الفقه الحنبلي - القسم
* (باب جامع الايمان) * * (مسألة) * (ويرجع في الايمان إلى النية فان لم تكن له نية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها) الايمان مبنية على نية الحالف فإذا نوى بيمينه ما يحتمله انصرفت يمينه إليه سواء كان ما نواه موافقا لظاهر اللفظ أو مخالفا
له، فالموافق للظاهر ان ينوي باللفظ موضوعه الاصلي مثل ان ينوي باللفظ العام العموم وبالمطلق الاطلاق وبسائر الالفاظ ما يتبادر إلى الافهام منها.
والحالف يتنوع أنواعا (احدها) ان ينوي بالعام الخاص مثل ان يحلف لا يأكل لحما ولا فاكهة يريد لحما بعينه وفاكهة بعينها (ومنها) ان يحلف على فعل شئ أو تركه مطلقا وينوي فعله أو تركه في وقت بعينه مثل أن يحلف لا يتغدى ويريد اليوم أولا أكلت يعني الساعة (ومنها) ان ينوي بيمينه غير ما يفهمه السامع منه كما ذكرنا في المعاريض في مسألة إذا تأول في يمينه فله تأويله (ومنها) أن يريد بالخاص العام مثل أن يحلف لا شربت لفلان الماء من العطش يعني قطع كل ماله فيه منة أو لا يأوي مع امرأته في دار يريد حفاءها بترك اجتماعه بها في جميع الدور أو حلف لا يلبس ثوبا من غزلها يريد قطع منتها به فتعلق يمينه بالانتفاع به أو بثمنه منها مما لها فيه منة عليه وبهذا قال مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي لا عبرة بالنية والسبب فيما يخالف لفظه لان الحنث مخالفة ما وقعت عليه اليمين واليمين لفظة فلو أحنثناه على ما سواه لاحنثناه على ما نوى لا على ما حلف ولان النية بمجردها لا تنعقد بها اليمين فكذلك لا يحنث بمخالفتها ولنا انه نوى بكلامه ما يحتمل ويسوغ في اللغة التعبير عنه فتنصرف يمينه إليه كالمعاريض،
وبيان احتمال اللفظ له انه يسوغ في كلام العرب التعبير بالخاص عن العام قال الله تعالى (ما يملكون
من قطمير - ولا يظلمون فتيلا - وإذا لا يؤتون الناس نقيرا) والقطمير لفافة النواة والفتيل ما في شقها والنقير النقرة التي في ظهرها ولم يرد ذلك بعينه بل نفى كل شئ، وقال الحطيئة يهيج بني العجلان: * ولا يظلمون الناس حبة خردل * ولم يرد الحبة بعينها انما أراد لا يظلمونهم شيئا وقد يذكر العام ويراد به الخاص كقوله تعالى (الذين قال لهم الناس) أراد رجلا واحدا (ان الناس قد جمعوا لكم) يعني أبا سفيان وقال (تدمر كل شئ بأمر ربها) ولم تدمر السماء والارض ولا مساكنهم، وإذا احتمله اللفظ وجب صرف اليمين إليه إذا نواه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " وانما لامرئ ما نوى " ولان كلام الشارع يحمل على مراده به إذا ثبت ذلك بالدليل فكذلك كلام غيره.
قولهم ان الحنث مخالفة ما عقد اليمين عليه قلنا وهذا كذلك فان اليمين انما انعقدت على ما نواه ولفظه مصروف إليه وليست هذه نية مجردة بل لفظ منوي به ما يحتمله (فصل) ومن شرائط انصراف اللفظ إلى ما نواه احتمال اللفظ له فان نوى ما لا يحتمله اللفظ مثل أن يحلف لا يأكل خبزا يعنى به لا يدخل بيتا فان يمينه لا تنصرف إلى المنوي لانها نية مجردة لا يحتملها اللفظ فأشبه ما لو نوى ذلك بغير يمين * (مسألة) * [ فان لم تكن له نية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها ] إذا عدمت البينة نظرنا في سبب اليمين وما أثارها لدلالتها على النية فإذا حلف ليقضينه حقه غدا فقضاه قبله لم يحنث إذا قصد أن لا يتجاوزه أو كان السبب لا يقتضيه وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد
وأبو ثور وقال الشافعي يحنث إذا قضاه قبله لانه يترك ما حلف عليه مختارف فحنث كما لو قضاه بعده ولنا ان مقضتى اليمين تعجيل القضاء قبل خروج الغد فإذا قضاه قبله فقد قضي قبل خروج الغد وزاده خيرا ولان مبنى الايمان على هذا ونية هذا بيمينه تعجيل القضاء قبل خروجه فتعلقت يمينه بهذا المعنى كما لو صرح به، فان لم تكن له نية رجع إلى سبب اليمين فان كان يقتضي التعجيل فهو كما لو نواه لان السبب يدل على النية، وان لم ينو ذلك ولا كان السبب يقتضيه فظاهر كلام الخرقي انه لا يبر إلا بقضائه قبله وقال القاضي يبر على كل حال لان اليمين للحنث على الفعل فمتى
عجله فقد أتى بالمقصود فيه فيبر كما لو نوى ذلك، والاول أصح ان شاء الله تعالى لانه ترك فعل ما تناولته يمينه لفظا ولم تصرفها عنه نية ولا سبب فحنث كما لو حلف ليصومن شعبان فصام رجبا ويحتمل أن ما قاله القاضي في القضاء خاصة لان عرف هذه اليمين في القضاء التعجيل فتنصرف اليمين المطلقة إليه.
[ فصل ] فأما غير قضاء الحق كأكل شئ أو شربه أو بيع شئ أو شرائه أو ضرب عبده أو نحوه فمتى عين وقتا ولم ينو ما يقتضي تعجيله ولا كان سبب يمينه يقتضيه لم يبر إلا بفعله في وقته، وذكر القاضي انه يبر بتعجيله عن وقته وحكي ذلك عن بعض أصحاب أبي حنيفة.
ولنا انه لم يفعل المحلوف عليه في وقته من غير نية تصرف يمينه ولا سبب فيحنث كالصيام، ولو فعل بعض المحلوف عليه قبل وقته وبعضه في وقته لم يبر لان اليمين في الاثبات لا يبر فيها إلا بفعل جميع المحلوف عليه، فترك بعضه في وقته كترك جميعه إلا أن ينوي أن لا يجاوز ذلك الوقت أو يقتضي ذلك سببها.
* (مسألة) * (وان حلف أن لا يبيع ثوبه الا بمائة فباعه بأكثر لم يحنث ان باعه بأقل حنث) لان قصده أن لا يبيعه بأقل منها فحنث إذا باعه بالاقل ولا يحنث إذا باعه بأكثر لان قرينة الحال تدل على ذلك والعرف فهو كما لو حلف ليقضينه حقه غذا فقضاه اليوم، ومقتضى مذهب الشافعي انه يحنث إذا باعه بأكثر لمخالفته اللفظ * (مسألة) * (ومن حلف لا يبيع ثوبه بعشره فباعه بها أو بأقل حنث وان باعه بأكثر لم يحنث) وقال الشافعي لا يحنث إذا باعه بأقل لانه لم تتناوله يمينه ولنا ان العرف في هذا أن لا يبيعه بها ولا بأقل منها بدليل انه لو وكل في بيعه انسانا وأمره أن لا يبيعه بعشرة لم يكن له بيعه بأقل منها، وإن هذا تنبيه على امتناعه من بيعه بما دون العشرة والحكم يثبت بالتنبيه كثبوته باللفظ، وان حلف لا أشتريه بعشرة فاشتراه بأقل لم يحنث وان اشتراه بها أو باكثر منها حنث لما ذكرنا، ومقتضى مذهب الشافعي أن لا يحنث إذا اشتراه بأكثر منها لان يمينه لم تتناوله لفظا
ولنا انها تناولته عرفا وتنبيها فكان حانثا كما لو حلف أن ماله علي حبة فانه يحنث إذا كان عليه أكثر منها، قيل لاحمد رجل حلف لا ينقص هذا الثوب من كذا قال قد أخذته ولكن هب لي كذا؟ قال هذا حيلة، قيل له فان قال البائع أبيعك بكذا وأهب لفلان شيئا آخر؟ قال هذا كله ليس بشئ وكرهه.
* (مسألة) * (وان حلف لا يدخل دارا ونوى اليوم لم يحنث بالدخول في غيره)
لان قصده يتعلق باليوم فاختص الحنث بالدخول فيه دون غيره * (مسألة) * (وان دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى اختصت يمينه به إذا قصده لما ذكرنا) * (مسألة) * (وان حلف لا يشرب له الماء من العطش يقصد قطع منته حنث بأكل خبزه واستعارة دابته وكل ما فيه المنة) لان ذلك للتنبيه على ما هو أعلى منه كقول الله تعالى (ولا يظلمون فتيلا) يريد لا يظلمون شيئا وقال الشاعر: * ولا يظلمون الناس حبة خردل * * (مسألة) * (وان حلف لا يلبس ثوبا من غزلها يقصد قطع منتها فباعه واشترى بثمنه ثوبا فلبسه حنث وكذلك ان انتفع بثمنه) هذه المسألة أصل فرع قد تقدم ذكره في أول الباب وهو ان الاسباب معتبرة في الايمان بتعدى الحكم بتعديها فإذا امتن عليه بثوب فحلف أن لا يلبسه لتنقطع المنة به حنث بالانتفاع به في غير اللبس لانه نوع انتفاع به تلحق المنة به، فان لم يقصد قطع المنة ولا كان سبب يمينه يقتضي ذلك لم يحنث الا بما تناولته يمينه وهو لبسه خاصة، فلو أبدله بثوب غيره ثم لبسه أو باعه وأخذ ثمنه لم يحنث لعدم تناول اليمين له لفظا ونية وسببا (فصل) فان فعل شيئا لها فيه منة عليه سوى الانتفاع بالثوب وبعوضه مثل ان سكن دارها أو أكل طعاما أو لبس ثوبها لها غير الثوب المحلوف عليه لم يحنث لان المحلوف عليه الثوب فتعلقت يمينه به أو بما حصل به فلم يتعد إلى غيره لاختصاص اليمين والسبب به
(فصل) وان امتنت امرأته عليه بثوب فحلف ان لا يلبسه قطعا لمنتها فاشتراه غيرها ثم كساه إياه أو اشتراه الحالف ولبسه على وجه لا منة لها فيه ففيه وجهان (أحدهما) يحنث لمخالفته يمينه لفظا ولان لفظ الشارع إذا كان أعم من السبب وجب الاخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب كذا في اليمين ولانه لو خاصمته امرأة له فقال نسائي طوالق طلقن كلهن وان كان سبب الطلاق واحدة كذا ههنا (والثاني) لا يحنث لان السبب اقتضى تقييد لفظه بما وجد فيه السبب فصار كالمنوي أو كما لو خصصه بقرينة لفظية: * (مسألة) * (فان حلف لا يأوي معها في دار يرد جفاءها ولم يكن للدار سبب يهيج يمينه فأوى معها في غيرها حنث) وهذه المسألة أيضا من فروع اعتبار النية وذلك أنه متى قصد جفاءها بترك الاوي معها ولم يكن للدار أثر في يمينه كان ذكر الدار كعدمه وكأنه حلف لا يأوي معها فإذا أوى معها في غيرها حنث لمخالفته ما حلف على تركه وصار هذا بمنزلة سؤال الاعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم واقعت أهلي نهار رمضان فقال " اعتق رقبة " لما كان ذكره أهله لا أثر له في ايجاب الكفارة حذفناه من السبب وصار السبب الوقاع سواء كان للاهل أو لغيره، وان كان للدار أثر في يمينه مثل ان يكره سكناها أو خوصم من أجلها أو امتن عليه بها لم يحنث إذا أوى معها في غيرها لانه قصد بيمينه الجفاء في الدار بعينها فلم يخالف ما حلف عليه
وان عدم السبب والنية لم يحنث إلا بفعل ما تناوله لفظه وهو الاوي معها في تلك الدار بعينها لانه لم يجب اتباع لفظه إذا لم يكن سبب ولا نية تصرف اللفظ عن مقتضاه أو تقتضي زيادة عليه ومعنى الاوي الدخول فمن حلف لا يأوي معها فدخل معها الدار حنث قليلا كان لبثهما أو كثيرا قال الله تعالى مخبرا عن فتى موسى (إذ اوينا إلى الصخرة) قال أحمدكم كان ذلك إلا ساعة أو ما شاء الله يقال اويت انا واويت غيري قال الله تعالى (إذ أوى الفتية إلى الكهف) وقال تعالى (وآويناهما إلى ربوة)
(فصل) وان برها بهدية أو غيرها أو اجتمع معها فيما ليس بدار ولا بيت لم يحنث سواء كان للدار سبب في يمينه أو لم يكن لانه قصد جفاءها بهذا النوع فلم يحنث بغيره فان حلف ان لا يأوي معها في دار لسبب فزال السبب الموجب ليمينه مثل ان كان السبب امتنانها بها عليه فملك الدار أو صارت لغيرها فأوى معها فيها فهل يحنث؟ على وجهين مضى ذكرهما وتعليلهما (فصل) وان حلف لا يدخل عليها بيتا فدخل عليها فيما ليس ببيت فحكمه حكم المسألة التي قبلها ان قصد جفاءها ولم يكن للبيت سبب هيج يمينه حنث والا فلا وان دخل على جماعة هي فيهم يقصد الدخول عليها معهم حنث وكذلك ان لم يقصد شيئا، وان استثناها بقلبه ففيه وجهان (أحدهما) لا يحنث كما لو حلف ان لا يسلم عليها فسلم على جماعة هي فيهم يقصد بقلبه السلام على غيرها فانه لا يحنث (والثاني) يحنث لان الدخول فعل لا يتميز فلا يصح تخصيصه بالقصد وقد وجد في حق الكل على السواء وهي منهم فحنث به كما لو لم يقصد استثناءها، وفارق السلام فانه قول يصح تخصيصه بالقصد ولهذا يصح ان يقال السلام عليكم الا فلانا ولان السلام قول يتناول ما يتناوله الضمير في عليكم
والضمير عام يصح ان يراد به الخاص فصح ان يراد به من سواها والفعل لا يتأتى فيه هذا وان دخل بيتا لم يعلم أنها فيه فوجدها فيه فهو كالدخول عليها ناسيا ففيه روياتان فان قلنا لا يحنث بذلك فخرج حين علم بها لم يحنث وكذلك ان حلف لا يدخل عليها فدخلت هي عليه فخرج في الحال لم يحنث وان اقام معها فهل يحنث؟ على وجهين بناء على من حلف لا يدخل دارا هو فيه فاستدام المقام فهل يحنث؟ على وجهين * (مسألة) * (وان حلف لعامل لا يخرج الا بأذنه فعزل أو على زوجته فطلقها أو على عبده فاعتقه ونحوه يريد ما دام كذلك انحلت يمينه وان لم تكن له نية انحلت يمينه أيضا) ذكره الخرقي لان الحال تصرف اليمين إليه وذكر في موضع آخر ان السبب إذا كان يقتضي التعميم عممناها به وان اقتضى الخصوص مثل من نذر لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه فزال الظلم فقال أحمد النذر يوفي به، قال شيخنا والاول اولى لان السبب يدل على النية فصار كالمنوي سواء، وان حلف لا رأيت منكرا الا رفعته إلى فلان القاضي فعزل انحلت يمينه ان نوى مادام قاضيا وان لم ينو
احتمل وجهين وقد ذكرنا في أول الباب ان النية إذا عدمت نظرنا في سبب اليمين وما أثارها لدلالته على النية فإذا حلف لا يأوي مع امرأته في هذه الدار وكان سبب يمينه غيظا من جهة الدار لضرر لحقه منها أو منة عليه بها اختصت يمينه بها، وان كان لغيظ لحقه من المرأة يقتضي جفاءها لا أثر للدار فيه تعلق باويه معها في كل دار، ومثله إذا حلف لا يلبس ثوبا من غزلها ان كان سببه المنة عليه منها فكيفما انتفع به أو بثمنه حنث، وان كان سبب يمينه خشونة غزلها أو رداءته لم تتعد يمينه لبسه وقد دللنا على تعلق اليمين بما نواه والسبب دليل على النية فيتعلق اليمين به وقد ثبت ان كلام الشارع إذا
كان خاصا في شئ لسبب عام تعدى إلى ما وجد فيه السبب لنصه على تحريم التفاضل في أعيان ستة ثبت الحكم في كل ما وجد فيه معناها كذلك في كلام الآدمي مثله، فاما ان كان اللفظ عاما والسبب خاصا مثل من دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى أو حلف ان لا يقعد فان كانت له نية فيمينه على ما نوى وان لم تكن له نية فكلام أحمد يقتضي روايتين (إحداهما) ان اليمين محمولة على العموم لان أحمد سئل عن رجل نذر لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه فزال الظلم فقال النذر يوفى به يعني لا يدخله.
ووجه ذلك ان لفظ الشارع إذا كان عاما لسبب خاص وجب الاخذ بعوم اللفظ لا بخصوص السبب كذلك يمين الحالف وذكر القاضي فيمن حلف على زوجته أو عبده ان لا يخرج الا بأذنه فعتق العبد وطلقت المرأة وخرجا بغير أذنه لا يحنث لان قرينة الحال تنقل حكم الكلام إلى نفسها وانما يملك منع الزوجة أو العبد مع ولايته عليهما فكأنه قال ما دمتما في ملكي، ولان السبب يدل على النية في الخصوص كدلالته عليها في العموم ولو نوى الخصوص لاختصت يمينه به فكذلك إذا وجد ما يدل عليها.
ولو حلف لعامل لا يخرج الا باذنه فعزل أو حلف لا يرى منكرا الا رفعه إلى فلان القاضي فعزل ففيه وجهان بناء على ما تقدم (أحدهما) لا تنحل اليمين بعزله قال القاضي هذا قياس المذهب لان اليمين إذا تعلقت بيمين موصوفة تعلقت بالعين وان تغيرت الصفة وهذا أحد الوجهين لاصحاب الشافعي (والوجه الآخر) تنحل اليمين بعزله وهو مذهب أبي حنيفة لانه لا يقال رفعه إليه الا في حال ولايته.
فعلى هذا ان رأى المنكر في ولايته فامكنه رفعه فلم يرفعه إليه حتى عزل لم يبر برفعه إليه في حال العزل وهل يحنث بعزله؟ فيه وجهان
(أحدها) يحنث لانه قد فات رفعه إليه فاشبه ما لو مات (والثاني) لا يحنث لانه لم يتحقق فواته لاحتمال ان يلي فيرفعه إليه بخلاف ما لو مات فانه يحنث لانه قد تحقق فواته، وإن مات قبل إمكان رفعه إليه حنث أيضا لانه قد فات فاشبه ما لو حلف ليضر بن عبده في غد فمات العبد اليوم ويحتمل ان لا يحنث لانه لم يتمكن من فعل المحلوف عليه فاشبه المكره، وان قلنا لا تنحل يمينه فعزل فرفعه إليه بعد عزله بر بذلك (فصل) وان اختلف السبب والنية مثل ان امتنت عليه امرأته بغزلها فحلف ان لا يلبس ثوبا من غزلها ينوي اجتناب اللبس خاصة دون الانتفاع بثمنه وغيره قدمت النية على السبب وجها واحدا لان النية وافقت مقتضى اللفظ وان نوى بيمينه ثوبا واحدا فكذلك في ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي يقدم السبب لان اللفظ، ظاهر في العموم والسبب يؤكد ذلك الظاهر ويقويه لان السبب هو الامتنان وظاهر حاله قصد قطع المنة فلا يلتفت إلى نيته المخالفة للظاهرين والاول أصح لان السبب انما اعتبر لدلالته على القصد فإذا خالف حقيقة القصد لم يعتبر فكان وجوده كعدمه فلم يبق الا اللفظ بعمومه والنية تخصه على ما بيناه فيما مضى * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (فان عدم ذلك رجع إلى التعيين - يعني إذا عدمت النية والسبب رجع إلى التعيين - فإذا حلف لا يدخل دار فلان هذه فدخلها وقد صارت فضاء أو حماما أو مسجدا أو باعها فلان، أو لالبست هذا القميص فجعله سراويل أو رداء أو عمامة ولبسه، أو لا كلمت هذا الصبي فصار شيخا أو امرأة فلان أو صديقة فلان أو غلامه سعدا فطلقت الزوجة وزالت الصداقة وعتق العبد فكلمهم، أو لا أكلت لحم هذا الحمل فصار كبشا أو لا أكلت هذا الرطب فصار تمرا أو دبسا أو خلا أو لا اكلت هذا اللبن فتغير أو عمل منه شئ فأكله حنث في ذلك كله ويحتمل أن لا يحنث)
وجملة ذلك أنه إذا حلف على شئ عينه بالاشارة مثل أن حلف لا يأكل هذا الرطب لم يخل من حالين (أحدهما) أن يأكله رطبا فيحنث بلا خلاف بين الجميع لكون فعل ما حلف على تركه صريحا (الثاني) أن تتغير صفته فذلك خمسة أقسام
(أحدها) أن تستحيل أجزاؤه ويتغير اسمه مثل ان حلف لا أكلت هذه البيضة فصارت فرخا أو لا أكلت هذه الحنطة فصارت زرعا فأكله فلا يحنث لانه زال اسمه واستحالت أجزاؤه وعلى قياسه لا شربت هذا الخمر فصار خلا وشربه (القسم الثاني) وتغيرت صفته وزال اسمه مع بقاء أجزائه مثل ان حلف لا أكلت هذا الرطب فصار تمرا، أو لا كلمت هذا الصبي فصار شيخا، أو لا أكلت هذا الحمل فصار كبشا، أو لا دخلت هذه الدار فدخلها بعد تغيرها (1) وقاله أبو يوسف في الحنطة إذا صارت دقيقا وللشافعي في الرطب إذا صار تمرا والصبي إذا صار شيخا والحمل إذا صار كبشا وجهان وقالوا في سائر الصور لا يحنث لان اسم المحلوف عليه وصورته زالت فلم يحنث كما لو حلف لا يأكل هذه البيضة فصارت فرخا ولنا ان عين المحلوف عليه باقية فحنث كما لو حلف لا أكلت هذا الحمل فأكل لحمه أو لا لبست هذا الغزل فصار ثوبا ولبسه أو لا لبست هذا الرداء فلبسه بعد أن صار قميصا أو سراويل، وفارق البيضة إذا صارت فرخا لان أجزاءها استحالب فصارت عينا أخرى ولم تبق عينها ولانه لا اعتبار بالاسم مع التعيين كما لو حلف لا كلمت زيدا هذا فغير اسمه أو لا كلمت صاحب الطيلسان
__________
(1) سقط من الاصل هنا كلام كثير يراجع في المغني
فكلمه بعد بيعه ولانه متى اجتمع التعيين مع غيره فما يعرف به كان الحكم للتعيين كما لو اجتمع مع الاضافة (القسم الثالث) تبدلت الاضافة مثل ان حلف لا كلمت زوجة زيد هذه ولا عبده هذا ولا دخلت داره هذه فعلق الزوجة وباع العبد والدار فكلمهما ودخل حنث وبه قال مالك والشافعي ومحمد وزفر، وقال أبو حنيفة وابو يوسف لا يحنث الا في الزوجة لان الدار لا توالى ولا تعادى وانما الامتناع لاجل مالكها فتعلقت اليمين بها مع بقاء ملكه عليه وكذلك العبد في الغالب ولنا أنه إذا اجتمع في اليمين التعيين والاضافة كان الحكم للتعيين كما لو قال والله لا كلمت زوجة فلان ولا صديقه.
وما ذكروه لا يصح في العبد لانه يوالى ويعادي ويلزمه في الدار إذا أطلق ولم
يذكر مالكها فانه يحنث بدخولها بعد بيع مالكها اياها (القسم الرابع) إذا تغيرت صفته بما يزيل اسمه ثم عادت كمقص انكسر ثم أعيد وقلم كسر ثم بري وسفينة نقضت ثم أعيدت فانه يحنث لان أجزاءها واسمها موجودان فأشبه ما لو لم يتغير (القسم الخامس) إذا تغيرت صفته بما لا يزيل اسمه كلحم شوي وعبد بيع ورجل مرض فانه يحنث به بلا خلاف نعلمه لان الاسم الذي علق عليه اليمين لم يزل، ولا زال التغيير فحنث به كما لو لم يتغير حاله (فصل) وان قال والله لا كلمت سعدا زوج هند أو سيد صبيح أو صديق عمرو أو مالك هذا الدار أو صاحب الطيلسان، أو لا كلمت هندا امرأة سعد أو صبيحا عبده أو عمرا صديقه ف؟ لق الزوجة وباع العبد والدار والطيلسان وعادى عمرا وكلمهم حنث لانه متى اجتمع الاسم والاضافة غلب الاسم بجريانه مجرى التعيين في تعريف المحل (فصل) ولو حلف لا يلبس هذا الثوب وكان رداء في حال حلفه فارتدى به أو اتزر أو اعتم به
أو جعله قميصا أو سراويل أو قباء فلبسه حنث، وكذلك ان كان قميصا فارتدى به أو سراويل فاتزر بها وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي لانه قد لبسه، وان قال في يمينه لا لبسته وهو رداء فغيره عن كونه رداء ولبسه لم يحنث لان اليمين وقعت على ترك لبسه رداء، وكذلك ان نوى بيمينه في شئ من هذه الاشياء مادام على تلك الصفة والاضافة وما لم يتغير في هذه المسائل المذكورة في هذا الفصل والذي قبله لقوله عليه السلام " وانما لا مرئ ما نوى) * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (فان عدم ذلك رجعنا إلى ما يتناوله الاسم.
والاسماء تنقسم ثلاثة أقسام شرعية وحقيقية وعرفية) وجملة ذلك أن الاسماء تنقسم على ستة أقسام (أحدها) ماله مسمى واحد كالرجل والمرأة والانسان والحيوان فهذا تنصرف اليمين إلى مسماه بيغر خلاف (والثاني) ماله موضوع شرعي وموضوع لغوي كالوضوء والصلاة والطهارة والزكاة والصوم والحج والعمرة والبيع فهذا ينصرف اليمين عند الاطلاق إلى الموضوع الشرعي دون اللغوي لا نعلم أيضا فيه خلافا إلا ما ذكره فيما يأتي إن شاء الله
(الثالث) ماله موضوع حقيقي ومجاز لم يستعمل أكثر من الحقيقة كالاسد والبحر فيمين الحالف ينصرف عند الاطلاق إلى الحقيقة دون المجاز لان كلام الشارع إذا ورد مثل هذا حمل على حقيقته دون مجازه كذلك اليمين (الرابع) الاسماء العرفية، وهي ما يشتهر مجازه حتى تصير الحقيقة مغمورة فيه فهذا على ضروب (أحدها) ما يغلب على الحقيقة بحيث لا يعلمها أكثر الناس كالرواية وهي في العرف اسم للمزادة
وفي الحقيقة اسم لما يستقى عليه من الحيوانات، والظعينة في العرف المرأة وفي الحقيقة الناقة التي يظعن عليها، والعذرة والغائط في العرف الفضلة المستقذرة، وفي الحقيقة العذرة فناء الدار ولذلك قال علي رضي الله عنه لقوم ما لكم لا تنظفون عذراتكم؟ يريد أفنيتكم، والغائط المطمئن من الارض.
فهذا وأشباهه يصرف يمين الحالف إلى المجاز دون الحقيقة لانه الذي يريده بيمينه ويفهم من كلامه فأشبه الحقيقة في غيره (الضرب الثاني) أن يخص عرف الاستعمال بعض الحقيقة بالاسم الموضوع ويتنوع أنواعا نذكرها إن شاء الله في المسائل كادابة والريحان وغير ذلك * (فصل) * في الاسماء الشرعية، إذا حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا أو لا ينكح فنكح نكاحا فاسدا لم يحنث إلا أن يضيف اليمين إلى شئ لا تتصور فيه الصحة مثل أن يحلف أن لا يبيع الحر أو الخمر فيحنث بصورة البيع إذا حلف أن لا يبيع ولا ينكح انصرف إلى الصحيح دون الفاسد وبهذا قال الشافعي، وقال ابو حنيفة إذا قال لعبده ان زوجتك أو بعتك فأنت حر فزوجه تزويجا فاسدا لم يعتق، وان باعه بيعا فاسدا يملك به حنث لان البيع ينصرف إلى الصحيح بدليل قول الله تعالى (وأحل الله البيع) وأكثر ألفاظه في البيع انما تنصرف إلى الصحيح فلا يحنث بما دونه كما في النكاح وكالصلاة وغيرهما وما ذكروه من ثبوت الملك به ممنوع، وقال ابن أبي موسى لا يحنث بالنكاح الفاسد وهل يحنث بالبيع الفاسد؟ على
روايتين، وقال أبو الخطاب ان نكحها نكاحا مختلفا فيه مثل أن يتزوجها بلا ولي ولا شهود أو باع في وقت النداء فعلى وجهين، وقال ابن أبي موسى ان تزوجها زواجا مختلفا فيه أو ملك ملكا مختلفا فيه حنث فيهما جميعا ولنا أنه نكاح فاسد وبيع فاسد فلم يحنث بهما كالمتفق على فسادهما (فصل) والماضي والمستقبل سواء في هذا وقال محمد بن الحسن إذا حلف ما تزوجت ولا صليت ولا بعت وكان قد فعله فاسدا حنث لان الماضي لا يقصد منه الا الاسم والاسم يتناوله، والمستقبل بخلافه فانه يراد بالنكاح والبيع الملك وبالصلاة القربة ولنا أن ما لا يتناوله الاسم في المستقبل لا يتناوله في الماضي وكغير المسمى وما ذكره لا يصح لان الاسم لا يتناول الا الشرعي ولا يحصل (فصل) فان حلف لا يبيع فباع بيعا فيه الخيار حنث، وقال أبو حنيفة لا يحنث لان الملك لا يثبت في مدة الخيار فأشبه البيع الفاسد ولنا أنه بيع صحيح شرعي فيحنث به كالبيع اللازم وما ذكره ممنوع فان بيع الخيار يثبت الملك به بعد انقضاء الخيار بالاتفاق وهو سبب له فكذلك قبله (فصل) وإن حلف لا يبيع أو لا يزوج فأوجب البيع والنكاح ولم يقبل المتزوج والمشتري لم يحنث وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه خلافا لان البيع والنكاح عقدان لا يتمان إلا بالقبول فلم يقع الاسم على الايجاب بدونه فلم يحنث به
(فصل) وإن أضاف اليمين في البيع والنكاح إلى ما تتصور فيه الصحة كالخمر والخنزير والحر حنث كصورة البيع لانه يتعذر حمل يمينه على عقد صحيح فتعين محملا له ويحتمل أن لا يحنث لانه ليس ببيع في الشرع * (مسألة) * (وذكر الفاضي فيمن قال لامرأته ان سرقت مني شيئا ويعينه فأنت طالق ففعلت لم تطلق) لان البيع الشرعي لم يوجد (1) والاول أولى لان صورة البيع وجدت
(فصل) وإن حلف لا يتزوج حنث بمجرد الايجاب والقبول الصحيح لا نعلم فيه خلافا لان ذلك يحصل به المسمى الشرعي فتناولته يمينه، وإن حلف ليتزوجن بر بذلك سواء كانت له امرأة أو لم تكن وسواء تزوج نظيرتها أو أعلى منها الا ان يحتال على حل يمينه بتزوج لا يحصل المقصود مثل ان يواطئ امرأته على نكاح لا يغيظها به فلا يبر وبهذا قال أصحابنا إذا حلف ليتزوجن على امرأته لا يبر حتى يتزوج نظيرتها ويدخل بها وهو قول مالك لانه قصد غيظ زوجته ولا يحصل الا بذلك ولنا أنه تزوج تزويجا صحيحا فبر به كما لو تزوج نظيرتها والدخول غير مسلم فان الغيظ يحصل بمجرد الخطبة وان حصل بما ذكروه زيادة في الغيظ فلا يلزمه الزيادة على الغيظ الذي يحصل بما تناولته يمينه كما أنه لا يلزمه نكاح اثنين ولا ثلاثة ولا أعلى من نظيرتها والذي تناولته يمينه مجرد التزويج ولذلك لو حلف لا يتزوج على امرأة حنث بهذا فكذلك يحصل البر به لان المسمى واحد فما تناوله النفي تناوله في الاثبات وانما لا يبر إذا زوج تزويجا لا يحصل به الغيظ كما ذكرناه من الصورة ونظائرها لان مبنى الايمان على المقاصد والنيات ولم يحصل مقصوده ولان التزويج يحصل ههنا حيلة على التخلص من
يمينه بما لا يحصل مقصودها فلم تقبل منه حيلته وقد نص أحمد على هذا فقال إذا حلف ليتزوجن على امرأته فتزوج بعجوز أو زنجية لا يبر لانه أراد ان يغيظها ويغيرها ويغمها وبهذا لا تغار ولا تغتم فعلله أحمد بما يغيظ به الزوجة ولان الغيظ لا يتوقف على ذلك، ولو قدر ان تزوج العجوز يغيظها والزنجية لبر به وانما ذكره أحمد لان الغالب أنه لا يغيظها لانها تعلم انه انما فعل ذلك حيلة لئلا يغيظها ويبر به (فصل) وإن حلف لا تسريت فوطئ جاريته حنث ذكره أبو الخطاب وقال القاضي لا يحنث حتى يطأ فينزل فحلا كان أو خصيا وقال أبو حنيفة لا يحنث حتى يحصنها ويحجبها عن الناس لان التسري مأخوذ من السر وهو الوطئ لانه يكون في السر قال الله تعالى (ولكن لا تواعدوهن سرا) وقال الشاعر: فلن تطلبوا سرها للغنى * ولن تسلموها لازهادها
وقال الآخر لقد زعمت بسباسة القوم أنني * كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي ولان ذلك حكم تعلق بالوطئ فلم يعتبر فيه الانزال ولا التحصن كسائر الاحكام * (مسألة) * (إذا حلف لا يصوم لم يحنث حتى يصوم يوما) هذا إذا لم يسم عددا ولم ينوه وأقل ذلك صوم يوم لا خلاف فيه لانه ليس في الشرع صوم مفردا أقل من يوم فلزمه لانه اليقين
* (مسألة) * (وإن حلف لا يصلي لم يحنث حتى يفرغ مما يقع عليه اسم الصلاة) وفيه روايتان (احداهما) يجزئه ركعة نقلها اسماعيل بن سعيد لان أقل الصلاه ركعة فان الوتر صلاة مشروعة وهي ركعة واحدة وروي عن عمر رضي الله عنه انه تطوع بركعة واحدة (والثانية) لا يجزئه إلا ركعتان وبه قال أبو حنيفة لان اقل صلاة وجبت بالشرع ركعتان فوجب حمل اليمين عليه وقد قيل انما يجب ركعتان في النذر لانه واجب، أما الوتر فهو نفل ولان الركعة لا تجزئ في الفرض فلا تجزئ في النفل قياسا عليه وكالسجدة وللشافعي قولان كالروايتين وقال القاضي ان حلف لا صليت صلاة لم يحنث حتى يفرغ من أقل ما يقع عليه اسم الصلاة على ما ذكرنا وإن حلف لا يصلي حنث بالتكبير وهذا اشبه ما إذا قال لزوجته ان حضت حيضة فأنت طالق فانها لا تطلق حتى تحيض ثم تطهر، ولو قال ان حضت طلقت بأول الحيض لانه إذا شرع في الصلاة يسمى مصليا.
قال شيخنا: يحتمل أن يخرج على هذا الروايتين فيمن حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه (فصل) وإن حلف لا يهب زيدا شيئا ولا يوصي له ولا يتصدق عليه ففعل ولم يقبل زيد حنث إذا حلف لا يهب زيدا شيئا أو لا يعيره فأوجب ذلك ولم يقبل زيد حنث ذكره القاضي وهو قول أبي حنيفة وابن شريح لان الهبة والعارية لا عوض فيهما فكان مسماهما الايجاب والقبول شرط لنقل الملك وليس هو من السبب فيجب بمجرد الايجاب فيه كالوصية وقال الشافعي لا يحنث بمجرد الايجاب لانه عقد لا يتم الا بالقبول فلم يجب بمجرد الايجاب كالنكاح والبيع، فأما الهدية والوصية والصدقة
فتجب بمجرد الايجاب وذكره أبو الخطاب قال شيخنا ولا أعلم قولا للشافعي الا ان الظاهر انه لا يخالف في الوصية والهدية لان الاسم يقع عليها بدون القبول ولهذا لما قال الله تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ان ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين) إنما اراد الايجاب دون القبول ولان الوصية تصح قبل موت الموصي ولا قبول لها حينئذ * (مسألة) * (وإن حلف لا يتصدق عليه فوهبه لم يحنث لان التصدق نوع من الهبة ولا يحنث الحالف على نوع آخر ولا يثبت للجنس حكم النوع ولهذا حرمت الصدقة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم تحرم الهبة ولا الهدية بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في اللحم الذي تصدق به على بريرة " هو عليها صدقة ولنا هدية " وان حلف لا يهبه شيئا فأسقط عنه دينا لم يحنث الا ان ينوي لان الهبة تمليك عين وليس له الا دين في ذمته * (مسألة) * (وان حلف لا يهبه فتصدق عليه حنث وكذلك ان اهدى له أو أعمره) لان ذلك من أنواع الهبة وان أعطاه من الصدقة الواجبة يحنث لان ذلك حق لله تعالى عليه يجب اخراجه فليس هو هبة منه فان تصدق عليه تطوعا حنث قال القاضي هو مذهب الشافعي وقال أبو الخطاب لا يحنث وهو قول اصحاب الرأي لانهما يختلفان اسما وحكما بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " هو عليها صدقة ولنا هدية " وكانت الصدقة محرمة عليه والهدية حلال له ويقبل الهدية
ولا يقبل الصدقة ومع هذا الاختلاف لا يحنث في احدهما بفعل الآخر، ووجه الاول انه تبرع بعين في الحياة فحنث به كالهدية ولان الصدقة تسمى هبة فلو تصدق بدرهم قيل وهب درهما وتبرع بدرهم واختلاف التسمية لكون الصدقة نوعا من الهبة فتخص باسم دونها كاختصاص الهدية والعمرى باسمين ولم يخرجهما ذلك عن كونهما هبة وكذلك اختلاف الاحكام فانه قد يثبت للنوع ما لا يثبت للجنس كما يثبت للآدمي من الاحكام ما لا يثبت لمطلق الحيوان * (مسألة) * (وان أعاره لم يحنث الا عند ابي الخطاب)
لان العارية هبة المنفعة وقال القاضي لا يحنث وهو مذهب الشافعي وهو الصحيح لان الهبة تمليك الاعيان وليس في العارية تمليك عين ولان المستعير لا يملك المنفعة وانما يستحقها ولهذا يملك المعير الرجوع ولا يملك المستعير اجارتها * (مسألة) * [ وان وقف عليه حنث قاله أبو الخطاب ] لانه تبرع له بعين في الحياة، ويحتمل ان لا يحنث لان الوقف لا يملك في رواية ولانه لا يطلق عليه اسم الهبة * (مسألة) * (وان وصى له لم يحنث) لان الهبة تمليك في الحياة والوصية انما تملك بالقبول بعد الموت.
* (مسألة) * (وان باعه وحاباه حنث في أحد الوجهين).
لانه ترك له بعض المبيع بغير عوض أو هبة بعض الثمن، والوجه الآخر أنه لا يحنث وهو أولى لانها معاوضة يملك الشفيع أخذ جميع المبيع ولو كان هبة أو بعضه لم يملك أخذه كله وان أضافه لم يحنث لانه لا يملكه شيئا وانما اباحه الاكل ولهذا لا يملك التصرف بغيره.
* (فصل) * قال رحمه الله (القسم الثاني الاسماء الحقيقية، فإذا حلف لا يأكل اللحم فأكل الشحم أو المخ أو الكبد أو الطحال أو القلب أو الكرش أو المصران أو الالية أو الدماغ أو القانصة لم يحنث) وجملة ذلك ان الحالف على أكل اللحم لا يحنث باكل ما ليس بلحم من الشحم والمخ وهو الذي في العظام والدماغ وهو الذي في الرأس في قحفه ولا الكبد والطحال والرئة والقلب والكرش والمصران والقانصة ونحوها، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك يحنث بأكل هذا كله لانه لحم حقيقة ويتخذ منه ما يتخذ من اللحم فأشبه لحم الفخذ.
ولنا أنه لا يسمى لحما وينفرد عنه باسمه وصفته، ولو أمر وكيله بشراء لحم فاشترى هذا لم يكن ممتثلا لامره ولا ينفذ الشراء للموكل فلم يحنث باكله كالبغل، وقد دل على أن الكبد والطحال ليسا لحما قول النبي صلى الله عليه وسلم " أحلت لنا ميتتان ودمان أما الدمان فالكبد والطحال " ولا نسلم أنه لحم حقيقة
بل هو من الحيوان كالعظم والدم فأما ان قصد اجتناب الدسم حنث بأكل الشحم، لان له دسما وكذلك المخ وكل ما فيه دسم ولا يحنث بأكل الالية، قال بعض أصحاب الشافعي يحنث لانها نابتة في اللحم وتشبهه في الصلابه ولا يصح ذلك لانها لا تسمى لحما ولا يقصد منها ما يقصد منه وتخالفه
في اللون والذوب والطعم فلم يحنث بأكلها كشحم البطن فأما الذي على الظهر والجنب وفي تضاعيف اللحم فلا يحنث في أكله في ظاهر كلام الخرقي فانه قال اللحم لا يخلو من الشحم يشير إلى ما يخالط اللحم مما تذيبه النار وهذا كذلك وهو قول طلحة العاقولي وممن قال هذا شحم أبو يوسف ومحمد، وقال القاضي هو لحم يحنث باكله من حلف لا يأكل شحما وهو مذهب الشافعي لانه لا يسمى شحما ولا بائعه شحاما ولا يفرد عن اللحم مع الشحم ويسمى بائعه لحاما ويسمى لحما سمينا ولو وكل في شراء لحم فاشتراه الوكيل لزمه ولو اشتراه الوكيل في شراء الشحم لم يلزمه.
ولنا قول الله تعالى (ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم) ولانه يشبه اللحم في صفته وذوبه ويسمى دهنا فكان شحما كالذي في البطن ولا نسلم أنه لا يسمى شحما ولا انه يسمى بمفرده لحما وانما يسمى اللحم الذي هو عليه لحما سمينا ولا يسمى بائعه شحاما لانه لا يباع بمفرده وإنما يباع تبعا للحم وهو تابع له في الوجود والبيع فلذلك سمي بائعه لحاما ولم يسم شحاما لانه سمي بما هو الاصل دون التبع.
* (مسألة) * (وان أكل المرق لم يحنث).
وقد قال أحمد لا يعجبني قال أبو الخطاب هذا على سبيل الورع وقال ابن موسى والقاضي يحنث لان المرق لا يخلو من اجزاء اللحم الذائبة فيه، وقد قيل المرق أحد اللحمين.
ولنا انه ليس بلحم حقيقة ولا يطلق عليه اسم اللحم فلا يحنث به كالكبد ولا نسلم ان اجزاء اللحم
فيه وانما فيه ماء اللحم ودهنه وليس ذلك بلحم وأما المثل فانما اريد به المجاز كما في نظائره من قولهم الدعاء أحد الصدقتين وقلة العيال أحد اليسارين وهذا دليل على أنها ليست بلحم لانه جعلها
غير اللحم الحقيقي.
(فصل) فان أكل رأسا أو كراعا لا يحنث إلا أن ينوي لا يشتري من الشاة شيئا، قال القاضي لان اطلاق اسم اللحم لا يتناول الرؤوس والكوارع، ولو وكله في شراء لحم فاشترى رأسا أو كارعا لم يلزمه ويسمى بائع ذلك رواسا ولا يسمى لحاما، وقال أبو الخطاب يحنث بأكل لحم الخد لانه لحم حقيقة وحكي عن ابن أبي موسى انه لا يحنث حتى ينويه باليمين، وان أكل اللسان احتمل وجهين [ أحدهما ] يحنث لانه لحم حقيقة [ والثاني ] لا يحنث لانه منفرد عن اللحم باسمه وصفته فأشبه القلب.
* (مسألة) * [ وان حلف لا يأكل الشحم فأكل شحم الظهر حنث ].
ظاهر هذا أن الشحم كل ما يذوب بالنار مما في الحيوان وهو ظاهر كلام الخرقي وظاهر الآية والعرف يشهد لذلك، وهو ظاهر قول ابي الخطاب وطلحة العاقولي، وهو قول ابي يوسف ومحمد ابن الحسن، وقال القاضي الشحم هو الذي يكون في الجوف من شحم الكلى أو غيره وان اكل من كل شئ من الشاة من لحمها الاحمر والابيض والالية والكبد والطحال والقلب فقال شيخنا يعني
ابن حامد لا يحنث لان اسم الشحم لا يقع عليه وهو قول ابي حنيفة والشافعي وقد سبق الكلام في ان شحم الظهر والجنب شحم فيحنث به، فأما ان أكل اللحم الاحمر وحده ولم يظهر فيه شئ من الشحم فقال الخرقي يحنث لانا قد ذكرنا ان الشحم كل ما يذوب بالنار ولا يكاد اللحم يخلو من شئ منه وان قل فيحنث به ولانه يظهر في الطبخ فيبين على وجه المرق وان قل وهذا يفارق من حلف لا يأكل سمنا فأكل خبيصا فيه سمن لا يظهر فيه طعمه ولا لونه فان هذا يظهر الدهن فيه، وقال غير الخرقي من أصحابنا لا يحنث وهو الصحيح لانه لا يسمى شحما ولا يظهر فيه طعمه ولا لونه والذي يظهر في المرق قد فارق اللحم فلا يحنث بأكل اللحم الذى كان فيه.
(فصل) ويحنث بالاكل من الالية في ظاهر كلام الخرقي وموافقيه لانها دهن تذوب بالنار وتباع مع الشحم ولا تباع مع اللحم، وعلى قول القاضي وموافقيه ليست شحما ولا لحما فلا
يحنث به الحالف على تركهما.
(فصل) إذا حلف لا يأكل لحما حنث باكل اللحم المحرم كالميتة والخنزير والمغصوب وبه قال ابو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه لا يحنث باكل اللحم المحرم باصله لان يمينه تنصرف إلى ما يحل دون ما يحرم فلا يحنث بما لا يحل كما لو حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا.
ولنا ان هذا لحم حقيقة وعرفا فحنث به كالمغصوب وقد سماه الله تعالى لحما فقال (ولحم الخنزير)
وما ذكروه يبطل بما إذا حلف لا يلبس ثوبا فلبس ثوب حرير، واما البيع الفاسد فلا يحنث به لانه ليس ببيع في الحقيقة.
* (مسألة) * (وان حلف لا يأكل لبنا فأكل زبدا أو سمنا أو كشكا أو بصلا أو جبنا لم يحنث وان حلف على الزبد والسمن فأكل لبنا لم يحنث) إذا حلف لا يأكل لبنا فأكل من لبن الانعام أو الصيد أو لبن آدمية حنث لان الاسم يتناوله حقيقة وعرفا وسواء كان حليبا أو رائبا أو مائعا أو مجمدا لان الجميع لبن.
ولا يحنث بأكل الجبن والسمن والبصل والاقط والكشك، وان أكل زبدا فكذلك نص عليه وقال القاضي يحتمل ان يقال في الزبد ان ظهر فيه لبن حنث بأكله والا فلا كما لو حلف لا يأكل سمنا فأكل خبيصا فيه سمن وهذا مذهب الشافعي، وان حلف لا يأكل زبدا فأكل سمنا أو لبنا لم يظهر فيه الزبد لم يحنث وان كان الزبد فيه ظاهرا حنث وان أكل لبنا لم يحنث وكذلك سائر ما يصنع من اللبن سوى السمن لم يحنث وان أكل السمن منفردا أو في عصيدة أو حلواء أو طبيخ يظهر فيه طعمه حنث وكذلك إذا حلف لا يأكل لبنا فأكل طبيخا فيه لبن أو لا يأكل خلا فأكل طبيخا فيه خل يظهر فيه طعمه حنث وبهذا قال
الشافعي وقال بعض أصحابنا لا يحنث لانه لم يفرده بالاكل ولا يصح لانه أكل المحلوف عليه وأضاف إليه غيره فحنث كما لو أكله وأكل غيره * (مسألة) * (وان حلف على الفاكهة فأكل من ثمر الشجر كالجوز واللوز والتمر والرمان
حنث وان أكل البطيخ حنث ويحتمل ان لا يحنث) إذا حلف لا يأكل فاكهة حنث بأكل ما يسمى فاكهة وذلك كل ثمرة تخرج من الشجر يتفكه بها من العنب والرطب والرمان والسفرجل والتفاح والكمثرى والخوخ والمشمش والاترج والتوت والنبق واللوز والجميز وبهذا قال الشافعي وأبويوسث ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة وأبو ثور لا يحنث باكل ثمرة النخل والرمان لقول الله تعالى (فيهما فاكهة ونخل ورمان) والمعطوف يغاير المعطوف عليه ولنا انها ثمرة شجرة يتفكه بها فكانا من الفاكهة كسائر الاثمار ولانهما فاكهة في عرف الناس ويسمى بائعهما فاكهانيا وموضع بيعهما دار الفاكهة والاصل في العرف الحقيقة والعطف لتشريفها وتخصيصهما كقوله تعالى (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) وهما من الملائكة، فأما يابس هذه الفواكه كالزبيب والتمر والتين والمشمش اليابس والاجاص ونحوها فهو من الفاكهة لانه ثمر شجرة يتفكه به ويحتمل انه ليس منها لانه يدخر ومنه ما يقتات فأشبه الحبوب، والزيتون ليس بفاكهة لانه لا يتفكه بأكله وانما المقصود منه الادم لا التفكه والبطم في معناه لان
المقصود زيته ويحتمل انه فاكهة لانه ثمر شجرة يؤكل غضا ويابسا على جهته اشبه التوت، والبلوط ليس بفاكهة لانه لا يتفكه به وانما يؤكل عند المجاعة أو للتداوي وكذلك سائر ثم الشجر البري الذي لا يستطاب كالزعرور الاحمر وثمر القيقب والعفص وحب الآس ونحوه ان كان فيها ما يستطاب كحب الصنوبر والبندق فهو فاكهة لانه ثمر شجرة يتفكه به وفي البطيخ وجهان (احدهما) هو من الفاكهة ذكره القاضي وهو قول الشافعي وأبي ثور لانه ينضج ويحلو اشبه ثمر الشجر (والثاني) لا يحنث بأكله لانه ثمر بقلة اشبه الخيار * (مسألة) * [ ولا يحنث بأكل القثاء والخيار ونحوه والقرع والباذنجان ] لانه من الخضر وليس من الفاكهة وكذلك ما يكون في الارض كالجزر واللفت والفجل والقلقاس والسوطل ونحوه، ليس شئ من ذلك فاكهة لانه لا يسمى بها ولا هو في معناها * (مسألة) * [ وان حلف لا يأكل رطبا فأكل مذنبا حنث ]
وهو الذي بدأ فيه الارطاب من ذنبه وباقيه بسر أو منصفا وهو الذي بعضه بسر وبعضه رطب أو حلف لا يأكل بسرا فأكل ذلك حنث وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد والشافعي وقال أبو يوسف وبعض أصحاب الشافعي لا يحنث لانه لا يسمى رطبا ولا تمرا
ولنا انه أكل رطبا وبسرا فحنث كما لو أكل نصف رطبة ونصف بسرة منفردين وما ذكروه لا يصح فان القدر الذي ارطب رطب والباقي بسر ولو انه حلف لا يأكل البسر فأكل البسر الذي في المنصف حنث وان أكل البسر من يمينه على الرطب وأكل الرطب من يمينه على البسر لم يحنث واحد منهما وان حلف واحد ليأكلن رطبا وآخر ليأكلن بسرا فأكل الحالف على أكل الرطب ما في المنصف من الرطب وأكل الآخر باقيها برا جميعا وان حلف ليأكلن رطبة أو بسرة أو لا يأكل ذلك فأكل منصفا لم يبر ولم يحنث لانه ليس فيه رطبة ولا بسرة * (مسألة) * (وان أكل تمرا أو بسرا لم يحنث) لانه ليس برطب [ فصل ] وان حلف لا يأكل تمرا فأكل رطبا لم يحنث لانه لم يتناوله الاسم وكذلك لو أكل بسرا أو بلحا وهذا مذهب الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا [ فصل ] فان حلف لا يأكل عنبا فأكل زبيبا أو دبسا أو خلا أو ناطفا أو لا يكلم شابا فكلم شيخا أو لا يشترى جديا فاشترى تيسا أو لا يضرب عبدا فضرب عتيقا لم يحنث بغير خلاف لان اليمين تعلقت بالصفة دون العين ولم توجد الصفة فجرى مجرى قوله لا أكلت هذه التمرة فأكل غيرها فأما ان عين المحلوف عليه ففيه خلاف ذكرناه فيما مضى * (مسألة) * [ وان حلف لا يأكل ادما حنث باكل البيض والشواء والجبن والملح والزيتون واللبن وسائر ما يصطبغ به وفي التمر وجهان ]
إذا حلف على ترك الادم حنث بأكل ما جرت العادة بأكل الخبز به لان هذا معنى التأدم وسواء في هذا ما يصطبغ به كالطبيخ والمرق والخل والزيت والسمن والشيرج واللبن قال الله تعالى (وصبغ
للآكلين) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " نعم الادام الخل - وقال - ائتدموا بالزيت وادهنوا به فانه من شجرة مباركة " رواه ابن ماجه - أو من الجامدات كالشواء والجبن والباقلا والزيتون والبيض وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ما لا يصطبغ به فليس بأدم لان كل واحد منهما يرفع إلى الفم مفردا ولنا ما روي عن البني صلى الله عليه وسلم انه قال " سيد الادام اللحم - وقال - سيد أدمكم الملح " رواه ابن ماجه ولانه يؤكل به الخبز عادة فكان ادما كالذي يصطبغ به ولان كثير مما ذكرنا لا يؤكل في العادة وحده انما يعد للتأدم به فكان ادما كالخل واللبن وقولهم انه يرفع إلى الفم مفردا عنه جوابان (احدهما) ان منه ما يرفع مع الخبز كالملح ونحوه (والثاني) انهما يجتمعان في الفم والمضغ والبلع الذى هو حقيقة الاكل فلا يضر افتراقهما قبله وأما التمر ففيه وجهان (احدهما) انه أدم لما روى يوسف عن عبد الله بن سلام قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع تمرة على كسرة وقال " هذا إدام هذه " رواه أبو داود وذكره الامام احمد (والثاني) ليس بأدم لانه
لا يؤتدم به عادة وانما يؤكل قوتا وحلاوة ولانه فاكهة فأشبه الزبيب [ فصل ] إذا حلف لا يأكل طعاما حنث بأكل كل ما يسمى طعاما من قوت وأدم وحلواء وجامع ومائع قال الله تعالى (كل الطعام كان حلا لبني اسرائيل الا ما حرم اسرائيل على نفسه - وقال تعالى - ويطعمون الطعام على حبه) يعني على محبة الطعام وحاجتهم إليه وقيل على حب الله تعالى وقال تعالى (قل لاجد فيما أوحي الي محرما على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير) وسمى النبي صلى الله عليه وسلم اللبن طعاما فقال " انما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم " وفي الماء وجهان (أحدهما) هو طعام لقوله تعالى (ومن لم يطعمه فانه مني) والطعام ما يطعم ولان النبي صلى الله عليه وسلم سمى اللبن طعاما وهو مشروب فكذلك الماء.
[ والثاني ] ليس بطعام لانه لا يسمى طعاما ولا يفهم من اطلاقه اسم الطعام ولهذا يعطف عليه فيقال طعام وشراب وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا أعلم ما يجزئ من الطعام والشراب الا اللبن " رواه ابن ماجه ويقال باب
الاطعمة والاشربة ولانه إن كان طعاما في الحقيقة فليس بطعام في العرف فلا يحنث بشربه لان مبنى الايمان على العرف لكون الحالف في الغالب لا يريد بلفظه إلا ما يعرفه، فان أكل دواء ففيه وجهان:
(احدهما) يحنث لانه يطعم حال الاختيار وهو مذهب الشافعي (والثاني) لا يحنث لانه لا يدخل في إطلاق اسم الطعام ولا يوكل الا عند الضرورة، فان اكل من نبات الارض ما جرت العادة باكله حنث وان أكل ما لم تجر به عادة كورق الشجر ونشارة الخشب والتراب احتمل وجهين (احدهما) يحنث لانه قد اكله فأشبه ما جرت العادة باكله ولانه روي عن عتبة بن غزوان انه قال لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة ما لنا طعام إلا ورق الحبلة حتى قرحت أشداقنا (والثاني) لا يحنث لانه لا يتناوله اسم الطعام في العرف (فصل) وان حلف لا يأكل قوتا فأكل خبزا أو تمرا أو تينا أو لحما أو لبنا حنث لان كل واحد من هذه يقتات في بعض البلدان، ويحتمل ان لا يحنث الا بما يقتاته أهل بلده لان يمينه تنصرف إلى القوت المتعارف عندهم وفي بلدهم ولاصحاب الشافعي وجهان كهذين وان اكل سويقا أو استف دقيقا حنث لانه يقتات كذلك، ولهذا قال بعض اللصوص لا تخبزا خبزا وبسابسا * ولا تطيلا بمقام حبسا وان اكل حبا يقتات خبزه حنث ولذلك روي ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخر قوت عياله سنة وانما يريد الحب، ويحتمل ان لا يحنث لانه لا يقتات كذلك وان أكل عنبا أو حصرما أو خلا لم يحنث لانه لم يصر قوتا.
* (مسألة) * (وان حلف لا يلبس شيئا فلبس ثوبا أو درعا أو جوشنا أو خفا أو نعلا حنث) وكذلك ان لبس عمامة أو قلنسوة)
وقال أصحاب الشافعي في الخف والنعل وجهان (احدهما) لا يحنث ولنا انه ملبوس حقيقة وعرفا فحنث كالثياب وفي الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إليه النجاشي خفين فلبسهما.
وقيل لابن عمر: إنك تلبس هذه النعال فقال رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يلبسهما.
فان ترك القلنسوة في رجله أو ادخل يده في الخف أو النعل لم يحنث لان ذلك ليس بلبسه لهما * (مسألة) * (وان حلف لا يلبس حليا فلبس حلية ذهب أو فضة أو جوهر حنث وان لبس الدراهم والدنانير في مرسلة فعلى وجهين) إذا حلف لا يلبس حليا فلبس حلية ذهب أو فضة حنث فان لبس خاتما من فضة أو مخنقة من لؤلؤ أو جوهر وحده حنث وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يحنث لانه ليس بحلي وحده ولنا قول الله تعالى (وتستخرجون منه حلية تلبسونها) وقال تعالى [ يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ] وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمر انه قال: قال الله تعالى للبحر الشرقي إني جاعل فيك الحلية والصيد والطيب ولان الفضة حلي إذا كانت سوارا أو خلخالا فكانت حليا إذا كانت خاتما كالذهب والجوهر، واللؤلؤ حلي مع غيره فكان حليا وحده كالذهب وان لبس عقيقا أو سبجا لم يحنث
وقال الشافعي إن كان من اهل السواد حنث وفي غيرهم وجهان لان هذا حلي في عرفهم (ولنا) ان هذا ليس بحلي فلا يحنث به كالودع وخرز الزجاج وما ذكروه ويبطل بالودع، وان لبس الدراهم والدنانير في مرسلة فعلى وجهين (أحدهما) لا يحنث لانه ليس بحلي إذا لم يلبسه فكذلك إذا لبسه [ والثاني ] يحنث لانه ذهب وفضة لبسه فكان حليا كالسوار والخاتم وان لبس سيفا محلى لم يحنث لان السيف ليس بحلي، وان لبس منطقة محلاة ففيه وجهان [ أحدهما ] لا يحنث لان الحلية لها دونه فاشبهت السيف المحلى [ والثاني ] يحنث لانها من حلي الرجال ولا يقصد بلبسها محلاة في الغالب إلا التجمل بها، وان حلف لا يلبس خاتما فلبسه في غير الخنصر من أصابعه حنث وقال الشافعي لا يحنث لان اليمين تقتضي لبسا معتادا وليس هذا معتادا فأشبه ما لو أدخل القلنسوة في رجله ولنا انه لابس لما حلف على ترك لبسه فاشبه ما لو اتزر بالسراويل.
وأما إدخال القلنسوة في رجله فهو عبث وسفه بخلاف هذا فانه لا فرق بين الخنصر وغيرها الا من حيث الاصطلاح على تخصيصه بالخنصر
* (مسألة) * (وان حلف لا يركب دابة فلان ولا يلبس ثوبه ولا يدخل داره فركب دابة عبده ولبس ثوبه ودخل داره أو فعل ذلك فيما استأجره فلان حنث وان ركب دابة استعارها لم يحنث) إذا حلف لا يدخل دار فلان فدخل دار مملوكة له أو دارا يسكنها باجرة أو عارية أو غصب حنث وبذلك قال أبو ثور وأصحاب الرأي وقال الشافعي لا يحنث الا بدخول دار يملكها لان الاضافة في الحقيقة إلى المالك بدليل أنه لو قال هذه الدار لفلان كان مقرا له بملكها ولو قال انه يسكنها لم يقبل ولنا أن الدار تضاف إلى ساكنها كاضافتها إلى مالكها قال الله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن) وأراد بيوت أزواجهن اللائي يسكنها وقال تعالى (وقرن في بيوتكن) ولان الاضافة للاختصاص ولذلك يضاف الرجل إلى أخيه بالاخوة والى امه بالبنوة والى والده بالابوة والى امرأته بالزوجية وساكن الدار مختص بها فكانت إضافتها إليه صحيحة وهي مستعملة في العرف فوجب ان يحنث بدخولها كالمملوكة له، وقولهم هذه الاضافة مجاز ممنوع بل هي حقيقة لما ذكرناه ولو كانت مجازا لكنه مشهور فيتناوله اللفظ كما لو حلف لا شربت من رواية فلان فانه يحنث بالشرب من مزادته.
أما الاقرار فانه لو قال هذه دار زيد وفسر إقراره بسكناها احتمل ان لا يقبل تفسيره، وان سلمنا
فان قرينة الاقرار تصرفه إلى الملك وكذلك لو حلف لا دخلت مسكن زيد حنث بدخوله الدار التي يسكنها، ولو قال هذا المسكن لزيد كان مقرا له به ولا خلاف في هذه المسألة وهي نظيرة مسئلتنا [ فصل ] وان ركب دابة عبده أو لبس ثوبه أو دخل داره حنث لان ما في يد العبد لسيده فهو كالذي في يده، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه خلافا لان دار العبد ملك للسيد فان حلف لا يلبس ثوب السيد ولا يركب دابته فلبس ثوب عبده وركب دابته حنث وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة لا يحنث لان العبد بهما أخص ولنا أنهما مملوكان للسيد فتناولتهما يمين الحالف كالدار وما ذكروه يبطل بالدار
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: