الفقه الحنبلي - القتل
(مسألة) (ومن لا وارث له وليه الامام ان شاء اقتص وان شاء عفا فله ان يفعل من ذلك ما يرى فيه المصلحة للمسلمين فان أحب
القصاص فله ذلك وان احب العفو إلى مال فله ذلك وان أحب العفو إلى غير مال لم يملكه لان ذلك للمسلمين ولا حظ لهم في هذا، وهذا قول أصحاب الرأي لانهم لا يرون العفو إلى مال الا برضى الجاني (فصل) وإذا اشترك جماعة في قتل واحد فعفي عنهم إلى الدية فعليهم دية واحدة وان عفى عن بعضهم فعلى العفو عنه قسطه من الدية لان الدية بدل المحل وهو واحد فتكون ديته واحدة سواء اتلفه واحد أو جماعة وقال ابن ابي موسى فيه رواية أخرى ان على كل واحد دية كاملة لان له قتل كل واحد منهم فكان على كل واحد منهم دية نفس كاملة كما لو قلع الاعور عين صحيح فانه يجب عليه دية عينه وهو دية كاملة والصحيح الاول لان الواجب بدل المتلف ولا يختلف باختلاف المتلف
القصاص فله ذلك وان احب العفو إلى مال فله ذلك وان أحب العفو إلى غير مال لم يملكه لان ذلك للمسلمين ولا حظ لهم في هذا، وهذا قول أصحاب الرأي لانهم لا يرون العفو إلى مال الا برضى الجاني (فصل) وإذا اشترك جماعة في قتل واحد فعفي عنهم إلى الدية فعليهم دية واحدة وان عفى عن بعضهم فعلى العفو عنه قسطه من الدية لان الدية بدل المحل وهو واحد فتكون ديته واحدة سواء اتلفه واحد أو جماعة وقال ابن ابي موسى فيه رواية أخرى ان على كل واحد دية كاملة لان له قتل كل واحد منهم فكان على كل واحد منهم دية نفس كاملة كما لو قلع الاعور عين صحيح فانه يجب عليه دية عينه وهو دية كاملة والصحيح الاول لان الواجب بدل المتلف ولا يختلف باختلاف المتلف
ولذلك لو قتل عبد قيمته الفان حرا لم يملك العفو على أكثر من الدية واما القصاص فهو عقوبة على الفعل فيتعدد بعدده (فصل) قال الشيخ رحمه الله (الثالث) ان يؤمن في الاستيفاء التعدي إلى غير القاتل فلو وجب القصاص على حامل أو حملت بعد وجوبه لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبن لا نعلم في ذلك خلافا وسواء كان القصاص في النفس أو في الطرف اما في النفس فلقول الله تعالى (فلا يسرف في القتل) وقتل
الحامل قتل لغير الحامل اسرافا وروى ابن ماجة باسناده عن عبد الرحمن بن غنم قال حدثنا نساء ومعاذ بن جبل وابو عبيدة بن الجراح وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس قالوا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا قتلت المرأة عمدا لم تقتل حتى تضع ما في بطنها ان كانت حاملا وحتى تكفل ولدها وان زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها " وهذا نص ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال للغامدية المقرة بالزنا " ارجعي حتى تضعن ما في بطنك - ثم قال لها - ارجعي حتى ترضيعه " ولان هذا اجماع من أهل العلم لا نعلم فيه اختلافا وأما لا قصاص في الطرف فلا لنا منعنا الاستيفاء فيه خشية السراية إلى الجاني والى زيادة في حقه فلان تمنع منه خشية السراية إلى غير الجاني وتفويت نفس معصومة أولى وأحرى ولان في القصاص منها قتلا لغير الجاني وهو حرام وإذا وضعت لم تقتل حتى تسقي الولد اللبن لان الولد يتضرر لتركه ضررا كبيرا ثم ان لم يكن للولد من يرضعه لم يجز قتلها حتى يجئ أو ان فطامه لما ذكرنا من الخبرين ولانه لما أخر الاستيفاء لحفظه وهو حمل فلان يؤخر لحفظه بعد وضعه اولى الا ان يكون القصاص فيما دون النفس ويكون الغالب بقاؤها وعدم ضرر الاستيفاء منها فيستوفى وان وجد له مرضعة راتبة جاز الاستيفاء منها لانه يستغني عنها بلبن المرضعة وكذلك ان كانت مترددة أو نساء يتناوبنه يرضعنه أو أمكن أن يسقى من لبن شاة أو نحوها ويستحب للولي تأخيرها لما على الولد من الضرر في اختلاف اللبن عليه وشرب لبن البهيمة
(مسألة) (وحكم الحد في ذلك حكم القصاص لما ذكرنا من الحديث ولانه في معنى القصاص
(مسألة) وان ادعت الحمل ففيه وجهان (احدهما) تحبس حتى يبين حملها لان للحمل امارات خفية تعلمها من نفسها ولا يعلمها غيرها فوجب ان يحتاط للحمل حتى يتبين انتفاء ما ادعته ولانه امر يختصها فقبل قولها فيه كالحيض (والثاني) انها ترى اهل الخبرة ذكره القاضي فان شهدن بحملها اخرت وان شهدن ببراءتها لم تؤخر لان الحق حال عليها فلا يؤخر بمجرد دعواها فان اشكل على القوابل أو لم يوجد من يعرف ذلك اخرت حتى يتبين لاننا إذا اسقطنا القصاص من خوف الزيادة فتأخيره أولى (مسألة) (وان اقتص من حامل وجب ضمان جنبيها على قاتلها) وقال أبو الخطاب يجب على السلطان الذي مكنه من الاستيفاء وعليهما الاثم ان كانا عالمين أو كان منهما تفريط وان علم أحدهما أو فرط فالاثم عليه فان لم تلق الولد فلا ضمان فيه لانا لا نعلم وجوده وحياته وان انفصل ميتا أو حيا لوقت لا يعيش فيه مثله ففيه غرة وان انفصل حيا لوقت يعيش مثله فيه ثم مات من الجناية وجبت ديته وينظر فان كان الامام والولي عالمين بالحمل وتحريم الاستيفاء أو جاهلين بالامرين أو باحدهما أو كان الولي عالما بذلك دون الممكن له من الاستيفاء فالضمان عليه وحده لانه مباشر والحاكم الذي مكنه صاحب سبب فكان الضمان على المباشر دون المسيب كالحافر مع الدافع
فان علم الحاكم دون الولي فالضمان على الحاكم وحده لان المباشر معذور فكان الضمان على المسبب كالسيد إذا امر عبده الاعجمي الذي لا يعرف تحريم القتل به وكشهود القصاص إذا ارجعوا عن الشهادة بعد الاستيفاء وقال القاضي ان كان أحدهما عالما وحده فالضمان عليه وحده وان كانا غير عالمين فالضمان على الحاكم لانه الذي يعرف الاحكام والولي انما يرجع إلى حكمه واجتهاده وان كانا جاهلين ففيه وجهان (أحدهما) الضمان على الامام كما لو كانا عالمين (والثاني) على الولي وهو مذهب الشافعي وقال أبو الخطاب الضمان على الحاكم ولم يفرق وقال المزني الضمان على الولي في كل حال لانه المباشر والسبب غير ملجئ فكان الضمان عليه كالدافع مع الحافر وكما لو امر من يعلم تحريم القتل به فقتل وقد ذكرنا ما يقتضي التفريق وهو اختيار شيخنا
(فصل) قال الشيخ رحمه الله ولا يستوفي القصاص الا بحضرة السلطان وحكاه عن ابي بكر وهو مذهب الشافعي لانه امر يفتقر إلى الاجتهاد ويحرم الحيف فيه فلا يؤمن الحيف مع قصد التشفي فان استوفاه من غير حضرة السلطان وقع الموقع ويعزر لافتياته بفعل ما منع فعله ويحتمل ان يجوز الاستيفاء بغير حضور السلطان إذا كان القصاص في النفس لان رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل يقوده بنسعة فقال ان هذا قتل أخي فاعترف بقتله فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اذهب فاقتله " رواه مسلم بمعناه ولان اشتراط حضور السلطان لا يثبت إلا بنص أو اجماع أو قياس ولم يثبت ذلك ويستحب ان يحضر شاهدين لئلا يجحد المجني عليه الاستيفاء (مسألة) (وعليه تفقد الآلة فان كانت كالة منعة الاستيفاء بها لئلا يعذب المقتول) وقد روى شداد بن اوس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ان الله كتب الاحسان على كل شئ
فإذا قتلتم فاحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فاحسنوا الذبحة ليحد أحدكم شفرته وليرح ذبحته " رواه مسلم ويمنعه من الاستيفاء بآلة مسمومة لانها تفسد البدن وربما منعت غسله فان عجل فاستوفي بآلة كآلة أو مسمومة عزر لفعله ما لا يجوز (مسألة) (وبنظر السلطان في الولي فان كان يحسن الاستيفاء ويقدر عليه بالقوة والمعرفة مكنه منه) لقول الله تعالى (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل) وقال عليه الصلاة والسلام " من قتل له قتيل فاهله بين خيرتين ان احبوا قتلوا وان احبوا اخذوا الدية " ولانه حق له متميز فكان له استيفاؤه بنفسه إذا أمكنه كسائر الحقوق ولان المقصود التشفي وتمكينه منه أبلغ في ذلك (مسألة) (وان كان الولي لا يحسن الاستيفاء امره بالتوكيل) لانه عاجز عن استيفاء حقه فيوكل من يحسن فان ادعى الولي المعرفة بالاستيفاء فامكنه السلطان من ضرب عنقه فضرب عنقه فابانه فقد استوفى حقه وان أصاب غيره واقر بتعمد ذلك عزر فان قال اخطأت وكانت الضربة قريبا من العنق كالرأس والمنكب قبل قوله مع يمينه لان هذا مما يجوز الخطأ في مثله وان كان بعيدا كالوسط والرجلين لم يقبل قوله لان مثل هذا لا يقع الخطأ فيه ثم ان أراد العود
ففيه وجهان (أحدهما) لا يمكن منه لانه ظهر منه انه لا يحسن الاستيفاء ويحتمل ان يعود إلى مثل فعله (والثاني) يمكن منه قاله القاضي لان الظاهر تحرزه عن مثل ذلك ثانيا
(مسألة) (فان احتاج الوكيل إلى اجرة فمن مال الجاني فقد قيل يؤخذ العوض من بيت المال) قال بعض أصحابنا يرزق من بيت المال رجل يستوفى الحدود والقصاص لان هذا من مصالح العامة فان لم يحصل ذلك فالاجرة على الجاني لانها اجرة لايفاء الحق الذي عليه فكانت الاجرة عليه كاجرة الكيال في بيع المكيل ويحتمل ان تكون على المقتص لانه وكيله فكانت الاجرة على موكله كسائر الموضع والذي على الجاني لتمكين دون الفعل ولهذا لو أراد ان يقتص منه نفس لم يمكن منه ولانه لو كانت عليه أجرة الوكيل الزمته أجرة الولي إذا استوفى بنفسه وان قال الجاني انا اقتص لك من نفسي لم يلزم تمكينه ولم يجز له ذلك قال الله تعالى (ولا تقتلوا انفسكم) ولان معنى القصاص ان يفعل به كما فعل ولان القصاص حق عليه لغيره فلم يكن هو المستوفي له كالبائع لا يستوفي من نفسه (مسألة) (والولي مخير بين الاستيفاء بنفسه ان كان يحسن وبين التوكيل) لان الحق له فيتصرف فيه على حسب اختياره كسائر الحقوق وقيل ليس له ان يستوفي في الطرف بنفسه بحال لانه لا يؤمن ان يجني عليه بما لا يمكن تلافيه وقال القاضي ظاهر كلام أحمد أنه يمكن منه لانه أحد نوعي القصاص فيمكن منه كالقصاص في النفس (مسألة) (وان تشاح اولياء المقتول في الاستيفاء قدم أحدهم بالقرعة) إذا تشاح الاولياء في المتولي للاستيفاء امروا بتوكيل واحد منهم أو من غيرهم ولم يجز ان يتولاه
جميعهم لما فيه من تعذيب الجاني وتعدد أفعالهم فان لم يتفقوا على أحد وتشاحوا وكان كل واحد منهم يحسن الاستيفاء اقرع بينهم لان الحقوق إذا تساوت وعدم الترجيح صرنا إلى القرعة كما لو تشاحوا في تزويج موليتهم فمن خرجت له القرعة امر الباقون بتوكيله ولا يجوز له الاستيفاء بغير اذنهم فان لم يتفقوا على التوكيل منعوا الاستيفاء حتى يوكلوا
(فصل) قال رحمه الله ولا يستوفى القصاص في النفس إلا بالسيف في احدى الروايتين والاخرى يفعل به كما فعل فلو قطع يديه ثم قتله فعل به كذلك وان قتله بحجر أو غرقة أو غير ذلك فعل به مثل فعله وان قطع يده من مفصل أو غيره أو أوضحه فمات فعل به كفعله فان مات وإلا ضربت عنقه وقال القاضي يقتل ولا يزاد على ذلك رواية واحدة وجملة ذلك ان الرجل إذا جرح رجلا ثم ضرب عنقه فالكلام في المسألة في حالين أحدهما ان يختار لمولي القصاص فاختلفت الرواية عن أحمد في كيفية الاستيفاء فروي عنه لا يستوفي إلا بالسيف في العنق وبه قال عطاء والثوري وأبو يوسف ومحمد لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا قود إلا بالسيف " رواه ابن ماجه ولان القصاص أحد بدلي النفس فدخل الطرف في حكم الجملة كالدية فانه لو صار الامر إلى الدية لم يجب الا دية النفس ولان القصد من القصاص في النفس تعطيل واتلاف الجملة وقد أمكن هذا بضرب العنق فلا يجوز تعذيبه باتلاف أطرافه كما لو قتله بسيف كال فانه لا يقتل بمثله (والرواية الثانية) عن أحمد أنه قال إنه لا حل ان يفعل به كما فعل
يعني ان للمستوفي ان يقطع أطرافه ثم يقتله وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي وأبي حنيفة وأبي ثور لقول الله تعالى (وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) وقوله سبحانه (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) ولان النبي صلى الله عليه وسلم رض رأس يهودي لرضه رأس جارية من لا يصار بين حجرين ولان الله تعالى قال (والعين بالعين) وهذا قد قلع عينه فيجب ان يقلع عينه للآية وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه " ولان القصاص موضوع على المماثلة ولفظه مشعر به فيجب ان يستوفى منه مثل ما فعل كما لو ضرب العنق آخر غيره فاما حديث " لا قود لا بالسيف " فقال أحمد ليس اسناده بجيد (الحال الثاني) أن يصير الامر إلى الدية اما بعفو الولي أو كون الفعل خطأ أو شبه عمد أو غير ذلك فالواجب دية واحد وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم تجب دية الاطراف المقطوعة ودية النفس لانه لما قطع سراية الجرح بقتله صار كالمستقر فاشبه ما لو قتله غيره ولنا انه قاتل قبل استقرار الجرح فدخل ارش الجراحة في ارش النفس كما لو سرت إلى نفسه
والقصاص في الاطراف لا يجب على احدى الروايتين وان وجب فان القصاص لا يشبه الدية لان سراية الجرح لا تسقط القصاص فيه وتسقط ديته
(فصل) وإذا قلنا للولي أن يستوفي مثل ما فعل بوليه فأحب أن يقتصر على ضرب عنقه فله ذلك وهو أفضل وان قطع أطرافه التي قطعها الجاني أو بعضها ثم عفا عن قتله جاز لانه تارك بعض حقه وان قطع بعض أطرافه ثم عفا إلى الدية لم يكن له ذلك لان جميع ما فعل به لم يجب به إلا دية واحدة فلا يجوز أن يستوفي بعضه ويستحق كمال الدية، فان فعل فله ما بقي من الدية فان لم يبق منها شئ فلا شئ له وان قلنا ليس له أن يستوفي إلا بضرب العنق فاستوفى بمثل ما فعل فقد أساء ولا شئ عليه سوى المأثم لان فعل الجاني في الاطراف لم يوجب شيئا يختص بها فكذلك فعل المستوفى وان قطع طرفا واحدا ثم عفا إلى الدية لم يكن له إلا تمامها وان قطع ما يجب به أكثر من الدية ثم عفا احتمل أنه يلزمه ما زاد على الدية لانه لا يستحق أكثر من الدية وقد فعل ما يوجب أكثر منها فكانت الزيادة عليه، واحتمل أن لا يلزمه شئ فإذا ترك قتله وعفا عنه فأولى أن لا يلزمه شئ ولانه فعل بعض ما فعل موليه فلم يلزمه شئ لانه لو قتله لم يلزمه شئ كما لو قلنا إن له أن يستوفي مثل ما فعل به (فصل) فان قطع يديه أو رجليه أو جرحه جرحا يوجب القصاص إذا انفرد فسرى إلى النفس فله القصاص في النفس، وهل له أن يستوفى القطع قبل القتل؟ على روايتين ذكرهما القاضي وبناهما على الروايتين المذكورتين في المسألة (إحدهما) ليس له قطع الطرف وهو مذهب أبي حنيفة، لان ذلك يفضي إلى الزيادة على جناية الاول والقصاص يعتمد المماثلة فمتى خيف فيه الزيادة سقط كما لو قطع يده
من نصف الذراع (والثانية) يجب القصاص في الطرف فان مات وإلا ضربت عنقه، وهذا مذهب الشافعي لما ذكرناه في أول المسألة، وذكر أبو الخطاب أنه لا يقتص منه في الطرف رواية واحدة وانه لا يصح تجرحه على الروايتين في المسألة لافضاء هذا إلى الزيادة بخلاف المسألة، قال شيخنا والصحيح تخريجه على الروايتين وليس هذا بزيادة لان فوات النفس بسراية فعله وسراية فعله كفعله فأشبه ما لو
قطعه ثم قتله، ولان زيادة الفعل في الصورة محتمل في الاستيفاء كما لو قتله بضربة فلم يمكن قتله في الاستيفاء إلا بضربتين.
(فصل) فان جرحه جرحا لا قصاص فيه ولا يلزم فوات الحياة به كالجائفة أو قطع اليد من نصف الذراع أو الرجل من نصف الساق فمات منه أو قطع يدا ناقصة الاصابع أو شلاء أو زائدة ويد القاطع أصلية صحيحة فالصحيح في المذهب أنه ليس له فعل ما فعل ولا يقتص إلا بالسيف في العنق ذكره أبو بكر والقاضي، وقال غيرهما فيه رواية أخرى أن له أن يقتص بمثل فعله لانه صار قتلا فكان له القصاص بمثل فعله كما لو رض رأسه بحجر فقتله به، والصحيح الاول لان هذا لو انفرد لم يكن فيه قصاص فلم يجز القصاص فيه مع القتل كما لو قطع يمينه ولم يكن للقاطع يمين لم يكن له أن يقطع يساره، وفارق ما إذا رض رأسه فمات لان ذلك الفعل قتل مفرد وههنا قطع وقتل والقطع لا يوجب قصاصا فبقى مجرد القتل فإذا
جمع المستوفي بينهما فقد زاد قطعا لم يرد الشرع باستيفائه فيكون حراما وسواء في هذا ما إذا قطع ثم قتل عقيبه وبين ما إذا قطع فسرى إلى النفس (فصل) فاما ان قطع اليمنى ولا يمنى للقاطع أو اليد ولا يد له أو قطع العين ولا عين له فمات المجني عليه فانه يقتل بالسيف في العنق ولا قصاص في طرفه لا أعلم فيه خلافا، لان القصاص إنما يكون في مثل العضو المتلف وهو ههنا معدوم ولان القصاص فعل مثل ما فعل الجاني ولا سبيل إليه ولانه لو قطع ثم عفا عن القتل لصار مستوفيا رجلا ممن لم يقطع له مثلها وهذا غير جائز (فصل) وان قتله بغير السيف مثل ان قتله بحجر أو هدم أو تغريق أو خنق فهل يستوفى القصاص بمثل ما فعله على روايتين (إحدهما) يستوفى وهو قول مالك والشافعي (والثانية) لا يستوفى إلا بالسيف في العنق، وهو مذهب أبي حنيفة فيما إذا قتله بمثقل الحديد على إحدى الروايتين عنده أو جرحه فمات ووجه الروايتين ما تقدم في اول المسألة ولان هذا لا يؤمن معه الزيادة على ما فعله القاتل فلا يجب القصاص بمثل آلته كما لو قطع الطرف بآلة كالة أو مسمومة أو بالسيف فانه لا يستوفي بمثله ولان هذا لا يقتل به المرتد فلا يستوفى به القصاص كما لو قتله بتجريع الخمر أو السحر ولا تفريع على هذه
الرواية، فأما على الرواية الاخرى فانه إذا فعل به مثل فعله فلم يمت قتله بالسيف، وهذا أحد قولي الشافعي (والقول الثاني) أنه يكرر عليه ذلك الفعل حتى يموت به لانه قتله بذلك فله قتله بمثله
ولنا أنه قد فعل به مثل فعله فلم يزد عليه كما لو جرحه جرحا أو قطع منه طرفا فاستوفى منه الولي مثله فلم يمت به فانه لا يكرر عليه الجرح بغير خلاف ويعدل إلى ضرب عنقه (مسألة) (فان قتله بمحرم في نفسه كتجريع الخمر واللواط ونحوه قتل بالسيف رواية واحدة) إذا قتله بما يحرم لعينه كتجريع الخمر واللواط أو سحره لم يقتل بمثله اتفاقا ويقتل بالسيف، وحكى أصحاب الشافعي فيمن قتله باللواط وتجريع الخمر وجها أنه يدخل في دبره خشبة يقتله بها ويجرعه الماء حتى يموت ولنا أن هذا محرم لعينه فوجب العدول عنه إلى القتل بالسيف كما لو قتله بالسحر وان حرقه فقال بعض أصحابنا لا يحرق لان التحريق محرم لحق الله تعالى لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يعذب بالنار الا رب النار " وهذا داخل في عموم الخبر وهذا مذهب أبي حنيفة وقال القاضي الصحيح أن فيه روايتين كالتغريق (احداهما) يحرق وهو مذهب الشافعي لما روى البراء بن عازب قال من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه وحملوا الحديث الاول على غير القصاص (مسألة) (ولا يجوز الزيادة على ما أتى به رواية واحدة ولا قطع شئ من أطرافه فان فعل فلا قصاص فيه وتجب فيه ديته سواء عفا عنه أو قتله) إذا زاد مستوفى القصاص في النفس على حقه مثل أن يقتل وليه فيقطع المقتص أطرافه أو بعضها
نظرنا فان عفا عنه بعد قطع طرفه فعليه ضمان ما أتلف بديته وبهذا قال أبو حنيفة، وقال مالك والشافعي وابن المنذر وأبو يوسف ومحمد لا ضمان عليه ولكن قد أساء ويعزر وسواء عفا عن القاتل أو قتله لانه قطع طرفا من جملة استحق اتلافها فلم يضمنه كما لو قطع أصبعا من يد استحق قطعها ولنا أنه قطع طرفا له قيمة حال القطع بغير حق فوجب عليه ضمانه كما لو عفا عنه ثم قطعه أو كما
لو قطعه أجنبي، فأما ان قطعه ثم قتله احتمل أن يضمنه أيضا لانه يضمنه إذا عفا عنه فكذلك إذا لم يعف لان العفو احسان فلا يكون موجبا للضمان واحتمل أن لا يضمنه وهو قول أبي حنيفة لانه لو قطع متعديا ثم قتل لم يضمن الطرف فلان لا يضمنه إذا كان القتل مستحقا أولى، فأما القصاص فلا يجب في الطرف بحال ولا نعلم فيه خلافا، لان القصاص عقوبة تدرأ بالشبهات والشبهة ههنا متحققه لانه مستحق لاتلاف هذا الطرف ضمنا لاستحقاقه اتلاف الجملة ولا يلزم من سقوط القصاص أن لا تجب الدية بدليل امتناعه لعدم المكافأة، فأما ان كان الجاني قطع طرفه ثم قتله فاستوفى منه بمثل فعله فقد ذكرناه فيما مضى وان قطع طرفا غير الذي قطعه الجاني كان الجاني قطع يده فقطع المستوفي رجله احتمل أن يكون بمنزلة ما لو قطع يده لاستواء ديتهما واحتمل أن تلزمه دية الرجل لان الجاني لم يقطعها فأشبه ما لو لم يقطع يده.
(فصل) فأما ان كانت الزيادة في الاستيفاء من الطرف مثل أن يستحق قطع أصبع فقطع اثنتين
فحكمه حكم القاطع ابتداء ان كان عمدا من مفصل أو شجة يجب في مثلها القصاص فعليه القصاص في الزيادة وإن كان خطأ أو جرحا لا يوجب القصاص مثل من يستحق موضحة فاستوفى هاشمة فعليه ارش الزيادة إلا أن يكون ذلك بسبب من الجاني كاضطرابه حال الاستيفاء فلا شئ على المقتص لانه حصل بفعل الجاني، قال اختلفا هل فعله عمدا أو خطأ؟ فالقول قول المختص مع يمينه لان هذا مما لا يمكن الخطأ فيه وهو أعلم بمقصده، وإن قال المقتص حصل هذا باضطرابك أو فعل من جهتك فالقول قول المقتص منه لانه منكر فان سرى الاستيفاء الذي حصلت فيه الزيادة إلى نفس المقتص منه أو إلى بعض أعضائه مثل أن قطع أصبعه فسرى إلى جميع يده أو اقتص منه بآلة كالة أو مسمومة أو في حال حر مفرط أو برد شديد فسرى فقال القاضي على المقتص نصف الدية لانه تلف بفعلين جائز ومحرم ومضمون وغير مضمون فانقسم الواجب عليها نصفين كما لو جرحه جرحا في ردته وجرحا بعد اسلامه فمات منهما وهذا كله مذهب الشافعي.
قال شيخنا: ويحتمل أن يلزمه ضمان السراية كلها فيما إذا اقتص بآلة مسمومة أو كالة لان الفعل كله محرم بخلاف قطع الاصبعين
(فصل) فأما إن قطع بعض أعضائه ثم قتله بعد أن برأت الجراح مثل من قطع يديه ورجليه فبرأت جراحته ثم قتله فقد استقر حكم القطع ولولي القتيل الخيار ان شاء عفا وأخذ ثلاث ديات لنفسه ويديه ورجليه لكل واحد دية وإن شاء قتله قصاصا بالقتل وأخذ ديتين لاطرافه.
وإن أحب قطع أطرافه
الاربعة وأخذ دية لنفسه، وإن أحب قطع يديه وأخذ ديتين لنفسه ورجليه، وإن أحب قطع طرفا واحدا وأخذ دية الباقي وكذلك سائر فروعها لان حكم القطع استقر قبل القتل بالاندمال فلم يتغير حكمه بالقتل الحادث بعده كما لو قتله أجنبي ولا نعلم خلافا في هذا (فصل) فان اختلف الجاني والولي في اندمال الجرح قبل القتل وكانت المدة بينهما يسيرة لا يحتمل اندماله في مثلها فالقول قول الجاني بغير يمين، وان اختلفا في مضي المدة فالقول قول الجاني مع يمينه لان الاصل عدم مضيها، وان كانت المدة مما يحتمل البرء فيها فالقول قول الولي مع يمينه لانه قد وجد سبب وجوب دية اليدين بقطعهما والجاني يدعي سقوط ديتهما بالقتل والاصل عدم ذلك، فان كانت للجاني بينة ببقاء المجني عليه ضمنا حتى قتله حكم له ببينته، وان كانت للولي ببرئه حكم له أيضا فان تعارضتا قدمت بينة الولي لانها مثبتة للبرء ويحتمل أن يكون القول قول الجاني إذا لم يكن لهما بينة لان الاصل بقاء الجراحة وعدم اندمالها، وان قطع أطرافه فمات واختلفا هل برأ قبل الموت أو مات بسراية الجرح أو قال الولي انه مات بسبب آخر كأن لدغ أو ذبح نفسه أو ذبحه غيره فالحكم فيما إذا مات بغير سبب كالحكم فيما إذا قتله سواء، وأما إذا مات بقتل أو سبب آخر ففيه وجهان (أحدهما) تقديم قول الجاني لان الظاهر ابقاء الجناية والاصل عدم سبب آخر فيكون الظاهر معه (والثاني) القول قول ولي الجناية لان الاصل بقاء الديتين اللتين وجد سببهما حتى يوجد ما يزيلهما
فان كانت دعواهما بالعكس فقال الولي مات من سراية قطعك فعليك القصاص في النفس فقال الجاني بل اندملت جراحته قبل موته أو ادعى موته بسبب آخر فالقول قول الولي مع يمينه لان الجرح سبب للموت وقد تحقق والاصل عدم الاندمال وعدم سبب آخر يحصل الزهوق به وسواء كان الجرح
مما يجب به القصاص في الطرف كقطع اليد من مفصل أو لا يوجبه كالجائفة والقطع من غير مفصل وهذا كله مذهب الشافعي (فصل) فان قتل واحد جماعة فرضوا بقتله قتل لهم ولا شئ لهم سواه وجملة ذلك أنه إذا قتل واحد اثنين أو أكثر فاتفق أولياؤهم على قتله بهم قتل لهم لان الحق لهم وقد رضوا به ولا شئ لهم سواه لان الحق لا يتسع لاكثر من واحد فان أراد أحدهم القود والآخرون الدية قتل لمن اختار القود وأعطي الباقون دية قتلاهم من مال القاتل سواء كان المختار للقود الاول أو الثاني أو من بعده وسواء قتلهم دفعة واحدة أو دفعتين أو دفعات فان بادر أحدهم فقتله وجب للباقين دية قتلاهم في ماله أيهم كان وقال أبو حنيفة ومالك يقتل بالجماعة وليس لهم إلا ذلك فان طلب بعضهم الدية فليس له وان بادر أحدهم فقتله سقط حق الباقين لان الجماعة لو قتلوا واحدا قتلوا به فكذلك إذا قتلهم واحد قتل بهم كالواحد بالواحد وقال الشافعي لا يقتل الا بواحد سواء
اتفقوا على الطلب للقصاص أو لم يتفقوا لانه إذا كان لكل واحد استيفاء القصاص فاشتراكهم في المطالبة لا يوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق ولنا على أبي حنيفة قول النبي صلى الله عليه وسلم " فمن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ان أحبوا قتلوا وان أحبوا أخذوا العقد " فظاهر هذا أن أهل كل قتيل يستحقون ما اختاروه من القتل أو الدية فإذا اتفقوا على القتل وجب لهم وان اختار بعضهم الدية وجبت له بظاهر الخبر ولا نهما جنايتان لا تتداخلان إذا كانتا خطأ أو إحداهما فلم تتداخل في العمد كالجناية على الاطراف وقد سلموها ولنا على الشافعي انه محل تعلقت به حقوق لا يتسع لها مع رضى المستحقين به عنها فيكتفي به كما لو قتل عبد عبيدا خطأ فرضي سيدهم باخذه عنهم ولانهم رضوا بدون حقهم فجاز كما لو رضي صاحب الصحيحة بالشلاء وولي الحر بالعبد والمسلم بالكافر وفارق ما إذا كان القتل خطأ فان ارش الجناية يجب في الذمة والذمة تتسع لحقوق كثيرة وما ذكره أبو حنيفة ومالك فلا يصح لان الجماعة انما قتلوا بالواحد لئلا يؤدي الاشتراك إلى اسقاط القصاص تغليظا للقصاص ومبالغة في الزجر وفي مسئلتنا
ينعكس هذا فانه إذا علم أن القصاص واجب عليه بقتل واحد ولا يزاد بقتل الثاني والثالث بادر إلى قتل من يريد قتله فيصير هذا كاسقاط القصاص عنه ابتداء مع الدية (مسألة) (وان تشاحوا فيمن يقتله منهم على الكمال اقيد للاول)
لان حقه أسبق ولان المحل صار مستحقا له بالقتل الاول فان عفى ولي الاول فلولي الثاني قتله وان طالب ولي الثاني قبل طلب الاول بعث الحاكم إلى ولي الاول فأعلمه، وان بادر الثاني فقتله فقد أساء وسقط حق الاول إلى الدية فان كان ولي الاول غائبا أو صغيرا أو مجنونا انتظر، وإن عفى أولياء الجميع إلى الديات فلهم ذلك فان قتلهم دفعة واحدة وتشاحوا في المستوفي اقرع بينهم فيقدم من تقع له القرعة لتساوي حقوقهم فان بادر غيره فقتله استوفى حقه وسقط حق الباقين إلى الدية فان قتلهم متفرقا وأشكل الاول وادعى ولي كل واحد أنه الاول ولا بينه لهم فأقر القاتل لاحدهم قدم باقراره والا أقرعنا بينهم لاستواء حقوقهم.
(مسألة) (وإن قتل وقطع طرفا قطع طرفه أولا ثم قتل لولي المقتول سواء تقدم القتل أو تأخر) وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك يقتل ولا يقطع لانه إذا قتل تلف الطرف فلا فائدة في القطع فأشبه ما لو كان لواحد ولنا أنهما جنايتان على رجلين فلم تداخلا كقطع يدي رجلين وما ذكره من القياس لا يصح فانه قد قال لو قطع يد رجل ثم قتله يقصد المثلة به قطع ونحن نوافقه على هذا في رواية فقد حصل الاجماع منا ومنه على التفاء التداخل في الاصل فكيف نقيس عليه؟ ولكنه ينقلب دليلا عليه فنقول قطع وقتل فيستوفي منه مثل ما فعل كما لو فعله برجل واحد يقصد المثلة ويثبت الحكم في محل
النزاع بطريق التنبيه فانه إذا لم يتداخل حق الواحد فحق الاثنين أولى ويبطل بهذا فانه ما فانه من المعنى (فصل) فاما ان قطع يد رجل ثم قتل آخر ثم سرى القطع إلى نفس المقطوع فمات فهو قاتل لهما فإذا تشاحنا في المستوفي لقتل قتل بالذي قتله لان وجوب القتل عليه به اسبق فان القتل بالذي قطعه
انما وجب عند السراية وهي متأخرة عن قتل الآخر وأما القطع فان قلنا انه يستوفي منه مثل ما فعل فانه يقطع له أولا ثم يقتل للذي قتله ويجب للاول نصف الدية وان قلنا لا يستوفي القطع وجبت له الدية كاملة ولم يقطع طرفه ويحتمل أن يجب له القطع على كل حال لان القطع انما يدخل في القتل عند استيفاء القتل فإذا تعذر استيفاء القتل وجب استيفاء الطرف لوجود مقتضيه وعدم المانع من استيفائه كما لو لم يسرف (فصل) وان قطع أصبعا من يمين لرجل ويمينا لاخر وكان قطع الاصبع أسبق قطعت أصبعه قصاصا وخير الآخر بين العفو إلى الدية وبين القصاص وأخذ دية الاصبع، ذكره القاضي وهو اختيار ابن حامد ومذهب الشافعي لانه وجد بعض حقه فكان له استيفاء الموجود وأخذ بدل المفقود كمن أتلف مثليا لرجل فوجد بعض المثل وقال أبو بكر يتخير بين القصاص ولا شئ له معه وبين الدية هذا قياس قوله وهو مذهب أبي حنيفة لانه لا يجمع في عضو واحد بين قصاص ودية كالنفس، وإن كان قطع اليد سابقا على قطع الاصبع قطعت يمينه قصاصا ولصاحب الاصبع ارشها ويفارق هذا ما إذا قتل رجلا ثم قطع يد آخر حيث قدمنا استيفاء القطع مع تأخره لان قطع اليد لا يمنع التكافؤ في النفس
بدليل اننا نأخذ كامل الاطراف بناقصها فان ديتهما واحدة وبعض الاصبع يمنع التكافؤ في اليد بدليل أنا لا نأخذ الكاملة بالناقصة واختلاف ديتهما، وإن عفا صاحب اليد قطعت الاصبع لصاحبها إن اختار قطعها (مسألة) (وإن قطع أيدي جماعة فحكمهم حكم القتل على ما ذكرنا من التفصيل والاختلاف) إلا أن أصحاب الرأي قالوا إذا قطع يميني رجلين يقاد لهما جميعا ويغرم لهما دية اليد في ماله نصفين وهذا لا يصح لانه يفضي إلى ايجاب القود في بعض العضو والدية في بعضه والجمع بين البدل والمبدل في محل واحد ولم يرد الشرع به ولا نظير له يقاس عليه باب العفو عن القصاص أجمع أهل العلم على اجازة العفو عن القصاص وانه أفضل والاصل في ذلك الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقوله تعالى في سياق قوله (كتب عليكم القصاص في القتلى) (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه باحسان) وقال تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) الآية إلى قوله
(فمن تصدق به فهو كفارة له) قيل في تفسيره فهو كفارة للجاني بعفو صاحب الحق عنه وقيل فهو كفارة للعافي بصدقته.
وأما السنة فان أنس بن مالك قال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه من شئ فيه قصاص إلا أمر
فيه بالعفو رواه أبو داود، وفي حديثه في قصة الربيع بنت النضر حين كسرت سن جارية فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص فعفا القوم (مسألة) (والواجب بقتل أحد شيئين القصاص أو الدية في ظاهر المذهب والخيرة في ذلك إلى الولي إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا إلى غير شئ والعفو أفضل لما ذكرنا) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في موجب العمد فروي عنه ان موجبه القصاص عينا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من قتل عمدا فهو قود " ولقوله سبحانه (كتب عليكم القصاص) والمكتوب لا يتخير فيه ولانه متلف يجب به البدل فكان معينا كسائر أبدال التلفات وبه قال النخعي ومالك وأبو حنيفة، قالوا ليس للاولياء إلا القتل إلا أن يصطلحا على الدية برضي الجاني، والمشهور في المذهب ان الواجب أحد شيئين وان الخيرة في ذلك إلى الولي إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن شاء قتل البعض إذا كان القاتلون جماعة لان كل من لهم قتله فلهم العفو عنه كالمنفرد ولا يسقط القصاص عن البعض بعفو البعض لانهما شخصان فلا يسقط القصاص عن أحدهما باسقاطه عن الآخر كما لو قتل واحد رجلا، ومتى اختار الاولياء أخذ الدية من القاتل أو من بعض القتلة فان لهم هذا متى رضى الجاني وبهذا قال سعيد بن المسيب وابن سيرين وعطاء ومجاهد والشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وهي رواية عن مالك لقول الله تعالى (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء
إليه باحسان) قال ابن عباس كان في بني اسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية فأنزل الله تعالى هذه الآية (كتب عليكم القصاص في القتلى) الاية، (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه باحسان) والعفو أن يقبل في العمد الدية فاتباع بالمعروف يتبع الطالب بمعروف ويؤدي إليه المطلوب
باحسان (ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) مما كتب على من قبلكم رواه البخاري، وروى أبو هريرة قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودى وإما أن يقاد " متفق عليه.
وروى أبو شريح ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل " وأنا والله عاقله، فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية " رواه أبو داود وغيره ولان القتل المضمون إذا سقط فيه القصاص من غير ابراء ثبت المال كما لو عفا بعض الورثة ويخالف سائر المتلفات لان بدلها يجب من جنسها وههنا يجب في الخطأ وعمد الخطأ من غير الجنس فإذا رضي في العمد ببدل الخطأ كان له ذلك لانه أسقط بعض حقه، ولان القاتل أمكنه احياء نفسه ببذل الدية فلزمه وينتقض ما ذكروه بما إذا كان رأس الشاج أصغر أو يد القاطع أنقص فانهم سلموا فيهما، وأما الخبر الذي ذكروه فالمراد به وجوب القود ونحن نقول به وللشافعي قولان كالروايتين فإذا قلنا موجبه القصاص فله العفو إلى الدية والعفو مطلقا فإذا عفا مطلقا لم يجب شئ وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم تجب الدية لئلا يطل الدم وليس بشئ لانه لو عفا عن الدية بعد وجوبها صح عفوه فمتى عفا عن القصاص مطلقا إلى غير مال لم يجب شئ إذا قلنا الواجب القصاص عينا، فان عفا عن الدية لم يصح عفوه لانها لم تجب وإن قلنا الواجب أحد شيئين لا بعينه فعفا عن
القصاص مطلقا أو إلى الدية وجبت الدية لان الواجب غير معين، فإذا ترك أحدهما تعين الآخر وان اختار الدية سقط القصاص ولم يملك طلبه لان الواجب أحد شيئين فإذا تعين أحدهما سقط الآخر فان اختار القصاص تعين لذلك فان اختار بعد ذلك العفو إلى الدية فله ذلك ذكره القاضي لان القصاص أعلى فكان له الانتقال إلى الادنى ويكون بدلا عن القصاص وليست التي وجبت بالقتل كما قلنا في الرواية الاولى ان الواجب القصاص عينا وله العفو إلى الدية ويحتمل انه ليس له ذلك لانه أسقطها باختياره القود فلم يعد إليها عنه ان الواجب القصاص عينا وله العفو إلى الدية وإن سخط الجاني لما ذكرنا (فصل) إذا جنى عبد على حر جناية موجبة للقصاص فاشتراه المجني عليه بارش الجناية سقط القصاص لان عدو له إلى الشراء اختيار للمال ولا يصح الشراء لانهما إن لم يعرفا قدر الارش فالثمن
مجهول وإن عرفا عدد الابل وأسنانها فصفتها مجهولة والجهل بالصفة كالجهل بالذات في فساد البيع، ولذلك لو باعه شيئا بحمل جذع غير معروف الصفة لم يصح فان قدر الارش بذهب أو فضة فباعه به صح (فصل) ومتى كان القصاص لمجنون أو لصغير لم يجز العفو إلى غير مال للولي لانه لا يملك إسقاط حقه وقد ذكرناه.
(فصل) ويصح عفو المفلس والمحجور عليه لسفه عن القصاص لانه ليس بمال، وإن أراد المفلس
القصاص لم يكن.
لغرمائه إجباره على تركه، وإن أحب العفو عنه إلى مال فله ذلك لان فيه حظا للغرماء وإن أراد العفو إلى غير مال انبني على الروايتين إن قلنا ان الواجب القصاص عينا فله ذلك لانه لم يثبت له مال يتعلق به حق الغرماء، وإن قلنا الواجب أحد شيئين لم يملكه لان المال يجب بقوله عفوت عن القصاص فقوله على غير مال اسقاط له بعد وجوبه وتعينه ولا يملك ذلك وهكذا الحكم في السفيه ووارث المفلس، وإن عفا المريض على غير مال فذكر القاضي في موضع انه يصح سواء خرج من الثلث أو لم يخرج وذكر ان أحمد نص على ذلك وقال في موضع يعتبر خروجه من ثلثه ولعله ينبني على الروايتين في موجب العمد على ما مضى (مسألة) (وان مات القاتل وجبت الدية في تركته) لانه تعذر استيفاء القصاص من غير اسقاط فوجبت الدية كقتل غير المكافئ وان لم يخلف تركة سقط الحق لتعذر استيفائه (مسألة) (وان قطع اصبعا عمدا فعفا عنه ثم سرت إلى الكف أو النفس وكان العفو على مال فله تمام الدية وان عفا على غير مال فلا شئ له على ظاهر كلامه ويحتمل ان له تمام الدية وان عفا مطلقا انبنى على الروايتين في موجب العمد)
وجملة ذلك انه إذا جنى على إنسان فيما دون النفس جناية توجب القصاص كالاصبع فعفا عن القصاص ثم سرت الجناية إلى نفسه فمات لم يجب القصاص وبه قال أبو حنيفة والشافعي وحكي عن مالك ان
القصاص يجب لان الجناية صارت نفسا ولم يعف عنها ولنا أنه يتعذر استيفاء القصاص في النفس دون ما عفا عنه فسقط في النفس كما لو عفا بعض الاولياء ولان الجناية إذا لم يكن فيها قصاص مع امكانه لم يجب في سرايتها كما لو قطع يد مرتد فاسلم ثم مات منها ثم ينظر فان كان عفا على مال فله الدية كاملة وان عفا على غير مال وجبت الدية إلا ارش الجرح الذي عفا عنه وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة تجب الدية كاملة لان الجناية صارت نفسا وحقه في النفس لا فيما عفا عنه وأنما سقط القصاص للشبهة، وان قال عفوت عن الجناية لم يجب شئ لان الجناية لا تختص القطع وقال القاضي فيما إذا عفا عن القطع ظاهر كلام أحمد ال لا يجب شئ وبه قال أبو يوسف ومحمد لانه قطع غير مضمون فكذلك سرايته ولنا أنها سراية جناية أوجبت الضمان فكانت مضمونة كما لو لم يعف وإنما سقطت دينها بعفوه عنها فيختص السقوط بما عفا عنه دون غيره والعفو عنه عشر الدية لان الجناية أوجبته فإذا عفا سقط ما وجب دون ما لم يجب فإذا صارت نفسا وجب بالسراية ما لم يعف عنه ولم يسقط إرش الجرح إذا لم يعف وإنما تكملت الدية بالسراية
(فصل) فإن كان الجرح لا قصاص فيه كالجائفة ونحوها فعفا عن القصاص فيه ثم سرى إلى النفس فلوليه القصاص لان القصاص لم يجب في الجرح فلم يصح العفو عنه وإنما وجب القصاص بعد عفوه وله العفو عن القصاص وله كمال الدية، وإن عفا عن دية الجرح صح وله بعد السراية دية النفس الارش الجرح، ولا يمتنع وجوب القصاص في النفس مع أنه لا يجب كمال الدية بالعفو عنه كما لو قطع يدا فإندملت وإقتص منها ثم إنتقضت وسرت إلى النفس فله القصاص في النفس وليس له العفو إلا على نصف الدية، فإن قطع يده من نصف الساعد فعفا عن القصاص ثم سرى فعلى قول أبي بكر لا يسقط قصاص في النفس لان القصاص لم يجب فهو كالجائفة ومن جزر القصاص من الكوع أسقط القصاص في النفس كما لو كان القطع من الكوع، وقال المزني لا يصح العفو عن دية الجرح قبل إندماله فلو قطع يدا فعفا عن ديتها وقصاصها ثم إندملت لم تسقط ديتها وسقط قصاصها لان القصاص قد وجب فيها فصح العفو
عنه بخلاف الدية ولا يصح لان دية الجرح إنما وجبت بالجناية إذ هي السبب ولهذا لو جنى على طرف عبد ثم باعه قبل برثه كان إرش الطرف لبائعه لا لمشتريه وتأخير المطالبة به لا يلزم منه عدم الوجوب وإمتناع صحة العفو كالدين المؤجل لا يملك المطالبة به ويصح إسقاطه كذا ههنا (فصل) وإن قطع إصبعا فعفا المجني عليه عن القصاص ثم سرت إلى الكف ثم إندمل لم يجب القصاص لما ذكرنا في النفس ولان القصاص سقط في الاصبع بالعفو فصارت اليد ناقصة لا تؤخذ بها
الكاملة ثم إن كان العفو إلى الدية وجبت دية اليد كاملة، وإن كان على غير مال خرج فيه من الخلاف ما ذكرنا فيما إذا سرت إلى النفس، فعلى هذا يجب ههنا دية الكف الا دية الاصبع ذكره أبو الخطاب وهو مذهب الشافعي، وقال القاضي ظاهر كلام أحمد أنه لا يجب شئ وهو قول أبي يوسف ومحمد لان العفو عن الجناية عفو عما يحدث منها وقد قال القاضي إن القياس فيما إذا قطع اليد ثم سرى إلى النفس إن يجب نصف الدية فيلزمه إن يقول مثل ذلك ههنا (فصل) فإن قال عفوت عن الجناية وما يحدث منها صح ولم يكن له في سرايتها قصاص، ولا دية في كلام أحمد (مسألة) (وإن قال الجاني عفوت مطلقا أو عفوت عنها وعن سرايتها قال بل عفوت إلى مال أو عفوت عنها دون سرايتها فالقول قول المجني عليه أو وليه أن كان الخلاف معه) لان الاصل عدم العفو عن الجميع وقد ثبت العفو عن البعض بإقراره فيكون القول في عدم سواء قوله (مسألة) (وإن قتل الجاني العافي عمدا فلوليه القصاص أو الدية كاملة وقال القاضي له القصاص أو تمام الدية) إذا قطع يده فعفا عنه ثم عاد الجاني فقتل العافي فلو ليه القصاص وهو ظاهر مذهب الشافعي، وقال بعضهم لا قصاص لان العفو حصل عن بعضه فلا يقتل به كما لو سرى القطع إلى نفسه ولنا إن القتل إنفرد عن القطع فعفوه عن القطع لا يمنع ما وجب بالقتل كما لو كان القاطع غيره
وإن إختار الدية فقال القاضي إن كان العفو عن الطرف إلى غير دية فله بالقتل نصف الدية وهو ظاهر
مذهب الشافعي لان القتل إذا تعقب الجناية قبل الاندمال كان كالسراية ولذلك لو لم يعف لم يجب أكثر من دية والقطع يدخل في القتل في الدية دون القصاص، ولذلك لو أراد القصاص كان له أن يقطع ثم يقتل ولو صار الامر إلى الدية لم يجب إلا دية واحدة وقال أبو الخطاب له العفو إلى دية كاملة وهو قول بعض أصحاب الشافعي لان القطع منفرد عن القتل فلم يدخل حكم أحدهما في الاخر كما لو إندمل ولان القتل موجوب للقتل فأوجب الدية كاملة كما لو لم يتقدمه عفو، وفارق السراية فإنها لم توجب قتلا ولان السراية عفى عن سببها والقتل لم يعف عن شئ منه ولا عن سببه وسواء فيما ذكرنا كان العافي عن الجرح أخذ دية طرفه أو لم يأخذها (مسألة) (وإذا وكل رجلا في القصاص ثم عفا ولم يعلم الوكيل حتى إقتص فلا شئ.
عليه وهل يضمن العافي؟ يحتمل وجهين ويتخرج ان يضمن الوكيل ويرجع به على الموكل في أحد الوجهين لانه غره والآخر لا يرجع به ويكون الواجب حالا في ماله، وقال أبو الخطاب يكون على عاقلته) إذا وكل من يستوفى القصاص صح نص عليه أحمد فإن وكله ثم غاب وعفا الموكل عن القصاص وإستوفى الوكيل نظرنا فإن كان عفوه بعد القتل لم يصح لانه حقه قد أستوفي وإن كان قبله وقد علم الوكيل به فقد قتله ظلما فعليه القود كما لو قتله إبتداء وإن كان قتله قبل العلم بعفو الموكل فقال أبو بكر لا ضمان
على الوكيل فإنه لا تفريط منه فإن العفو حصل على وجه لا يمكن الوكيل إستدراكه فلم تلزمه ضمان كما لو عفا بعد ما رماه وهل يلزم الموكل الضمان؟ فيه قولان (أحدهما) لا ضمان عليه لان عفوه لم يصح لما ذكرنا من حصوله في حال لا يمكنه إستدراك الفعل فوقع القتل مستحقا له فلم يلزمه ضمان ولان العفو إحسان فلا يقتضي وجوب والضمان (والثاني) عليه الضمان لان قتل المعفو عنه حصل بإمره وتسليطه على وجه لا ذنب المباشر فيه فكان الضمان على الآمر كما لو أمره عبده الاعجمي بقتل معصوم، وقال غير أبي بكر يخرج في صحة العفو وجهاز بناء على الروايتين وهل تعزل بعزل الموكل قبل علمه أو لا؟ وللشافعي قولان كالوجهين، فإن قلنا لا يصح العفو فلا ضمان على أحد لانه قتل من يجب قتله بإمر مستحقه وإن قلنا يصح العفو فلا قصاص فيه لان الوكيل
قتل من يعتقد إباحة قتله بسبب هو معذور فيه فأشبه ما لو قتل في دار الحرب من يعتقده حربيا وتجب الدية على الوكيل لانه لو علم لوجب عليه القصاص فإذا لم يعلم تعلق به الضمان كما لو قتل مرتدا قبل علمه بإسلامه ويرجع بها على الموكل لانه غره بتسليطه على القتل وتفريطه في ترك أعلامه بالعفو فيرجع عليه كالغار في النكاح بحرية أمة ويحتمل أن لا يرجع عليه، لان العفو إحسان منه فلا يقتضي الرجوع عليه بخلاف الغار بالحرية، فعلى هذا تكون الدية في مال الوكيل إختاره القاضي وتكون حالة لانه متعمد للقتل لكونه قصده وإنما سقط عنه القصاص لمعنى آخر فهو كقتل الاب، وقال أبو الخطاب
تكون على عاقلته لانه أجري مجرى الخطأ فأشبه ما لو قتل في دار الحرب مسلما يعتقده حربيا، وهذا ظاهر كلام الخرقي لانه ليس بعمد محض ولهذا لم يجب به القصاص فيكون عمدا لخطأ فتحمله العاقلة وهذا إختيار شيخنا وقد دل على ذلك خبر المرأة التي قتلت جارتها وجنينها بمسطح فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالدية على عاقلتها، فعلى قول القاضي إن كان الموكل عفا إلى الدية فله الدية في تركة الجاني ولورثة الجاني مطالبة الوكيل بديته وليس للموكل مطالبة الوكيل بشئ، فإن قيل فلم قلتم فيما إذا كان القصاص لاخوين فقتله أحدهما فعليه نصف الدية ولاخيه مطالبته به في وجه؟ قلنا ثم أتلف حقه فرجع ببدله عليه ههنا أتلفه بعد سقوط حق الموكل عنه فإفترقا، وإن قلنا إن الوكيل يرجع على الموكل إحتمل أن يسقط الديتان لانه لا فائدة في أن يأخذها الورثة من الوكيل ثم يدفعوها إلى الموكل ثم يردها الموكل إلى الوكيل فيكون تكليفا لكل واحد منهم بغير فائدة ويحتمل أن يجب ذلك، لان الدية الواجبة في ذمة الوكيل لغير من للوكيل الرجوع عليه وإنما يتساقط الديتان إذا كان لكل واحد من الغريمين على صاحبه مثل ما له عليه ولانه قد يكون الديتان مختلفتين بأن يكون أحد المقتولين رجلا والآخر امرأة، فعلى هذا يأخذ ورثة الجاني ديته من الوكيل ويدفعون إلى الموكل دية وليه ثم يرد الموكل إلى الوكيل قدر ما غرمه، وإن أحال ورثة الجاني على الوكيل صح فإن كان الجاني أقل دية مثل أن يكون إمرأة قتلت رجلا فقتلها الوكيل فلورثتها إحالة الموكل بديتها لانه القدر الواجب لهم على الوكيل فيسقط عن الوكيل والموكل جميعا
ويرجع الموكل على ورثتها بنصف دية وليه وإن كان الجاني رجلا قتل إمرأة فقتله الوكيل فلورثة الجاني إحالة الموكل بدية المرأة، لان الموكل لا يستحق عليهم أكثر من ديتها ويطالبون الوكيل بنصف دية الجاني ثم يرجع به على الموكل.
(مسألة) (وإن عفا قاتله بعد الجرح صح وسواء عفا بلفظ العفو أو الوصية) لان الحق له فصح العفو عنه كما له وممن قال بصحة عفو المجروح عن دمه مالك وطاوس والحسن وقتادة والاوزاعي فإن قال عفوت عن الجناية وما يحدث منها ولم يكن له في سرايتها قصاص ولا دية في كلام أحمد، وقال أصحاب الشافعي إذا قال عفوت عن الجناية وما يحدث منها ففيه قولان (أحدهما) أنه وصيه فينبني على الوصية للقاتل وفيه قولان (أحدهما) لا يصح فتجب دية النفس إلا دية الجرح (والثاني) يصح فإن خرج من الثلث سقطت وإلا سقط منها بقدر الثلث ووجب الباقي (والقول الثاني) ليس بوصية لانه إسقاط في الحياة فلم يصح ويلزمه دية النفس إلا دية الجرح ولنا أنه أسقط حقه بعد إنعقاد سببه فسقط كما لو أسقط الشفعة بعد البيع، إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يخرج من الثلث أو لا يخرج لان موجب العمد القود في إحدى الروايتين أو أحد شيئين في الرواية الاخرى فما تعينت الدية ولا تعينت الوصية بمال ولذلك صح العفو من المفلس إلى غير مال، وأما جناية الخطأ فإذا عفا عنها ويحدث منها أعتبر خروجها من الثلث سواء عفا بلفظ العفو أو الوصية أو
الابراء أو غير ذلك، فإن خرجت من الثلث صح عفوه عن الجميع وإن لم تخرج من الثلث سقط عنه من ديتها ما إحتمله الثلث وبهذا قال مالك والثوري وأصحاب الرأي ونحوه قال عمر بن عبد العزيز والاوزاعي وإسحاق لان الوصية ههنا بمال (مسألة) (وإن أبرأه من الدية أو وصى له بها فهي وصية لقاتل هل تصح لقاتل؟ على روايتين) (أحداهما) تصح لكونها له لانها بدل عنه وتعتبر من الثلث كبقية أمواله هكذا ذكره في كتاب المقنع ولم يفرق بين العمد والخطأ والذي ذكره في كتاب المغني ما ذكر في التي قبل هذه المسألة (مسألة) (ولا يحتمل أن يصح عفوه عن المال ولا وصية، به لقاتل ولا غيره إذا قلنا أنه
يحدث على ملك الورثة لانه يكون مال غيره فلم يكن له التصرف فيه كسائر أموال الورثة) (مسألة) (وإن أبرأه القاتل من الدية الواجبة على عاقلته أو العبد من الجناية المتعلق أرشها برقبته لم يصح) لانه أبرأه من حق على غيره أشبه ما لو أبرأ زيدا من دين على عمرو، وإن أبرأ العاقلة أو السيد صح لانه أبرأهما من حق عليهما فصح كالدين الواجب عليهما (مسألة) (وإن وجب لعبد قصاص في الطرف أو جرح أو تعزير قذف فله طلبه والعفو عنه) لانه مختص به وليس ذلك لسيده لانه ليس يحق له إلا أن يموت العبد فإذا مات العبد إنتقل عنه إلى السيد وصح عفوه عنه.
باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس كل من أقيد بغيره في النفس أقيد به فيما دونها ومن لا فلا لان النفس أعلى فإذا أقيد في الاعلى ففي الادنى بطريق الاولى وعنه لا قصاص بين العبيد في الاطراف لانها أموال وقد ذكرناه والمذهب الاول، ومن لا يجري القصاص بينهما في الطرف كالاب مع إبنه والحر مع العبد والمسلم مع الكافر فلا يقطع طرفه بطرفه لعدم المكافأة فيقطع الحر المسلم بالحر المسلم والعبد بالعبد والذمي بالذمي والذكر بالانثى والانثى بالذكر ويقطع الناقص بالكامل كالعبد بالحر والكافر بالمسلم وبهذا قال مالك والثوري والشافعي وأبو ثور وإسحاق وإبن المنذر وقال أبو حنيفة لا قصاص في الطرف بين مختلفي البدل فلا يقطع الكامل بالناقص والا الناقص بالكامل ولا الرجل بالمرأة ولا المرأة بالرجل ولا الحر بالعبد ولا العبد بالحر ولا العبد بالعبد ويقطع المسلم بالكافر والكافر بالمسلم لان التكافؤ معتبر في الاطراف بدليل إن الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء ولا الكاملة بالناقصة فلذا لا يؤخذ طرف الرجل بطرف المرأة ولا طرفها بطرفه كما لا تؤخذ اليسرى باليمنى ولنا إن من جرى القصاص بينهما في النفس جرى في الطرف كالحرين وما ذكروه يبطل بالقصاص في النفس فإن التكافؤ معتبر بدليل إن المسلم لا يقتل بمستأمن يلزمه أن يأخذ الناقصة بالكاملة لان
المماثلة قد وجدت وزيادة فوجب أخذها بها إذا رضي المستحق كما تؤخذ ناقصة الاصابع بكاملة الاصابع
وأما اليسار واليمنى فيجريان مجرى النفسين لاختلاف محلبهما ولهذا يستوي بدلهما فعلم إنها ليست بناقصة عنها شرعا ولا العلة فيهما ذلك (مسألة) (ولا يجب إلا بمثل الموجب في النفس وهو العمد المحض كما لا يجب في النفس إلا بذلك ووجوب القصاص فيما دون النفس والاطراف إذا أمكن ثابت بالنص والاجماع) أما النص فقول الله تعالى (والجروح قصاص) وقوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين) الآية.
وروى أنس بن مالك إن الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية فعرضوا عليهم الارش فأبوا إلا القصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال يا رسول الله نكسر ثنية الربيع؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " يا أنس كتاب الله القصاص " فإن فعفا القوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لابره " متفق عليه.
وأجمع المسلمون على جريان القصاص فيما دون النفس إذا أمكن ولان ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى حفظه بالقصاص فكان كالنفس في وجوبه.
(فصل) فأما الخطأ فلا قصاص فيه إجماعا لانه لا يوجب القصاص في النفس وهي الاصل ففيما
دونها أولى ولا يجب في شبه العمد وهو أن يقصد ضربه بما لا يفضي إلى ذلك غالبا مثل أن يضربه بحصاة لا يوضح مثلها فتوضحه فلا يجب به القصاص لانه شبه عمد ولا يجب القصاص إلا بالعمد المحض وقال أبو بكر يجب به القصاص ولا يراعى فيه ذلك لعموم الآية والصحيح الاول والآية مخصوصة بالخطأ فكذلك هذا ولانه لا يجب به القصاص في النفس فكذلك الجراح (مسألة) (وهو نوعان) (أحدهما) الاطراف فتؤخذ العين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجفن بالجفن والشفة بالشفة واليد باليد والرجل بالرجل أجمع أهل العلم على جريان القصاص في الاطراف وقد ثبت ذلك بالآية وبخبر الربيع الذي ذكرناه (مسألة) (ويشترط للقصاص في الطرف ثلاثة شروط (أحدهما) أن يكون القطع من مفصل أو له حد ينتهي إليه كما إن الانف وهو ما لان منه فإن قطع القصبة أو قطع من نصف الساعد أو الساق فلا
قصاص في أحد الوجهين وفي الآخر يقتص من حد المارن ومن الكوع والكعب وهل يجب له أرش الباقي؟ على وجهين أجمعوا على جريان القصاص في الانف للآية والمعنى ويؤخذ الكبير بالصغير والاقنى بالافطس وأنف الاشم بأنف الاخشم الذي لا شم له لان ذلك لعلة في الدماغ والانف صحيح كما تؤخذ أذن السميع بأذن الاصم فإن
كان بأنفه جذام أخذ به الانف الصحيح ما لم يسقط منه شئ لان ذلك مرض فإن سقط منه شئ لم يؤخذ به الصحيح إلا أن يكون من أحد جانبيه فيؤخذ من الصحيح مثل ما بقي منه أو يأخذ إرش ذلك والذي يجب فيه القصاص أو الدية هو المارن وهو ما لان منه دون القصبة لان ذلك حد ينتهي إليه فهو كاليد يجب القصاص فيما أنتهى إلى الكوع فإن قطع الانف كله مع القصبة فعليه القصاص في المارن وحكومة للقصبة هذا قول إبن حامد ومذهب الشافعي، وفيه وجه آخر أنه لا يجب مع القصاص حكومة كيلا يجمع في عضو واحد بين قصاص ودية وقياس قول أبي بكر أنه لا يجب القصاص ههنا لانه يضع الحديدة في غير الموضع الذي وضعها الجاني فيه فلم يملك ذلك لقوله فيمن قطع اليد من نصف الذراع أو الكف: وذكر القاضي ههنا كقول أبي بكر وفي نظائره مثل قول إبن حامد ولا يصح التفريق مع التساوي، وإن قطع بعض الانف قدر بالاجزاء وأخذ منه بقدر ذلك ولا يؤخذ بالمساحة لئلا يفضي إلى قطع جميع أنف الجاني ببعض أنف المجني عليه لكبره ويؤخذ المنخر الايمن بالايمن والايسر بمثله ويؤخذ الحاجز بالحاجز لانه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى حد (فصل) وتؤخذ العين بالعين للآية ولا يشترط التساوي في الصغر والكبر والصحة والمرض لان إعتبار ذلك يفضي إلى سقوط القصاص بالكلية
(فصل) وتؤخذ الاذن بالاذن، أجمع أهل العلم على أن الاذن تؤخذ بالاذن وقد دلت الآية على ذلك ولانها تنتهي إلى حد فاصل فأشبهت اليد وتؤخذ الكبيرة بالصغيرة وتؤخذ أذن السميع بمثلها وبأذن الاصم وتؤخذ أذن الاصم بكل واحد منهما لتساويهما فإن ذهاب السمع نقص في الرأس لانه
محله وليس بنقص فيهما وتؤخذ الصحيحة بالمثقوبة لان الثقب ليس بعيب وإنما يفعل في العادة للقرط والتزين به فإن كان الثقب في غير محله أو كانت مخرومة أخذت بالصحيحة ولم تؤخذ الصحيحة بها لان الثقب إذا إنخرم صار نقصا فيها والثقب في غير محله عيب ويخير المجني عليه بين أخذ الدية إلا قدر النقص وبين أن يقتص فيما سوى المعيب ويتركه من إذن الجاني وقد وجوب الحكومة له في قدر النقص وجهان، وإن قطعت بعض أذنه فله أن يقتص من أذن الجاني بقدر ما قطع من أذنه ويقدر ذلك بالاجزاء فيؤخذ النصف بالنصف وعلى حسب ذلك، وقال بعض أصحاب الشافعي لا يجري القصاص في البعض لانه لا ينتهي إلى حد ولنا أنه يمكن تقدير المقطوع وليس فيها كسر عظم فجرى القصاص في بعضها كالذكر وبهذا ينتقض ما ذكروه (فصل) ونؤخذ الاذن المستخشفة بالصحيحة، وهل تؤخذ الصحيحة بها؟ فيه وجهان (أحدهما) لا تؤخذ بها لانها ناقصة معيبه فلم تؤخذ بها الصحيحة كاليد الشلاء وسائر الاعضاء
(والثاني) تؤخذها بها لان المقصود منها جمع الصوت وحفظ محل السمع والجمال، وهذا يحصل بها كحصوله بالصحيحة بخلاف سائر الاعضاء (فصل) فإن قطع أذنه فأبانها فألصقها صاحبها فالتصقت وثبتت فقال القاضي يجب القصاص وهو قول الثوري والشافعي وإسحاق لانه وجب بالابانة وقد وجدت، وقال أبو بكر لا قصاص فيها وهو قول مالك لا نها لم تبن على الدوام فلم يستحق إبانة أذن الجاني دواما فإن سقطت بعد ذلك قريبا أو بعيدا فله القصاص ويرد ما أخذ وعلى قول أبي بكر إذا لم تسقط له دية الاذن وهو قول أصحاب الرأي، وكذلك قول الاولين إذا أختار الدية وقال مالك لا عقل لها إذا عادت مكانها فأما إن قطع بعض أذنه فالتصق فله إرش الجرح ولا قصاص فيه، وإن قطع أذن انسان فإستوفى منه فألصق الجاني أذنه فالتصقت فطلب المجني عليه إبانتها لم يكن له ذلك لان الابانة قد حصلت والقصاص قد أستوفي فلم يبق قبله حق فأما إن كان المجني عليه لم يقطع جميع الاذن إنما قطع بعضها فالتصق كان للمجني عليه قطع جميها لانه إستحق إبانة جميعها ولم يكن أبانه والحكم في السن كالحكم في الاذن
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: