الفقه الحنبلي - الاجارة -

التسليم لا يصح لان يد المستأجر انما هي على المنافع والبيع على الرقبة فلا يمنع ثبوت اليد على أحدهما تسليم الآخر كما لو باع الامة المزوجة ولانها منعت التسليم في الحال فلا تمنع في الوقت الذي يجب التسليم فيه وهو عند انقضاء الاجارة ويكفي القدرة على التسليم حينئذ كالمسلم فيه وقال أبو حنيفة البيع موقوف على اجازة المستأجر فان أجازه جائز وبطلت الاجارة وان رده بطل ولنا أن البيع على غير المعقود عليه في الاجارة فلم تعتبر اجازته كبيع الامة المزوجة.
إذا ثبت هذا
فان المشتري يملك المبيع مسلوب المنفعة إلى حين انقضاء الاجارة ولا يستحق تسليم العين إلا حينئذ لان تسليم العين انما يراد لاستيفاء نفعها وانما يستحق نفعها إذا انقضت الاجارة فهو كمن اشترى عينا في مكان بعيد لا يستحق تسليمها إلا بعد مضي مدة يمكن احضارها فيه وكالمسلم إلى وقت لا يستحق تسليم المسلم فيه الا في وقته، فان لم يعلم المشتري بالاجارة خير بين الفسخ وامضاء البيع بكل الثمن لان ذلك عيب ونقص (فصل) ويصح بيعها للمستأجر لانه إذا صح بيعها لغيره فله أولى لان العين في يده وهل تبطل الاجارة؟ فيه وجهان (أحدهما) لا تبطل لانه ملك المنفعة ثم ملك الرقبة المسلوبة بعقد آخر فلم يتنافيا كما يملك الثمرة بعقد ثم يملك الاصل بعقد آخر، ولو أجر الموصى له بالمنفعة مالك الرقبة صحت الاجارة فدل على أن ملك المنفعة لا ينافي العقد على الرقبة ولذلك لو استأجر المالك العين المستأجرة من مستأجرها جاز، فعلى هذا يكون الاجر باقيا على المشتري وعليه الثمن ويجتمعان للبائع كما لو كان المشتري غيره
(والثاني) تبطل الاجارة فيما بقي من المدة لانه عقد على منفعة العين فبطل بملك العاقد الرقبة كما لو تزوج أمة ثم اشتراها بطل نكاحه ولان ملك الرقبة يمنع ابتداء الاجارة فمنع استدامتها كالنكاح، فعلى هذا يسقط عن المشتري الاجر فيما بقي من مدة الاجارة كما لو بطلت الاجارة بتلف العين وان كان المؤجر قد قبض الاجر كله حسبه عليه من الثمن ان كان من جنس الثمن (فصل) فان رد المستأجر العين المستأجرة فالحكم فيه كما لو اشتراها في بطلان الاجارة وبقائها فلو استأجر انسان من أبيه دارا ثم مات الاب وخلف ابنين (أحدهما) المستأجر فالدار بينهما نصفين والمستأجر أحق بمنفعتها لان النصف الذي لاخيه الاجارة باقية فيه والنصف الذي ورثه يستحقه اما بحكم الملك أو بحكم الاجارة وما عليه من الاجرة بينهما نصفين، فان كان ابوه قد قبض الاجر لم يرجع على أخيه بشئ منه ولا على تركة أبيه ويكون ما خلفه أبوه بينهما نصفين لانه لو رجع بشئ أفضى إلى أن يكون قد ورث النصف بمنفعته وورث أخوه نصفا مسلوب المنفعة والله سبحانه قد سوى بينهما في الميراث ولانه لو رجع بنصف أجر النصف الذي انتقضت الاجارة فيه لوجب أن يرجع أخوه بنصف المنفعة التي بطلت الاجارة فيها إذ لا يمكن أن يجمع له بين المنفعة وأخذ عوضها من غيره
(فصل) فان اشترى المستأجر العين فوجدها معيبة فردها فان قلنا لا تنفسخ الاجارة بالبيع فهي باقية بعد رد العين كما كانت قبل البيع، وان قلنا قد انفسخت فالحكم فيها كما لو انفسخت بتلف العين
فان كان المشتري أجنبيا فرد المستأجر الاجارة لعيب فينبغي أن تعود المنفعة إلى البائع لانه يستحق عوضها على المستأجر وإذا سقط العوض عاد إليه المعوض، ولان المشتري ملك العين مسلوبة المنفعة مدة الاجارة فلا يرجع إليه ما لم يملكه، وقال بعض أصحاب الشافعي يرجع إلى المشتري لان المنفعة تابعة للرقبة وإنما استحقت بعقد الاجارة فإذا زالت عادت إليه كما لو اشترى أمة مزوجة فطلقها الزوج قال شيخنا ولا يصح هذا القياس لان منفعة البضع قد استقر عوضها للبائع بمجرد دخول الزوج بها ولا ينقسم العوض على المدة ولهذا لا يرجع الزوج بشئ من الصداق فيما إذا انفسخ النكاح أو وقع الطلاق بخلاف الاجر في الاجارة فان المؤجر يستحق الاجر في مقابلة المنفعة مقسوما على مدتها فإذا كان له عوض المنفعة المستقبلة فزال بالفسخ رجع إليه بعوضها وهو المنفعة، ولان منفعة البضع لا يجوز أن تملك بغير ملك الرقبة أو النكاح فلو رجعت إلى البائع لملكت بغيرهما ولانها مما لا يجوز الزوج نقلها إلى غيره ولا المعاوضة عنها ومنفعة البدن بخلافها (فصل) وإذا وقعت الاجارة على عين كمن استأجر عبدا للخدمة أو للرعي فتلف انفسخ العقد وقد ذكرناه وإن خرجت العين مستحقة تبينا أن العقد باطل وان وجد بها عيبا فردها انفسخ العقد أيضا ولم يملك إبدالها لان العقد على معين فتثبت هذه الاحكام كمن اشترى عينا، وإن وقعت على عين موصوفة في الذمة انعكست هذه الاحكام فمن سلم إليه عينا فتلفت أو خرجت مغصوبة أو وجد بها عيبا فردها لم تنفسخ الاجارة
ولزم المؤجر ابدالها لان المعقود عليه غير هذه العين وهذه بدل عنه فلم يؤثر ذلك في ابطال العقد كما لو اشترى بثمن في الذمة على ما قرر في موضعه، فان قيل فقد قلتم فيمن اكترى جملا ليركبه جاز أن يركبه من هو مثله ولو اكترى أرضا لزرع شئ بعينه جاز له زرع ما هو مثله أو دونه في الضرر فلم قلتم إذا اكترى جملا بعينه لا يجوز أن يبدله؟ قلنا: المعقود عليه منفعة العين فلم يجز أن يدفع إليه غير المعقود عليه كما لو
اشترى عينا لا يجوز ان يأخذ غيرها والراكب غير معقود عليه انما هو مستوف للمنفعة وانما يشترط معرفته ان تقدر به المنفعة لا لكونه معقودا عليه وكذلك الزرع في الارض فانما يعين ليعرف به قدر المنفعة المستوفاة فيجوز الاستيفاء بغيرها كما لو وكل المشتري غيره في استيفاء المبيع ألا ترى أنه لو تلف البعير أو الارض انفسخت الاجارة ولو مات الراكب أو تلف البذر لم تنفسخ وجاز أن يقوم غيره مقامه فافترقا.
* (فصل) * قال الشيخ رضي الله عنه (ولا ضمان على الاجير الخاص وهو الذي يسلم نفسه إلى المستأجر فيما تلف في يده الا ان يتعدى) وجملته ان الاجير على ضربين خاص ومشترك: فالخاص الذي يقع العقد عليه في مدة معلومة يستحق المستأجر نفعه في جميعها كمن استؤجر لخدمة أو خياطة أو رعاية شهرا أو سنة، سمي خاصا لان المستأجر يختص بنفعه في تلك المدة دون سائر الناس والمشترك الذي يقع العقد معه على عمل معين
كخياطة ثوب أو بناء حائط وحمل شئ إلى مكان معين أو على عمل في مدة لا يستحق جميع نفعه فيها كالكحال والطبيب سمي مشتركا لانه يتقبل أعمالا لاثنين أو أكثر في وقت واحد ويعمل لهم فيشتركون في منفعته فسمي مشتركا لاشتراكهم في منفعته، فاما الاجير الخاص فلا ضمان عليه ما لم يتعد قال أحمد في رواية مهنا في رجل أمر غلامه يكيل لرجل بزرا فسقط الرطل من يده فانكسر لا ضمان عليه، فقيل أليس هو بمنزلة القصار؟ قال لا القصار مشترك قيل فرجل اكترى رجلا يستقي ماء فكسر الجرة؟ فقال لا ضمان عليه قيل له فان اكترى رجلا يحرث له على بقرة فكسر الذي يحرث به؟ قال لا ضمان عليه وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابه وظاهر مذهب الشافعي وله قول آخر أن جميع الاجراء يضمنون وروى في مسنده ان عليا كان يضمن الاجراء ويقول لا يصلح للناس الا هذا ولنا أن عمله غير مضمون عليه فلم يضمن ما تلف به كالقصاص وقطع يد السارق وخبر علي مرسل والصحيح فيه أنه كان يضمن الصباغ والصواغ وان روي مطلقا حمل على هذا فان المطلق يحمل على المقيد ولان الاجير الخاص نائب عن المالك في صرف منافعه إلى ما أمره به فلم يضمن من
غير تعد كالوكيل والمضارب.
فأما ما لف بتعديه فعليه ضمانه مثل الخباز الذي يسرف في الوقود أو يلزقه قبل وقته أو يتركه بعد وقته حتى يحترق لانه تلف بتعديه فضمن كغير الاجير (فصل) وان استأجر الاجير المشترك أجيرا خاصا كالخياط في دكان يستأجر أجيرا مدة يستعمله
فيها فيقبل صاحب الدكان خياطة ثوب ودفعه إلى أجير فخرقه أو أفسده لم يضمنه لانه أجير خاص ويضمنه صاحب الدكان لانه أجير مشترك * (مسألة) * (ويضمن الاجير المشترك ما جنت يده من تخريق الثوب وغلطه في تفصيله) قد ذكرنا ان الاجير المشترك هو الصانع الذي لا يختص المستأجر بنفعه فيضمن ما جنت يده كالحائك إذا أفسد حياكته فهو ضامن لما أفسد نص عليه أحمد في رواية ابن منصور والقصار ضامن لما يتخرق من دقه أو مده أو عصره أو بسطه والطباخ ضامن لما أفسد من طبيخه والخباز ضامن لما أفسد من خبزه والحمال يضمن لما يسقط من حمله عن دابته أو تلف من عثرته والجمال يضمن ما تلف بقود وسوقه وانقطاع حبله الذي يشد به حمله والملاح يضمن ما تلف من مدة أو جذفه أو ما يعالج به السفينة، روي ذلك عن عمر وعلى وعبد الله بن عتبة وشريح والحسن والحكم، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يضمن ما لم بتعد قال الربيع هذا مذهب الشافعي وان لم يبح به يروى ذلك عن عطاء وطاوس وزفر ولانها عين مقبوضة بعقد الاجارة فلم تصر مضمونة كالعين المستأجرة ولنا ما روى جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أنه كان يضمن الصباغ والصواغ وقال لا يصلح الناس الا على ذلك وروى الشافعي باسناده عن علي أنه كان يضمن الاجراء ويقول لا يصلح الناس الا هذا
ولان عمل الاجير المشترك مضمون عليه فما تولد منه يجب أن يكون مضمونا كالعدوان بقطع عضو بخلاف الاجير الخاص والدليل على أن عمله مضمون عليه أنه لا يستحق العوض الا بالعمل وان الثوب لو تلف في حرزه بعد عمله لم يكن له أجر فيما عمل فيه وكان ذهاب عمله.
من ضمانه بخلاف الخاص فانه
إذا أمكن المستأجر من استعماله استحق العوض بمضي المدة وان لم يعمل وما عمل فيه من شئ فتلف من حرزه لم يسقط أجره بتلفه (فصل) ذكر القاضي ان الاجير المشترك انما يضمن إذا كان يعمل في ملك نفسه كالخباز يخبز في تنوره والقصار والخياط في دكانيهما قال ولو دعا الرجل خبازا فخبز له في داره أو خياطا أو قصارا ليقصر ويخيط عنده لا ضمان عليه فيما أتلف ما لم يفرط لانه سلم نفسه إلى المستأجر فصار كالاجير الخاص ولو كان صاحب المتاع مع الملاح في السفينة أو راكبا على الدابة فوق حمله فعطب الحمل لا ضمان على الملاح والمكاري لان يد صاحب المتاع لم تزل، ولو كان رب المتاع والجمال راكبين على الحمل فتلف حمله لم يضمن الجمال لان رب المتاع لم يسلمه إليه ومذهب مالك والشافعي نحو هذا قال أصحاب الشافعي لو كان العمل في دكان الاجير والمستأجر حاضر أو اكتراه ليعمل له شيئا وهو معه لم يضمن لان يده عليه فلم يضمن من غير جناية ويجب له أجر عمله لان يده عليه فكلما عمل شيئا صار مسلما إليه، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين كونه في ملك نفسه أو ملك مستأجره أو كان صاحب العمل
حاضرا عنده أو غائبا أو كونه مع الملاح أو الجمال أو لا ولذلك قال ابن عقيل ما تلف بجناية الملاح بجذفه أو بجناية المكاري بشده المتاع ونحوه فهو مضمون عليه سواء كان صاحب المتاع معه أو لم يكن لان وجوب الضمان عليه لجناية يده فلا فرق بين حضور المالك وغيبته كالعدوان، ولان جناية الجمال والملاح إذا كان صاحب المتاع راكبا معه تعم المتاع وصاحبه وتفريطه يعمهما فلم يسقط ذلك الضمان كما لو رمى انسانا متترسا فكسر ترسه وقتله، ولان الطبيب والختان إذا جنت يداهما ضمنا مع حضور المطبب والمختون، وقد ذكر القاضي أنه لو كان حمالا يحمل على رأسه ورب المتاع معه فعثر فسقط المتاع فتلف ضمن وان سرق لم يضمن لانه في العثار تلف بجنايته والسرقة ليست من جنايته ورب المال لم يحل بينه وبينه وهذا يقتضي أن تلفه بجنايته مضمون عليه سواء حضر رب الما أو غاب بل وجوب الضمان في محل النزاع أولى لان الفعل في ذلك المكان مقصود لفاعله والسقطة من الحمال غير مقصودة له فإذا وجب الضمان ههنا فثم أولى
(فصل) وذكر القاضي أنه إذا كان المستأجر على حمله عبيدا صغارا أو كبارا فلا ضمان على المكاري فيما تلف من سوقه وقوده إذ لا يضمن بني آدم من جهة الاجارة لانه عقد على منفعة، والاولى وجوب الضمان لان الضمان ههنا من جهة الجناية فوجب أن يعم بني آدم وغيرهم كسائر الحيوانات وما ذكره ينتقض بجناية الطبيب والخاتن
* (مسألة) * (ولا ضمان عليه فيما تلف من حرزه أو بغير فعله ولا أجرة له فيما عمل فيه وعنه يضمن) اختلفت الرواية عن أحمد في الاجير المشترك إذا تلفت العين من حرزه من غير تعد منه ولا تفريط فروي عنه لا يضمن في رواية ابن منصور وهو قول طاوس وعطئ وأبي حنيفة وزفر وقول للشافعي، وروي عن أحمد ان كان هلاكه بما يستطاع ضمنه وان كان غرقا أو عدوا غالبا فلا ضمان عليه قال أحمد في رواية أبي طالب إذا جنت يده أو ضاع من بين متاعه ضمنه وان كان عدوا أو غرقا فلا ضمان ونحو هذا قال أبو يوسف، والصحيح في المذهب الاول وهذه الرواية تحتمل أنه انما أوجب عليه الضمان إذا تلف من بين متاعه خاصة لانه يتهم ولهذا قال في الوديعة في رواية إنه يضمن إذا ذهبت من بين ماله فاما في غير ذلك فلا ضمان عليه لان تخصيصه التضمين بما إذا أتلف من بين ماله يدل على أنه لا يضمن إذا تلف مع متاعه، ولانه إذا لم يكن منه تفريط ولا عدوان لم يجب عليه الضمان كما لو تلف بأمر غالب، وقال مالك وابن أبي ليلى يضمن بكل حال لقول النبي صلى الله عليه وسلم " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " ولانه قبض العين لمنفعة نفسه من غير استحقاق فلزمه ضمانها كالمستعير ولنا أنها عين مقبوضة بعقد الاجارة لم يتلفها بفعله فلم يضمنها كالعين المستأجرة ولانه قبضها باذن مالكها لنفع يعود اليهما فلم يضمنها كالمضارب والشريك والمستأجر ويخالف العارية فانه ينفرد بنفعها والخبر مخصوص بما ذكرنا من الاصول فنخص محل النزاع بالقياس عليها.
إذا ثبت هذا
فانه لا أجر له فيما عمل فيها لانه لم يسلم عمله إلى المستأجر فلم يستحق عوضه كالمبيع من الطعام إذا تلف في يد البائع قبل تسليمه
* (مسألة) * (ولا ضمان على حجام ولا ختان ولا نزاع ولا طبيب إذا علم منهم حذق ولم تجن أيديهم) وجملة ذلك أن هؤلاء إذا فعلوا ما أمروا به لم يضمنوا بشرطين (أحدهما) أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم لانه إذا لم يكن كذلك لم تحل له مباشرة القطع فإذا قطع مع هذا كان فعلا محرما فضمن سرايته كالقطع ابتداء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " من تطبب بغير علم فهو ضامن " رواه أبو داود (والثاني) أن لا تجني أيديهم فيتجاوزوا ما ينبغي أن يقطع.
فإذا وجد هذان الشرطان لم يضمنوا لانهم قطعوا قطعا مأذونا فيه فلم يضمنوا سرايته كقطع الامام يد السارق، فاما ان كان حاذقا وجنت يده مثل أن يجاوز قطع الختان إلى الحشفة أو إلى بعضها أو يقطع في غير محل القطع أو قطع سلعة من انسان فتجاوز بها موضع القطع أو يقطع بآلة كالة يكثر ألمها أو في وقت لا يصلح القطع فيه وأشباه هذا ضمن فيه كله لانه اتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ فأشبه اتلاف المال ولانه فعل محرم فيضمن سرايته كالقطع ابتداء، وكذلك الحكم في النزاع والقاطع في القصاص وقاطع يد السارق وهذا مذهب الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا (فصل) فان ختن صبيا بغير اذن وليه أو قطع سلعة من انسان بغير اذنه أو من صبي بغير
إذن وليه فسرت جنايته ضمن لانه قطع غير مأذون فيه وإن فعل ذلك الحاكم أو وليه أو فعله من أذنا له لم يضمن لانه ماذون فيه شرعا * (مسألة) * (ولا ضمان على الراعي إذا لم يتعد) يصح استئجار الراعي بغير خلاف علمناه وقد أجر موسى عليه السلام نفسه لرعاية الغنم.
إذا ثبت ذلك فانه لا يضمن ما تلف من الماشية إذا لم يتعد أو يفرط في حفظها لا نعلم فيه خلافا إلا ما روي عن الشعبي انه كان يضمن الراعي ولنا أنه مؤتمن على حفظها فلم يضمن من غير تعد ولا تفريط كالمودع ولانه قبض العين بحكم الاجارة فلم يضمنها من غير تعد كالعين المستأجرة، فاما ما تلف بتعديه فيضمنه بغير خلاف مثل أن ينام عن الماشية أو يغفل عنها أو يتركها تتباعد عنه أو تغيب عن نظره وحفظه أو يسرف في ضربها
أو يضربها في غير موضع الضرب أو من غير حاجة إليه أو يسلك بها موضعا تتعرض فيه للتلف وأشباه هذا مما يعد تفريطا وتعديا فتتلف به فيضمنها لانها تلفت بعدوانه فضمنها كالمودع إذا تعدى، فان اختلفا في التعدي وعدمه فالقول قول الراعي لانه أمين وإن فعل فعلا اختلفا في كونه تعديا رجع إلى أهل الخبرة، ولو جاء بجلد شاة وقال ماتت قبل قوله ولم يضمن وعن أحمد انه لا يقبل قوله ويضمن والصحيح الاول لان الامناء يقبل قولهم كالمودع، ولانه يتعذر عليه إقامة البينة في الغالب أشبه المودع وكذلك إذا ادعى موتها ولم يأت بجلدها
(فصل) ولا يصح العقد في الرعي إلا على مدة معلومة لان العمل لا ينحصر، ويجوز العقد على رعي ماشية معينة وعلى جنس في الذمة فان عقد على معينة كمائة شاة معينة فذكر أصحابنا أنه يتعلق بأعيانها كما لو استأجره لخياطة ثوب بعينه فلا يجوز ابداله، ويبطل العقد بتلفها فان تلف بعضها بطل العقد فيه وله أجر ما بقي بالحصة، وإن ولدت لم يكن عليه رعي سخالها لانها زيادة لا يتناولها العقد ويحتمل أن لا يتعلق باعيانها لانها ليست المعقود عليها انما لتستوفى المنفعة بها فأشبه ما لو استأجر ظهرا ليركبه فله أن يركب غيره مكانه، ولو استأجر دارا ليسكنها فله أن يسكنها مثله وانما المعقود عليه منفعة الراعي ولهذا تجب له الاجرة إذا سلم نفسه وإن لم يرع، ويفارق الثوب في الخياطة لان الثياب في مظنة الاختلاف في سهولة خياطتها ومشقتها بخلاف الرعي.
فعلى هذا له ابدالها بمثلها وإن تلف بعضها لم ينفسخ العقد فيه وكان له ابداله.
(فصل) فان وقع العقد على موصوف في الذمة فلابد من ذكر جنس الحيوان ونوعه ابلا أو بقرا أو غنما أو ضأنا أو معزا وان أطلق ذكر البقر والابل لم يتناول الجواميس والبخاتي لان اطلاق الاسم لا يتناولها عرفا إلا أن يقع العقد في مكان يتناولها الاسم فيحتاج إلى ذكر نوع ما يرعاه منها كالغنم لان كل نوع له أثر في اتعاب الراعي ويذكر الكبر والصغر فيقول كبارا أو صغارا أو عجاجيل أو فصلانا إلا أن يكون ثم قرينة أو عرف صارف إلى بعضها فيكتفي بذلك، ومتي عقد على عدد موصرف كالمائة لم يجب عليه رعي زيادة من سخالها ولا من غيرها، وان أطلق ولم يذكر
عددا لم يجز وهذا ظاهر مذهب الشافعي، وقال القاضي يصح ويحمل على ما جرت به العادة كالمائة من الغنم ونحوها، وهو قول بعض أصحاب الشافعي، والاول أصح لان العادة في ذلك تختلف وتتباين كثيرا والعمل يختلف باختلافه * (مسألة) * (وإذا حبس الصانع الثوب على أجرته فتلف ضمنه) لانه لم يرهنه عنده ولا اذن له في امساكه فلزمه الضمان كالغاصب * (مسألة) * (فان أتلف الثوب بعد عمله خير المالك بين تضمينه اياه غير معمول ولا أجرة له وبين تضمينه اياه معمولا ويدفع إليه الاجرة) وكذلك لو وجب عليه ضمان المتاع المحمول فصاحبه مخير بين تضمينه قيمته في الموضع الذي سلمه إليه ولا أجرة له، وبين تضمينه اياه في الموضع الذي أفسده ويعطيه الاجرة إلى ذلك المكان، وانما كان كذلك لانه إذا أحب تضمينه معمولا أو في المكان الذي أفسده فيه فله ذلك لانه ملكه في ذلك الموضع على تلك الصفة فملك المطالبة بعوضه حينئذ، وان أحب تضمينه قبل ذلك فلان أجر العمل لا يلزمه قبل تسليمه وما سلم إليه فلا يلزمه (فصل) إذا أخطأ القصار فدفع الثوب إلى غير مالكه فعليه ضمانه لانه فوته على مالكه قال أحمد يغرم القصار ولا يسع المدفوع إليه لبسه إذا علم أنه ليس بثوبه ويرده إلى القصار ويطالبه بثوبه فان لم
يعلم القابض حتى قطعه ولبسه ثم علم رده مقطوعا وضمن أرش القطع وله مطالبته بثوبه ان كان موجودا وان هلك عند القصار ضمنه في إحدى الروايتين لانه أمسكه بغير إذن صاحبه بعد طلبه فضمنه كما لو علم (والثانية) لا يضمنه لانه لا يمكنه رده فأشبه ما لو عجز عن دفعه لمرض (فصل) والعين المستأجرة أمانة في يد المستأجر ان تلفت بغير تفريط لم يضمنها قال الاثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن الذين يكرون الخيمة إلى مكة فتذهب من المكتري بسرق هل يضمن قال أرجو أن لا يضمن وكيف يضمن؟ إذا ذهب لا يضمن ولا نعلم في هذا خلافا لانه قبض العين لاستيفاء
منفعة يستحقها منها فكانت أمانة كما لو قبض لعبد الموصى له بخدمته سنة أو قبض الزوج امرأته الامة ويخالف العارية فانه لا يستحق منفعتها وإذا انقضت المدة فعليه رفع يده عنها وليس عليه الرد أومأ إليه في رواية ابن منصور قيل له إذا اكترى دابة أو استعار أو استودع فليس عليه أن يحملها فقال أحمد من استعار شيئا فعليه رده من حيث أخذه فأوجب الرد في العارية ولم يوجبه في الاجارة والوديعة ووجه ذلك أنه عقد لا يقتضي الضمان فلا يقتضي رده ومؤنته كالوديعة بخلاف العارية فان ضمانها يجب فكذلك ردها.
وعلى هذا متى انقضت المدة كانت العين في يده أمانة كالوديعة ان تلفت من غير تفريط فلا ضمان عليه وهو قول بعض الشافعية، وقال بعضهم يضمن لانه بعد انقضاء الاجارة غير مأذون له في امساكه أشبه العارية المؤقتة بعد وقتها
ولنا أنها أمانة أشبهت الوديعة ولانه لو وجب ضمانها لوجب ردها، أما العارية فانها مضمونة بكل حال بخلاف مسئلتنا ولانه يجب ردها ومتى طلبها صاحبها وجب تسليمها إليه فان امتنع من ذلك لغير عذر صارت مضمونة كالمغصوبة (فصل) فان شرط المؤجر على المستأجر ضمان العين فالشرط فاسد لانه ينافي مقتضى العقد وتفسد به الاجارة في أحد الوجهين بناء على الشروط الفاسدة في البيع قال أحمد فيما إذا اشترط ضمان العين الكراء والضمان مكروه، روي الاثرم باسناده عن ابن عمر قال لا يصلح الكراء بالضمان، وعن فقهاء المدينة أنهم كانوا يقولون لا يكري بضمان إلا أنه من شرط على كري الا ينزل بمتاعه بطن واد ولا يسير به ليلا مع اشباه هذه الشروط فتعدى ذلك فتلف شئ مما حمل في ذلك التعدي فهو ضامن فاما غير ذلك فلا يصح شرط الضمان فيه، وان شرطه لم يصح لان ما لا يجب ضمانه لا يصير مضمونا بالشرط وعن أحمد أنه سئل عن ذلك فقال: المسلمون على شروطهم وهذا يدل على وجوب الضمان بشرطه وسنذكر ذلك في العارية فاما ان أكراه عينا وشرط أن لا يسير بها في الليل أو وقت القائلة أو لا يتاخر بها عن القافلة أو لا يجعل سيره في آخرها وأشباه هذا مما فيه غرض مخالف ضمن لانه متعد لشرط كريه فضمن ما تلف به كما لو شرط عليه ألا يحمل الا قفيزا فحمل قفيزين، وحكم الاجارة
الفاسدة حكم الصحيحة في أنه لا يضمن إذا تلفت العين من غير تفريط ولا تعد لانه عقد لا يقتضي
الضمان صحيحه فلا يقتضيه فاسده كالوكالة وحكم كل عقد فاسد في وجوب الضمان وعدمه حكم صحيحه فما وجب الضمان في صحيحه وجب في فاسده ومالا فلا * (مسألة) * (إذا ضرب المستأجر الدابة بقدر العادة أو كبحها أو الرائض الدابة لم يضمن) وجملة ذلك ان للمستأجر ضرب الدابة بما جرت به العادة ويكبحها باللجام للاستصلاح ويحثها على السير ليلحق القافلة فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم نخس بعير جار وضربه وكان أبو بكر رضي الله عنه يحرش بعيره بمحجنه، وللرائض ضرب الدابة للتأدب وترتيب المشي والعد واليسير * (مسألة) * (وكذلك المعلم إذا ضرب الصبي للتاديب) قال الاثرم سئل أحمد عن ضرب المعلم الصبيان قال على قدر ذنوبهم ويتوقى بجهده الضرب، وإذا كان صغيرا لا يعقل فلا يضربه ومتى ضرب من هؤلاء كلهم الضرب المأذون فيه لم يضمن ما تلف في الدابة وبهذا قال مالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وابو يوسف ومحمد، وقال الثوري وابو حنيفة يضمن لانه تلف بجنايته فضمن كغير المستأجر، وكذلك قال الشافعي في المعلم يضرب الصبي لانه يمكنه تأديبه بغير الضرب ولنا أنه تلف من فعل مستحق فلم يضمن كما لو تلف تحت الحمل ولان الضرب معنى تضمنه الاجارة فإذا تلف منه لم يضمن كالركوب وفارق غير المستأجر لانه متعد، وقول الشافعي يمكن التأديب بغير
الضرب لا يصح فان العادة خلافه ولو أمكن التأديب بغير الضرب لما جاز الضرب إذ فيه ايلام لا حاجة إليه فان أسرف في هذا كله أو زاد على ما يحصل الغنى به أو ضرب من لا عقل له من الصبيان فعليه الضمان لانه متعد حصل التلف بعدوانه، وحكم ضرب الرجل امرأته في النشوز على ما ذكرنا قياسا على الصبي * (مسألة) * (وان قال أذنت لي في تفصيله قباء قال بل قميصا فالقول قول الخياط نص عليه) إذا اختلف المؤجر والمستأجر فقال أذنت لي في قطعه قميص امرأة قال أذنت لك في قطعه
قميص رجل أو قال أذنت لي في قطعه قميصا قال بل قباء أو قال الصباغ أمرتني بصبغه أحمر قال بل أسود فالقول قول الخياط والصباغ نص عليه احمد في رواية ابن منصور وهذا قول ابن أبي ليلى وقال مالك وابو حنيفة وابو ثور القول قول صاحب الثوب واختلف أصحاب الشافعي فمنهم من قال له قولان كالمذهبين ومنهم من قال له قول ثالث انهما يتحالفان كالمتبايعين يختلفان في الثمن ومنهم من قال الصحيح ان القول قول رب الثوب لانهما اختلفا في صفة اذنه والقول قوله في أصل الاذن فكذلك في صفته ولان الاصل عدم الاذن المختلف فيه فالقول قول من ينفيه ولنا أنهما اتفقا على الاذن واختلفا في صفته فكان القول قول المأذون له كالمضارب إذا قال: أذنت لي في البيع نساء فأنكره ولانهما اتفقا على ملك الخياط القطع والصباغ الصبغ والظاهر أنه فعل ما ملكه واختلفا في لزوم الغرم له والاصل عدمه فعلى هذا يحلف الخياط والصباغ: لقد أذنت لي
في قطعه قباء وصبغه أحمر، ويسقط عنه الغرم ويستحق أجر المثل لانه ثبت وجود فعله المأذون فيه بعوض ولا يستحق المسمى لان المسمى ثبت بقوله ودعواه فلا يجب بيمينه، ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه " أخرجه مسلم فاما المسمى في العقد فانما يعترف رب الثوب بتسميته أجرا لقطعه قميصا أو صبغه أسود، وأما من قال القول قول رب الثوب فانه يحلف بالله ما أذنت في قطعه قباء ولا صبغه أحمر ويسقط عنه المسمى ولا يجب للخياط والصباغ أجر لانهما فعلا غير ما أذن لهما فيه، وذكر ابن أبي موسي رواية أخرى عن احمد أن صاحب الثوب إذا لم يكن ممن يلبس الاقبية والسواد فالقول قوله وعلى الصانع غرم ما نقص بالقطع وضمان ما أفسد ولا أجر له لان قرينة حال رب الثوب تدل على صدقه فترجح دعواه بها كما لو اختلف الزوجان في متاع البيت رجحنا دعوى كل واحد منهما فيما يصلح له ولو اختلف صانعان في الآلة التي في دكانهما رجحنا قول كل واحد منهما في آلة صناعته فعلى هذا يحلف رب الثوب ما اذنت لك في قطعه قباء ويكفي هذا لانه ينتفي به الاذن فيصير قاطعا لغير ما أذن فيه فإذا كان القباء مخيطا بخيوط لمالكه لم يملك الخياط فتقه وكان لمالكه أخذه مخيطا بلا عوض لانه عمل في ملك
غيره عملا مجردا عن عين مملوكة له فلم يكن له إزالته كما لو نقل ملك غيره من موضع إلى موضع لم يكن له رده إذا رضي صاحبه بتركه فيه وإن كانت الخيوط للخياط فله نزعها لانها عين ماله ولا يلزمه
أخذ قيمتها لانها ملكه ولا يتلف بأخذها ماله حرمة فان اتفقا على تعويضه عنها جاز لان الحق لهما وإن قال رب الثوب أنا أشد في كل خيط خيطا حتى إذا سلمه عاد خيط رب الثوب في مكانه لم يلزم الخياط الاجابة إلى ذلك لانه انتفاع بملكه وحكم الصباغ في قلع الصبغ إن اختاره وفي غير ذلك من أحكامه حكم صبغ الصباغ على ما يأتي في بابه قال شيخنا " والذي يقوى عندي أن القول قول رب الثوب لما ذكرنا في دليلهم وما قاسوا عليه فيما إذا قال المضارب أذنت لي في البيع نساء فأنكر رب المال ان القول قول المشارب ممنوع (فصل) إذا دفع إلى خياط ثوبا فقال: ان كان يقطع قميصا فاقطعه، فقال: هو يقطع وقطعه، فلم يكف ضمنه، أو قال أنظر هذا يكفيني قميصا؟ قال نعم، قال اقطعه فقطعه فلم يكفه، لم يضمن وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي، وقال أبو ثور لا ضمان عليه في المسئلتين لانه لو كان غره في الاولى لكان قد غره في الثانية.
ولنا أنه انما أذن له في الاولى بشرط كفايته فقطعه بدون شرطه، وفي الثانية اذن له من غير شرط فافترقا ولم يجب عليه الضمان في الاولى لتغريره بل لعدم الاذن في قطعه لان اذنه مقيد بشرط كفايته فلا يكون اذنا في غير ما وجد فيه الشرط بخلاف الثانية.
(فصل) فان أمره أن يقطع الثوب قميص رجل فقطعه قميص امرأة فعليه غرم ما بين قيمته صحيحا
ومقطوعا لان هذا قطع غير مأذون فيه فأشبه ما لو قطعه من غير إذن وقيل يغرم ما بين قميص رجل وقميص امرأة لانه مأذون في قميص في الجملة والاول أصح لان المأذون فيه قميص موصوف بصفة فإذا قطع قميصا غيره لم يكن فاعلا لما أذن فيه فكان متعديا بابتداء القطع ولذلك لا يستحق على القطع أجرا ولو فعل ما أمر به لاستحق أجره
(فصل) إذا دفع إلى حائك غزلا فقال انسجه لي عشرة أذرع في عرض ذراع فنسجه زائدا على ما قدر له في الطول والعرض فلا أجر له في الزيادة لانه غير مأمور بها وعليه ضمان ما نقص الغزل المنسوج فيها فاما ما عدا الزائد فينظر فيه فان كان جاءه زائدا في الطول وحده ولم ينقص الاصل بالزيادة فله ما سمى له من الاجر كما لو استأجره أن يضرب له مائة لبنة فضرب له مائتين وإن جاء به زائدا في العرض وحده أو فيهما ففيه وجهان (أحدهما) لا أجر له لانه مخالف لامر المستأجر فلم يستحق شيئا كما لو استأجره على بناء حائط عرض ذراع فبناه عرض ذراعين (والثاني) له المسمى لانه زاد على ما أمره به فاشبه زيادة الطول ومن قال بالوجه الاول فرق بين الطول والعرض بأنه يمكن قطع الزائد في الطول ويبقى الثوب على ما أراد ولا يمكن ذلك في العرض فاما ان جاء به ناقصا في الطول والعرض أو في أحدهما ففيه أيضا وجهان (أحدهما) لا أجر له وعليه ضمان نقص الغزل لانه مخالف لما أمر به فاشبه ما لو استأجره على بناء حائط عرض ذراع فبناه عرض نصف ذراع (والثاني) له بحصته
من المسمى كمن استؤجر على ضرب لبن فضرب بعضه ويحتمل انه ان جاء به ناقصا في العرض فلا شئ له وإن كان ناقصا في الطول فله بحصته من المسمى لما ذكرنا من الفرق بين الطول والعرض وإن جاء به زائدا في أحدهما ناقصا في الآخر فلا أجر له في الزائد وهو في الناقص على ما ذكرنا من التفصيل فيه.
وقال محمد بن الحسن في الموضعين يتخير صاحب الثوب بين دفع الثوب إلى النساج ومطالبته بثمن غزله وبين أن يأخذه ويدفع إليه المسمى في الزائد وبحصة المنسوج في الناقص لان غرضه لم يسلم له لانه ينتفع بالطويل ما لا ينتفع بالقصير وينتفع بالقصير ما لا ينتفع بالطويل فكأنه أتلف عليه غزله ولنا انه وجد عين ماله فلم يكن له مطالبته بعوض كما لو جاء به زائدا في الطول وحده فأما إن أثرت الزيادة أو النقص في الاصل مثل أن يأمره بنسج عشرة أذرع ليكون الثوب صفيقا فنسجه خمسة عشر فصار خفيفا أو بالعكس فلا أجر له بحال وعليه ضمان نسج الغرل لانه لم يأت بشئ مما أمر به (فصل) إذا اختلف المتكاريان في قدر الاجر فقال أجرتنيها سنة بدينار قال بل بدينارين تخالفا
ويبدأ بيمين الآجر نص عليه أحمد وهو قول الشافعي لان الاجارة نوع من البيع فإذا تحالفا قبل مضي شئ من المدة فسخا العقد ورجع كل واحد منهما في ماله وان رضي أحدهما بما حلف عليه الآخر أقر العقد وان فسخا العقد بعد المدة أو شئ منها سقط المسمى ووجب أجر المثل كما لو اختلفا في المبيع
بعد تلفه وهذا قول الشافعي وبه قال أبو حنيفة إن لم يكن عمل العمل وان كان عمله فالقول قول المستأجر فيما بينا وبين أجر مثله، وقال أبو ثور القول قول المستأجر لانه منكر للزيادة في الاحر والقول قول المنكر ولنا ان الاجارة نوع من البيع فيتحالفان عند اختلافهما في عرضها كالبيع وكما قبل أن يعمل العمل عند أبي حنيفة، وقال ابن أبي موسى القول قول المالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا اختلفا المتبايعان فالقول ما قال البائع " وهذا يحتمل أن يتناول ما إذا اختلفا في المدة وأما إذا اختلفا في العوض فالصحيح أنهما يتحالفان لما ذكرناه (فصل) فان اختلفا في المدة فقال أجرتكها سنة بدينار فقال بل سنتين بدينارين فالقول قول المالك لانه منكر للزيادة فكان القول قوله فيما أنكره كما لو قال بعتك هذا العبد بمائة فقال بل هذين العبدين بمائتين، وإن قال أجرتكها سنة بدينار فقال بل سنتين بدينار فههنا قد اختلفا في قدر العوض والمدة فيتحالفان لانه لم يوجد الاتفاق منهما على مدة بعوض فصار كما لو اختلفا في العوض مع اتفاق المدة وان قال المالك أجرتكها سنة بدينار فقال الساكن بل استأجرتني على حفظها بدينار، فقال احمد القول قول رب الدار الا أن تكون للساكن بينة وذلك لان سكنى الدار قد وجد من الساكن واستيفاء منفعتها وهي ملك صاحبها والقول قوله في ملكه والاصل عدم استئجاره للساكن في الحفظ فكان القول قول من ينفيه ويجب على الساكن أجر المثل
(فصل) فان اختلفا في التعدي في العين المستأجرة فالقول قول المستأجر لانه أمين فاشبه المودع ولان الاصل عدم العدوان والبراءة من الضمان وان ادعى أن العبد أبق من يده وان الدابة شردت
أو نفقت وأنكر المؤجر فالقول قول المستأجر لما ذكرنا ولا أجر عليه إذا حلف أنه ما انتفع بها لان الاصل عدم الانتفاع وعنه القول قول المؤجر لان الاصل السلامة فأما ان ادعى أن العبد مرض في يده فان جاء به صحيحا فالقول قول المالك سواء وافقه العبد أو خالفه نص عليه أحمد وان جاء به مريضا فالقول قول المستأجر وهذا قول أبي حنيفة لانه إذا جاء به صحيحا فقد ادعى ما يخالف الاصل وليس معه دليل عليه وان جاء به مريضا فقد وجد ما يخالف الاصل يقينا فكان القول قوله في مدة المرض لانه أعلم بذلك لكونه في يده وكذلك لو ادعى اباقه في حال اباقه ونقل اسحاق بن منصور عن احمد أنه يقبل قوله في اباق العبد دون مرضه، وبه قال الثوري واسحاق قال أبو بكر وبالاول أقول لانهما سواء في تفويت منفعته فكانا سواء في دعوى ذلك وان هلكت العين فاختلفا في وقت هلاكها أو أبق العبد أو مرض واختلفا في وقت ذلك فالقول قول المستأجر لان الاصل عدم العمل ولان ذلك حصل في يده وهو أعلم به * (فصل) * قال المصنف رحمه الله (وتجب الاجرة بنفس العقد الا أن يتفقا على تأخيرها) متى أطلق العقد في الاجارة ملك المؤجر الاجرة بنفس العقد كما يملك البائع الثمن بالبيع
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يملكها ولا يستحق المطالبة بها الا يوما بيوم الا أن يشترط تعجيلها قال أبو حنيفة الا أن تكون معينة كالثوب والدار والعبد لان الله تعالى قال (فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) امر بايتائهن بعد الرضاع وقال النبي صلى الله عليه وسلم " يقول الله عزوجل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره " فتوعده على الامتناع من دفع الاجر بعد العمل دل على انها حالة الوجوب وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال " أعطوا الاجير أجره قبل ان يجف عرقه " رواه ابن ماجه ولانه عوض لم يملك معوضه فلم يجب تسليمه كالعوض في العقد الفاسد فان المنافع معدومة لم تلك ولو ملكت فلم يتسلمها لانه يتسلمها شيئا فشيئا فلا يجب عليه العوض مع تعذر التسليم في العقد ولنا أنه عوض أطلق ذكره في عقد معاوضة فيستحق بمطلق العقد كالثمن والصداق أو نقول عوض
في عقد يتعجل بالشرط فوجب أن يتعجل بمطلق العقد كالذي ذكرنا فأما الآية فيحتمل أنه أراد الايتاء عند الشروع في الارضاع أو تسليم نفسها كقوله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) أي إذا أردت القراءة ولان هذا تمثيل بدليل الخطاب ولا يقولون به وكذلك الحديث يحققه أن الامر بالايتاء في وقت لا يمنع وجوبه قبله كقوله تعالى (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) والصداق يجب قبل الاستمتاع وهذا هو الجواب عن الحديث ويدل عليه أنه انما توعد على ترك الايفاء بعد الفراغ من العمل وقد
قلتم يجب الاجر شيئا فشيئا ويحتمل أنه توعده على ترك الوفاء في الوقت الذي تتوجه المطالبة فيه عادة جواب آخر أن الاية والاخبار انما وردت فيمن استؤجر على عمل فأما ان وقعت الاجارة فيه على مدة فلا تعرض لها به * (مسألة) * (ولا يجب تسليم اجرة العمل في الذمة حتى يتسلمه) إذا استؤجر على عمل فان الاجر يملك بالعقد أيضا لكن لا يستحق تسليمه إلا عند تسليم العمل وقال ابن أبي موسى من استؤجر لعمل معلوم استحق الاجر عند إيفاء العمل، وان استؤجر كل يوم بأجر معلوم فله أجر كل يوم عند تمامه، وقال أبو الخطاب الاجر يملك بالعقد ويستحق التسليم ويستقر بمضي المدة وإنما توقف استحقاق تسليمه على العمل لانه عوض فلا يستحق تسليمه إلا مع تسليم المعوض كالصداق والثمن في البيع وفارق الاجارة على الاعيان لان تسليمها أجري مجرى تسليم نفعها ومتى كانت على منفعة في الذمة لم يحصل تسليم المنفعة ولا ما يقوم مقامها فتوقف استحقاق تسليم الاجر على تسليم العمل وقولهم لم يملك المنافع قد سبق الجواب عنه فان قيل فان المؤجر إذا قبض الاجر انتفع به كله بخلاف المستأجر فانه لا يحصل له استيفاء المنفعة كلها قلنا لا يمنع هذا كما لو شرط التعجيل وكانت الاجرة عينا فاما ان شرط التأجيل في الاجر فهو على ما شرط وان شرط منجما يوما يوما أو شهرا شهرا فهو على ما شرطاه لان إجارة العين كبيعها وبيعها يصح بثمن حال ومؤجل كذلك إجارتها، وفيه وجه آخر ان الاجارة على المنفعة في الذمة لا يجوز تأجيل عوضها كالسلم
(فصل) إذا استوفى المستأجر المنافع استقر الاجر لانه قبض المعقود عليه فاستقر عليه البدل
كما لو قبض المبيع وان تسلم العين المستأجرة ومضت المدة لا مانع له من الانتفاع استقرت الاجرة أيضا وان لم ينتفع لان المعقود عليه تلف تحت يده وهي حقه فاستقر عليه بدلها كثمن المبيع إذا تلف في يد البائع فان كانت الاجارة على عمل فسلم المعقود عليه ومضت مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها مثل أن يكتري دابة ليركبها إلى حمص فقبضها ومضت مدة يمكن ركوبها فيها فقال أصحابنا يستقر عليه الاجر وهو مذهب الشافعي لان المنافع تلفت تحت يده باختياره فاستقر الضمان عليه كما لو تلفت العين في يد المشتري وكما لو كانت الاجارة على مدة فمضت وقال أبو حنيفة لا يستقر الاجر عليه حتى يستوفى المنفعة لانه عقد على المنفعة غير مؤقتة بزمن فلم يستقر بدلها قبل استيفائها كالاجر في الاجير المشترك وان بذل تسليم العين فلم يأخذها المستأجر حتى انقضت المدة استقر الاجر عليه لان المنافع تلفت باختياره في مدة الاجارة فاستقر عليه الاجر كما لو كانت في يده وان بذل تسليم العين وكانت الاجارة على عمل فقال أصحابنا إذا مضت مدة يمكن الاستيفاء فيها استقر عليه الاجر وبهذا قال الشافعي لان المنافع تلفت باختياره وقال أبو حنيفة لا أجر عليه قال شيخنا وهو الصحيح عندي لانه عقد على ما في الذمة فلم يستقر عوضه ببذل التسليم كالمسلم فيه ولانه عقد على منفعة غير مؤقتة بزمن فلم يستقر عوضها بالبذل كالصداق إذا بذلت تسليم نفسها وامتنع الزوج من أخذها
* (مسألة) * (وإذا انقضت الاجارة وفي الارض غراس أو بناء لم يشترط قلعه عند انقضاء الاجل فللمالك أخذه بالقيمة وتركه بالاجرة أو قلعه وضمان نقصه وان اشترط القلع لزمه ذلك ولا يلزمه تسويق الارض إلا بشرط) إذا استأجر أرضا للغراس أو للبناء سنة صح لانه يمكنه تسليم منفعتها المباحة المقصودة فأشبهت سائر المنافع وسواء شرط قلع الغراس والبناء عند انقضاء المدة أو أطلق وله أن يغرس قبل انقضاء المدة فإذا انقضت لم يكن له أن يغرس ولا أن يبني لزوال عقده فإذا انقضت السنة وكان قد شرط القطع عند انقضائها لزمه ذلك وفاء بموجب شرطه وليس على صاحب الارض غرامة نقصه ولا على المستأجر تسوية الحفر واصلاح الارض لانهما دخلا على هذا لرضاهما بالقلع واشتراطهما
عليه وان اتفقا على إبقائه بأجرة أو غيرها جاز إذا شرطا مدة معلومة وكذلك لو اكترى الارض سنة بعد سنة كلما انقضى عقد جدد آخر، وان أطلق العقد فللمكتري القلع لانه ملكه فله أخذه كطعامه في الدار التي باعها وإذا قلع فعليه تسوية الحفر لانه نقص دخل على ملك غيره بغير إذنه وهكذا ان قلعه قبل انقضاء المدة هاهنا وفي التي قبلها لان القلع قبل الوقت لم يأذن فيه المالك ولانه تصرف في
الارض تصرفا نقصها لم يقتضه عقد الاجارة وان أبى القلع لم يجبر عليه الا أن يضمن له المالك النقص فيخير حينئذ وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك عليه القلع من غير ضمان النقص له لان تقدير المدة في الاجارة يقتضي التفريغ عند انقضائها كما لو استأجرها للزرع ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس لعرق ظالم حق " مفهومه ان غير الظالم له حق وهذا غير ظالم ولانه غرس باذن المالك ولم يشرط قلعه فلم يجبر على القلع من غير ضمان النقص كما لو استعار منه أرضا للغرس مدة فرجع قبل انقضائها ويخالف الزرع فانه لا يقتضي التأبيد فان قيل فان كان اطلاق العقد في الغراس يقتضي التأبيد فشرط القلع ينافي مقتضى العقد فينبغي أن يفسده قلنا إنما اقتضى التأبيد من حيث أن العادة في الغراس التبقية فإذا أطلقه حمل على العادة وإذا شرط خلافه جاز كما إذا باع بغير نقد البلد أو شرط في الاجارة سيرا يخالف العادة إذا ثبت هذا فان رب الارض يخير بين ثلاثة أشياء (أحدها) أن يدفع قيمة الغراس والبناء فيملكه مع أرضه لان الضرر يزول عنهما به أشبه الشفيع في غراس المشتري (الثاني) أن يقلع الغراس والبناء ويضمن أرش نقصه لذلك (الثالث) أن يقر الغراس والبناء ويأخذ منه أجر المثل، وبهذا قال الشافعي لان الضرر يزول عنهما بذك وقال
مالك يتخير بين دفع قيمته فيملكه وبين مطالبته بالقلع من غير ضمان وبين تركه فيكونان شريكين والاول أصح فان اتفقا على بيع الغرس والبناء للمالك جاز وان باعهما صاحبهما لغير مالك الارض جاز ومشتريهما يقوم مقام البائع فيهما وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين: ليس له بيعهما لغير مالك الارض لان ملكه ضعيف بدليل ان لصاحب الارض تملكه عليه بالقيمة بغير رضاه
ولنا انه ملك له يجوز بيعه لمالك الارض فجاز لغيره كالشقص المشفوع وبهذا يبطل ما ذكروه فان للشفيع تملك الشقص بغير رضى المشترى ويجوز بيعه لغيره (فصل) فان شرط في العقد تبقية الغراس فذكر القاضي أنه صحيح وحكمه حكم ما لو أطلق العقد سواء وهو قول أصحاب الشافعي، ويحتمل أن يبطل العقد لانه شرط ما ينافي مقتضى العقد فلم يصح كما لو شرط ذلك في الزرع االذي لا يكمل قبل انقضاء المدة ولان الشرط باطل بدليل أنه لا يجب الوفاء به وهو مؤثر فأبطله كشرط تبقية الزرع بعد مدة الاجارة * (مسألة) * (وان كان فيها زرع بقاؤه بتفريط المستأجر فللمالك أخذه بالقيمة وتركه بالاجرة وان كان بغير تفريط لزم تركه بالاجرة)
إذا استأجر أرضا للزراعة مدة فانقضت وفيها زرع لم يبلغ حصاده لم يخل من حالين (أحدهما) أن يكون لتفريط المستأجر مثل أن يزرع زرعا لم تجر العادة بكماله قبل انقضاء المدة فحكمه حكم زرع الغاصب، يخير المالك بين أخذه بالقيمة أو تركه بالاجرة لما زاد على المدة لانه أبقى زرعه في أرض غيره بعدوانه وان اختار المستأجر قطع زرعه في الحال وتفريغ الارض فله ذلك لانه يزيل الضرر ويسلم الارض على الوجه الذي اقتضاه العقد، وذكر القاضي أن على المستأجر نقل الزرع وتفريغ الارض وان اتفقا على تركه بعوض أو غيره جاز وهذا مذهب الشافعي بناء على قوله في الغاصب وقياس المذهب ما ذكرناه (الحال الثاني) أن يكون بقاؤه بغير تفريطه مثل أن يزرع زرعا ينتهى في المدة عادة فأبطأ لبرد أو غيره فيلزم المؤجر تركه بالاجرة إلى أن ينتهي وله المسمى وأجر المثل لما زاد وهذا أحد الوجهين لاصحاب الشافعي (والوجه الثاني) يلزمه نقله لان المدة ضربت لنقل الزرع فلزم العمل بموجبه وقد وجه منه تفريط لانه كان يمكنه أن يستظهر في المدة فلم يفعل ولنا ان الزرع حصل في أرض غيره باذنه من غير تفريط فله تركه كما لو أعاره أرضا فزرعها ثم رجع المالك قبل كمال الزرع وقولهم إنه مفرط لا يصح لان هذه المدة التى جرت العادة بكمال الزرع فيها
وفي زيادة المدة تفويت زيادة الاجر بغير فائدة وتضييع زيادة متيقنة لتحصيل شئ متوهم على خلاف العادة هو التفريط فلم يكن تركه تفريطا ومتى أراد المستأجر زرع شئ لا يدرك مثله في مدة الاجارة فللمالك منعه لانه سبب لوجود زرعه في أرضه بغير حق، فان زرع لم يملك مطالبته بقلعه قبل المدة لانه في أرض يملك نفعها ولانه لا يملك ذلك بعد المدة فقبلها أولى، ومن أوجب عليه قطعه بعد المدة قال إذا لم يكن بد من المطالبة بالنقل فليكن عند المدة التي يستحق تسليمها إلى المؤجر فارغة (فصل) إذا اكترى الارض لزرع مدة لا يكمل فيها مثل أن اكترى خمسة أشهر لزرع لا يكمل إلا في ستة نظرنا فان شرط تفريغها عند انقضاء المدة ونقله عنها صح لانه لا يفضي إلى الزيادة على مدته وقد يكون له غرض في ذلك لاخذه إياه قصيلا أو غيره ويلزمه ما التزم، وإن أطلق العقد ولم يشرط شيئا احتمل أن يصح لان الانتفاع في هذه المدة ممكن واحتمل انه أمكن أن ينتفع بالارض في زرع ضرره كضرر الزرع المشروط ودونه مثل أن يزرعها شعيرا يأخذه قصيلا صح لان الانتفاع بها في بعض ما اقتضاه العقد ممكن وإن لم يكن كذلك لم يصح لانه اكترى للزرع مالا ينتفع بالزرع فيه فأشبه إجارة السبخة له، فان قلنا يصح فإذا انقضت المدة ففيه وجهان: أحدهما حكمه حكم زرع المستأجر لما لا تكمل مدته لانه ههنا مفرط واحتمل أن يلزم المكري تركه لان التفريط منه حيث أكراه مدة لزرع لا يكمل فيها، وإن شرط تبقيته حتى يكمل فالعقد فاسد لانه جمع بين متضادين فان تقدير المدة
يقتضي النقل فيها وشرط التبقية يخالفه ولان مدة التبقية مجهولة فان زرع لم يطالب بنقله كالتي تقدمت * (مسألة) * (وإذا تسلم العين بالاجارة الفاسدة فعليه أجرة المثل سكن أو لم يسكن) إذا قبض العين في الاجارة الفاسدة ومضت المدة أو مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها أو لا يمكن ففيه روايتان: إحداهما عليه أجرة المثل لمدة بقائها في يده وهذا مذهب الشافعي لان المنافع تلفت تحت يده بعوض لم يسلم له فرجع إلى قيمتها كما لو استوفاها (والثانية) لا شئ له وهو قول أبي حنيفة لانه عقد فاسد على منافع لم يستوفها فم يلزمه عوضه كالنكاح الفاسد.
فأما إن بذل له التسليم في الاجارة الفاسدة
فلم يتسلمها فلا أجر عليه لان المنافع لم تتلف تحت يده ولا في ملكه، وإن استوفى المنفعة في العقد الفاسد فعليه أحر المثل وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يجب أقل الامرين من المسمى أو أجر المثل بناء منه على ان المنافع لا تضمن إلا بالعقد.
ولنا ان ما ضمن بالمسمى في العقد الصحيح وجب ضمانه بجميع القيمة في الفاسد كالاعيان وما ذكروه غير مسلم * (مسألة) * (إذا اكترى بدراهم وأعطاه عنها دنانير ثم انفسخ العقد رجع المستأجر بالدراهم) لان العقد إذا انفسخ رجع كل واحد من المتعاقدين في العوض الذي بذله وعوض العقد هو الدراهم فكان الرجوع بها والدنانير انما أخذها المؤجر بعقد آخر سوى الاجارة ولم ينفسخ فأشبه ما إذا قبض الدراهم ثم صرفها بالدنانير.
باب احياء الموات وهي الارض الداثرة التي لا يعلم أنها ملكت والموات الارض الدارسة تسمى ميتة ومواتا وموتانا بفتح الميم والواو والموتان بضم الميم وسكون الواو الموت الذريع ورحل موتان القلب بفتح الميم وسكون الواو يعنى عمي القلب لا يفهم والاصل في إحياء الموات ما روي جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من أحيا ارضا ميتة فهي له " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروي سعيد ابن زيد ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أحيا ارضا ميتة فهي له " قال الترمذي هذا حديث حسن وروى مالك في موطئه وأبو داود في سننه عن عائشة مثله قال ابن عبد البر وهو مسند صحيح متلقى بالقبول عند ففهاء المدينة وغيرهم وروى أبو عبيد في الاموال عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحيا أرضا ليست لاحد فهو أحق بها " قال عروة وقضى بذلك عمر بن الخطاب في خلافته وعامة فقهاء الامصار على أن الموات يملك بالاحياء وان اختلفوا في شروطه * (مسألة) * (فان كان فيها آثار الملك ولا يعلم لها مالك ففيه روايتان) وجملة ذلك أن الموات قسمان (أحدهما) ما لم يجر عليه ملك لاحد ولم يوجد فيه أثر عمارة فهذا يملك بالاحياء بغير خلاف بين القائلين بالاحياء لان الاخبار المروية متناولة له (القسم الثاني) ما جرى
عليه ملك وهو ثلاثة أنواع (أحدهما) ماله مالك معين وهو ضربان (أحدهما) ما ملك بشراء أو عطية فهذا لا يملك بالاحياء بغير خلاف قال ابن عبد البر اجمع العلماء أن ما عرف بملك مالك غير منقطع أنه لا يجوز احياؤه لاحد غير أربابه (الثاني) ما ملك بالاحياء ثم ترك حتى دثر وعاد مواتا فهو كالذي قبله سواء وقال مالك تملك لعموم قوله " من أحيا أرضا ميتة فهي له " ولان أصل هذه الارض مباح فإذا تركت حتى تصير مواتا عادت إلى الاباحة كمن أخذ ماء من نهر ثم رده فيه ولنا أن هذه أرض يعرف مالكها فلم تملك بالاحياء كالتي ملكت بشراء أو عطية والخبر مقيد بغير المملوك بقوله في الرواية الاخرى " من أحيا أرضا ميتة ليست لاحد " وقوله " من غير حق مسلم " وهذا يوجب تقييد مطلق حديثه وقال هشام بن عروة في تفسير قوله عليه السلام " ليس لعرق ظالم حق " الظالم أن يأتي الرجل الارض الميتة لغيره فيغرس فيها رواه سعيد بن منصور وفي سننه ثم الحديث مخصوص بما ملك بشراء أو عطية فقيس عليه محل النزاع ولان سائر الاموال لا يزول الملك عنها بالترك بدليل سائر الاملاك إذا تركت حتى تشعثت وما ذكروه يبطل بالموات إذا أحياه إنسان ثم باعه فتركه المشتري حتى عاد مواتا وباللقطة إذا ملكها ثم ضاعت منه ويخالف ماء النهر فانه استهلك (النوع الثاني) ما يوجد فيه آثار ملك قديم جاهلي كآثار الروم ومساكن ثمود ونحوهم فهذا يملك بالاحياء في أظهر الروايتين لما ذكرنا من الاحاديث ولان ذلك الملك لا حرمة له لما روي طاوس عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " عادي الارض لله ولرسوله ثم هي لكم بعد " رواه سعيد في سننه وأبو عبيد في الاموال وقال عادي الارض التى كان بها ساكن في آباد الدهر فاقرضوا فلم يبق منهم أنيس وإنما نسبها إلى عاد لانهم كانوا مع تقدمهم ذوي قوة وبطش وأثار كثيرة فينسب كل أثر قديم إليهم والرواية الثانية لا تملك لانها إما لمسلم أو ذمي أو بيت المال أشبه ما لو تعين مالكه قال شيخنا ويحتمل أن كل ما فيه أثر الملك ولم يعلم زواله قبل الاسلام أنه لا يملك لانه يحتمل أن المسلمين أخذوه عامرا فاستحقوه فصار موقوفا بوقف عمر له فلم يملك كما لو علم مالكه (النوع الثالث) ما جرى عليه الملك في الاسلام
لمسلم أو ذمي غير معين فظاهر كلام الخرقي أنه لا يملك بالاحياء وهو احدى الروايتين عن أحمد نقلها عنه أبو داود وأبو الحرث لما روي كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من أحيا أرضا مواتا في غير حق مسلم فهي له " فقيده بكونه في غير حق مسلم ولان هذه الارض لها مالك فلم يجز احياؤها كما لو كان معينا فان مالكها ان كان له ورثة فهي لهم وان لم يكن له ورثة ورثه المسلمون (والثانية) أنها تملك بالاحياء نقلها صالح وغيره وهي مذهب أبي حنيفة ومالك لعموم الاخبار ولانها أرض موات لا حق فيها لقوم باعيانهم أشبهت ما لم يجر عليه ملك مالك ولانها ان كانت في دار الاسلام فهي كلقطة دار الاسلام وان كانت في دار الكفر فهي كالركاز * (مسألة) * (ومن أحيا أرضا ميتة فهي له للاخبار التي رويناها مسلما كان أو كافرا في دار الاسلام وغيرها)
لعموم الاخبار ولان عامر دار الحرب انما يملك بالقهر والغلبة كسائر أموالهم فاما ما عرف أنه كان مملوكا في دار الحرب ولم يعلم له مالك معين فهو على الروايتين فان قيل هذا ملك كافر غير محترم فأشبه ديار عاد وقد دل عليه قوله عليه السلام " عادي الارض لله ولرسوله ثم هي لكم بعد " ولان الركاز من أموالهم ويملكه واجده فهذا أولى قلنا قوله " عادي الارض " يعني ما تقدم ملكه ومضت عليه الازمان وما كان كذلك فلا حكم لمالكه فاما ما قرب ملكه فيحتمل أن له مالكا باقيا وان لم يتعين فلهذا قلنا لا يملك على احدى الروايتين وأما الركاز فانه ينقل ويحول وهذا يخالف الارض بدليل أن لقطة دار الاسلام تملك بعد التعريف بخلاف الارض (فصل) ولا فرق بين المسلم والذمي في الاحياء نص عليه أحمد وبه قال أبو حنيفة وقال مالك لا يملك الذمي بالاحياء في دار الاسلام قال القاضي وهذا مذهب جماعة من أصحابنا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " موتان الارض لله ولرسوله ثم هي لكم مني " فجمع المرتان ثم جعله للمسلمين ولان موتان الارض من حقوقها والدار للمسلمين فكان مواتها لهم كمرافق المملوك ولنا عموم قوله عليه السلام " من احيا أرضا ميتة فهي له " ولان هذه جهة من جهات التمليك فاشترك فيها المسلم والذمي كسائر جهاته وحديثهم لا نعرفه انما نعرف قوله " عادي الارض لله ورسوله ثم هي
لكم بعد ومن احيا مواتا من الارض فله رقبتها " هكذا روي سعيد بن منصور وهو مرسل ورواه طاوس
عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم لا يمتنع أن يريد بقوله " هي لكم " أي لاهل دار الاسلام والذي من أهل الدار تجري عليه أحكامها وقولهم إنها من حقوق دار الاسلام قلنا هو من أهل الدار فيملكها كما يملكها بالشراء ولانه يملك مباحاتها من الحشيش والحطب والصيود والركاز والمعدن واللقطة وهي من مرافق دار الاسلام فكذلك الموات * (مسألة) * (ويملكه باذن الامام وغير اذنه) وجملة ذلك أن احياء الموات لا يفتقر إلى اذن الامام وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة يفتقر إلى اذنه لان للامام مدخلا في النظر في ذلك بدليل من تحجر موانا فلم يحيه فانه يطالبه بالاحياء أو الترك فافتقر إلى اذنه كمال بيت المال ولنا عموم قوله عليه السلام " من أحيا أرضا ميتة فهي له " ولان هذه عين مباحة فلا يفتقر تملكها إلى اذن الامام كأخذ الحشيش والحطب ونظر الامام في ذلك لا يدل على اعتبار اذنه ألا ترى أن من وقف في مشرعة طالبه الامام أن يأخذ حاجته وينصرف ولم يفتقر ذلك لى اذنه وأما مال بيت المال فهو مملوك للمسلمين وللامام تعيين مصارفه وترتيبها فافتقر إلى اذنه بخلاف مسئلتا فان هذا مباح فمن سبق إليه كان أحق الناس به كسائر المباحات * (مسألة) * (الا ما أحياه مسلم من أرض الكفار التي صولحوا عليها)
وجملة ذلك أن جميع البلاد فيما ذكرنا سواء المفتوح عنوة كأرض الشام والعراق وما أسلم أهله عليه كالمدينة، وما صولح أهله على أن الارض للمسلمين كأرض خيبر إلا الذي صولح أهله على أن الارض لهم ولنا الخراج عنها فان أصحابنا قالوا لو دخل إليها مسلم فاحيا فيها مواتا لم يملكه لانهم صولحوا في بلادهم فلا يجوز التعرض لشئ منها عامرا كان أو مواتا لان الموات تابع للبلد فإذا لم يملك عليهم البلد لم يملك مواته ويفارق دار الحرب حيث يملك مواتها لان دار الحرب على أصل الاباحة وهذه صالحناهم
على تركها لهم ويحتمل أن يملكها من أحياها لعموم الخبر، ولانها من مباحات دارهم فجاز أن يملكها من وجد منه سبب تملكها كالحشيش والحطب وقد روي عن أحمد أنه ليس في السواد موات يعني سواد العراق قال القاضي هو محمول على العامر، ويحتمل أن أحمد قال ذلك لكون السواد كان معمورا كله في زمن عمر بن الخطاب حين أخذه المسلمون من الكفار حتى بلغنا أن رجلا سأل أن يعطى خربة فلم يجدوا له خربة فقال أردت أن أعلمكم كيف أخذتموها منا وإذا لم يكن فيها موات حين ملكها المسلمون لم يصر فيها موات بعده لان ما دثر من أملاك المسلمين لم يصر مواتا على إحدى الروايتين
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: