، وذكر القاضي أن هذه المرافق لا يملكها المحيي بالاحياء لكن هو أحق بها من غيره لان الاحياء الذي هو سبب الملك لم يوجد فيها: وقال الشافعي تملك بذلك وهو ظاهر قول الخرقي في حريم البئر لانه مكان استحقه بالاحياء فملكه كالمحيى، ولان معنى الملك موجود فيه لانه يدخل مع الدار في البيع ويختص به صاحبها، فأما ما قرب من العامر ولم يتعلق بمصالحه فيجوز احياؤ في إحدى الروايتين.
قال أحمد في رواية أبي الصقر في رجلين أحييا قطعتين من موات وبقيت بينهما رقعة فجاء رجل ليحييها فليس لهما منعه، وقال في جبانة بين قريتين: من أحياها فهي له وهذا مذهب الشافعي لعموم قوله عليه السلام " من أحيا أرضا ميتة فهي له " ولان النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق وهو يعلم أنه من عمارة المدينة، ولانه موات لم تتعلق به مصلحة العامر فجاز احياؤه كالبعيد
(والثانية) لا يجوز احياؤه وبه قال أبو حنيفة والليث لانه في مظنة تعلق المصلحة به فانه يحتمل
أن يحتاج إلى فتح باب في حائطه إلى فنائه ويجعله طريقا أو يخرب حائطه فيجعل آلات البناء في فنائه وغير ذلك فلم يجز تفويت ذلك عليه بخلاف البعيد.
إذا ثبت هذا فانما يرجع في القريب والبعيد إلى العرف، وقال الليث حده غلوة وهو خمس خمس الفرسخ، وقال أبو حنيفة حد البعيد هو الذي إذا وقف الرجل في أدناه فصاح بأعلى صوته لم يسمع أدنى أهل المصر إليه (والثاني) أن التحديد لا يعرف إلا بالتوقيف ولا يعرف بالرأي والتحكم ولم يرد من الشرع تحديد له فوجب أن يرجع في ذلك إلى العرف كالقبض والاحراز فقول من حدد بهذا تحكم بغير دليل وليس ذلك بأولى من تحديده بشئ آخر كميل أو نصف ميل وهذا التحديد الذي ذكره والله أعلم يختص بما قرب من المصر أو القرية، ولا يجوز أن يكون حدا لكل ما قرب من عامر لانه يفضي إلى أن من أحيا أرضا في موات حرم احياء شئ من ذلك الموات على غيره ما لم يخرج عن ذلك الحد * (مسألة) * (ولا تملك المعادن الظاهرة كالملح والقار، والكحل والجص، والنفظ بالاحياء وليس للامام اقطاعه) وجملة ذلك أن المعادن الظاهرة وهي التي يوصل إلى ما فيها من غير مؤنة ينتابها الناس وينتفعون بها كالملح والماء والكبريت والقير والموميا والنفط والكحل والبرام والياقوت ومقاطع الطين وأشباه ذلك لا يملك بالاحياء ولا يجوز اقطاعه لاحد من الناس ولا احتجاره دون المسلمين لان فيه ضررا
بالمسلمين وتضييقا عليهم، ولما روى أبو عبيد وأبو داود والترمذي باسنادهم عن أبيض بن حمال أنه استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الملح الذي بمأرب فلما ولى قيل يا رسول الله أتدري ما أقطعت له انما أقطعته الماء العد فرجعه منه، قال قلت يارسول الله ما يحمى لي من الاراك؟ قال " ما لم تنله أخفاف الابل " وهو حديث غريب ورواه سعيد قال حدثني اسماعيل بن عياش عن عمرو بن قيس المأربي عن أبيه عن أبيض بن
حمال المأربي قال: استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم معدن الملح بمأرب فاقطعنيه فقيل يا رسول الله انه بمنزلة الماء العد يعني انه لا ينقطع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلا اذن " ولان هذا يتعلق به مصالح المسلمين العامة فلم يجز احياؤه ولا اقطاعه كمشارع الماء وطرقات المسلمين.
قال ابن عقيل هذا من مواد الله الكريم وفيض جوده الذي لا غناء عنه، ولو ملكه أحد بالاحتجار ملك منعه فضاق على الناس، فان أخذ العوض عنه أعلاه فخرج عن الوضع الذي وضعه الله به من تعميم ذوي الحوائج من غير كلفة وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه مخالفا (فصل) فأما المعادن الباطنة وهي التي لا يوصل إليها إلا بالعمل والمؤنة كمعادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والبلور والفيروزج فان كانت ظاهرة لم تملك أيضا بالاحياء لما ذكرنا في التي قبلها، وإن لم تكن ظاهرة فحفرها انسان وأظهرها لم يملكها بذلك في ظاهر المذهب وظاهر مذهب
الشافعي ويحتمل أن يملكها بذلك وهو قول للشافعي لانه موات لا ينتفع به إلا بالعمل والمؤنة فملك الاحياء كالارض ولانه باظهاره تهيأ للانتفاع به من غير حاجة إلى تكرار ذلك العمل فأشبه الارض إذا أحياها بماء أو حاطها ووجه الاول أن الاحياء الذي يملك به هو العمارة التي يتهيأ بها المحيي للانتفاع من غير تكرار عمل وهذا حفر وتخريبه يحتاج إلى تكرار عند كل انتفاع، فان قيل فلو احتفر بئرا ملكها وملك حريمها قلنا البئر تهيأت للانتفاع بها من غير تجديد حفر ولا عمارة وهذه المعادن تحتاج عند كل انتفاع إلى عمل وعمارة فافترقا، قال أصحابنا وليس للامام اقطاعها لانها لا تملك بالاحياء والصحيح جواز ذلك لان النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية جلسيها وغوريها.
رواه أبو داود وغيره * (مسألة) * (فان كان بقرب الساحل موضع) إذا حصل فيه الماء صار ملحا ملك بالاحياء وللامام اقطاعه لا يضيق على المسلمين باحداثه بل يحدث نفعه بفعله فلم يمنع منه كبقية الموات وأحياء هذا تهيئته لما يصلح له من حفر ترابه وتمهيده وفتح قناة إليه تصب الماء فيه لانه يتهيأ بهذا للانتفاع به
* (مسألة) * (وإذا ملك المحيي ملك ما فيه من المعادن الباطنة كمعادن الذهب والفضة) إذا ملك الارض بالاحياء فظهر فيها معدن جامد ملكه ظاهرا كان أو باطنا لانه ملك الارض
بجميع أجزائها وطبقاتها وهذا منها ويفارق الكنز فانه مودع فيها وليس من أجزائها ويفارق ما إذا كان ظاهرا قبل احيائها لانه قطع على المسلمين نفعا كان واصلا إليهم ومنعهم انتفاعا كان لهم وههنا لم يقطع عنهم شيئا لانه انما ظهر باظهاره، ولو تحجر الارض أو أقطعها فظهر فيها المعدن قبل احيائها كان له احياؤها ويملكها بما فيها لانه صار أحق بتحجره واقطاعه فلم يمنع من اتمام حقه * (مسألة) * (وإن ظهر فيه عين ماء أو معدن جار أو كلا أو شجر فهو أحق به لانه في ملكه) ويملكه في إحدى الروايتين لانه خارج من أرضه أشبه المعادن الجامدة والزرع (والثانية) لا يملكه وهي أصح لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلا والنار " رواه الخلال ولانها ليست من أجزاء الارض فلم يملكها بملك الارض كالكنز * (مسألة) * (ويلزمه بذل ما فضل من مائه لبهائم غيره) لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلا منعه الله فضل رحمته " وهل يلزمه بذله لزرع غيره؟ على روايتين (احداهما) لا يلزمه لان الزرع لا حرمة له في نفسه (والثانية) يلزمه لما روى إياس بن عبد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء وعن بهنسة عن أبيها أنه قال يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال " الماء " رواه أبو داود (فصل) ولو شرع انسان في حفر معدن ولم يصل إلى النيل صار أحق به كالمتحجر الشارع في
الاحياء فإذا وصل إلى النيل صار أحق بالاخذ منه ما دام مقيما على الاخذ منه وهل يملكه بذلك؟ فيه ما قد ذكرنا من قبل فان حفر آخر من ناحية أخرى لم يكن له منعه وإذا وصل إلى ذلك العرق لم يكن له منعه سواء قلنا إن المعدن يملك بحفره أو لم نقل لانه إن ملكه فانما يملك المكان الذي حفره.
وأما العرق الذي في الارض فلا يملكه بذلك ومن وصل إليه من جهة أخرى فله أخذه، ولو ظهر في ملكه
معدن بحيث يخرج النيل عن أرضه فحفر انسان من خارح أرضه كان له أن يأخذ ما خرج عن أرضه منه لانه لم يملكه انما ملك ما هو من أجزاء أرضه وليس لاحد أن يأخذ ما كان داخلا في أرضه من أجزاء الارض الباطنة كما لا يملك أخذ أجزائها الظاهرة، ولو حفر كافر في دار الحرب معدنا فوصل إلى النيل ثم فتحها المسلمون عنوة لم يصر غنيمة وكان وجود عمله وعدمه واحدا لان عامره لم يملك بذلك ولو ملكه فان الارض تصير كلها وقفا للمسلمين وهذا ينصرف إلى مصلحة من مصالحهم فتعين لها كما لو ظهر بفعل الله تعالى (فصل) ومن ملك معدنا فعمل فيه غيره بغير اذنه فما حصله منه فهو لمالكه ولا أجر للغاصب على عمله لانه عمل في ملك غيره بغير اذنه فهو كما لو حصد زرع غيره، وإن قال مالكه اعمل فيه ولك ما يخرج منه فله ذلك وليس لصاحب المعدن فيه شئ لانه اباحة من مالكه فملك ما أخذه كما لو أباحه الاخذ من بستانه، وإن قال اعمل فيه على أن ما رزق الله من نيل كان بيننا نصفين فعمل ففيه وجهان
(أحدهما) يجوز وما يأخذه يكون بينهما كما لو قال احصد هذا الزرع بنصفه أو ثلثه ولانها عين تنمي بالعمل عليها فصح العمل فيها ببعضه كالمضاربة في الاثمان (والثاني) لا يصح لان ما يحصل منه مجهول ولانه لا يصح أن يكون اجارة لان العوض مجهول والعمل مجهول ولا جعالة لان العوض مجهول ولا مضاربة لان المضاربة انما تصح بالاثمان على أن يرد رأس المال ويكون له حصة من الربح وليس ذلك ههنا وفارق حصاد الزرع بنصفه أو جزء منه لان الزرع معلوم بالمشاهدة وما علم جميعه علم جزؤه بخلاف هذا، وإن قال اعمل فيه كذا ولك ما يحصل منه بشرط أن تعطيني ألفا أو شيئا معلوما لم يصح لانه بيع لمجهول ولا يصح أن يكون معلوما كالمضاربة لما ذكرنا ولان المضاربة تكون بجزء من النماء لا دراهم معلومة، قال أحمد إذا أخذ معدنا من قوم على أن يعمره ويعمل فيه ويعطيهم ألفي من أو ألف من صفر فذلك مكروه ولم يرخص فيه (فصل) إذا استأجر رجلا ليحفر له عشرة أذرع في دور كذا بدينار صح لانها اجارة معلومة وإن ظهر عرق ذهب فقال استأجرتك لتخرجه بدينار لم يصح لان العمل مجهول، وإن قال ان استخرجته
فلك دينار صح وتكون جعالة لان الجعالة تصح على عمل مجهول إذا كان العوض معلوما (فصل) وما نضب عنه الماء من الجزائر لم يملك بالاحياء.
قال أحمد في رواية العباس بن موسى إذا نضب الماء عن جزيرة إلى فناء رجل لم يبن فيها لان فيه ضررا وهو أن الماء يرجع يعني أنه
يرجع إلى ذلك المكان فإذا وجده مبنيا رجع إلى الجانب الآخر فاضر باهله ولان الجزائر منبت الكلا والحطب فجرى مجرى المعادن الظاهرة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا حمي الا في الاراك " قال أحمد في رواية حرب يروى عن عمر أنه أباح الجزائر يعني أباح ما ينبت في الجزائر من النبات وقال إذا نضب الفرات عن شئ ثم نبت فيه نبات فجاء رجل يمنع الناس منه فليس له ذلك فأما ان غلب الماء على ملك انسان ثم عاد فنضب عنه فله أخذه ولا يزول ملكه بغلبة الماء عليه فان كان ما نضب عنه الماء لا ينتفع به أحد فعمره رجل عمارة لا ترد الماء مثل ان يجعله مزرعة فهو أحق به من غيره لانه متحجر لما ليس للمسلم فيه حق فأشبه التحجر في الموات * (فصل) * قال رحمه الله (وإحياء الارض أن يحوزها بحائط أو يجري لها) ظاهر كلامه ههنا أن تحويط الارض إحياء لها سواء أرادها للبناء أو للزرع أو حظيرة للغنم أو الخشب وهو ظاهر كلام الخرقي نص عليه أحمد في رواية علي بن سعيد فقال الاحياء أن يحوط عليها حائطا أو يحفر فيها بئرا أو نهرا ولا يعتبر في ذلك تسقيف وذلك لما روي الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من أحاط حائطا على أرض فهي له " رواه أبودواد والامام أحمد في مسنده وروي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ولان الحائط حاجر منيع فكان احياء أشبه ما لو جعلها حظيرة للغنم ويبين هذا أن القصد - لا اعتبار به بدليل ما لو أرادها حظيرة للغنم كما لو جعلها حظيرة للغنم فبناها بجص وآجر وقسمها بيوتا فانه يملكها وهذا لا يصنع للغنم مثله ولابد أن يكون الحائط منيعا يمنع
ما وراءه ويكون مما جرت العادة بمثله ويختلف باختلاف البلدان فان كان ممن جرت عادتهم بالبناء بالحجر وحده كأهل حوران أو بالطين كأهل الغوطة بدمشق أو بالخشب أو القصب كأهل الغور كان ذلك احياء وان
بناه بأقوى مما جرت به عادتهم كان أولى، وقال القاضي في صفة الاحياء روايتان (احداهما) ما ذكرنا (والثانية) الاحياء ما تعارفه الناس احياء لان الشرع ورد بتعليق الملك عليه ولم يبينه ولا ذكر كيفيته فيجب الرجوع فيه إلى ما كان احياء في العرف كما أنه لما ورد باعتبار القبض والحرز ولم يبين كيفيته كان المرجع فيه إلى العرف ولان الشارع لو علق الحكم على مسمى باسم لتعلق بمسماه عند أهل اللسان فلذلك يتعلق الحكم بالمسمى احياء عند أهل العرف ولان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلق الحكم على ما ليس إلى معرفته طريق فلما لم يبينه تعين العرف طريقا لمعرفته إذ ليس له طريق سواه إذا ثبت هذا فان الارض تحيا دارا للسكنى وحظيرة ومزرعة، فاحياء كل واحدة من ذلك بما تتهيأ به للانتفاع الذي أريدت له، فأما الدار فبأن يبني حيطانها بما جرت به العادة ويسقفها لانها لا تصلح للسكنى الا بذلك، والحظيرة احياؤها بحائط جرت به العاده لمثلها، وليس من شرطها التسقيف لان العاده لم تجر به وسواء أرادها حظيرة للماشية أو للخشب أو للحطب أو نحو ذلك فان جعل عليها خندقا لم يكن احياء لانه ليس بحائط ولا عمارة انما هو حفر تخريب ووكذلك ان حاطها بشوك وشبهه لا يكون
احياء ويكون تحجرا لان المسافر قد ينزل منزلا ويحوط على رحله بنحو من ذلك ولو نزل منزلا فنصب فيه بيت شعر أو خيمة لم يكن احياء.
وان أرادها للزراعة فبأن يهيئها لامكان الزرع فيها فان كانت لا تزرع الا بالماء فبأن يسوق إليها ماء من نهر أو بئر وان كان المانع من زرعها كثرة الاحجار كأرض الحجاز فاحياؤها بقلع أحجارها وتنقيتها حتى تصلح للزرع وان كانت غياضا أو أشجارا كارض الشعرى فبأن يقلع أشجارها ويزيل عروقها المانعة من الزرع، وان كانت مما لا يمكن زرعه الا بحبس الماء عنه كارض البطائح فاحياؤها بسد الماء عنها وجعلها بحال يمكن زرعها لان بذلك يمكن الانتفاع بها فيما أرادها له من غير حاجة إلى تكرار ذلك في كل عام فكان احياء كسوق الماء إلى أرض لا ماء لها ولا يعتبر في احياء الارض حرثها ولا زرعها لان ذلك مما يتكرر كلما أراد الانتفاع بها فلم يعتبر في الاحياء كسقيها وكالسكنى في البيوت ولا يحصل الاحياء بذلك إذا فعله بمجرده لما ذكرنا، ولا يعتبر في احياء الارض للسكنى نصب الابواب على البيوت وبه قال الشافعي فيما ذكرنا في الرواية الثانية الا أن
له وجها في أن حرثها وزرعها احياء لها وأن ذلك معتبر في احيائها لا يتم بدونه وكذلك نصب الابواب على البيوت لانه مما جرت العادة به أشبه السقف ولا يصح هذا لما ذكرنا ولان السكنى ممكنة بدون نصب الابواب فأشبه تطيين سطوحها وتبيضها * (مسألة) * (وان حفر بئرا عادية ملك حريمها خمسين ذراعا وان لم تكن عادية فحريمها خمسة وعشرون) البئر العادية بتشديد الياء القديمة منسوبة إلى عاد ولم يرد عادا بعينها لكن لما كانت عاد
في الزمن الاول وكانت لها آثار في الارض نسب إليها كل قديم، فكل من سبق إلى بئر عادية كان أحق بها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له " وله حريمها خمسون ذراعا من كل جانب، وان حفر بئرا في موات للتمليك فله حريمها خمسة وعشرون ذراعا من كل جانب نص أحمد على هذا في رواية حرب وعبد الله واختاره أكثر أصحابنا، وقال القاضي وأبو الخطاب ليس هذا على طريق التحديد بل حريمها في الحقيقة ما يحتاج إليه في ترقية مائها منها فان كان بدولاب فقدر مد الثور أو غيره وان كان بساقية فبقدر طول البئر لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " حريم البئر مد رشائها " أخرجه ابن ماجه ولانه المكان الذي تمشي إليه البهيمة، وان كان يستقي منها بيده فبقدر ما يحتاج إليه الواقف عندها، وان كان المستخرج عينا فحريمها القدر الذي يحتاج إليه صاحبها للانتفاع ولا يستضر باخذه منه ولو كان الف ذراع، وحريم النهر من جانبيه ما يحتاج إليه لطرح كرايته بحكم العرف وذلك ان هذا إنما ثبت للحاجة فينبغي أن تراعى فيه الحاجة دون غيرها، وقال أبو حنيفة حريم البئر أربعون ذراعا وحريم العين خمسمائة ذراع لان أبا هريرة روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " حريم البئر أربعون ذراعا لاعطان الابل والغنم " وعن الشعبي مثله رواه أبو عبيد.
ولنا ما روي أن الدارقطني والخلال باسنادهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " حريم البئر البدي خمس وعشرون ذراعا وحريم البئر العادي خمسون ذراعا " وهذا نص وروى أبو عبيد باسناده
عن يحي بن سعيد الانصاري أنه قال السنة في حريم القليب العادي خمسون ذراعا والبدي خمس وعشرون ذراعا
وباسناده عن سعيد بن المسيب قال حريم البئر البدي خمس وعشرون ذراعا من نواحيها كلها وحريم بئر الزرع ثلثمائة ذراع من نواحيها كلها وحريم البئر العادي خمسون ذراعا من نواحيها كلها، ولانه معنى يملك به الموات فلا يقف على قدر الحاجة كالحائط ولان الحاجة إلى البئر لا تنحصر في ترقية الماء فانه يحتاج إلى ما حوله عطنا لا بله وموقفا للدوابه وغنمه وموضعا يجعل فيه أحواضا يسقي منها ماشيته وموقفا لدابته التي يستقي عليها واشباه ذلك فلم يختص الحريم بما يحتاج إليه في ترقية الماء فأما حديث أبي حنيفة فحديثنا أصح منه ورواهما أبو هريرة فيدل على ضعفه * (مسألة) * (وقيل حريمها قدر مد رشائها من كل جانب) لما ذكرنا من الحديث إذا ثبت ذلك فان ظاهر كلامه في هذا الكتاب وظاهر كلام الخرقي أنه يملك حريم البئر ونقل عن الشافعي وقال القاضي بل يكون أحق به * (مسألة) * (وقيل احياء الارض ما عد إحياء وهو عمارتها بما تتهيأ به لما يراد منها) وقد ذكرنا ذلك وقيل ما يتكرر كل عام كالسقي والحرث فليس باحياء وما لا يتكرر فهو احياء لان العرف ان حرث الارض مرة ليس باحياء وان عمل الحائط عليها ونحوه احياء وللشافعي وجه في أن الزرع والحرث احياء وقد ذكرناه، فان كانت كثيرة الدغل والحشيش كالمروج التي لا يمكن زرعها إلا بتكرار حرثها وتنقية دغلها وحشيشها المانع من زرعها كان احياء على قياس ما ذكرنا أولا
(فصل) ولابد ان يكون البئر فيها ماء فان لم تصل إلى الماء فهو كالمتحجر الشارع في الاحياء على ما نذكره، وقوله ومن حفر بئرا عادية يحمل على البئر التي انطمت وذهب ماؤها فجدد حفرها وعمارتها أو انقطع ماؤها فاستخرجه ليكون ذلك احياء لها فاما البئر التي لها ماء ينتفع به المسلمون فليس لاحد احتجاره ومنعه لانه بمنزلة المعادن الظاهرة التي يرتفق بها الناس وهكذا العيون النابعة ليس لاحد ان يختص بها ولو حفر رجل بئرا للمسلمين ينتفعون بها أو ينتفع بها مدة إقامته عندها ثم يتركها لم يملكها وكان له الانتفاع بها فإذا تركها كانت للمسلمين كلهم كالمعادن الظاهرة وهو أحق بها ما دام مقيما عندها لانه سابق إليها فهو كالمتحجر الشارع في الاحياء
(فصل) وإذا كان لانسان شجرة في موات فله حريمها قدر ما تمد إليه اغصانها حواليها وفي النخلة مد جريدها لما روى أبو سعيد قال اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حريم نخلة فأمر بجريدة من جرائدها فذرعت فكانت سبعة أذرع أو خسمة أذرع فقضى بذلك رواه أبو داود، وان غرس شجرة في موات فهي له وحريمها وان سبق إلى شجر مباح كالزيتون والخروب فسقاه وأصحه فهو له كالمتحجر الشارع في الاحياء فان طعمه ملكه بذلك وحريمه لانه تهيأ للانتفاع به لما يراد منه فهو
كسوق المال إلى الارض الوات ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به " (فصل) ومن كانت له بئر فيها ماء فحفر آخر قريبا منها بئرا ينسرق إليها ماء البئر الاولى فليس له ذلك سواء كان محتفر الثانية في ملكه مثل رجلين متجاورين في دارين حفر أحدهما في داره بئرا ثم الآخر بئرا اعمق منها فسرى إليها ماء الاولى أو كانتا في موات فسبق احدهما فحفر بئرا ثم جاء آخر فحفر قريبا منها بئرا يجتذب ماء الاولى، ووافق الشافعي في هذه الصورة الثانية لانه ليس له ان يبتدئ ملكه على وجه يضر بالمالك قبله، وقال في الاولى له ذلك لانه تصرف مباح في ملكه فجاز له فعله كتعلية داره وهكذا الخلاف في كل ما يحدثه الجار مما يضر بجاره مثل ان يجعل داره مدبغة أو حماما يضر بعقار جاره بحمي ناره ورماده ودخانه أو يحفر في اصل حائطه حشا يتأذى جاره برائحته وغيرها أو يجعل داره مخبزا في وسط العطارين ونحوه مما يؤذي جاره وقال الشافعي له ذلك كله وروي ذلك عن احمد وهو قول بعض الحنفية لانه تصرف مباح في ملكه اشبه بناءه ونقضه ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا اضرار " ولانه احداث ضرر بجاره فلم يجز كالدق الذي يهز الحيطان ويخربها وكالقاء السماد والتراب في اصل حائطه على وجه يضر به ولو كان
لرجل مصنع فأراد جاره غرس شجر مما تسري عروقه فتشق حائط مصنع جاره وتتلفه لم يملك ذلك وكان لجاره منعه وقلعها ان غرسها، ولو كان هذا الذي حصل منه الضرر سابقا مثل من له في ملكه
مدبغة أو مقصرة فاحيا إنسان إلى جانبه مواتا وبناه دارا فتضرر بذلك لم يلزمه ازالة الضرر بغير خلاف نعلمه لانه لم يحدث ضررا * (مسألة) * (ومن تحجر مواتا لم يملكه وهو احق به وورثته من بعده ومن ينقله إليه وليس له بيعه وقيل له ذلك) تحجر الموات المشروع في احيائه مثل ان يدير حول الارض ترابا أو احجارا أو حاطها بجدار صغير لم يملكها بذلك لان الملك بالاحياء وليس هذا احياء لكن يصير أحق الناس به لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو احق به " رواه أبو داود، فان مات فوارثه احق به لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ترك حقا أو مالا فهو لورثته " فان نقله إلى غيره صار الثاني احق به لان صاحبه اقامه مقامه، وليس له بيعه فان باعه لم يصح لانه لا يملكه فلم يملك بيعه كحق الشفعة قبل الاخذ به وكمن سبق إلى معدن أو مباح قبل اخذه وقيل له بيعه لانه احق به * (مسألة) * (فان لم يتم احياءه قيل له اما ان تحييه واما ان تتركه) إذا طالت المدة بعد التحجر ولم يحييه فينبغي ان يقول السلطان اما ان تحييه أو تتركه ليحييه غيرك لانه ضيق على الناس في حق مشترك
بينهم فلم يمكن من ذلك كما لو وقف في طريق ضيق أو مشرعة ماء أو معدن لا ينتفع به ولا يدع غيره * (مسألة) * (فان طلب الامهال امهل مدة قريبة) كالشهرين والثلاثة ونحوها لانه يسير فان بادر غيره فأحياه في مدة المهلة أو قبل ذلك ملكه بالاحياء في احد الوجهين لان الاحياء يملك به والتحجر لا يملك به فيثبت الملك بما يملك به دون ما لا يملك به كمن سبق إلى معدن أو مشرعة فجاء غيره فأزاله وأخذ ولعموم الحديث في الاحياء (والثاني) لا يملكه لان مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام " من احيا ارضا ميتة في غير حق مسلم فهي له " انها لا تكون له إذا كان لمسلم فيها حق وكذلك قوله " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو احق به " وروي سعيد في سننه أن عمر قال من كانت له ارض - يعني من تحجر ارضا - فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم يعمرونها فهم أحق بها وهذا يدل على أن من عمرها قبل ثلاث سنين لا يملكها ولان الثاني احيا في حق غيره فلم يملكه كما لو احيا
ما تتعلق به مصالح ملك غيره ولان حق المتحجر اسبق فكان اولى كحق الشفيع يقدم على شراء المشتري (فصل) فان ضربت للمتحجر مدة فانقضت المدة ولم يعمر فلغيره أن يعمره ويملكه لان المدة ضربت له لينقطع حقه بمضيها وسواء اذن له السلطان في عمارتها أو لم يأذن، وان لم يكن للمتحجر عذر في ترك العمارة قيل له اما ان تعمر واما ان ترفع يدك فان لم يعمرها كان لغيره عمارتها، فان لم يقل له شئ واستمر تعطيلها فقد ذكرنا حديث عمر في المسألة قبلها ومذهب الشافعي في هذا الفصل والمسألة قبلها على نحو ما ذكرنا
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: