الفقه الحنبلي - الهدنة - عقد الذمة - احكام الذمة
(مسألة) (وإن شرط رد من جاء من الرجال مسلما جاز ولا يمنعهم أخذه ولا يجبره على ذلك وله ان يأمرهم بقتالهم والفرار منهم).
قد ذكر قسم الشروط الفاسدة
والشروط الصحيحة مثل أن يشترط عليهم مالا أو معونة المسلمين عند حاجتهم إليهم أو يشترط رد من جاء من الرجال مسلما أو بأمان فهذا صحيح وقال اصحاب الشافعي لا يصح شرط رد المسلم إلا ان تكون له عشيرة تحميه وتمنعه ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم شرط ذلك في صلح الحديبية ووفى لهم به فرد أبا جندل وأبا بصير ولم يخص بالشرط ذا العشيرة ولان ذا العشيرة إذا كانت عشيرته هي التي تفتنه وتؤذيه فهو كمن لا عشيرة له لكن إنما يجوز هذا الشرط عند شدة الحاجة إليه وتعين المصلحة فيه ومتى شرط لهم ذلك لزم الوفاء به
بمعنى انهم إذا جاءوا في طلبه لم يمنعهم أخذه ولا يجبره عل المضي معهم، وله أن يأمره سرا بالهرب.
منهم ومقاتلتهم فان ابا بصير لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجاء الكفار في طلبه قال له النبي صلى الله عليه وسلم (إنا لا يصلح في ديننا الغدر وقد علمت ما عاهدناهم عليه ولعل الله ان يجعل لك فرجا ومخرجا) فلما رجع مع الرجلين قتل أحدهما في طريقه ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول قد أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم وأنجاني الله منهم فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلمه بل قال (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال) فلما سمع ذلك ابو بصير لحق بساحل البحر وانحاز إليه ابو جندل بن سهيل ومن معه من المستضعفين بمكة، فجعلوا لا تمر عير لقريش إلا عرضوا لها فأخذوها وقتلوا من معها، فارسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم ان يضمهم إليه ولا يرد إليهم أحدا جاءه ففعل، فيجوز حينئذ لمن أسلم من الكفار ان يتحيزوا ناحية ويقتلوا من قدروا عليه من الكفار ويأخذوا اموالهم ولا يدخلون في الصلح، فان ضمهم الامام إليه باذن الكفار دخلوا في الصلح وحرم عليهم قتل الكفار وأخذ اموالهم، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه لما جاء أبو جندل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هاربا من الكفار يرسف في قيوده قام إليه ابوه فلطمه وجعل يرده قال عمر فقمت إلى جانب أبي جندل وقلت انهم الكفار وانما دم احدهم دم كلب وجعلت ادني منه قائم السيف لعله ان يأخذه فيضرب به أباه قال فضن الرجل بأبيه، (فصل) وإذا طلبت امرأة أو صبية مسلمة الخروج من عند الكفار جاز لكل مسلم إخراجها لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة وقفت ابنة حمزة على الطريق فلما مر بها علي قالت يا ابن عم إلى من تدعني فتناولها فدفعها إلى فاطمة حتى قدم بها المدينة.
(مسألة) (وعلى الامام حماية من هادنه من المسلمين دون غيرهم وان سباهم كفار آخرون لم يجز لنا شراؤهم).
وذلك أن الامام إذا عقد الهدنة لقوم فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الذمة، لانه أمنه ممن هو
في قبضته وتحت يده كما أمن من في قبضته منهم، ومن أتلف من المسلمين أو من أهل الذمة عليهم شيئا فعليه ضمانه ولا يلزمه حمايتهم من أهل الحرب ولا حماية بعضهم من بعض، لان الهدنة التزام الكف عنهم فقط، فان أغار عليهم قوم آخرون فسبوهم لم يلزمه استنقاذهم وليس للمسلمين شراؤهم لانهم في عهدهم ولا يجوز لهم شراؤهم ولا استرقاقهم، وذكر عن الشافعي ما يدل على هذا ويحتمل جواز ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة لانه لا يجب عليه من يدفع عنهم فلم يحرم استرقاقهم بخلاف أهل الذمة، فعلى هذا ان استولى المسلمون على الذين اشتروهم واخذوا اموالهم لم يلزم رده إليهم على هذا القول، ومقتضى القول الاول وجوب رده كما يجب رد أموال اهل الذمة.
(مسألة) (وان خاف نقض العهد منهم نبذ إليهم عهدهم لقول الله تعالى (واما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليم على سواء).
أي أعلمهم بنقض عهدهم حتى تصير أنت وهم سواء في العلم، ولا يكفي وقوع ذلك في قلبه حتى يكون عن أمارة تدل عليه، ولا يفعل ذلك إلا الامام لان نقضها لخوف الخيانة يحتاج إلى نظر واجتهاد فافتقر إلى الحاكم ومتى
نقضها وفي دارنا منهم أحد وجب ردهم إلى مأمنهم لانهم دخلوا بأمان فوجب ردهم إلى مأمنهم كما لو افردهم بالامان، وان كان عليهم حق استوفي منهم، ولا يجوز ان يبدأهم بقتال ولا غارة قبل اعلامهم بنقض العهد للآية، ولانهم آمنون منه بحكم العهد فلا يجوز قتلهم ولا اخذ مالهم، فان قيل فقد قلتم ان الذمي إذا خيف منه الخيانة لم ينتقض عهده؟ قلنا عقد الذمة آكد لانه يجب على الامام اجابتهم إليه وهو نوع معاوضة وعقده مؤبد يخلاف الهدنة والامان، ولهذا لو نقض بعض أهل الذمة لم ينتقض عهد الباقين بخلاف الهدنة، ولان اهل الذمة في قبضة الامام وتحت ولايته ولا يخشى الضرر كثيرا من نقضهم بخلاف اهل الهدنة فانه يخشى منهم الغارة والضرر الكثير (فصل) ومن أتلف منهم شيئا على مسلم فعليه ضمانه وان قتله فعليه القصاص وإن قذفه فعليه الحد، لان الهدنة تقتضي أمان المسلمين منهم وأمانهم من المسلمين في النفس والمال والعرض فلزمهم ما يجب في ذلك ومن شرب منهم خمرا أو زنى لم يحد لانه حق لله تعالى ولم يلتزموه بالهدنة، وان سرق مال مسلم
ففيه وجهان (احدهما) لا يقطع لانه حد خالص لله تعالى أشبه حد الزنا (والثاني) يقطع لانه يجب صيانة لحق الآدمي فهو كحد القذف (فصل) وإذا نقضوا العهد حلت دماؤهم واموالهم وسبي ذراريهم لان النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجال بني قريظة حين نقضوا عهدهم وسبى ذراريهم واخذ اموالهم ولما هادن قريشا فنقضوا عهده حل له منهم ما كان حرم عليه منهم، ولان الهدنة عقد مؤقت ينتهي بانقضاء مدته فيزول بنقضه وفسخة كعقد الاجارة بخلاف عقد الذمة
(باب عقد الذمة) لا يجوز عقد الذمة الا من الامام أو نائبه وبهذا قال الشافعي، ولا نعلم فيه خلافا لان ذلك يتعلق بنظر الامام وما يراه من المصلحة، ولانه عقد مؤبد فلم يجز ان يفتات به على الامام، فان فعله غيرهما لم يصح لكن ان عقده على مال لا يجوز ان يطلب منهم اكثر منه لزم الامام اجابتهم إليه وعقدها عليه، والاصل في جواز عقد الذمة واخذ الجزية الكتاب والسنة والاجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) وأما السنة فما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال لجند كسرى يوم نهاوند: أمرنا نبينا رسول ربنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية رواه البخاري: وعن بريدة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيرا وقال له إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى احدى خصال ثلاث ادعهم إلى الاسلام، فان أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فان أبوا فادعهم إلى اعطاء الجزية، فان أجابوك فاقبل منه وكف عنهم، فان أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) رواه مسلم في أخبار كثيرة وأجمع المسلمون على جواز أخذ الجزية في الجملة (مسألة) (ولا يجوز عقدها الا لاهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ومن يوافقهم في التدين
بالتوارة والانجيل كالسامرة والفرنج ومن له شبهة كتاب وهم المجوس وعنه يجوز عقدها لجميع الكفار الا
عبدة الاوثان من العرب) وجملة ذلك ان الذين تقبل منهم الجزية صنفان أهل كتاب ومن له شبهة كتاب في ظاهر المذهب فأهل الكتاب اليهود والنصارى ومن دان بدينهم كالسامرة يدينون بالتوارة ويعملون بشريعة موسى وانما خالفوهم في فروع دينهم وفرق النصارى من اليعقوبية والنسطورية والملكية والفرتج والروم والارمن وغيرهم ممن دان بالانجيل وانتسب إلى دين عيسى والعمل بشريعته فكلهم من أهل الانجيل ومن عدا هؤلاء من الكفار فليسوا من أهل الكتاب بدليل قوله تعالى (أن تقولوا انما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) فأما أهل صحف ابراهيم وشيث وزبور داود فلا تقبل منهم الجزية لانهم من غير الطائفتين ولان هذه الصحف لم تكن فيها شرائع انما هي مواعظ وأمثال كذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم صحف ابراهيم وزبور داود في حديث ابي ذر، واما الذين لهم شبهة كتاب فهم المجوس فانه يروى أنه كان لهم كتاب فرفع فصار بذلك شبهة أوجبت حقن دمائهم واخذ الجزية منهم ولم ينتهض في إباحة نكاح نسائهم ولا ذبائحهم هذا قول اكثر اهل العلم ونقل عن ابي ثور انهم من اهل الكتاب وتحل ذبائحهم ونساؤهم لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال انا اعلم الناس بالمجوس كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه وان ملكهم سكر فوقع على ابنته أو اخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد فامتنع منهم ودعي اهل مملكته وقال اتعلمون دينا خيرا من دين آدم وقد انكح بنيه بناته؟ فانا على دين آدم قال فتابعه قوم وقاتلوا الذين يخالفونه حتى قتلوهم فأصبحوا وقد اسري بكتابهم ورفع العلم الذي
في صدورهم فهم اهل كتاب وقد اخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابو بكر - واراه قال - وعمر منهم الجزية رواه الشافعي وسعيد وغيرهما ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال سنوا بهم سنة اهل الكتاب ولنا قول الله تعالى (ان تقولوا إنما انزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) والمجوس من غير الطائفتين، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (سنوا بهم سنة اهل الكتاب) فدل على انهم غيرهم وروى البخاري باسناده عن بجالة انه قال: ولم يكن عمر رضي الله عنه اخذ الجزية من المجوس
حتى قال له عبد الرحمن بن عوف ان النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر ولو كانوا اهل كتاب لما وقف عمر في اخذ الجزية منهم مع امر الله تعالى بأخذ الجزية من اهل الكتاب.
وما ذكروه هو الذي صار لهم به شبهة كتاب.
وما رووه عن علي فقد قال ابو عبيد لا أحسبه محفوظا ولو كان له اصل لما حرم النبي صلى الله عليه وسلم نساءهم وهو كان أولى بعلم ذلك، ويحوز أن يصح هذا الذي ذكر عن علي مع تحريم نسائهم لان الكتاب المبيح لذلك هو الكتاب المنزل على احدى الطائفتين وليس هؤلاء منهم ولان كتابهم رفع فلم ينتهض للاباحة وثبت به حقن دمائهم، فاما قول ابي ثور في حل ذبائحهم ونسائهم فيخالف الاجماع فلا يلتفت إليه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (سنو بهم سنة اهل الكتاب) اي في أخذ الجزية منهم إذا ثبت ذلك فان أخذ الجزية من أهل الكتابين والمجوس إذا لم يكونوا من العرب ثابت بالاجماع لا نعلم فيه خلافا فان الصحابة رضي الله عنه أجمعوا على ذلك وعمل به الخلفاء الراشدون ومن بعدهم مع دلاله الكتاب العزيز على اخذ الجزية من أهل الكتابين ودلالة السنة المذكورة على أخذها من المجوس فان كانوا من العرب فحكمهم حكم العجم فيما ذكرنا وبه قال مالك والشافعي والاوزاعي وأبو ثور وابن المنذر وقال أبو يوسف لا تؤخذ الجزية من العرب لانهم شرفوا بكونهم من رهط النبي صلى الله عليه وسلم
ولنا عموم الآية وان النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد الي دومة الجندل فاخذ أكيدر دومة فصالحه على الجزية وهو من العرب رواه ابودواد واخذ الجزية من نصارى نجران وهم عرب وبعث معاذا إلى اليمن فقال إنك تأتي قوما من اهل كتاب وامره أن يأخذ من كل حالم دينارا ولو كانوا عربا ولان ذلك إجماع فان عمر اراد اخذ الجزية من نصارى بني تغلب وابوا ذلك وسألوه ان يأخذ منهم مثلما يأخذ من المسلمين فأبى ذلك عليهم حتى لحقوا بالروم ثم صالحهم على ما يأخذ منهم عوضا عن الجزية فالمأخوذ منهم جزية غير انه على غير صفة جزية غيرهم ولم ينكر ذلك أحد فكان إجماعا.
وقد ثبت بطريق القطع ان كثيرا من نصارى العرب ويهودهم كانوا في عصر الصحابة في بلاد الاسلام ولايجوز إقرارهم
فيها بغير جزية فثبت يقينا انهم أخذوا الجزية منهم (فصل) ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين (أحدهما) التزام إعطاء الجزية في كل حول (والثاني) التزام أحكام الاسلام وهو قبول ما يحكم به عليهم من اداء حق أو ترك محرم لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة (فادعهم إلى أداء الجزية فان أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) ولا تعتبر حقيقة الاعطاء ولا جريان الاحكام لان الاعطاء انما يكون في آخر الحول والكف عنهم في ابتدائه عند البذل.
والمراد بقوله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد) أي يلتزموا وهذا كقوله (فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) فان المراد به التزام ذلك فان الزكاة انما يجب أداؤها عند الحول
(فصل) فأما غير اليهود والنصارى والمجوس من الكفار فلا تقبل منهم الجزية ولا يقرون بها ولا يقبل منهم الا الاسلام أو القتل هذا ظاهر المذهب.
وروى عنه الحسن بن ثواب انها تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الاوثان من العرب لان حديث بريدة يدل بعمومه على قبول الجزية من كل كافر الا انه خرج منه عبدة الاوثان من العرب لتغليظ كفرهم من وجهين (أحدهما) دينهم (والثاني) كونهم من رهط النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الشافعي لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس لكن في أهل الكتب غير اليهود والنصارى مثل أهل صحف ابراهيم وشيث وزبور داود ومن تمسك بدين آدم وجهان (أحدهما) يقرون بالجزية لانهم أهل كتاب فأشبهوا اليهود والنصارى.
وقال أبو حنيفة تقبل من جميع الكفار إلا العرب لانهم رهط النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقرون على غير دينه وغيرهم يقر بالجزية لانه يقر بالاسترقاق فأقر بالجزية كالمجوس.
وعن مالك انها تقبل من جميعهم إلا مشركي قريش لانهم ارتدوا.
وعن الاوزاعي وسعيد بن عبد العزيز انها تقبل من جميعهم وهو قول عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر لحديث بريدة ولانه كافر فأقر بالجزية كأهل الكتاب ولنا قول الله تعالى (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) وهذا عام خص منه جميع أهل الكتاب بالآية والمجوس بالسنة فمن عداهم من الكفار يبقى على قضية العموم وقد بينا ان
أهل الصحف من غير أهل الكتاب المراد بالآية
(فصل) وإذا عقد الذمة لكفار زعموا انهم أهل كتاب ثم تبين انهم عبدة أوثان فالعقد باطل من اصله وان شككنا فيهم لم ينتقض عهدهم بالشك لان الاصل صحته فان اقر بعضهم بذلك دون بعض قبل من المقر في نفسه فانتقض عهده وبقي فيمن لم يقر بحاله (مسألة) (فاما الصابئ فينظر فيه فان انتسب إلى احد الكتابين فهو من اهله وإلا فلا) اختلف اهل العلم في الصابئين فروي عن احمد انهم جنس من النصارى وقال في موضع آخر بلغني انهم يسبتون فإذا اسبتوا فهم من اليهود وروي عن عمر رضي الله عنه انه قال هم يسبتون وقال مجاهد هم بين اليهود والنصارى وقال السدي والربيع هم بين اهل الكتاب وتوقف الشافعي في امرهم والصحيح ما ذكر ههنا من انه ينظر فيهم فان كانوا يوافقون احد اهل الكتابين في نبيهم وكتابهم فهم منهم، وان خالفوهم في ذلك فليسوا منهم ويروى عنهم انهم يقولون الفلك حي ناطق وان الكواكب السبعة آلهة فان كانوا كذلك فهم كعبدة الاوثان (مسألة) (ومن تهود أو تنصر بعد بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو ولد بين ابوين لا يقبل الجزية من احدهما فعلى وجهين) (احدهما) انه لا فرق بين من دخل في دينهم قبل تبديل كتابهم أو بعده ولا بين ان يكون ابن كتابيين أو كتابي ووثني وهذا ظاهر كلام الخرقي وقال ابو الخطاب من دخل في دينهم بعد تبديل كتابهم لم تقبل منهم الجزية لانه دخل في دين باطل ومن ولد بين ابوين احدهما تقبل من
الجزية والآخر لا تقبل منه ففيه وجهان وهذا مذهب الشافعي والصحيح الاول لعموم النص فيهم ولانهم من اهل دين تقبل منه الجزية فيقرون بها كغيرهم وانما تقبل منهم الجزية إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه من بذل الجزية والتزام احكام الملة لان الله تعالى امر بقتالهم حتى يعطوا الجزية اي يلتزموا اداءها فما لم يوجد ذلك يبقوا على اباحة دمائهم واموالهم
(مسألة) (ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب وتؤخذ الزكاة من اموالهم مثلي ما تؤخذ من اموال المسلمين) بنو تغلب بن وائل من العرب من ولد ربيعة بن نزار انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية فدعاهم عمر رضي الله عنه إلى بذل الجزية فابوا وانفوا وقالوا نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة فقال عمر لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة يا أمير المؤمنين ان القوم لهم بأس وشدة وهم عرب يانفون من الجزية فلا تعن عدوك عليك بهم وخذ منهم الجزية باسم الصدقة فبعث عمر في طلبهم فردهم وضعف عليهم من الابل من كل خمس شاتين ومن كل ثلاثين بقره تبيعين ومن كل عشرين دينارا دينارا ومن كل مائتي درهم عشرة دراهم وفيما
سقت السماء الخمس وفيما سقي بنضح أو غرب أو دولاب العشر فاستقر ذلك من قول عمر ولم يخالفه احد من الصحابة فكان اجماعا وقال به العلماء بعد الصحابة منهم ابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابو حنيفة وأبو يوسف والشافعي ويروى عن عمر بن عبد العزيز انه أبى على نصارى بني تغلب إلا الجزية وقال لا والله إلا الجزية والا فقد آذنتكم بالحرب وحجته عموم الآية فيهم وروي عن علي رضي الله عنه انه قال لان تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي لاقتلن مقاتلتهم ولاسبين ذراريهم فقد نقضوا العهد وبرئت منهم الذمة حين نصروا اولادهم وذلك ان عمر رضي الله عنه صالحهم على ان لا ينصروا اولادهم والعمل على الاول لما ذكرنا من الاجماع وأما الآية فان هذا المأخوذ منهم جزية باسم الصدقة فان الجزية يجوز اخذها عروضا (مسألة) (ويؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم) كذلك قال اصحابنا تؤخذ الزكاة منهم مضاعفة من مال من تؤخذ منه الزكاة لو كان مسلما وبه قال ابو حنيفة وابو عبيد وذكر انه قول أهل الحجاز فعلى هذا تؤخذ من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم.
زمناهم ومكافيفهم وشيوخهم الا ان ابا حنيفة لا يوجب الزكاة في مال صبي ولا مجنون من المسلمين فكذلك الواجب في مال بني تغلب لا يجب على صبي ولا مجنون إلا في الارض خاصة وذهب الشافعي إلى ان هذا جزية تؤخذ باسم الصدقة فعنده لا تؤخذ ممن لا جزية عليه كالنساء
والصبيان والمجانين قال وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال هؤلاء حمقى رضوا بالمعنى وأبوا الاسم
وقال النعمان بن زرعة خذ منهم الجزية باسم الصدقة ولانهم أهل ذمة فكان الواجب عليهم جزية لا صدقة كغيرهم من أهل الذمة ولانه مال يؤخذ من أهل الكتاب لحقن دمائهم فكان جزية كما لو أخذ باسم الجزية، يحققه ان الزكاة طهرة وهؤلاء لاطهرة لهم قال شيخنا وهذا اقيس وحجة اصحابنا أنهم سألوا عمر ان يأخذ منهم ما يأخذ بعضهم من بعض فأجابهم عمر إليه بعد الامتناع منه والذي يأخذه بعضنا من بعض هو الزكاة من كل مال زكوي لاي مسلم كان من صغير وكبير وصحيح ومريض كذلك المأخوذ من بني تغلب ولان نساءهم وصبيانهم صينوا عن السبي بهذا الصلح ودخلوا في حكمه فجاز ان يدخلوا في الواجب به كالرجال والعقلاء وعلى هذا من كان منهم فقيرا أو له مال غير زكوي كالرقيق والدور وثياب البذلة فلا شئ عليه كما لا يجب ذلك على أهل الزكاة من المسلمين ولا تؤخذ من مال لم يبلغ نصابا (مسألة) (ومصرفه مصرف الجزية اختاره القاضي) وهو مذهب الشافعي لانه مأخوذ من مشرك ولانه جزية مسماة بالصدقة وقال ابو الخطاب مصرفه مصرف الصدقات لانه مسمى باسم الصدقة مسلوك به فيمن يؤخذ منه مسلك الصدقة فيكون مصرفه مصرفها والاول أقيس واصح لان معنى الشئ أخص به من اسمه ولهذا لو سمي رجل أسدا
لم يصر له حكم المسمى بذلك ولانه لو كان صدقة على الحقيقة لجاز دفعها إلى فقراء من اخذت منهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقة (تؤخذ من اغنائهم فترد في فقرائهم) (فصل) فان بذل التغلبي أداء الجزية وتحط عنه الصدقة لم يقبل منه لان الصلح وقع على هذا فلا يغير، ويحتمل ان يقبل لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) أي يبذلوها وهذا قد أعطى الجزية وإن كان الذي بذلها منهم حربيا قبلت منه للآية وخبر بريدة ولانه لم يدخل في صلح الاولين فلم يلزمه حكمه وهو كتابي باذل للجزية فيحقن بها دمه فان اراد الامام نقض العهد
وتجديد الجزية عليهم كفعل عمر بن عبد العزيز لم يكن له ذلك لان عقد الذمة على التأبيد وقد عقده معهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يكن لاحد نقضه ماداموا على العهد.
(مسألة) (ولا يؤخذ ذلك من كتابي غيرهم، وقال القاضي تؤخذ من نصارى العرب ويهودهم) وجملته ان سائر أهل الكتاب من اليهود والنصارى العرب وغيرهم تقبل منهم الجزية إذا بذلوها ولا يؤخذون بما يؤخذ به نصارى بني تغلب، نص عليه احمد رواه عن الزهري قال ونذهب إلى ان يأخذ من مواشي بني تغلب خاصة الصدقة وتضعف عليهم كما فعل عمر رضي الله عنه وذكر القاضي وابو الخطاب ان حكم من تنصر من تنوخ وبهرا وتهود من كنانة وحمير وتمجس من
تميم حكم بني تغلب سواء وذكر ان الشافعي نص عليه في تنوخ وبهرا لانهم من العرب فأشبهوا بني تغلب.
ولنا عموم قوله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) وان النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال (خذ من كل حالم دينارا) وهم عرب وقبل الجزية من اهل نجران وكانوا نصارى واخذ الجزية من اكيدر دومة وهو عربي ولان حكم الجزية ثابت بالكتاب والسنة في كل كتابي عربيا كان أو غير عربي الا ما خص به بنو تغلب لمصالحة عمر اياهم ففيما عداهم يبقى الحكم على عموم الكتاب وشواهد السنة ولم يكن بين غير بني تغلب وبين احد من الائمة صلح كصلح بني تغلب فيما بلغنا ولا يصح قياس غير بني تغلب عليهم لوجوه (أحدها) ان قياس سائر العرب عليهم يخالف النصوص التي ذكرناها ولا يصح قياس المنصوص عليه على ما يلزم منه مخالفة النص (الثاني) ان العلة في بني تغلب الصلح ولم يوجد في غيرهم ولا يصح القياس مع تخلف العلة (الثالث) ان بني تغلب كانوا ذوي قوة وشوكة لحقوا بالروم وخيف منهم الضرر ان لم يصالحوا ولم يوجد هذا في غيرهم فان وجد في غيرهم فامتنعوا من أداء الجزية أو خيف الضرر بترك مصالحتهم فرأى الامام مصالحتهم على أداء الجزية باسم الصدقة جاز إذا كان المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم
من الجزية أو زيادة، وذكر هذا أبو إسحاق في كتابه المهذب والحجة في هذا قصة بني تغلب وقياسهم عليهم قال علي بن سعيد سمعت أحمد يقول أهل الكتاب ليس عليهم في مواشيهم صدقة ولا في أموالهم إنما تؤخذ منهم الجزية، إلا ان يكونوا صولحوا على ان تؤخذ منهم كما صنع عمر بنصارى بني تغلب حين أضعف عليهم الصدقة في صلحه اياهم إذا كانوا في معناهم، أما قياس من لم يصالح عليهم في جعل جزيتهم صدقة فلا يصح (مسألة) (ولا جزية على صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا زمن ولا أعمى ولا عبد ولا فقير يعجز عنها) لا نعلم خلافا بين أهل العلم في ان الجزية لا تجب على صبي ولا امرأة ولا زائل العقل وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحاب الشافعي وأبي ثور وقال ابن المنذر لا أعلم من غيرهم خلافا وقد دل على هذا ان عمر رضي الله عنه كتب إلى امراء الاجناد ان اضربوا الجزية ولا تضربوها على النساء والصبيان ولا تضربوها إلا على من جرت عليه الموسى رواه سعيد وابو عبيد والاثرم والمجنون كالصبي لانه غير ملكف وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ (خذ من كل حالم دينارا) دليل على أنها لا تجب على غير بالغ ولان الجزية تؤخذ لحقن الدم وهؤلاء دماؤهم محقونة بدونها ولا تجب على خنثى مشكل لانه لا يعلم كونه رجلا (فصل) فان بذلت المرأة الجزية اخبرت أنها لا جزية عليها، فان قالت انا اتبرع بها أو انا أؤديها قبلت منها ولم تكن جزية بل هبة تلزم بالقبض فان شرطته على نفسها ثم رجعت فلها ذلك وان بذلت
الجزية لتصير إلى دار الاسلام مكنت من ذلك بغير شئ ولكن يشترط عليها التزام أحكام الاسلام وتعقد لها الذمة ولا يؤخذ منها شئ إلا ان تتبرع به بعد معرفتها ان لا شئ عليها وان أخذ منها على غير ذلك رد إليها لانها بذلته معتقدة أنه عليها وان دمها لا يحقن إلا به فاشبه من أدى مالا إلى من يعتقد أنه له فتبين أنه ليس له.
ولو حاصر المسلمون حصنا ليس فيه الا نساء فبذلن الجزية لتعقد لهن الذمة عقدت لهن بغير شئ وحرم استرقاقهن كالتي قبلها سواء، فان كان في الحصن رجال فسألوا الصلح لتكون الجزية على النساء والصبيان دون الرجال لم يصح لانهم جعلوها على غير من هي عليه
وبرءوا من تجب عليه، وان بذلوا جارية عن الرجال ويؤدوا عن النساء والصبيان من أموالهم جاز وكان ذلك زيادة في جزيتهم وان كان من أموال النساء والصبيان لم يجز لانهم يجعلون الجزية على من لا تلزمه فان كان القدر الذي بذلوه من أموالهم مما يجزئ في الجزية أخذوه وسقط الباقي (فصل) ولا تجب على زمن ولا أعمى ولا شيخ فان ولا على من هو في معناهم كمن به داء لا يستطيع معه القتال ولا يرجى برؤه وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه تجب عليهم الجزية بناء على قتلهم وقد سبق قولنا في انهم لا يقتلون فلا تجب عليهم الجزية كالنساء والصبيان (فصل) وأما العبد فان كان لمسلم لم تجب عليه الجزية بغير خلاف علمناه لانه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا جزية على العبد) وعن ابن عمر مثله ولان ما لزم العبد إنما يؤديه سيده فيؤدي ايجابها على
العبد المسلم إلى ايجابها على المسلم وان كان لكافر فكذلك نص عليه أحمد وهو قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنه لا جزية على العبد وذلك لما ذكرنا من الحديث ولانه محقون الدم أشبه النساء والصبيان، أو لا مال له اشبه الفقير العاجز ويحتمل كلام الخرقي وجوب الجزية عليه وروي ذلك عن أحمد لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لا تشتروا رقيق أهل الذمة ولا مما في ايديهم لانهم أهل خراج يبيع بعضهم بعضا ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذا نفذه الله منه قال أحمد رضي الله عنه أراد عمر ان تتوفر الجزية لان المسلم إذا اشتراه سقط عنه أداء ما يؤخذ منه والذمي يؤدي عنه وعن مملوكه خراج جماجمهم وروي عن علي مثل حديث عمر ولانه ذكر مكلف قوي مكتسب فوجبت عليه الجزية كالحر والاول أولى (فصل) وإذا اعتق لزمته الجزية لما يستقبل سواء كان معتقه مسلما أو كافرا هذا الصحيح عن أحمد وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وبه قال سفيان والليث والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وعنه يقر بغير جزية وروي نحوه عن الشعبي لان الولاء شعبة كشعبة الرق وهو ثابت عليه ووهن الخلال هذه الرواية وقال هذا قول قديم رجع عنه وعن مالك كقول الجماعة وعنه ان كان المعتق له مسلما فلا جزية عليه لان عليه الولاء لمسلم أشبه ما لو كان عليه الرق
ولنا أنه حر مكلف موسر من أهل القتال فلم يقر في دارنا بغير جزية كالحر الاصلي.
إذا ثبت
هذا فان حكمه فيما يستقبل من جزيته حكم من بلغ من صبيانهم أو افاق من مجانينهم على ما ذكرناه (فصل) ومن بعضه حر فقياس المذهب ان عليه من الجزية بقدر ما فيه من الحرية لانه حكم يختلف بالرق والحرية فينقسم على قدر ما فيه كالارث ولا جزية على أهل الصوامع من الرهبان ويحتمل ان تجب عليهم وهذا أحد قولي الشافعي وروي عن بن عبد العزيز أنه فرض على رهبان الديارات الجزية على كل راهب دينارا لعموم النصوص ولانه كافر صحيح حر قادر على أداء الجزية فاشبه الشماس.
ووجه الاول أنهم محقونون بدون الجزية فلم تجب عليهم كالنساء وقد ذكرنا دليل تحريم قتلهم والنصوص مخصوصة بالنساء وهؤلاء في معناهن ولانه لا كسب له اشبه الفقير غير المعتمل (فصل) ولا تجب على فقير عاجز عنها وهذا أحد قولي الشافعي وله قول أنها تجب عليه لقوله عليه السلام (خذ من كل حالم دينارا) ولان دمه غير محقون فلا تسقط عنه الجزية كالقادر ولنا ان عمر رضي الله عنه جعل الجزية على ثلاث طبقات جعل أدناها على الفقير المعتمل فدل على أن غير المعتمل لا شئ عليه ولان الله تعالى قال (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) ولانه مال يجب بحلول الحول فلم يلزم الفقير العاجز كالزكاة ولان الخراج ينقسم إلى خراج ارض وخراج رؤوس وقد ثبت ان خراج الارض على قدر طاقتها وما لا طاقة له لا شئ عليه كذلك خراج الرؤوس وأما الحديث فيتناول الاخذ ممن يمكن الاخذ منه والاخذ ممن لا يقدر على شئ مستحيل فكيف يؤمر به ويؤخذ منه بقدر ما ادرك؟
(مسألة) (ومن بلغ أو افاق أو استغنى فهو من أهلها بالعقد الاول ويؤخذ منه في آخر الحول بقدر ما ادرك) ولا يحتاج إلى استئناف عقد له وقال القاضي في موضع هو مخير بين التزام العقد وبين ان يرد
إلى مأمنه فيجاب إلى ما يختار وهو قول الشافعي ولنا أنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه تجديد عقد لهؤلاء ولان العقد يكون مع سادتهم فدخل فيه سائرهم ولانه عقد مع الكفار فلم يحتج إلى استئنافه كذلك كالهدنة ولان الصغار والمجانين دخلوا في العقد فلم يحتج إلى تجديده له عند تغير أحوالهم كغيرهم.
إذا ثبت هذا فان كان البلوغ والافاقة في أول أحوال قومه أخذ منه في آخره معهم، وان كان في اثناء الحول أخذ منه عند تمام الحول بقسطه ولم يترك حتى يتم لئلا يحتاج إلى افراده بحول وضبط حول كل انسان منهم وربما أفضى إلى أن يصير لكل واحد حول مفرد وذلك يشق.
(مسألة) (ومن كان يجن ويفيق لفقت إفاقته فإذا بلغت حولا أخذت منه ويحتمل أن يؤخذ في آخر كل حول بقدر إفاقته منه).
إذا كان يجن ويفيق لم يخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يكون غير مضبوط مثل من يفيق ساعة من أيام أو من يوم أو يصرع ساعة من يوم أو من أيام فهذا يعتبر حاله بالاغلب لان هذه الافاقة غير ممكن ضبطها فلم تمكن مراعاتها.
(الثاني) أن يكون مضبوطا مثل من يجن يوما ويفيق يومين أو أقل من ذلك أو أكثر إلا انه مضبوط ففيه وجهان (أحدهما) يعتبر الاغلب من حاله وهذا مذهب ابي حنيفة لانه يجن ويفيق فاعتبر الاغلب من حاله كالاول.
(والوجه الثاني) تلفق أيام إفاقته لانه لو كان مفيقا في الكل وجبت الجزية فإذا وجدت الافاقة في بعض الحول وجب فيه ما يجب به لو انفرد فعلى هذا الوجه في أخذ الجزية وجهان (أحدهما) أن الايام تلفق فإذا بلغت حولا أخذت منه لان أخذها قبل ذلك أخذ لجزيته قبل كمال الحول فلم يجز كالصحيح (والثاني) يؤخذ منه في آخر كل حول بقدر ما أفاق منه كما لو أفاق في بعض الحول إفاقة مستمرة، وان كان يجن ثلث الحول ويفيق ثلثيه أو بالعكس ففيه الوجهان كما ذكرنا، فان استوت افاقته وجنونه مثل من يجن يوما ويفيق يوما أو يجن نصف الحول ويفيق نصفه عادة لفقت افاقته لانه تعذر
اعتبار الاغلب لعدمه فتعين الوجه الآخر.
(الحال الثالث) أن يجن نصف حول ثم يفيق افاقة مستمرة أو يفيق نصفه ثم يجن جنونا مستمرا فلا جزية عليه في الثاني وعليه في الاول من الجزية بقدر ما أفاق كما تقدم.
(مسألة) (وتقسم الجزية بينهم فيجعل على الغني ثمانية وأربعون درهما وعلى المتوسط أربعة وعشرون وعلى الفقير اثنا عشر).
الكلام في هذه المسألة في فصلين (أحدهما) في تقدير الجزية (والثاني) في كمية مقدارها فأما الاول ففيه ثلاث روايات.
(احداهن) أنها مقدرة بمقدار لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي لان النبي صلى الله عليه وسلم فرضها مقدرة بقوله لمعاذ (خذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر) وفرضها عمر بمحضر من الصحابة فلم ينكر فيكون اجماعا.
[ والثانية ] أنها غير مقدرة بل يرجع فيها إلى اجتهاد الامام في الزيادة والنقصان قال الاثرم قيل لابي عبد الله فيزاد اليوم وينقص؟ يعني من الجزية قال نعم يزاد فيها وينقص على قدر طاقتهم على قدر ما يرى الامام وذكر انه زيد عليهم فيما مضى درهمان فجعله خمسين، قال الخلال العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه الجماعة بانه لا بأس للامام ان يزيد في ذلك وينقص على ما رواه عنه أصحابه في عشرة مواضع فاستقر قوله على ذلك وهو قول الثوري وابي عبيد لان النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذا ان يأخذ من كل حالم دينارا وصالح أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والنصف في رجب، رواهما أبو داود، وعمر رضي الله عنه جعل الجزية على ثلاث طبقات على الغني ثمانية وأربعين درهما وعلى المتوسط
أربعة وعشرين درهما وعلى الفقير اثني عشر درهما وصالح بني تغلب على مثلي ما على المسلمين من الزكاة وهذا يدل على انها إلى رأي الامام لولا ذلك لكانت على قدر واحد في جميع هذه المواضع ولم يجز ان يختلف فيها، قال البخاري قال ابن عيينة عن ابن أبي نجيح قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم
اربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال جعل ذلك من قبل اليسار ولانها عوض فلم تتقدر كالاجرة.
(والرواية الثالثة) ان أقلها مقدر بدينار وأكثرها غير مقدر وهو اختيار ابي بكر فتجوز الزيادة ولا يجوز النقص لان عمر زاد على ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقص منه وروي انه زاد على ثمانية واربعين فجعلها خمسين.
(والفصل الثاني) أننا إذا قلنا بالرواية الاولى وانها مقدرة فقدرها في حق الموسر ثمانية واربعون درهما وفي حق المتوسط اربعة وعشرون وفي حق الفقير اثنا عشر وهذا قول ابي حنيفة، وقال مالك هي في حق الغني اربعون درهما أو اربعة دنانير وفي حق الفقير عشرة دراهم أو دينار وروي ذلك عن عمر وقال الشافعي الواجب دينار في حق كل احد لحديث معاذ الا ان المستحب جعلها على ثلاث طبقات كما ذكرناه لنخرج من الخلاف قالوا وقضاء النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع من غيره.
ولنا حديث عمر رضي الله عنه وهو حديث لا شك في صحته وشهرته بين الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم ولم ينكره منكر ولا خالف فيه وعمل به من بعده من الخلفاء رحمة الله عليهم فكان
إجماعا لا يجوز الخطأ عليه وقد وافق الشافعي على استحباب العمل به وأما حديث معاذ فلا يخلوا من وجهين (احدهما) انه فعل ذلك لغلبة الفقر عليهم بدليل قول مجاهد ان ذلك من أجل اليسار (والوجه الثاني) ان يكون التقدير غير واجب بل هو موكول إلى إجتهاد الامام ولان الجزية وجبت صغارا وعقوبة فتخلف (فتختلف) باختلاف احوالهم كالعقوبة في البدن منهم من يقتل ومنهم من يسترق ولا يصح كونها عوضا عن سكنى الدار لانها لو كانت كذلك لوجبت على النساء والصبيان والزمنى والمكافيف (مسألة) (والغني منهم من عده الناس غنيا في ظاهر المذهب) وليس ذلك بمقدر لان التقديرات بابها التوقيف ولا توقيف في هذا فيرجع فيه إلى العادة والعرف (مسألة) (وإذا بذلوا الواجب عليهم لزم قبوله وحرم قتالهم) لقول الله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) الآية إلى قوله (حتى يعطوا الجزية
عن يد وهم صاغرون) فجعل اعطاء الجزية غاية لقتالهم فمتى بذلوها لم يجز قتادة (قتالهم) للآية ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة (فادعهم إلى اداء الجزية فان أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) فان قلنا ان الجزية غير مقدرة الاكثر لم يحرم قتالهم حتى يجيبوا إلى بذل مالا يجوز طلب أكثر منه (فصل) وتجب الجزية في آخر كل حول وبه قال الشافعي وقال ابو حنيفة تجب بأوله ويطالب بها عقيب العقد وتجب الثانية في أول الحول الثاني لقول تعالى (حتى يعطوا الجزية) ولنا انه مال يتكرر بتكرر الحول أو يؤخذ في آخر كل حول فلم يجب بأوله كالزكاة والدية
وأما الآية فالمراد بها التزام إعطائها دون نفس الاعطاء ولهذا يحرم قتالهم بمجرد بذلها قبل أخذها (فصل) وتؤخذ الجزية مما يسر من اموالهم ولا يتعين أخذها من ذهب ولا فضة نص عليه أحمد وهو قول الشافعي وأبي عبيد وغيرهم لان النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن أمره ان يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر وكان النبي صلى الله عليه وسلم ياخذ من نصارى نجران الفي حلة وكان عمر رضي الله عنه يؤتى بنعم كثيرة يأخذها من الجزية وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان يأخذ الجزية من كل ذي صنعة من متاعه من صاحب الابر إبرا ومن صاحب المسال مسالا ومن صاحب الحبال حبالا ثم يدعوا الناس فيعطيهم الذهب والفضة فيقتسمونه ثم يقول خذوا أو اقتسموا فيقولون لا حاجة لنا فيه فيقول اخذتم خياره وتركتم شراره لتحملنه.
إذا ثبت هذا فانه يؤخذ بالقيمة لقوله عليه السلام (أو عدله معافر) ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير منهم عن جزية رؤوسهم وخراج ارضهم لقول عمر رضي الله عنه ولوهم ببيعها وخذوا انتم من الثمن ولانها من أموالهم التي نقرهم على اقتنائها فجاز أخذ اثمانها كثيابهم (مسألة) (ومن أسلم بعد الحول سقطت عنه الجزية وان مات أخذت من تركته وقال القاضي تسقط) إذا أسلم من عليه الجزية في اثناء الحول لم تجب الجزية عليه وان أسلم بعده سقطت عنه وهذا قول مالك والثوري وأبي عبيد وأصحاب الرأي وقال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر ان اسلم بعد الحول
لم تقسط لانه دين استحقه صاحبه واستحق المطالبة به في حال الكفر فلم يسقط بالاسلام كالخراج وسائر الديون وللشافعي فيما إذا أسلم في أثناء الحول قولان (أحدهما) عليه من الجزيه بالقسط كما لو افاق بعض الحول ولنا قول الله تعالى (قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ليس على المسلمين جزية) رواه الخلال وذكر ان احمد سئل عنه فقال ليس يرويه غير جرير قال وقد روي عن عمر رضي الله عنه انه قال ان أخذها في كفه ثم اسلم ردها عليه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال (لا ينبغي للمسلم ان يؤدي الخراج) يعني الجزية وروي ان ذميا اسلم فطولب بالجزية وقيل انما اسلم تعوذا قال ان في الاسلام معاذا فرفع إلى عمر فقال عمر ان في الاسلام معاذا وكتب ان لا تؤخذ منه الجزية رواه أبو عبيد بنحو من هذا المعنى ولان الجزية صغار فلا تؤخذ منه كما لو اسلم قبل الحول ولان الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر فيسقطها الاسلام كالقتل وبهذا فارق الخراج وسائر الديون (فضل) فان مات بعد الحول لم تسقط عنه الجزية في ظاهر كلام أحمد وهو مذهب الشافعي وحكي عن القاضي انها تسقط بالموت وهو قول أبي حنيفة ورواه أبو عبيد عن عمر بن عبد العزيز لانها عقوبة فتسقط بالموت كالحدود ولانها تسقط بالاسلام فسقطت بالموت كما قبل الحول ولنا انه دين وجب عليه في حياته فلم يسقط بموته كديون الآدميين والحد انما سقط لفوات محله وتعذر استيفائه بخلاف الجزية وفارق الاسلام فانه الاصل والجزية بدل عنه فإذا أتى بالاصل استغنى
عن البدل كمن وجد الماء لا يحتاج معه إلى التيمم بخلاف الموت ولان الاسلام قربة وطاعة يصلح ان يكون معاذا من الجزية كما ذكر عمر رضي الله عنه والموت بخلافه (مسألة) (وان اجتمعت عليه جزية سنين استوفيت كلها ولم تتداخل) وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة تتداخل لانها عقوبة فتتداخل كالحدود.
ولنا انها حق مال يجب في آخر كل حول فلم يتداخل كالدية
(مسألة) (وتؤخذ الجزية منهم في آخر الحول ويمتهنون عند أخذها ويطال قيامهم وتجر ايديهم) وانما تؤخذ منهم في آخر الحول لانه مال يتكرر بتكرر الحول فلم يؤخذ قبل حولان الحول كالزكاة ويمتهنون عند اخذها منهم وهكذا ذكر أبو الخطاب، ويطال قيامهم وتجر أيديهم عند اخذها لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) وقد قيل الصغار التزام الجزية وجريان احكامنا عليهم، ولا يقبل منهم إرسالها بل يحضر الذمي بنفسه ويؤديها وهو قائم والآخذ جالس (فصل) ولا يعذبون في اخذها ولا يشط عليهم فان عمر رضي الله عنه أتي بمال كثير قال أبو عبيد أحسبه من الجزية فقال اني لاظنكم قد اهلكتم الناس، قالوا لا والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا قال فلا سوط ولا بوط؟ قالوا نعم قال الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني، وقدم عليه سعيد بن عامر بن خريم فعلاه عمر بالدرة فقال سعيد سبق سيلك مطرك ان تعاقب نصبر وان
تعف نشكر وان تستعتب نعتب فقال ما على المسلمين إلا هذا مالك تبطئ بالخراج فقال امرتنا أن لا نزيد الفلاحين على اربعة دنانير فلسنا نزيدهم على ذلك ولكنا نؤخرهم إلى غلاتهم فقال عمر: لا أعزلنك ماحييت.
رواهما ابو عبيد وقال انما وجه التأخير إلى الغلة الرفق بهم، وقال ولم نسمع في استيداء الجزية والخراج وقتا غير هذا واستعمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه رجلا على عكبرى فقال له على رءوس الناس لا تدعن لهم درهما من الخراج وشدد عليه القول ثم قال ائتني عند انتصاف النهار فأتا فقال اتي كنت امرتك بأمر واني أتقدم اليك الآن فان عصيتني نزعتك لا تبيعن لم في خراجهم حمارا ولا بقرة ولا كسوة شتاء ولا صيف وارفق بهم وافعل بهم (مسألة) (ويجوز أن يشترط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين ويبين ايام الضيافة وقدر الطعام والادام والعلف وعدد من يضاف ولا يجب ذلك من غير شرط وقيل يجب) يجوز ان يشترط في عقد الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين لما روى الامام احمد رضي الله عنه باسناده عن الاحنف بن قيس ان عمر شرط على اهل الذمة ضيافة يوم وليلة وان يصلحوا
القناطر وان قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته قال ابن المنذر وروي عن عمر انه قضى على اهل الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين ثلاثة ايام وعلف دوابهم وما يصلحهم.
روي ان النبي صلى الله عليه وسلم ضرب على نصارى أيلة ثلثمائة دينار وكانوا
ثلثمائة نفس في كل سنة وان يضيفوا من يمر بهم من المسلمين ثلاثة ايام، ولان في هذا ضربا من المصلحة لانهم ربما امتنعوا من مبايعة المسلمين إضرارا بهم فإذا شرطت عليهم الضيافة أمن ذلك فان لم يشرط عليهم الضيافة لم يجب ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي.
ومن اصحابنا من قال تجب بغير شرط لوجوبها على المسلمين والاول اصح لانه اداء مال لم يجب بغير رضاهم كالجزية، فان شرطها عليهم فامتنعوا من قبولها لم تعقد لهم الذمة، وقال الشافعي لا يجوز قتالهم عليها (فصل) قال القاضي إذا شرط الضيافة فانه يشترط ان يبين ايام الضيافة وعدد من يضاف من الرجالة والفرسان فيقول تضيفون في كل سنة مائة يوم في كل يوم عشرة من المسلمين من خبز كذا وادم كذا وللفرس من الشعير كذا ومن التبن كذا لانه من الجزية فاعتبر العلم به كالنقود فان شرط الضيافة مطلقا صح في الظاهر لان عمر رضي الله عنه شرط عليهم ذلك من غير عدد ولا تقدير قال ابو بكر وإذا أطلق مدة الضيافة فالواجب يوم وليلة لان ذلك الواجب على المسلمين ولا يكلفون الذبيحة ولا أن يضيفوهم بأرفع من طعامهم لانه يروى عن عمر رضي الله عنه انه شكى إليه اهل الذمة ان المسلمين يكلفونهم الذبيحة فقال أطعموهم مما تأكلون وقال الاوزاعي ولا يكلفون الذبيحة ولا الشعير، وقال القاضي إذا وقع الشرط مطلقا لم يلزمهم الشعير ويحتمل ان يلزمهم ذلك للخيل لان العادة جارية به فهو كالخبز للرجل.
وللمسلمين النزول في الكنائس والبيع فان عمر رضي الله عنه صالح أهل الشام على ان يوسعوا ابواب بيعهم وكنائسهم
لمن يجتاز بهم من المسلمين ليدخلوا ركبانا، فان لم يجدوا مكانا فلهم النزول في الافنية وفضول المنازل، وليس لهم تحويل صاحب المنزل منه، والسابق إلى منزل أحق به ممن ياتي بعده فان امتنع
بعضهم من القيام بما يجب عليه أجبر عليه، فان امتنع الجميع اجبروا، فان لم يكن إلا بالقتال قوتلوا فان قاتلوا انتقض عهدهم (فصل) وتقسم الضيافة بينهم على قدر جزيتهم فان جعل الضيافة مكان الجزية جاز لما روي ان عمر رضي الله عنه كتب لراهب من اهل الشام اني ان وليت هذه الارض اسقطت عنك خراجك فلما قدم الجابية وهو امير المؤمنين جاءه بكتابه فعرفه وقال اني جعلت لك ما ليس لي ولكن اختر ان شئت اداء الجزية وان شئت ان تضيف المسلمين فاختار الضيافة ويشترط ان تكون الضيافة يبلغ قدرها اقل الجزية إذا قلنا مقدرة الاقل لئلا ينقص خراجه عن اقل الجزية وذكر ان من الشروط الفاسدة لاكتفاء بضيافتهم عن جزيتهم لان الله تعالى امر بقتالهم حتى يعطوا الجزية فإذا لم يعطوها كان قتالهم مباحا.
ولنا ان هذا اشتراط مال يبلغ قدر الجزية فجاز كما لو شرط عليهم عدل الجزية معافر.
وإذا شرط في عقد الذمة شرطا فاسدا مثل ان يشترط ان لا جزية عليهم أو اظهار المنكر أو اسكانهم الحجاز أو ادخالهم الحرم أو نحو هذا فقال القاضي يفسد به العقد لانه شرط فعل محرم فافسد العقد كما لو شرط قتال المسلمين ويحتمل أن يبطل الشرط وحده بناء على الشروط الفاسدة في البيع والمضاربة.
(مسألة) (وإذا تولى امام فعرف قدر جزيتهم وما شرط عليهم اقرهم عليه، فان لم يعرف رجع إلى قولهم فان بان كذبهم رجع عليهم وعند ابي الخطاب انه يسأنف العقد معهم) إذا مات الامام أو عزل وتولى غيره فان عرف ما عقد عليه عقد الذمة الذي قبله وكان عقدا صحيحا اقرهم عليه ولم يحتج إلى تجديد عقد لان الخلفاء رضي الله عنهم اقروا عهد عمر ولم يجددوا عقدا سواه ولان عقد الذمة مؤبد، وان كان فاسدا رده إلى الصحة وان لم يعرف فشهد به مسلمان أو كان امره ظاهرا عمل به، وان اشكل عليهم سألهم فان ادعوا العقد بما يصلح ان يكون جزية قبل قولهم وعمل به، وان شاء استحلفهم استظهارا فان بان له بعد ذلك انهم نقصوا من المشروط رجع
عليهم بما نقصوا، وان قالوا كنا نؤدي كذا وكذا جزية وكذا كذا هدية استحلفهم يمينا واحدة لان الظاهر فيما يدفعونه انه جزية وان قال بعضهم كنا نؤدي دينارا وقال بعضهم كنا نؤدي دينارين اخذ كل واحد منهم باقراره ولم يقبل قول بعضهم على بعض لان اقوالهم غير مقبولة واختار ابو الخطاب انه إذا لم يعرف ما عوهدوا عليه استأنف العقد معهم، لان عقد الاول لم يثبب عنده فصار كالمعدوم (فصل) وما يذكره بعض اهل الذمة من ان معهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم باسقاط الجزية عنهم لا يصح وسئل عن ذلك ابو العباس بن سريج فقال ما نقل ذلك احد من المسلمين وروي انهم طولبوا بذلك فأخرجوا كتابا وذكروا أنه بخط علي كتبه عن النبي صلى الله عليه وسلم كان فيه شهادة سعد بن معاذ
ومعاوية وتاريخه بعد موت سعد قبل اسلام معاوية فاستدل بذلك على بطلانه ولان قولهم غير مقبول ولم يرو ذلك من يعتمد على روايته.
(مسألة) (وإذا عقد الذمة معهم كتب أسماءهم وأسماء آبائهم وعددهم وحلاهم ودينهم).
فيقول فلان بن فلان الفلاني طويل أو قصير أو ربعة أسمر أو أبيض أدعج العين أقنى الانف مقرون الحاجبين ونحو هذا من صفاتهم التي يتميز بها كل واحد عن الآخر ويجعل لكل طائفة عريفا يجمعهم عند آداء الجزية ويعرف من يبلغ من غلمانهم ويفيق من مجانينهم ويقدم من غيابهم ومن يوت أو يسلم أو يستغني أو يسافر لانه أمكن لاستيفاء الجزية وأحوط ويبين حال من خرق شيئا من أحكام الذمة أو نقض العهد ليفعل فيه الامام ما يجب عليه ومن أخذت منه الجزية كتب له براءة لتكون له حجة إذا احتاج إليها.
(باب أحكام الذمة) يلزم الامام أن يأخذهم باحكام المسلمين في ضمان النفس والمال والعرض وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه دون ما يعتقدون حله.
لا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين بذل الجزية والتزام أحكام الملة من حقوق الآدميين في العقود والمعاملات وأروش الجنايات وقيم المتلفات فان عقد على غير هذا من الشروط لم يصح لقول الله تعالى
(حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، قيل الصغار جريان أحكام المسلمين عليهم وتلزمه إقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه في دينهم كالزنا والسرقة والقتل والقذف سواء كان الحد واجبا في دينهم أو لا لما روى أنس أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه وروى ابن عمر رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم أتي بيهوديين قد فجرا بعد احصانهما فرجمهما ولانه محرم في دينه وقد التزم حكم الاسلام فأما ما يعتقدون حله كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير ونكاح ذوات المحارم للمجوس فيقرون عليه ولا حد عليهم فيه لانهم يعتقدون حله ولانهم يقرون على كفرهم وهو أعظم اثما من ذلك إلا أنهم يمنعون من إظهاره بين المسلمين لانهم يتأذون بذلك والمأخوذ من أحكام الذمة ينقسم خمسة أقسام.
(أحدهما) ما لا يتم العقد إلا بذكره وهو التزام الجزية وجريان أحكامنا عليهم فان أخل بذكر واحد منها لم يصح العقد لما ذكرنا وفي معنى ذلك ترك قتال المسلمين فانه وان لم يذكر لفظه فذكر المعاهدة يقتضيه.
(القسم الثاني) ما فيه ضرر على المسلمين في أنفسهم وذلك ثمانية خصال تذكر في نقض العهد ان شاء الله تعالى.
(القسم الثالث) ما فيه غضاضة على المسلمين وهو ذكر ربهم أو كتابهم أو رسولهم بسوء (القسم الرابع) ما فيه إظهار منكر كاحداث الكنائس والبيع ورفع اصواتهم بكتابهم وإظهار
الخمر والخنزير والضرب بالنواقيس وتعلية البنيان على ابنية المسلمين والاقامة بالحجاز ودخول الحرم فيلزمهم الكف عنه سواء شرط عليهم أو لم يشرط في جميع هذه الاقسام الاربعة [ القسم الخامس ] التميز عن المسلمين في أربعة اشياء لباسهم وشعورهم وركوبهم وكناهم (مسألة) (ويلزمهم التميز عن المسلمين في شعورهم بحذف مقادم رؤوسهم وترك الفرق وكناهم فلا يتكنون بكنى المسلمين كأبي القاسم وأبي عبد الله وركوبهم بترك الركوب على السروج وركوبهم عرضا على الاكف، ولباسهم فيلبسون ثيابا تخالف ثيابهم كالعسلي والادكن، وتشد الخرق
في قلانسهم وعمائمهم، ويؤمر النصارى بشد الزنار فوق ثيابهم ويجعل في رقابهم خواتيم الرصاص وجلجل يدخل معهم الحمام) ينبغي للامام إذا عقد الذمة أن يشرط عليهم شروطا نحو ما شرطه عمر رضي الله عنه، وقد رويت عن عمر رضي الله عنه أخبار منها ما رواه الخلال باسناده عن اسماعيل بن عياش قال حدثنا غير واحد من أهل العلم قالوا كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم: انا حين قدمنا بلادنا طلبنا اليك الامان لانفسنا وأهل ملتنا على انا شرطنا لك على أنفسنا وأهل ملتنا انا لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا فيما حولها ديرا ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولا ماكان منها في خطط المسلمين ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار وان نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسا وأن لا نكتم أمر من غش المسلمين وان لا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا، ولا نظهر علينا صليبا
ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون ولا نخرج صليبنا ولا كتابنا في سوق المسلمين وان لا نخرج باعوثا ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع امواتنا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وان لانجاورهم بالخنازير ولا نبيع الخمور ولا نظهر شركا ولا نرغب في ديننا ولا ندعوا إليه احدا ولا نتخذ شيئا من الرقيق الذين جرت عليهم سهام المسلمين وان لا نمنع احدا من أقربائنا إذا أرادوا الدخول في الاسلام، وان نلزم زينا حيثما كنا وان لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنى بكناهم، وان نجز مقادم رؤوسنا ولا نفرق نواصينا ونشد الزنانير على اوساطنا ولاننقش خواتيمنا بالعربية ولا نركب السروج ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ولا نتقلد السيوف وان نوقر المسلمين في مجالسهم ونرشد الطريق ونقوم لهم عن المجالس إذا ارادوا المجالس ولا نطلع عليهم في منازلهم ولا نعلم اولادنا القرآن ولا يشارك احد منا مسلما في تجارة إلا ان يكون إلى المسلم أمر التجارة، وان نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة ايام ونطعمه من اوسط ما نجد، ضمنا ذلك على انفسنا
وذرارينا وأزواجنا ومساكننا، وان نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الامان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل لاهل المعاندة والشقاق.
فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه عمر أن امض لهم ما سألوا وألحق فيها حرفين اشترطها عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم أن لا يشتروا من سبايانا شيئا ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده.
فأنفذ عبد الرحمن بن غنم ذلك وأقر من اقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط
فهذه جملة شروط عمر رضي الله عنه فلذلك يلزمهم التميز عن المسلمين في شعورهم بحذف مقادم رؤوسهم ويجزون شعورهم ولا يفرقونها لان النبي صلى الله عليه وسلم فرق شعره وأما في الكني فلا يتكنوا بكنى المسلمين كأبي القاسم وأبي عبد الله وأبي محمد وأبي بكر وأبي الحسن وشبهها.
ولا يمنعون الكنى بالكلية فان احمد قال لطبيب نصراني يا أبا إسحاق وقال أليس النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل على سعد بن عبادة قال (ألا ترى ما يقول أبو الحباب؟) وقال لاسقف نجران (أسلم يا أبا الحارث) وقال عمر لنصراني يا أبا حسان اسلم تسلم وأما الركوب فلا يركبون الخيل لان ركوبها عز، ولهم ركوب ما سواها، ولا يركبون السروج ويركبون عرضا، رجلاه إلى جانب وظهره إلى آخر لما روى الخلال ان عمر رضي الله عنه امر بجز نواصي اهل الذمة وان يشدوا المناطق وان يركبوا الاكف بالعرض وأما في اللباس فهو ان يلبسوا ما يخالف لونه لون سائر الثياب فعادة اليهود العسلي وعادة النصارى الادكن وهو الفاختي وبكون هذا في ثوب واحد لا في جميعها ليقع الفرق ويضيف إلى هذا شد الزنار فوق ثوبه إن كان نصرانيا أو علامة اخرى ان لم يكن نصرانيا كخرقة يجعلها في عمامته أو قلنسوة يخالف لونه لونها ويختم في رقبته خاتم رصاص أو حديد وجلجل يدخل معه الحمام ليفرق بينه وبين
المسلمين، ويلبس نساؤهم ثوبا ملونا وتشد الزنار تحت ثيابها وتختم في رقبتها، ولا يمنعون فاخر الثياب ولا العمائم ولا الطيلسان لحصول التميز بالغيار والزنار
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: