الفقه الحنبلي - الفيء - الامان - الهدنة
(فصل) وكلما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من وقف وقسمة أو فعله الائمة بعده فليس لاحد نقضه ولا تغييره وانما الروايات فيما استؤنف
فتحه على ما ذكرنا والذي قسم بين الغانمين ليس عليه خراج، وكذلك ما أسلم أهله عليه كالمدينة ونحوها فهي ملك لاربابها لهم التصرف فيها كيف شاؤا، وكذلك ما صولح أهله على ان الارض لهم كأرض اليمن والحيرة وبانقيا وما أحياه المسلمون كأرض البصرة كانت سبخة أحياها عتبة بن غزوان وعثمان بن أبي العاص (مسألة) (الضرب الثاني) ما جلا عنها أهلها خوفا وفزعا فهذه تصير وقفا بنفس الظهور عليها لان ذلك يتعين فيها لانها ليست غنيمة فنقسم فكان حكمها حكم الفيئ يكون للمسلمين كلهم، وعنه يكون حكمها حكم العنوة قياسا عليها، فعلى هذا لا تصير وقفا حتى يقفها الامام لان الوقف لا يثبت بنفسه (الضرب الثالث) ما صولحوا عليه وهو قسمان (أحدهما) أن يصالحهم على أن الارض لنا ونقرها معهم بالخراج فهذه تصير وقفا ايضا حكمها حكم ما ذكرنا لان النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر وصالح أهلها على أن يعمروا ارضها ولهم نصف ثمرتها فكانت للمسلمين دونهم، وصالح بني النضير على أن يجليهم من المدينة
ولهم ما أقلت الابل من المتعة والاموال الا الحلقة يعني السلاح وكانت مما أفاء الله على رسوله (القسم الثاني) ان يصالحم على الارض لهم ويؤدون الينا خراجها معلوما فهذه ملك لاربابها وهذا الخراج في حكم الجزيه متى أسلموا اسقط عنهم لان الخراج الذي ضرب عليها انما كان من أجل كفرهم فهو كالجزية على رؤوسهم فإذا أسلموا سقط كما تسقط الجزية وتبقى الارض ملكا لهم لا خراج عليها يتصرفون فيها كيف شاءوا بالبيع والهبة والرهن، وان انتقل إلى مسلم فلا خراج عليه لما ذكرنا (مسألة) (ويقرون فيها بغير جزية) لانهم في غير دار الاسلام بخلاف التي قبلها (مسألة) (والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الامام في الزيادة والنقصان على قدر الطاقة وعنه يرجع إلى ما ضربه عمر رضي الله عنه لا يزاد ولا ينقص وعنه تجوز الزيادة دون النقص) ظاهر المذهب أن المرجع في الخراج إلى اجتهاد الامام وهو اختيار الخلال وعامة شيوخنا لانه أجرة فلم يقدر بمقدار لا يختلف كأجرة المساكن وفيه رواية ثانية انه يرجع إلى ما ضربه عمر رضي
الله عنه لا يزاد عليه ولا ينقص منه لان اجتهاد عمر أولى من قول غيره كيف ولم ينكره أحد من الصحابة مع شهرته فكان اجماعا؟ وعنه رواية ثالثة أن الزيادة تجوز دون النقص لما روى عمر بن ميمون انه سمع عمر يقول لحذيفة وعثمان بن حنيف لعلكما حملتما الارض ما لا تطيق فقال عثمان والله لو زدت عليهم فلا تجهدهم فدل على اباحة الزيادة ما لم تجهدهم وأما الجزية فتذكر في باب عقد الذمة ان شاء الله تعالى
قال أحمد رضي الله عنه وأبو عبيد القاسم بن سلام: أعلى وأصح حديث في أرض السواد حديث عمرو بن ميمون، ويعني ان عمر رضي الله عنه وضع على كل جريب درهما وقفيزا، وقدر القفيز ثمانية ارطال يعني بالمكي، نص عليه أحمد واختاره القاضي فيكون ستة عشر رطلا بالعراقي، وقال أبو بكر قد قيل ان قدره ثلاثون رطلا وينبغي أن يكون من جنس ما تخرجه الارض لانه روي عن عمر انه ضرب على الطعام درهما وقفيز حنطة وعلى الشعير درهما وقفيز شعير ويقاس عليه غيره من الحبوب.
والجريب عشر قصبات في عشر قصبات والقصبة ستة أذرع بذراع عمر وهو ذراع وسط لا أطول ذراع ولا أقصرها وقبضة وإبهام قائمة، وما بين الشجر من بياض الارض تبع لها، فان ظلم في خراجه لم يحتسبه من العشر لانه ظلم فلم يحتسب به من العشر كالغصب، وعنه يحتسبه من العشر لان الاخذ لهما واحد اختاره أبو بكر وقد اختلف عن عمر رضي الله عنه قي قدر الخراج فروى أبو عبيد باسناده عن الشعبي ان عمر بعث ان حنيف إلى السواد فضرب الخراج على جريب الشعير درهمين وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب القضب وهو الرطبة ستة دراهم وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب الكرم عشرة دراهم وعلى جريب الزيتون اثني عشر درهما، هذا ذكره ابو الخطاب في كتاب الهداية وذكر بعده حديث عمرو بن ميمون الذي ذكرناه وهو أصح على ما ذكره أحمد وأبو عبيد
(مسألة) (وما لا يناله الماء مما لا يمكن زرعه فلا خراج عليه) لان الخراج أجرة الارض وما لا منفعة فيه لا أجرة له، وعنه يجب فيه الخراج إذا كان على صفة
يمكن إحياؤه ليحييه من هو في يده أو يرفع يده عنه فيحييه غيره وينتفع به (مسألة) (فان أمكن زرعه عاما بعد عام وجب نصف خراجه في كل عام) لان نفع هذه الارض على النصف فكذلك الخراج لكونه في مقابلة النفع (مسألة) (ويجب الخراج على المالك دون المستأجر) لانه يجب على رقبة الارض فكان على مالكها كما تجب الفطرة على مالك العبد وعنه انه على المستأجر كالعشر والاول اصح (مسألة) (والخراج كالدين يحبس به الموسر وينظر المعسر) لانه أجرة أشبه أجرة المساكن (مسألة) (ومن عجز عن عمارة أرضه أجبر على اجارتها أو رفع يده عنها) من كانت في يده أرض فهو أحق بها بالخراج كالمستأجر وتنتقل إلى وارثه بعده على الوجه الذي كانت في يد موروثه فان آثر بها احدا صار الثاني أحق بها، فان عجز من هي في يده عن عمارتها
وأداء خراجها أجبر على رفع يده عنها باجارة أو غيرها ويدفعها إلى من يعمرها ويقوم بخراجها لان الارض للمسلمين فلا يجوز تعطيلها عليهم (فصل) ويكره للمسلم أن يشتري من ارض الخراج المزارع لان في الخراج معنى الذلة وبهذا وردت الاخبار عن عمر رضي الله عنه وغيره ومعنى الشراء ههنا ان يتقبل الارض بما عليها من خراجها لان شراء هذه الارض غير جائز أو يكون على الرواية التي اجازت شراءها لكونه استنقاذا لها فهو كاستنقاذ الاسير (فصل) ويجوز لصاحب الارض ان يرشو العامل ليدفع عنه الظلم في خراجه لانه يتوصل بماله إلى كف اليد العادية عنه ولا يجوز له ذلك ليدفع له شيئا من خراجه لانه رشوة لابطال حق فحرمت على الآخذ والمعطي كرشوة الحاكم ليحكم له بغير الحق (مسألة) (وان رأى الامام المصلحة في اسقاط الخراج أو تخفيفه عن انسان جاز لانه فيئ فكان النظر فيه إلى الامام) ولانه لو أخذ الخراج وصار في يده جاز له ان يخص به شخصا إذا رأى المصلحة فيه فجاز له تركه بطريق الاولى
باب الفيئ وهو ما أخذ من مال المشركين بغير قتال كالجزية والخراج والعشر وما تركوه فزعا وخمس الغنيمة ومال من مات لا وارث له فهو معروف في مصالح المسلمين لهم كلهم فيه حق غنيهم وفقيرهم إلا العبيد هذا ظاهر كلام أحمد والخرقي وذكر أحمد رحمه الله الفيئ فقال فيه حق لكل المسلمين وهو بين الغني والفقير وقال عمر رضي الله عنه ما من أحد من المسلمين الا له في هذا المال نصيب إلا العبيد ليس لهم فيه شئ وقرأ عمر (ما افاء الله على رسوله من اهل القرى - حتى بلغ - والذين جاءوا من بعدهم) فقل استوعبت المسلمين عامة ولان عشت ليأتين الراعي بستر وحمير نصيبه منها لم تعرق فيه جبينه وذكر القاضي ان الفيئ مختص باهل الجهاد من المرابطين في الثغور وجند المسلمين ومن يقوم بمصالحهم لان ذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته لحصول النصرة والمصلحة به فلما مات صارت مختصة بالجند ومن يحتاج إليه المسلمون فصار لهم ذلك دون غيرهم فاما الاعراب ونحوهم ممن لا يعد نفسه للجهاد فلا حق لهم فيه والذين يعرضون إذا نشطوا يعطون من سهم سبيل الله من الصدقة قال القاضي ومعنى كلام أحمد أنه بين الغني والفقير يعني الذي فيه مصلحة للمسلمين من المجاهدين والقضاة والفقهاء قال ويحتمل ان يكون معنى كلامه ان لجميع المسلمين الانتفاع بذلك المال لكونه يصرف إلى من يعود نفعه إلى جميع المسلمين وكذلك ينتفعون بالعبور على القناطر والجسور المعقودة بذلك المال وبالانهار
والطرقات التي أصلحت به وسياق كلام احمد يدل على أنه غير مختص بالجند وإنما هو معروف في مصالح المسلمين لكن يبدأ بجند المسلمين لانهم أهم المصالح لكونهم يحفظون المسلمين فيعطون كفاياتهم فما فضل قدم الاهم فالاهم من عمارة الثغور وكفايتها بالكراع والسلاح وما يحتاج إليه ثم الاهم فالاهم من عمارة المساجد والقناطر واصلاح الطرق وكراء الانهار وسد بثوقها وارزاق القضاة والائمة والمؤذنين والفقهاء وما يحتاج إليه المسلمون وكلما يعود نفعه على المسلمين ثم يقسم ما فضل على المسلمين لما ذكرنا من الآية وقول عمر رضي الله عنه وللشافعي قولان كنحو ما ذكرناه
واستدلوا على ان أربعة اخماس الفيئ كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بما روى مالك بن أوس بن الحدثان قال سمعت عمر بن الخطاب والعباس وعليا يختصمان إليه في أموال النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر كانت أموال بني النضير مما افاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وكانت لرسول صلى الله عليه وسلم خالصا دون المسلمين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق منها على أهله نفقة سنة فما فضل جعله في الكراع والسلاح ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فوليها أبو بكر بمثل ماوليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وليتها بمثل ماوليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر متفق عليه الا ان فيه فيجعل ما بقي اسوة المال قال شيخنا وظاهر أخبار عمر تدل على ان لجميع المسلمين في الفيئ حقا وهو ظاهر الآية فانه لما قرأ الآية التي في سورة الحشر قال هذه استوعبت جميع المسلمين وقال ما أحد إلا له في هذا المال نصيب فاما أموال
بني النضير فيحتمل ان النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفق منها على أهله لان ذلك من أهم المصالح فبدأ بهم ثم جعل باقيه اسوة المال ويحتمل ان تكون أموال بني النضير اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفيئ وترك سائره لمن سمي في الآية وهذا مبين في قول عمر كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصا دون المسلمين (مسألة) (ولا يخمس وقال الخرقي يخمس فيصرف خمسه إلى أهل الخمس وباقيه في المصالح) ظاهر المذهب ان الفيئ لا يخمس نقلها أبو طالب فقال إنما تخمس الغنيمة وعنه يخمس كما تخمس الغنيمة اختارها الخرقي وهو قول الشافعي لقول الله تعالى (ما افاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) فظاهر هذا ان جميعه لهؤلاء وهو أهل الخمس وجاءت الاخبار دالة على اشتراك جميع المسلمين فيه عن عمر رضي الله عنه مستدلا بالآيات التي بعدها فوجب الجمع بينهما كيلا تتناقض الاية والاخبار وتتعارض وفي ايجاب الخمس فيه جمع بينهما وتوقيف فان خمسه لمن سمي في الاية وسائره يصرف إلى ما ذكر في الآيتين الآخيرتين والاخبار وقد روى البراء بن عازب قال لقيت خالي ومعه الراية فقلت إلى اين؟ قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل عرس بامرأة ابيه ان أضرب عنقه وأخمس ماله والرواية الاولى هي
المشهورة قال القاضي لم أجد بما قال الخرقي من ان الفيئ مخموس نصا فاحكيه وانما نص على أنه غير
مخموس وهذا قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر لانحفظ عن أحد قبل الشافعي في ان في الفيئ خمسا كخمس الغنيمة والدليل على ذلك قوله تعالى (وما افاء الله على رسوله منهم فما اوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) الايات إلى قوله (والذين جاءوا من بعدهم) فجعله كله لهم ولم يذكر خمسا ولما قرأ عمر هذه الاية قال هذه استوعبت جميع المسلمين (فصل) فان قلنا إنه يخمس صرف خمسه إلى أهل الخمس في الغنيمة عند من يرى تخميس الفيئ من أصحابنا وأصحاب الشافعي وحكمهما واحد لااختلاف بينهم في هذا لانه في معنى خمس الغنيمة ثم يصرف الباقي في مصالح المسلمين على ما ذكرنا ويبدأ بالاهم فالاهم من سد الثغور وارزاق الجند ونحو ذلك.
(مسألة) (فان فضل منه فضلة قسمه بين المسلمين ويبدأ بالمهاجرين ويقدم الاقرب فالاقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ينبغي ان يبدأ في القسمة بالمهاجرين ويقدم الاقرب فالاقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى أبو هريرة قال قدمت على عمر رضي الله عنه ثمانمائة ألف درهم فلما أصبح أرسل إلي نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم قد جاء الناس مال لم يأتهم مثله منذ كان الاسلام أشيروا علي بمن أبدأ؟ قالوا بك يا أمير المؤمنين إنك ولي ذلك قال لا ولكن ابدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم الاقرب فالاقرب
فوضع الديوان على ذلك وينبغي للامام أن يضع ديوانا يكتب فيه اسماء المقاتلة وقدر ارزاقهم ويجعل لكل طائفة عريفا يقوم بأمرهم ويجمعهم وقت العطاء ووقت الغزو لانه يروى ان النبي صلى الله عليه وسلم جعل عام خيبر على كل عشرة عريفا ويجعل العطاء في كل عام مرة أو مرتين ولا يجعل في أقل من ذلك لئلا يشغلهم عن الغزو ويبدأ ببني هاشم لانهم أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكرنا من خبر عمر ثم ببني المطلب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (انما بنوا هاشم وبنوا المطلب شئ واحد) وشبك بين أصابعه ثم ببني عبد شمس لانه أخو هاشم لابيه وأمه ثم بني نوفل لانه اخو هاشم لابيه ثم يعطي بني عبد الدار
وعبد العزى ويقدم عبد العزى لان فيهم اصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فان خديجة منهم وعلى هذا يعطى الاقرب فالاقرب حتى تنقضي قريش وهم بنو النضر بن كنانة وقيل بنو فهر بن مالك (مسألة) (ثم الانصار ثم سائر المسلمين وهل يفاضل بينهم؟ على روايتين).
يقدم الانصار بعد قريش لفضلهم وسابقتهم وآثارهم الجميلة ثم سائر العرب ثم العجم والموالي فان استوى اثنان في الدرجة قدم أسنهما ثم أقدمهما هجرة وسابقة ويخص في كل ذا الحاجة.
(فصل) واختلف الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم في قسم الفئ بين أهله فذهب ابو بكر رضي الله عنه إلى التسوية بينهم وهو المشهور عن علي رضي الله عنه فروي ان أبا بكر سوى بين الناس في العطاء وأدخل فيه العبيد فقال له عمر يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أتجعل الذين جاهدوا في سبيل
الله بأموالهم وانفسهم وهجروا ديارهم له كمن انما دخلوا في الاسلام كرها؟ فقال ابو بكر إنما عملوا لله وانما أجورهم على الله وانما الدنيا بلاغ فلما ولي عمر رضي الله عنه فاضل بينهم وأخرج العبيد فلما ولي علي رضي الله عنه سوى بينهم واخرج العبيد وذكر عن عثمان رضي الله عنه انه فضل بينهم في القسمة فعلى هذا مذهب اثنين منهم أبي بكر وعلي التسوية ومذهب اثنين عمر وعثمان التفضيل وقد روى عن احمد رحمه الله فروي عنه الحسن بن (علي) بن الحسن انه قال للامام أن يفضل قوما على قوم لان عمر قسم بينهم على السوابق وقال لا أجعل من قاتل على الاسلام كمن قوتل عليه، ولان النبي صلى الله عليه وسلم قسم النفل بين أهله متفاضلا على قدر غنائهم وهذا في معناه وروي عنه انه لا يجوز التفضيل قال ابو بكر اختار أبو عبد الله ان لا يفضلوا وهو قول الشافعي لما ذكرنا من فعل ابي بكر رضي الله عنه قال الشافعي إني رأيت انه قسم المواريث على العدد يكون الاخوة متفاضلين في الغناء عن الميت والصلة في الحياة والحفظ بعد الموت فلا يفضلون وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم اربعة أخماس الغنيمة على العدد ومنهم من يغني غاية الغناء ويكون الفتح على يديه ومنهم من يكون محضره إما غير نافع وإما ضرر ابا لجبن والهزيمة وذلك انهم استووا في سبب الاستحقاق وهو انتصابهم للجهاد فصاروا كالغانمين، قال شيخنا والصحيح ان شاء الله ان ذلك مفوض إلى اجتهاد الامام يفعل ما يراه
من تسوية وتفضيل لما ذكرنا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الانفال وهذا في معناه وقد روي عن عمر رضي الله عنه انه فرض للمهاجرين من اهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف ولاهل بدر من الانصار اربعة آلاف أربعه آلاف وفرض لاهل الحديبية ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف ولاهل الفتح الفين الفين.
(فصل) قال القاضي ويتعرف قدر حاجة اهل العطاء وكفايتهم ويزيد ذا الولد من اجل ولده
وذا الفرس من اجل فرسه وان كان له عبيد في مصالح الحرب حسبت مؤنتهم في كفايتهم وإن كانوا لزينة أو تجارة لم تحسب مؤنتهم وينظر في اسعارهم في بلدانهم لان اسعار البلاد تختلف والغرض الكفاية ولهذا تعتبر الذرية والولد فيختلف عطاؤهم لاختلاف ذلك وان كانوا سواء في الكفاية لا يفضل بعضهم على بعض وإنما تتفاضل كفايتهم ويعطون قدر كفايتهم في كل عام مرة وهذا والله أعلم على قول من رأى التسوية، فأما من رأى التفضيل فانه يفضل أهل السوابق والغناء في الاسلام على غيرهم بحسب ما يراه كما فعل عمر رضي الله عنه ولم يقدر ذلك بالكفاية والعطاء الواجب لا يكون إلا لبالغ يطيق مثله القتال ويكون عاقلا حرا بصيرا صحيحا ليس به مرض يمنعه القتال فان مرض الصحيح مرضا غير مرجو الزوال كالزمانة ونحوها خرج من المقاتلة وسقط سهمه فان كان مرضا مرجو الزوال كالحمى والصداع والبرسام لم يسقط عطاؤه لانه في حكم الصحيح ولذلك لا يستنيب في الحج كالصحيح.
(مسألة) (ومن مات بعد حلول وقت العطاء دفع إلى ورثته حقه لانه مات بعد الاستحقاق فانتقل حقه إلى وارثه كسائر الموروثات) (مسألة) (ومن مات من اجناد المسلمين دفع إلى امرأته وأولاده الصغار ما يكفيهم) لان فيه تطييب قلوب المجاهدين فمتى علموا ان عيالهم يكفون المؤنة بعد موتهم توفروا على
الجهاد وإذا علموا خلاف ذلك توفروا على الكسب وآثروه على الجهاد مخافة الضيعة على عيالهم ولهذا قال ابو خالد الهناي:
لقد زاد الحياة الي حبا بناتي انهن من الضعاف مخافة أن يرين الفقر بعدي وأن يشربن رنقا بعد صافي وأن يعرين ان كسي الجواري فتنبو العين عن كرم عجاف ولولا ذاك قد سومت مهري وفي الرحمن للضعفاء كافي ومتى تزوجت المرأة سقط حقها لانها خرجت عن عيال الميت (مسألة) (فإذا بلغ ذكورهم فاختاروا ان يكونوا في المقاتلة فرض لهم وان لم يختاروا تركوا سقط حقهم من عطاء المقاتلة
(باب الامان) يصح أمان المسلم المكلف ذكرا كان أو انثى حرا أو عبدا مطلقا أو أسيرا، وفي امان الصبي المميز روايتان) وجملة ذلك ان الامان إذا أعطي اهل الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم، ويصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار ذكرا كان أو انثى حرا أو عبدا وبهذا قال الثوري والشافعي والاوزاعي واسحاق وابن القاسم وأكثر اهل العلم وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه.
وقال ابو حنيفة وأبو يوسف: لا يصح امان العبد الا ان يكون مأذونا له في القتال لانه لا يجب عليه الجهاد فلا يصح امانه كالصبي ولانه مجلوب من دار الحرب فلا يؤمن ان ينظر لهم في تقديم مصلحتهم ولنا ما روى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منهم صرف ولا عدل) رواه البخاري والعبد إما أن يكون أدناهم فيصح امانه بالحديث أو يكون غيره أدنى منه فيصح امانه بطريق التنبيه.
وروى فضيل بن يزيد الرقاشي قال جهز عمر بن الخطاب جيشا فكنت فيهم فحضرنا موضعا فرأينا انا نستفتحها اليوم وجعلنا نقبل ونروح وبقي عبد منا فراطنهم وراطنوه فكتب لهم الامان في صحيفة وشدها على سهم ورمى بها إليهم فأخذوها وخرجوا فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب فقال:
العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم، رواه سعيد ولانه مسلم مكلف فصح أمانه كالحر والمرأة، وما ذكروه من التهمة يبطل بما إذا أذن له في القتال فانه يصح أمانه وبالمرأة.
(فصل) ويصح أمان المرأة في قول الجميع.
قالت عائشة رضي الله عنها ان كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز وعن ام هانئ انها قالت يارسول الله قد أجرت احمائي وأغلقت عليهم وان ابن أمي أراد قتلهم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ انما يجير على المسلمين أدناهم) رواهما سعيد.
وأجارت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا العاص بن الربيع فأمضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم (فصل) ويصح امان الاسير إذا عقده غير مكره لدخوله في عموم الخبر، ولانه مسلم مكلف مختار أشبه غير الاسير، وكذلك يصح امان الاجير والتاجر في دار الحرب وبهذا قال الشافعي، وقال الثوري لا يصح أمان احد منهم ولنا عموم الحديث والقياس.
فأما الصيي المميز ففيه روايتان (إحداهما) لا يصح امانه وهو قول أبي حنيفة والشافعي لانه غير مكلف ولا يلزمه بقوله حكم فلا يلزم غيره كالمجنون (والثانية) يصح امانه وهو قول مالك.
قال أبو بكر يصح امانه رواية واحدة وحمل رواية المنع على غير المكلف واحتج بعموم الحديث ولانه مسلم عاقل فصح امانه كالبالغ بخلاف المجنون فانه لا قول له أصلا (فصل) ولا يصح امان كافر وان كان ذميا لان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) فجعل الذمة للمسلمين فلا تحصل لغيرهم، ولانه تهم على الاسلام وأهله فأشبه الحربي ولا يصح امان مجنون ولا طفل لان كلامه غير معتبر فلا يثبت به حكم.
ولا يصح امان زائل العقل بنوم أو سكر أو إغماء لذلك ولانه لايعرف المصلحة من غيرها أشبه المجنون.
ولا يصح من مكره لانه قول اكره عليه بغير حق فلم يصح كالاقرار (مسألة) (ويصح أمان الامام لجميع الكفار وآحادهم)
لان ولايته عامة على المسلمين.
ويصح امان الامير لمن جعل باذائه من الكفار فأما في حق
غيرهم فهو كآحاد المسلمين لان ولايته على قتال اولئك دون غيرهم، ويصح امان احد الرعية للواحد والعشرة والقافلة الصغيرة والحصن الصغير لان عمر رضي الله عنه اجاز أمان العبد لاهل الحصن الذي ذكرنا حديثه ولا يصح امانه لاهل بلدة ورستاق وجمع كثير لان ذلك يفضي إلى تعطيل الجهاد والافتيات على الامام.
ويصح امان الامام للاسير بعد الاستيلاء عليه لان عمر رضي الله عنه أمن الهرمزان وهو أسير.
رواه سعيد.
ولان الامان دون المن عليه وقد جاز المن عليه.
فأما احد الرعية فليس له ذلك وهذا مذهب الشافعي وذكر ابو الخطاب انه يصح امانه لان زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم اجارت زوجها أبا العاص بعد اسره فأمضاه النبي صلى الله عليه وسلم وحكي عن الاوزاعي ولنا ان امر الاسير مفوض إلى الامام فلم يجز الافتيات عليه بما يمنعه ذلك كقتله.
وحديث زينب رضي الله عنها في امانها انما صح باجازة النبي صلى الله عليه وسلم (فصل) وإذا شهد للاسير اثنان أو اكثر من المسلمين انهم امنوه قبل إذا كانوا بصفة الشهود وقال الشافعي لاتقبل شهادتهم لانهم يشهدون على فعل أنفسهم ولنا أنهم عدول من المسلمين غير متهمين شهدوا بامانه فوجب ان يقبل كما لو شهدوا على غيرهم أنه امنه وما ذكره لا يصح لان النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة المرضعة على فعلها في حديث عقبة بن الحارث فان شهد واحد: اني أمنته فقال القاضي قياس قول أحمد أنه يقبل كما لو قال الحاكم بعد عزله كنت حكمت لفلان على فلان بحق فانه يقبل قوله وعلى قول أبي الخطاب يصح امانه فقبل خبره لانه كالحاكم
في حال ولايته وهو قول الاوزاعي ويحتمل ان لا يقبل لانه ليس له ان يؤمنه في الحال فلم يقبل اقراره به كما لو أقر بحق على غيره وهذا قول الشافعي (مسألة) (ومن قال لكافر أنت آمن أو لا بأس عليك أو اجرتك أوقف أو الق سلاحك أو مترس نفذ أمنه) قد ذكرنا من يصح امانه وقد ذكرنا ههنا صفة الامان والذي ورد به الشرع لفظتان اجرتك وامنتك قال الله تعالى (وان أحد من المشركين استجارك فاجره) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (قد اجرنا من
اجرت وامنا من امنت - وقال - من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) وفي معنى ذلك قوله (لا تخف لا تذهل لا تخش لاخوف عليك لا بأس عليك) وقد روي عن عمر أنه قال إذا قلتم لا بأس أو لا تذهل أو مترس فقد امنتموهم فان الله تعالى يعلم الالسنة وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال للهرمزان تكلم ولا بأس عليك فلما تكلم أمر عمر بقتله فقال أنس بن مالك ليس لك إلى ذلك سبيل قد امنته قال عمر كلا قال الزبير إنك قد قلت تكلم ولا بأس عليك فدرأ عنه عمر القتل رواه سعيد وغيره ولا نعلم في هذا كله خلافا وأما ان قال له قف أو قم أو الق سلاحك فقال أصحابنا هو امان ايضا لان الكافر يعتقد هذا امانا فاشبه قوله امنتك وقال الاوزاعي ان ادعى الكافر أنه امان وقال
إنما وقفت لذلك فهو آمن وان لم يدع ذلك فلا يقبل قال شيخنا ويحتمل ان هذا ليس بامان لان لفظه لايشعر به وهو يستعمل للارهاب والتخويف فاشبه قوله لاقتلنك لكن يرجع إلى القائل فان قال نويت به الامان فهو امان وان قال لم أرد امانه نظرنا في الكافر فان قال اعتقدته أمانا رد إلى مأمنه ولم يجز قتله وان لم يعتقده امانا فليس بامان كما لو أشار إليهم بما اعتقدوه امانا (فصل) فان أشار إليهم بما اعتقدوه امانا وقال أردت به الامان فهو امان، وان قال لم أرد به الامان فالقول قوله لانه أعلم بنيته فان خرج الكفار من حصنهم بناء على ان هذه الاشارة امان لم يجز قتلهم ويردون إلى مأمنهم فقد قال عمر رضي الله عنه والله لو ان أحدكم أشار باصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل بامانه فقتله لقتلته به رواه سعيد وان مات المسلم أو غاب فانهم يردون إلى مأمنهم وبهذا قال مالك والشافعي وابن المنذر فان قيل فكيف صححتم الامان بالاشارة مع القدرة على النطق بخلاف البيع والطلاق والعتق؟ قلنا تغليبا لحقن الدم كما حقن دم من له شبهة كتاب تغليبا لحقن دمه ولان الكفار في الغالب لا يفهمون كلام المسلمين ولا يفهم المسلمون كلامهم فدعت الحاجة إلى الاشار بخلاف غيره ومن قال لكافر انت آمن فرد الامان لم ينعقد لانه ايجاب حق بقد (بعقد) فلم يصح مع الرد كالبيع وان قبله ثم رده انتقض لانه حق له فسقط باسقاطه كالرق (فصل) إذا سبيت كافرة وجاء ابنها يطلبها وقال ان عندي اسيرا مسلما فاطلقوها حتى احضره
فقال الامام أحضره فاحضره لزم اطلاقها لان المفهوم من هذا اجابته إلى ما سأل فان قال الامام لم
أراد اجابته لم يجبر على ترك اسيره ورد إلى مأمنه وقال أصحاب الشافعي يطلق الاسير ولا تطلق المشركة لان المسلم حر لا يجوز ان يكون ثمن مملوكة ويقال ان اخترت شراءها فائت بثمنها ولنا ان هذا يفهم منه الشرط فوجب الوفاء به كما لو صرح به ولان الكافر فهم منه ذلك وبنى عليه فاشبه ما لو فهم الامان من الاشارة وقولهم لا يكون الحر ثمن مملوكة قلنا لكن يصلح ان يفادى بها فقد فادى النبي صلى الله عليه وسلم بالاسيرة التي أخذها من سلمة بن الاكوع برجلين من المسلمين وفادى برجلين من المسلمين باسير من الكفار ووفى لهم برد من جاء مسلما وقال (انه لا يصلح في ديننا الغدر) وان كان رد المسلم إليهم ليس بحق لهم، ولانه التزم اطلاقها فلزمه ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام (المسلمون على شروطهم - وقوله - انه لا يصلح في ديننا الغدر) (مسألة) (ومن جاء بمشرك فادعى أنه أمنه فانكره فالقول قوله وعنه القول قول الاسير وعنه قول من يدل الحال على صدقه) إذا جاء المسلم بمشرك فادعى المشرك انه امنه وادعى المسلم اسره ففيه ثلاث روايات (إحداهن) القول قول المسلم لان الاصل اباحة دم الكافر وعدم الامان (والثانية) القول قول الاسير لان صدقه محتمل فيكون ذلك شبهة تمنع قتله وهذا اختيار أبي بكر (والثالثة) يرجع إلى قول من يدل ظاهر الحال على صدقه فان كان الكافر ذا قوة معه سلاحه فالظاهر صدقه وان كان ضعيفا مسلوب السلاح فالظاهر كذبه فلا يلتفت إلى قوله وقال أصحاب
الشافعي لا يقبل قوله وان صدقه المسلم لانه لا يقدر على امانه فلم يقبل اقراره به ولنا أنه كافر لم يثبت اسره ولا نازعه فيه منازع فقبل قوله في الامان كالرسول (فصل) ومن طلب الامان ليسمع كلام الله تعالى ويعرف شرائع الاسلام لزمه اجابتهم ثم يرد إلى مأمنه لا نعلم فيه خلافا وبه قال قتادة ومكحول والاوزاعي والشافعي وكتب بذلك عمر بن عبد العزيز إلى الناس لقول الله تعالى (وان أحد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام
الله ثم ابلغه مأمنه) قال الاوزاعي هي إلى يوم القيامة (مسألة) (ومن أعطي امانا ليفتح حصنا ففتحه واشتبه علينا حرم قتلهم واسترقاقهم).
إذا حصر المسلمون حصنا فناداهم رجل أمنوني أفتح لكم الحصن جاز أن يعطوه امانا فان زياد بن لبيد لما حصر النحير قال الاشعث بن قيس اعطوني الامان لعشرة افتح لكم الحصن ففعلوا فان أشكل عليهم وادعى كل واحد من الحصن انه الذي أمنوه لم يجز قتل واحد منهم، لان كل واحد منهم يحتمل صدقه وقد اشتبه المباح بالمحرم فيما لاضرورة إليه فحرم الكل كما لو اشتبهت ميتة بمذكاة وأخته باجنبيات أو زان محصن بمعصومين، وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه خلافا ويحرم استرقاقهم ايضا في أحد الوجهين وذكر القاضي ان احمد نص عليه وهو مذهب الشافعي لما ذكرنا في تحريم
القتل فان استرقاق من لا يحل استرقاقه محرم (والوجه الثاني) يقرع فيخرج صاحب الامان بالقرعة ويسترق الباقون، قاله أبو بكر لان الحق لواحد منهم غير معلوم فأخرج بالقرعة كما لو أعتق عبدا من عبيده واشكل ويخالف القتل فانه إراقة دم يندرئ بالشبهات بخلاف الرق، ولهذا يمتنع القتل في النساء والصبيان دون الاسترقاق، وقال الاوزاعي إذا أسلم واحد من أهل الحصن قبل فتحه أشرف علينا ثم أشكل فادعى كل واحد منهم انه الذي أسلم سعى كل واحد منهم في قيمة نفسه ويترك له عشر قيمته وقياس المذهب أن فيها وجهين كالتي قبلها.
(فصل) قال احمد إذا قال الرجل كف عني حتى أدلك على كذا فبعث معه قوما ليدلهم فامتنع من الدلالة فلهم ضرب عنقه لان أمانه بشرط ولم يوجد.
قال أحمد إذا لقي علجا وطلب منه الامان فلا يؤمنه لانه يخاف شره وان كانوا سرية فلهم أمانه يعني أن السرية لا يخافون من غدر العلج بخلاف الواحد وان لقيت السرية اعلاجا فادعوا انهم جاءوا مستأمنين فان كان معهم سلاح لم يقبل منهم لان حملهم السلاح يدل على محاربتهم وان لم يكن معهم سلاح قبل قوله لانه دليل على صدقهم.
(مسألة) (ويجوز عقد الامان للرسول والمستأمن ويقيمون مدة الهدنة بغير جزية وعند أبي
الخطاب لا يقيمون سنة إلا بجزية).
يجوز عقد الامان للرسول والمستأمن، لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمن رسل المشركين ولما جاءه رسولا مسليمة (مسيلمة) قال لولا ان الرسل لا تقتل لقتلتكما ولان الحاجة تدعو إلى ذلك لاننا لو قتلنا رسلهم لقتلوا رسلنا فتفوت مصلحة المراسلة ويجوز عقد الامان لكل واحد منهما مطلقا ومقيدا بمدة سواء كانت طويلة أو قصيرة بخلاف الهدنة فانها لا تجوز إلا مقيدة لان في جوازها مطلقة ترك للجهاد وهذا بخلافه ويجوز أن يقيموا مدة الهدنة بغير جزية، ذكره القاضي، قال أبو بكر هذا ظاهر كلام أحمد.
وقال أبو الخطاب عندي أنه لا يجوز أن يقيم سنة بغير جزية وهو قول الاوزاعي والشافعي لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ووجه الاول انه كافر أبيح له الاقامة في دار الاسلام من غير التزام جزية فلم يلزمه كالنساء والصبيان ولان الرسول لو كان مما لا يجوز أخذ الجزية منه لاستوى في حقه السنة وما دونها في أن الجزية لا تؤخذ منه في المدتين فإذا جازت له الاقامة في احداهما جازت في الاخرى قياسا لها عليها وقوله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهو صاغرون) أي يلتزمونها ولم يرد حقيقة الاعطاء وهذا مخصوص منها بالاتفاق فانه تجوز له الاقامة من غير التزام لها ولان الاية تخصصت بما دون الحول فنقيس على المحل المخصوص.
(مسألة) (ومن دخل دار الاسلام بغير أمان وادعى أنه رسول أو تاجر معه متاع يبيعه قبل منه).
إذا دخل حربي دار الاسلام بغير أمان وادعى أنه رسول قبل منه ولم يجز التعرض له لقول النبي صلى الله عليه وسلم لرسولي مسيلمة (لولا ان الرسل لا تقتل لقتلتكما) ولان العادة جارية بذلك وان ادعى أنه تاجر وقد جرت العادة بدخول تجارهم الينا لم يعرض له إذا كان معه ما يبيعه لانهم دخلوا يعتقدون الامان أشبه مالو دخلوا باشارة مسلم.
قال أحمد إذا ركب القوم في البحر فاستقبلهم فيه تجار مشركون من أرض العدو ويريدون بلاد الاسلام لم يعرضوا لهم ولم يقاتلوهم وكل من دخل بلاد المسلمين من أرض الحرب بتجارة بويع ولم يسأل عن شئ وإن لم يكن معه تجارة فقال جئت مستأمنا لم يقبل منه وكان الامام فيه مخيرا ونحو هذا قول الاوزاعي والشافعي وكذلك ان كان جاسوسا لانه حربي أخذ بغير أمان فأشبه المأخوذ في حال الحرب وان كان ممن ضل الطريق أو حملته الريح في مركب إلينا فهو لمن أخذه في إحدى الروايتين لانه أخذ بغير قتال في دار الاسلام فكان لآخذه كالصيد والحشيش والاخرى يكون فيئا للمسلمين لانه أخذ بغير قتال أشبه مالو أخذ في دار الحرب، وقد روي عن أحمد رحمه الله انه سئل عن الدابة تخرج من بلد الروم أو تنفلت فتدخل القرية وعن القوم يضلون عن الطريق فيدخلون القرية من
قرى المسلمين فيأخذونهم فقال يكون لاهل القرية كلهم وسئل عن مركب بعث به ملك الروم وفيه رجاله فطرحته الريح إلى طرسوس فخرج إليه أهل طرسوس فقتلوا الرجالة وأخذوا الاموال فقال هذا فيئ للمسلمين مما أفاء الله عليهم، وقال الزهري هو غنيمة وفيه الخمس.
(فصل) ومن دخل دار الحرب رسولا أو تاجرا بامانهم فخيانتهم محرمة عليه لانهم انما اعطوه الامان مشروطا بترك خيانتهم وأمنه إياهم من نفسه وان لم يكن ذلك مذكورا في اللفظ فهو معلوم في المعنى وكذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا فهو ناقض لامانه ولان خيانتهم غدر ولا يصلح في ديننا الغدر فان خانهم أو سرق منهم أو أقترض شيئا وجب عليه رد ما أخذ إلى أربابه فان جاء أربابه إلى دار الاسلام بأمان أو ايمان رده إليهم والا بعث به إليهم لانه أخذه على وجه يحرم عليه أخذه فلزمه رده كما لو أخذه من مال مسلم.
(مسألة) (وإذا أودع المستأمن ماله مسلما أو أقرضه إياه ثم عاد إلى دار الحرب بقي الامان في ماله يبعث إليه ان طلبه) وجملة ذك (ذلك) ان من دخل من أهل الحرب إلى دار الاسلام بأمان فأودع ماله مسلما أو ذميا أو أقرضهما إياه ثم عاد إلى دار الحرب لحاجة يقضيها أو رسولا ثم يعود إلى دار الاسلام فهو على أمانه في
نفسه وماله لانه لم يخرج بذلك عن نية الاقامة بدار الاسلام فأشبه الذمي إذا دخل لذلك، وان دخل مستوطنا
أو محاربا بطل الامان في نفسه وبقي في ماله لانه بدخوله دار الاسلام بأمان ثبت الامان لماله الذي معه تبعا فإذا بطل في نفسه بدخوله دار الحرب بقي في ماله لاختصاص المبطل في نفسه فيختص البطلان به، فان قيل انما يثبت الامان لماله تبعا فإذا بطل في المتبوع بطل في التبع قلنا بل يثبت له الامان لمعنى وجد فيه وهو إدخاله معه وهذا يقتضي ثبوت الامان له وان لم يثبت في نفسه بدليل مالو بعثه مع مضارب له أو وكيل فانه يثبت له الامان وان لم يثبت في نفسه ولم يوجد فيه ههنا ما يقتضي نقض الامان فيه فبقي على ما كان عليه فان أخذه معه إلى دار الحرب انتقض الامان فيه كما انتقض في نفسه لوجود المبطل فيهما.
إذا ثبت هذا فإذا طلبه صاحبه بعث إليه وان تصرف فيه ببيع أو هبة أو نحوهما صح تصرفه لانه ملكه وان مات في دار الحرب انتقل المال إلى وارثه ولم يبطل الامان فيه، وقال أبو حنيفة يبطل وهو قول الشافعي لانه قد صار لوارثه ولم يعقد فيه أمانا فوجب ان يبطل فيه كسائر أمواله ولنا ان الامان حق واجب لازم متعلق بالمال فإذا انتقل إلى الوارث انتقل بحقه كسائر الحقوق من الرهن والضمين والشفعة وهذا اختيار المزني ولانه مال له أمان فينقل إلى وارثه مع بقاء الامان فيه كالمال الذي مع مضاربه وان لم يكن له وارث صار فيئا لبيت المال كمال الذمي إذا مات وليس له وارث فان كان له وارث في دار الاسلام لم يرثه ذكره القاضي لاختلاف الدارين والاولى انه يرثه
لان ملتهما واحدة فورثه كالمسلمين فان مات المستأمن في دار الاسلام فهو كموته في دار الحرب سواء لان المستأمن حربي تجري عليه أحكامهم وان رجع إلى دار الحرب فسبي واسترق فقال القاضي يكون أمره موقوفا حتى يعلم آخر أمره فان مات كان فيئا لان الرقيق لا يورث وان عتق كان له وان لم يسترق ولكن من عليه الامام أو فاداه فماله له وان قتله فماله لورثته كما لو مات ان لم يسب لكن دخل دار الاسلام بغير أمان ليأخذ ماله جاز قتله وسبيه لان ثبوت الامان لماله لا يثبت الامان لنفسه كما لو كان ماله وديعة بدار الاسلام وهو مقيم بدار الحرب
(فصل) وان أخذ المسلم من الحربى في دار الحرب مالا مضاربة أو وديعة ودخل به دار الاسلام فهو في أمان حكمه حكم ما ذكرنا وان اخذه ببيع في الذمة أو قرض فالثمن في ذمته عليه أداؤه إليه وان اقترض حربي من حربي مالا ثم دخل الينا فأسلم فعليه رد البدل لانه أخذه على سبيل المعاوضة فأشبه ما لو تزوج حربية ثم أسلم لزمه مهرها (فصل) وإذا سرق المستأمن في دار الاسلام أو قتل أو غصب ثم عاد إلى دار الحرب ثم خرج مستأمنا مرة ثانية استوفي منه ما لزمه في أمانه الاول كما لو لم يدخل دار الحرب وان اشترى عبدا مسلما فخرج به إلى دار الحرب ثم قدر عليه لم يغنم لانه لم يثبت ملكه عليه لكون الشراء باطلا
ويرد بائعه الثمن إلى الحرب لانه حصل في أمان فان كان العبد تالفا فعلى الحربي قيمته ويترادان الفضل (فصل) وإذا دخلت الحربية الينا بأمان فتزوجت ذميا في دارنا ثم أرادت الرجوع لم تمنع إذا رضي زوجها أو فارقها وقال أبو حنيفة تمنع ولنا انه عقد لا يلزم الرجل به المقام فلا يلزم المرأة كعقد الاجارة (مسألة) (وإذا أسر الكفار مسلما فأطلقوه بشرط ان يقيم عندهم مدة لزمه الوفاء لهم ولم يكن له ان يهرب) نص عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمنون عند شروطهم) وقال الشافعي لا يلزمه، وان أطلقوه وأمنوه صاروا في أمان منه لان أمانهم له يقتضي سلامتهم منه فان أمكنه المضي إلى دار الاسلام لزمه وان تعذر عليه أقام وكان حكمه حكم من اسلم في دار الحرب فان خرج فادركوه وتبعوه قاتلهم وبطل الامان لانهم طلبوا منه الامان وهو معصية (مسألة) (فان لم يشترطوا شيئا أو شرطوا كونه رقيقا فله ان يقتل ويسرق ويهرب) اما إذا اطلقوه ولم يؤمنوه فله ان يأخذ منهم ما قدر عليه ويسرق ويهرب لم يؤمنهم ولم يؤمنوه وكذلك ان شرطوا كونه رقيقا فرضي بذلك أولم يرض لان كونه رقيقا حكم شرعي لا يثبت عليه بقوله ولو ثبت لم يقتض امانا له منهم ولا لهم منه وهذا مذهب الشافعي وان احلفوه على ذلك وكان مكرها لم تنعقد يمينه وان كان مختارا انعقدت يمينه ويحتمل ان تلزمه الاقامة إذا قلنا يلزمه
الرجوع إليهم على ما نذكره في المسألة التي بعدها وهو قول الليث
(مسألة) (وان أطلقوه بشرط أن يبعث إليهم مالا وإن عجز عنه عاد إليهم لزمه الوفاء لهم إلا أن تكون امرأة فلا ترجع إليهم وقال الخرقي لا يرجع الرجل أيضا) وجملة ذلك ان الاسير إذا أطلقه الكفار وشرطوا عليه ان يبعث إليهم بفدائه أو يعود إليهم واحلفوه فان كان مكرها لم يلزمه الوفاء لهم برجوع ولا فداء لقول النبي صلى الله عليه وسلم (عفي لامتي عن الخطا والنسيان وما استكرهو عليه، وان لم يكره وقدر على الفداء الذي شرط على نفسه لزمه اداؤه وبه قال الحسن وعطاء والزهري والنخعي والثوري والاوزاعي ونص الشافعي على أنه لا يلزمه لانه حر لا يستحقون بدله ولنا قول الله تعالى (وأوفو بعهد الله إذا عاهدتم) ولما صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية على رد من جاءه مسلما وفي لهم وقال (إنا لا يصلح في ديننا الغدر) ولان في الوفاء مصلحة للاسارى وفي الغدر مفسدة في حقهم لانهم لا يأمنون بعده والحاجة داعية إليه فلزمه الوفاء كما يلزمه الوفاء بعقد الهدنة ولانه عاهدهم على اداء مال فلزمه الوفاء لهم كثمن المبيع والمشروط في عقد الهدنة في موضع يجوز شرطه فان عجز عن الفداء وكانت امرأة لم ترجع إليهم ولم يحل لها ذلك لقول الله تعالى (فلا ترجعونهن إلى الكفار) ولان في رجوعها تسليطا لهم على وطئها حراما وقد منع الله رسوله رد النساء إلى الكفار
بعد صلحه على ردهن في قضية الحديبية وفيها فجاء نسوة مؤمنات فنهاهم الله ان يردوهن رواه أبو دواد وغيره وان كان المفادى رجلا فقيه روايتان (احداهما) لا يرجع اختاره الخرقي وهو قول الحسن والنخعي والثوري والشافعي لان الرجوع إليهم معصية فلم يلزم بالشرط كما لو كان امرأة وكما لو شرط قتل مسلم أو شرب الخمر (والثانية) يلزمه وهو قول عثمان والزهري والاوزاعي لما ذكرنا في بعث الفداء ولان النبي صلى الله عليه وسلم عاهد قريشا على رد من جاءه مسلما فرد أبا بصير وأبا جندل وقال (إنا لا يصلح في ديننا الغدر) وفارق
رد المرأة فان الله تعالى فرق بينهما في هذا الحكم حين صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشا على رد من جاءه منهم مسلما فامضى الله سبحانه ذلك في الرجال ونسخه في النساء وسنذكر الفرق بينهما في هذا الباب الذي بعده انشاء الله تعالى (فصل) فان اشترى الاسير شيئا مختارا أو اقترضه فالعقد صحيح ويلزمه الوفاء لهم لانه عقد معاوضة فأشبه مالو فعله غير الاسير وان كان مكرها لم يصح وان اكرهوه على قبضه لم يضمنه ولكن عليه رده إليهم إن كان باقيا لانهم دفعوه إليه بحكم العقد وإن قبضه باختياره ضمنه لانه قبضه باختياره عن عقد فاسد وان باعه والعين قائمة لزمه ردها وان عدمت رد قيمتها (فصل) وإذا اشترى المسلم أسيرا من أيدي العدو فان كان باذنه لزمه ان يؤدي إلى الذي اشتراه ما أداه فيه بغير خلاف علمناه لانه إذا أذن فيه كان نائبه في شراء نفسه فكان الثمن على الآمر كالوكيل، وان كان بغير اذنه لزم الاسير الثمن أيضا وبه قال الحسن والزهري والنخعي
ومالك والاوزاعي، وقال الثوري والشافعي وابن المنذر لا يلزمه لانه تبرع بما لا يلزمه ولم يؤذن له فيه أشبه ما لو عمر داره ولنا ما روى سعيد بن عثمان بن مطر ثنا ابو جرير عن الشبعي (الشعبي) قال أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب فأصابوا سبايا العرب فكتب السائب بن الاكوع إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم فكتب عمر: أيما رجل أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره، وإن أصابه في أيدي التجار بعد ما قسم فلا سبيل إليه.
وأيما حر اشتراه التجار فانه يرد إليهم رؤوس أموالهم فان الحر لا يباع ولا يشترى.
فحكم للتجار برؤوس أموالهم، ولان الاسير يجب عليه فداء نفسه ليتخلص من حكم الكفار فإذا ناب عنه غيره في ذلك وجب عليه قضاؤه كما لو قضى الحاكم عنه حقا امتنع من أدائه، فعلى هذا إذا اختلفا في قدر الثمن فالقول قول الاسير وهو قول الشافعي إذا أذن له، وقال الاوزاعي القول قول المشتري لانهما اختلفا في فعله وهو اعلم به ولنا ان الاسير منكر للزيادة والقول قول المنكر ولان الاصل براءة ذمته من الزيادة فيرجح قوله بالاصل
(فصل) ويجب فداء أسير المسلمين إذا أمكن وبه قال عمر بن عبد العزيز ومالك وإسحاق.
ويروى عن ابن الزبير انه سأل الحسن بن علي رضي الله عنهما على من فكاك الاسير؟ قال على الارض التي يقاتل عليها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (اطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني)
وروى سعيد باسناده عن حبان بن أبي جبلة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ان على المسلمين في فيئهم أن يفادوا أسيرهم ويؤدوا عن غارمهم) وفادى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من المسلمين بالرجل الذي أخذه من بني عقيل، وفادى بالمرأة التي استوهب من سلمة بن الاكوع رجلين.
ويجب فداء اسير أهل الذمة سواء كانوا في معونتنا أو لا هذا ظاهر كلام الخرقي وهو قول عمر بن عبد العزيز والليث لاننا التزمنا حفظهم بمعاهدتهم وأخذ جزيتهم فلزمنا المدافعة من ورائهم والقيام دونهم فإذا عجزنا عن ذلك وأمكننا تخليصهم لزمنا ذلك كمن يحرم عليه إتلاف شئ فإذا اتلفه ضمن غرمه وقال القاضي انما يجب فداؤهم إذا استعان بهم الامام في قتالهم فسبوا وجب عليه ذلك لان اسرهم كان لمعنى من جهته وهو المنصوص عن احمد، ومتى وجب فداؤهم فانه يبدأ بفداء المسلمين قبلهم لان حرمة المسلم أعظم والخوف عليه أشد وهو معرض لفتنته عن دينه الحق بخلاف اهل الذمة
(باب الهدنة) ومعناها أن يعقد الامام أو نائبه عقدا على ترك القتال مدة بعوض وبغير عوض ويسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة وهي جائزة لقوله تعالى (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) وقوله تعالى (فان جنحوا للسلم فاجنح لها) وروى مروان والمسور بن مخرمة ان النبي صلى الله عليه وسلم صالح سهيل بن عمرو على وضع القتال عشر سنين، ولانه قد يكون بالمسلمين ضعف فيهادنهم حتى يقوى المسلمون، وانما تجوز للنظر للمسلمين إما لضعفهم عن القتال أو للطمع في إسلامهم بهدنتهم أو في أدائهم الجزية أو غير ذلك من المصالح، وتجوز على غير مال لان النبي صلى الله عليه وسلم صالح يوم الحديبية على غير مال، وتجوز على مال يأخذه منهم فانها إذا جازت على غير مال فعلى مال أولى، فاما إن
صالحهم على ما يبذله لهم فقد أطلق احمد القول بالمنع منه وهو مذهب الشافعي لان فيه صغارا للمسلمين قال شيخنا وهذا محمول على غير حال الضرورة مثل أن يخاف على المسلمين الهلاك والاسر فيحوز لانه يجوز للاسير فداء نفسه بالمال كذا هذا.
ولان بذل المال وان كان صغارا فانه يجوز تحمله لدفع صغار أعظم منه وهو القتل والاسر وسبي الذرية الذين يفضي سبيهم إلى كفرهم
وقد روى عبد الرزاق في المغازي عن الزهري قال أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبينة بن حصن وهو مع ابي سفيان يعني يوم الاحزاب (أرأيت ان جعلت لك ثلث ثمر الانصار أترجع بمن معك من غطفان وتخذل بين الاحزاب؟) فأرسل إليه عبينة ان جعلت لي الشطر فعلت قال فحدثني ابن أبي نجيح ان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة قالا يا رسول الله والله لقد كان يجر سرمه في الجاهلية في عام السنة حول المدينة ما يطيق أن يدخلها فالآن حين جاء الله بالاسلام نعطيهم ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (فنعم إذا) ولولا ان ذلك جائز لما بذله النبي صلى الله عليه وسلم (مسألة) (ولا يجوز عقد الهدنة إلا من الامام أو نائبه) لانه عقد مع جملة الكفار وليس ذلك لغيره ولانه يتعلق بنظر الامام وما يراد من المصلحة على ما قدمنا، ولان تجويزه لغير الامام يتضمن تعطيل الجهاد بالكلية أو إلى تلك الناحية وفيه افتيات على الامام، فان هادنهم غير الامام أو نائبه لم يصح، فان دخل بعضم دار الاسلام بهذا الصلح كان آمنا لانه دخل معتقدا للامان ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الاسلام لان الامان لم يصح، وإن عقد الامام الهدنة ثم مات أو عزل لم ينتقض عهده وعلى من بعده الوفاء به لان الامام عقده باجتهاده فلم يجز نقضه اجتهاد غيره كما لا يجوز للحاكم نقض احكام من قبله باجتهاده، وإذا عقد الهدنة لزمه الوفاء بها لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وقال تعالى (فأتموا إليهم عهدهم إلى
مدتهم) ولانه إذا لم يف بها لم يسكن إلى عهده وقد يحتاج إلى عقدها (فصل) فان نقضوا العهد بقتال أو مظاهرة أو قتل مسلم أو اخذ مال انتقض عهدهم لان
الهدنة تقتضي الكف فانتقضت بتركه ولا يحتاج في نقضها إلى حكم الامام لانه انما يحتاج إلى حكمه في امر محتمل وفعلهم لا يحتمل غير نقض العهد وإذا انتقض جاز قتالهم لقول الله تعالى (وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر) الآيتين.
وقال تعالى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ولما نقضت قريش عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إليهم وقاتلهم وفتح مكة، وان نقض بعضهم دون بعض فسكت باقيهم عن الناقض ولم يوجد منهم إنكار ولا مراسلة الامام ولا تبرؤ فالكل ناقضون لان النبي صلى الله عليه وسلم لما هادن قريشا دخلت خزاعة في حلف النبي صلى الله عليه وسلم وبنو بكر في حلف قريش فعدت بنو بكر على خزاعة وأعانهم بعض قريش وسكت الباقون فكان ذلك نقص عهدهم وسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلهم ولان سكوتهم يدل على رضاهم كما ان عقد الهدنة مع بعضهم يدخل فيه جميعهم لدلالة سكوتهم على رضاهم كذلك في النقض، فان انكر من لم ينقض على الباقين بقول أو فعل ظاهر أو اعتزال أو راسل الامام بأني منكر لما فعله الناقض مقيم على العهد لم ينتقض في حقه ويامره الامام بالتمييز ليأخذ الناقض وحده فان امتنع من التميز أو إسلام الناقض صار ناقضا لانه منع من اخذ الناقض فصار بمنزلته، وان
لم يمكنه التميز لم ينتقض عهده لانه كالاسير.
فان أسر الامام منهم قوما فادعى الاسير انه لم ينقض وأشكل ذلك عليه قبل قول الاسير لانه لا يتوصل إلى ذلك الا من قبله (مسألة) (فمتى رأى المصلحة جاز له عقدها مدة معلومة وان طالت وعنه لا يجوز في زيادة على العشر فان زاد على عشر بطل في الزيادة وفي العشر وجهان) إذا رأى الامام المصلحة في عقد الهدنة جاز عقدها لما ذكرنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم هادن قريشا ولا يجوز عقدها إذا لم يرى المصلحة فيه لانه يتصرف لهم على وجه النظر اشبه ولي اليتيم ولايجوز عقدها الا على مدة معلومة لان مهادنتهم مطلقا تفضي إلى تعطيل الجهاد بالكلية لكونها تقتضي التأييد فلم يجز ذلك وتجوز على المدة القصيرة والطويلة على حسب ما يراه الامام من المصلحة في إحدى الروايتين وبهذا قال أبو حنيفة لانه عقد يجوز في العشر فجاز في الزيادة عليها كعقد الاجارة (والرواية
الثانية) لا يجوز على أكثر من عشر سنين قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد واختاره أبو بكر وهو مذهب الشافعي لان قوله تعالى (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) عام خص منه مدة العشر لمصالحة النبي صلى الله عليه وسلم قريشا يوم الحديبية عشرا فما زاد يبقى على مقتضى العموم فعلى هذا ان زاد على العشر يبطل في الزيادة وهل يبطل في العشر؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة وكذلك ان هادنهم أكثر من قدر الحاجة
(مسألة) (وان هادنهم مطلقا لم يصح) لان ذلك يقتضي التأبيد فيفضي إلى ترك الجهاد بالكلية وذلك لا يجوز (مسألة) (وان شرط فيها شرطا فاسدا كنقضها متى شاء أو رد النساء إليهم أو صداقهن أو سلاحهم أو ادخالهم الحرم لم يصح الشرط وفي العقد وجهان) الشروط في عقد الهدنة تنقسم قسمين صحيح وفاسد فالفاسد مثل ان يشترط نقضها لمن شاء منهما فلا يصح ذلك لانه يفضي إلى ضد المقصود منها وان قال هادنتكم ما شئتم لم يصح لانه جعل الكفار متحكمين على المسلمين، وان قال ما شئنا أو شاء فلان أو شرط ذلك لنفسه دونهم لم يجز أيضا ذكره أبو بكر لانه ينافي مقتضى العقد فلم يصح كما لو شرط ذلك في البيع والنكاح وقال القاضي يصح وهذا قول الشافعي لان النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل خيبر على ان يقرهم ما اقرهم الله تعالى ولنا انه عقد لازم فلم يجز اشتراط نقضه كسائر العقود اللازمة ولم يكن بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل خيبر هدنة فانه فتحها عنوة وانما ساقاهم وقال لهم ذلك وانما يدل ذلك على جواز المساقاة وليس هو بهدنة اتفاقا، وقد واقفوا الجماعه في انه لو شرط في عقد الهدنة اني اقركم ما أقركم الله لم يصح فكيف يصح منهم الاحتجاج به مع الاجماع على انه لا يجوز اشتراط؟ وكذلك ان شرط رد النساء المسلمات إليهم
أو مهورهن أو رد سلاحهم أو إعطائهم شيئا من سلاحنا أو من آلة الحرب أو يشرط لهم مالا في موضع لا يجوز بذله أو يشترط رد الصبيان أو رد الرجال مع عدم الحاجة إليه فهذه كلها شروط فاسدة
وكذلك ان شرط ادخالهم الحرم لقول الله تعالى (إنما المشركون نجس فلا يقربو المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ولا يجوز الوفاء بشئ من هذه الشروط وإنما لم يصح شرط رد النساء المسلمات لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنونهن الله أعلم بايمانهن فان علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ان الله منع الصلح في النساء) وتفارق المرأة الرجل من ثلاثة أوجه (أحدها) أنها لا تأمن ان تزوج كافرا يستحلها أو يكرهها من ينالها واليه أشار الله سبحانه بقوله (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) (الثاني) أنها ربما فتنت عن دينها لانها أضعف قلبا وأقل معرفة من الرجل (الثالث) ان المرأة لا يمكنها الهرب عادة بخلاف الرجل ولا يجوز رد الصبيان العقلاء إذا جاءوا مسلمين لانهم بمنزلة المرأة في ضعف العقل والمعرفة والعجز عن التخلص والهرب، فاما الطفل الذي لا يصح اسلامه فيجوز شرط رده لانه ليس بمسلم وهل يفسد العقد بالشروط الفاسدة؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة في البيع إلا فيما إذا شرط ان لكل واحد منهما نقضها متى شاء فينبغي ان لا يصح العقد وجها واحدا لان طائفة الكفار يبنون على هذا الشرط فلا يحصل الامن منهم ولا أمنهم
منا فيفوت معنى الهدنة ومتى وقع العقد باطلا فدخل بعض الكفار دار الاسلام معتقدا للامان كان آمنا لانه دخل بناء على العقد ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الاسلام لان الامان لم يصح (فصل) وإذا عقد الهدنة من غير شرط فجاءنا منهم إنسان مسلما أو بأمان لم يجب رده إليهم ولم يجز ذلك سواء كان حرا أو عبدا أو رجلا أو امرأة ولا يجب رد مهر المرأة، وقال أصحاب الشافعي ان خرج العبد الينا لم يصر حرا لانهم في امان منا والهدنة تمنع من جواز القهر وقال الشافعي في قول له: إذا جاءت امرأة مسلمة وجب رد مهرها لقول الله تعالى (وآتوهم ما انفقوا) يعني رد المهر إلى زوجها إذا جاء يطلبها وان جاء غيره لم يرد إليه شئ ولنا أنه من غير أهل دار الاسلام خرج الينا فلم يجب رده ولا رد شئ عنه كالحر من الرجال
وكالعبد إذا خرج ثم اسلم، قولهم إنهم في امان منا.
قلنا انما امناهم ممن هو في دار الاسلام الذين هم في قبضة الامام فاما من هو في دارهم ومن ليس في قبضته فلا يمنع منه بدليل ما لو خرج العبد قبل اسلامه ولهذا لما قتل ابو بصير الرجل الذي جاء ليرده لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يضمنه ولما انفرد هو وابو جندل واصحابهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية فقطعوا الطريق عليهم وقتلوا من قتلوا منهم وأخذوا المال لم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرهم برد ما أخذوه ولا غرامة ما أتلفوه وهذا الذي أسلم كان في دارهم وقبضتهم وقهرهم على نفسه فصار حرا كما لو أسلم بعد خروجه وأما المرأه فلا يجب رد مهرها لانها لم تأخذ منهم شيئا ولو أخذته كانت قد قهرتهم عليه في
دار القهر، ولو وجب عليها عوضه لوجب مهر المثل دون المسمى، وأما الآية فقد قال قتادة نسخ رد المهر، وقال عطاء والزهري والثوري لا يعمل بها اليوم، وعلى ان الآية إنما نزلت في قضية الحديبية حين كان النبي صلى الله عليه وسلم شرط رد من جاءه مسلما، فلما منع الله رد النساء وجب رد مهورهن، وكلامنا فيما إذا وقع الصلح من غير شرط فليس هو في معنى ما تناوله الامر، وان وقع الكلام فيما إذا شرط رد النساء لم يصح أيضا لان الشرط الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم شرطه كان صحيحا وقد نسخ فإذا شرط الآن كان باطلا ولا يجوز قياسه على الصحيح والالحاق به.
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: