الفقه الحنبلي - التذكية - كتاب الاطعمة
* (مسألة) * (وان ذبح من قفاها وهو مخطئ فاتت السكين على موضع ذبحها وهي في الحياة أكلت، وان فعله عمدا فعلى وجهين) قال القاضي معنى الخطأ أن تلتوي الذبيحة عليه فتأتي السكين
على القفا لانها مع التوائها معجوز عن ذبحها في محل الذبح فسقط اعتبار المحل كالمتردية في بئر، فاما مع عدم التوائها فلا تباح بذلك لان الجرح في القفا سبب للزهوق وهو في غير محل الذبح فإذا اجتمع مع الذبح منع حله كما لو بقر بطنها وقد روي عن أحمد ما يدل على هذا المعنى فان الفضل بن زياد قال سألت أبا عبد الله عمن ذبح في القفا فقال عامدا أو غير عامد؟ قلت عامدا قال لا تؤكل فإذا كان غير عامد كأن التوى عليه فلا بأس (فصل) فان ذبحها من قفاها اختيارا فقد ذكرنا عن أحمد انها لا تؤكل وهو مفهوم كلام الخرقي وحكي هذا عن علي وسعيد بن المسيب ومالك واسحاق وقال ابراهيم والنخعي تسمى هذه الذبيحة القفينة وقال القاضي ان بقيت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمرئ حلت والا فلا ويعتبر ذلك بالحركة القوية وهذا مذهب الشافعي وهذا أصح لان الذبح إذا أتى على ما فيه حياة
مستقرة احله كأكيلة السبع والمتردية والنطيحة وعنه ما يدل على اباحتها مطلقا، ولو ضرب عنقا بالسيف فأطار رأسها حلت بذلك فان أحمد قال لو ان رجلا ضرب رأس بطة أو شاة بالسيف يريد بذلك
الذبيحة كان له ان يأكله، وروي عن علي رضي الله عنه انه قال تلك ذكاة وحية وافتي بأكلها عمران بن حصين وبه قال الشعبي وأبو حنيفة والثوري، وقال أبو بكر: لابي عبد الله فيها قولان الصحيح انها مباحة لانه اجتمع قطع مالا تبقي الحياة معه مع الذبح فأبيح كما ذكرنا مع قول من ذكرنا قوله من الصحابة من غير مخالف (فصل) فان ذبحها من قفاها فلم يعلم هل كانت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمرئ ام لا؟ نظرت فان كان الغالب بقاء ذلك لحدة الآلة وسرعة القطع فالاولى اباحته لانه بمنزلة ما قطعت عنقه بضربة السيف وان كانت الآلة كالة وابطأ قطعه وطال تعذيبه لم يبح لانه مشكوك في وجود ما يحله فيحرم كما لو أرسل كلبا على الصيد فوجد معه كلبا آخر لا يعرفه * (مسألة) * (وكل ما وجد فيه سبب الموت كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع إذا أدرك ذكاتها وفيها حياة مستقرة أكثر من حركة المذبوح حلت وان صارت حركتها كحركة المذبوح لم تحل) وجملة ذلك ان المنخنقة الموقوذة وسائر ما ذكر في هذه المسألة وما أصابها مرض فماتت بذلك فهي محرمة الا ان تدرك ذكاتها لقول الله تعالى (الا ما ذكيتم) وفي حديث جارية كعب انها كانت ترعى غنما بسلع فاصيبت شاة من غنمها فادركتها فذبحتها بحجر فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " كلوها " فان كانت لم يبق من حياتها الا مثل حركة المذبوح لم تبح الذكاة لانه لو ذبح ما ذبحه المجوسي لم يبح وإن أدركها وفيها حياة مستقرة بحيث يمكنه ذبحها حلت لعموم الآية والخبر وسواء كانت قد انهت إلى حال يعلم أنها لا تعيش معه أو تعيش لعموم الآية والخبر ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل ولم يستفصل وقد قال ابن عباس في ذئب عدا على شاة فعقرها فوضع قصبها بالارض فأدركها فذبحها بحجر قال يلقي ما أصاب الارض ويأكل سائرها قال أحمد في بهيمة عقرت بهيمة حتى تبين فيها آثار الموت الا أن فيه الروح
يعني فذبحت فقال إذا مصعت بذنبها وطرفت بعينها وسال الدم فأرجو ان شاء الله ان لا يكون بأكلها بأس وروي ذلك باسناده عن عقيل بن عمير وطاوس وقالا تحركت ولم يقولا سال الدم
وهذا مذهب أبي حنيفة، وقال اسماعيل بن سعيد سألت أحمد عن شاة مريضة خافوا عليها الموت فذبحوها فلم يعلم منها أكثر من أنها طرفت بعينها أو حركت يدها أو رجلها أو ذنبها بضعف فنهر الدم قال لا بأس، وقال ابن أبي موسى إذا انتهت إلى حد لا تعيش معه لم تبح بالذكاة ونص عليه أحمد فقال إذا شق الذئب بطنها وخرج قصبها فذبحها لا تؤكل وقال ان كان يعلم انها تموت من عقر السبع فلا تؤكل وان ذكاها وقد خاف على الشاة الموت من العلة والشئ يصيبها فبادرها فذبحها يأكلها وليس هذا مثل هذه لا ندري لعلها تعيش والتي قد خرجت امعاؤها نعلم انها لا تعيش وهذا قول أبي يوسف، والاول اصح لان عمر رضي الله عنه انتهى به الجرح إلى حد علم انه لا يعيش معه فوصى فقبلت وصاياه ووجبت العبادة عليه، وفيما ذكرنا من عموم الآية والخبر وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل في جارية كعب ما يرد هذا، وتحمل نصوص أحمد على شاة خرجت امعاؤها وبانت منها فتلك لا تحل بالذكاة لانها في حكم الميت ولا تبقى حركتها الا كحركة المذبوح، فأما ما خرجت امعاؤها وبانت منها فهي في حكم الحياة تباح بالذبح ولهذا قال الخرقي فيمن شق بطن رجل فأخرج حشوته فقطعها فأبانها ثم ضرب عنقه آخر: فالقاتل هو الاول، ولو شق بطن رجل وضرب عنقه آخر فالقاتل هو الثاني وقال بعض أصحابنا إذا كانت تعيش معظم اليوم حلت بالذكاة وهذا التحديد بعيد يخالف ظواهر النصوص ولا سبيل إلى معرفته، وقوله في حديث جارية كعب فذكتها بحجر يدل على أنها بادرتها بالذكاة حين خافت موتها في ساعتها، والصحيح انها إذا كانت تعيش زمنا يكون الموت بالذبح اسرع منه حلت بالذبح وانها متى كانت مما لا يتيقن موتها كالمريضة انها متى تحركت وسال دمها حلت والله أعلم * (فصل) * (الشرط الرابع أن يذكر اسم الله تعالى عند الذبح وهو ان يقول بسم الله لا يقوم غيرها مقامها) فهذه التسمية المعتبرة عند الذبح لان اطلاق التسمية ينصرف إليها وقد ثبت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح قال " بسم الله والله أكبر " وكان ابن عمر يقوله ولا خلاف أن قول بسم الله يجزئه
وان قال اللهم اغفر لي لم يكف لان ذلك طلب حاجة وان هلل أو سبح أو كبر الله أو حمد الله
احتمل الاجزاء لانه ذكر اسم الله تعالى على وجه التعظيم واحتمل المنع لان اطلاق التسمية لا يتناوله وان ذكر اسم الله بغير العربية اجزأه وان أحسن العربية لان المقصود ذكر اسم الله وهو يحصل بجميع اللغات بخلاف التكبير والسلام فان المقصود لفظه * (مسألة) * (الا الاخرس فانه يومئ برأسه إلى السماء) قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على اباحة ذبيحة الاخرس منهم الليث والشافعي واسحاق وأبو ثور وهو قول الشعبي وقتادة والحسن بن صالح.
إذا ثبت هذا فانه يشير إلى السماء برأسه لان إشارته تقوم مقام نطق الناطق واشارته إلى السماء تدل على قصده تسمية الذي في السماء ونحو هذا قال الشعبي وقد دل على هذا حديث أبي هريرة ان رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية أعجمية فقال يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة أفأعتق هذه؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " أين الله؟ " فأشارت إلى السماء فقال " من أنا؟ " فأشارت باصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والى السماء أي انت رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اعتقها فانها مؤمنة " رواه الامام أحمد والقاضي البرتي في مسنديهما فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايمانها باشارتها إلى السماء تريد ان الله سبحانه فيها فاولى ان يكتفى بذلك علما على التسمية ولو أنه اشار اشارة تدل على التسمية وعلم ذلك كان كافيا (فصل) وإن كان المذكي جنبا جازت له التسمية لانه انما منع من القرآن لا من الذكر ولهذا تشرع التسمية عند الاغتسال وليست الجناية أعظم من الكفر والكافر يذبح ويسمي وممن رخص في ذبح الجنب الحسن والليث والحكم والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي قال ابن المنذر لا اعلم أحدا كره ذلك ولا منع منه، وتباح ذبيحة الحائض لانها في معنى الجنب * (مسألة) * (فان ترك التسمية عمدا لم تبح وان تركها ساهيا ابيحت وعنه تباح في الحالين وعنه لا تباح فيهما)
المشهور من مذهب أحمد ان التسمية علي الذبيحة شرط في اباحة أكلها مع الذكر وتسقط بالسهو وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة واسحاق وممن اباح ما نسيت التسمية عليه عطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن ابي ليلى وجعفر بن محمد وربيعة وعن احمد انها مستحبة وليست شرطا في عمد ولا سهو وبه قال الشافعي لان البراء روى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم " وعن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل أرأيت الرجل منا يذبح وينسى ان يذكر اسم الله؟ فقال " اسم الله في قلب كل مسلم " قال أحمد انما قال الله تعالى (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) يعني الميتة وذكر ذلك عن ابن عباس، وعن احمد رواية ثالثة أنها تجب في العمد والسهو لقوله سبحانه (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) وهو عام في العمد والسهو، ودليل الرواية الاولى ما روى راشد بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم إذا لم يتعمد " أخرجه سعيد فأما الآية فمحمولة على ما إذا ترك التسمية عمدا بدليل قوله تعالى (وانه لفسق) والاكل مما نسيت التسمية عليه ليس بفسق لقول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان ".
إذا ثبت هذا فالتسمية مع العمد شرط سواء كان الذابح مسلما أو كتابيا فان ترك الكتابي التسمية عمدا وذكر اسم غير الله لم تبح ذبيحته روى ذلك علي وبه قال الشافعي والنخعي وحماد واسحاق وأصحاب الرأي، وقال عطاء ومكحول إذا ذبح الكتابي باسم المسيح حل لان الله تعالى أحل لنا ذبيحتهم وقد علم أنهم يقولون ذلك ولنا قول الله تعالى (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) وقوله (وما أهل لغير الله به) والآية أريد بها ما ذبحوه بشرطه كالمسلم، وإن لم يعلم اسمى الذابح أم لا؟ أو ذكر اسم غير الله أو لا؟ فذبيحته حلال لان الله تعالى أباح لنا كل ما ذبحه المسلم والكتابي وقد علم أننا لا نقف على كل ذابح
وقد روي عن عائشة أنهم قالوا يا رسول الله ان قوما حديثو عهد بشرك يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله أم لم يذكروا؟ قال " سموا أنتم وكلوا " أخرجه البخاري
(فصل) والتسمية على الذبيحة معتبرة حال الذبح أو قريبا منه كما تعتبر، في الطهارة وإن سمى على شاة ثم أخذ أخرى فذبحها بتلك التسمية لم يجز سواء ارسل الاولى أو ذبحها لانه لم يقصد الثانية بهذه التسمية، فان رأى قطيعا من الغنم فقال باسم الله ثم أخذ شاة فذبحها بغير تسمية لم تحل فان جهل كون ذلك لا يجزئ لم يجر مجرى النسيان لان النسيان يسقط المؤاخذة والجاهل مؤاخذ ولذلك يفطر الجاهل بالاكل في الصوم دون الناسي وإن أضجع شاة ليذبحها وسمى ثم ألقى السكين وأخذ أخرى أو رد سلاما أو كلم انسانا أو استسقى ماء حل لانه سمى على تلك الشاة بعينها ولم يفصل بينهما إلا بفصل يسير فاشبه ما لو لم يتكلم * (مسألة) * (وذكاة الجنين ذكاة أمه إذا خرج ميتا أو متحركا كحركة المذبوح وإن كانت فيه حياة مستقرة لم يبح الا بذبحه وسواء أشعر أو لم يشعر) وجملة ذلك ان الجنين إذا خرج ميتا من بطن أمه بعد ذبحها أو وجد ميتا في بطنها أو كانت حركته بعد خروجه كحركة المذبوح فهو حلال روي هذا عن عمر وعلي وبه قال سعيد بن المسيب والنخعي والشافعي واسحاق وابن المنذر وقال ابن عمر ذكاته ذكاة أمه إذا أشعر، وروي ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد والزهري والحسن وقتادة ومالك والليث والحسن بن صالح وأبي ثور لان عبد الله بن كعب بن مالك قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه وهذا اشارة إلى جميعهم فكان اجماعا، وقال أبو حنيفة لا يحل إلا أن يخرج حيا فيذكى لانه حيوان ينفرد بحياته فلا يتذكى بذكاة غيره كما بعد الوضع، قال ابن المنذر وكان الناس على اباحته لا نعلم أحدا منهم خالف ما قالوا إلى ان جاء النعمان فقال لا يحل لان ذكاة نفس لا تكون ذكاة لنفسين ولنا ما روى أبو سعيد قال قيل يا رسول الله إن أحدنا ينحر الناقة ويذبح البقرة والشاة فيجد
في بطنها الجنين أيأكله أم يلقيه؟ قال " كلوه إن شئتم فان ذكاته ذكاة أمه " وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ذكاة الجنين ذكاة أمه " رواه أبو داود ولان هذا اجماع من الصحابة ومن بعدهم فلا يعول على ما خالفه ولان الجنين متصل بها اتصال خلقة يتغذى بغذائها فتكون ذكاته
ذكاتها كاعضائها، ولان الذكاة في الحيوان تختلف على حسب الامكان فيه والقدرة بدليل الصيد الممتنع والمقدور عليه والمتردية والجنين لا نتوصل إلى ذبح باكثر من ذبح أمه فيكون ذكاة له، فأما إن خرج حيا حياة مستقرة يمكن ان يذكى فلم يذكه حتى مات فليس بذكي قال أحمد إن خرج حيا فلابد من ذكاته لانه نفس أخرى (فصل) واستحب أبو عبد الله أن يذبحه وإن خرج ميتا ليخرج الدم الذي في جوفه ولان ابن عمر كان يعحبه أن يريق من دمه وإن كان ميتا * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (ويكره توجيه الذبيحة إلى غير القبلة وأن يذبح بآلة كالة وأن يحد السكين والحيوان يبصره) وجملة ذلك أنه يستحب ان يستقبل بها القبلة روي ذلك عن ابن عمر وابن سيرين وعطاء والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وكره ابن عمر وابن سيرين أكل ما ذبح لغير القبلة والاكثرون على أنه لا يكره لان أهل الكتاب يذبحون لغير القبلة، وقد أحل الله سبحانه ذبائحهم، ويكره أن يذبح بآلة كالة لما روى أبو داود باسناده عن شداد بن اوس قال خصلتان سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الله كتب الاحسان على كل شئ فإذا قتلتم فاحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فاحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " ويكره أن يحد السكين والحيوان يبصره، ورأى عمر رجلا قد وضع رجليه على شاة وهو يحد السكين فضربه حتى أفلت الشاة، ويكره أن يذبح شاة والاخرى تنظر إليه كذلك * (مسألة) * (ويكره أن يكسر عنق الحيوان أو يسلخه حتى يبرد أي حتى تزهق نفسه)
وقد قال عمر رضي الله عنه لا تعجلوا الانفس حتى تزهق، ولان في ذلك تعذيب الحيوان فأشبه قطع عضو منه، وممن كره قطع عضو منه قبل الزهوق عطاء وعمرو بن دينار ومالك والشافعي ولا نعلم لهم مخالفا * (مسألة) * (فان فعل اساء وأكلت لان ذلك حصل بعد ذبحها وحلها) وقد سئل احمد عن رجل ذبح دجاجة فأبان رأسها فقال يأكلها قيل له والذي بان منها أيضا؟
قال نعم قال البخاري قال ابن عمر وابن عباس إذا قطع الرأس فلا بأس به وهو قول الحسن والنخعي والشعبي والزهري والشافعي وإسحاق وابي ثور وأصحاب الرأي وذلك لان قطع ذلك العضو بعد حصول الذكاة فأشبه ما لو قطعه بعد الموت، فاما ان قطع من الحيوان شئ وفيه حياة مستقرة فهو ميتة لما روى أبو واقد الليثي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة " رواه أبو داود ولان إباحته انما تحصل بالذبح وليس هذا بذبح * (مسألة) * (وان ذبح الحيوان ثم غرق في ماء أو وطئ عليه شئ يقتله مثله فهل يحل؟ على روايتين) (احداهما) لا يحل وهو الذي ذكره الخرقي ونص عليه أحمد لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي ابن حاتم في الصيد " وان وقعت في الماء فلا تأكل " وقال ابن مسعود من رمى طائرا فوقع في ماء فغرق فيه فلا يأكله ولان الغرق سبب يقتل فإذا اجتمع مع الذبح فقد اجتمع ما يبيح ويحرم فيغلب الحظر ولانه لا يؤمن ان يعين على خروج الروح فيكون قد خرجت بفعلين مبيح ومحرم فاشبه ما لو وجد الامران في حال واحدة أو رماه مسلم ومجوسي فمات (والثانية) لا يحرم وبه قال أكثر أصحابنا المتأخرين وهو قول أكثر الفقهاء لانها إذا ذبحت فقد صارت في حكم الميت وكذلك لو ابين رأسها بعد الذبح لم يحرم نص عليه أحمد ولانه لو ذبح انسان ثم ضربه آخر أو غرقه لم يلزمه قصاص ولا دية * (مسألة) * (وإذا ذبح الكتابي ما يحرم عليه كذي الظفر لم يحرم علينا)
وذو الظفر قال قتادة هي الابل والانعام والبط وما ليس بمشقوق الاصابع، وإذا ذبح حيوانا غيره لم تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم وهي شحم الثرب والكليتين في ظاهر كلام احمد رحمه الله واختاره ابن حامد فان أحمد حكى عن مالك في اليهودي يذبح الشاة قال لا تأكل من شحمها قال أحمد هذا مذهب دقيق وظاهر أنه لم يره صحيحا وهذا اختيار ابن حامد وأبي الخطاب وذهب ابو الحسن التميمي والقاضي إلى تحريمها وحكاه التميمي عن الضحاك ومجاهد وهو قول مالك لان الله تعالى قال (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) وليس هذا من طعامهم ولانه جزء من البهيمة
لم يبح لذابحها فلم يبح لغيره كالدم ولنا ما روى عبد الله بن مغفل قال دلي جراب من شحم يوم خيبر فنزوت لآخذه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم الي متفق عليه، ولانها ذكاة اباحت اللحم فاباحت الشحم كذكاة المسلم والآية حجة لنا فان معنى طعامهم ذبائحهم كذلك فسره العلماء وقياسهم ينتقض بما ذبحه الغاصب، وان ذبح شيئا يزعم انه يحرم عليه ولم يثبت أنه محرم عليه حل لعموم الآية وقوله إنه حرام غير معقول * (مسألة) * (وان ذبح لعيده أو ليتقرب به إلى شئ مما يعظمونه لم يحرم عليه لانه من طعامهم فيدخل في عموم الآية) وجملة ذلك ان ما ذبحوه لكنائسهم ينظر فيه فان ذبح مسلم فهو مباح نص عليه وقال أحمد وسفيان في المجوسي يذبح لآلهته ويدفع الشاة إلى المسلم فيذبحها فيسمي: يجوز الاكل منها وقال اسماعيل بن سعيد سألت أحمد عما يقرب لآلهتم يذبحه رجل مسلم قال لا بأس به وان ذبحها الكتابي وسمى الله وحده حلت أيضا لان شرط الحل وجد، وان علم انه ذكر غير اسم الله عليها أو ترك التسمية عمدا لم تحل، قال حنبل سمعت ابا عبد الله قال لا تؤكل يعني ما ذبح لاعيادهم وكنائسهم لانه أهل لغير الله به وقال في موضع يدعون التسمية عمدا انما يذبحون للمسيح، فاما ما سوى ذلك فرويت عن أحمد الكراهة فيما ذبح لكنائسهم وأعيادهم مطلقا وهو قول ميمون بن مهران لانه ذبح لغير الله وروي عن أحمد اباحته وسئل عنه العرباض بن سارية فقال كلوا وأطعموني وروي مثل ذلك عن أبي امامة الباهلي وأبي مسلم الخولاني وأكله أبو الدرداء
وجبير بن نفير ورخص فيه عمر بن الاسود ومكحول وضمرة بن حبيب لقول الله تعالى (وطعام الذين اوتوا الكتاب حل لكم) وهذا من طعامهم قال القاضي ما ذبحه الكتابي لعيده أو نجم أو صنم أو نبي فسماه على ذبيحته حرم لقول الله تعالى (وما أهل لغير الله به) وان سمى الله وحده حل لقول الله تعالى (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) لكنه يكره لقصده بقلبه الذبح لغير الله تعالى (فصل) قال أحمد لا تؤكل المصبورة ولا المجثمة وبه قال اسحاق والمجثمة هي الطائر والارنب يجعل غرضا يرمى حتى يقتل والمصبورة مثله الا ان المجثمة لا تكون الا في الطائر أو الارنب واشباهها
والمصبورة كل حيوان وأصل الصبر الحبس، والاصل في تحريمه ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صبر البهائم وقال " لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا " وروى سعيد باسناده قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المجثمة وعن أكلها ولانه حيوان مقدور عليه فلم يبح بغير الذكاة كالبعير والبقرة * (مسألة) * (ومن ذبح حيوانا فوجد في بطنه جرادا أو طائرا فوجد في حوصلته حبا أو وجد الحب في بعر الجمل لم يحرم وعنه يحرم) قال أحمد في السمكة توجد في بطن سمكة أخرى أو حوصلة طائر أو يوجد في حوصلته جراد فقال في موضع: كل شئ أكل مرة لا يؤكل لانه مستخبث وقال في موضع: الطافي أشد من هذا وقد رخص فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال شيخنا وهذا هو الصحيح وهو مذهب الشافعي فيما في بطن السمكة دون ما في حوصلة الطائر لانه كالرجيع ورجيع الطائر عنده نجس ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " احلت لنا ميتتان ودمان " ولانه حيوان طاهر في محل طاهر لا تعتبر له ذكاة فابيح كالطافي من السمك وهذا يخرج في الشعير يوجد في بعر الجمل وخثي الجواميس ونحوها
كتاب الاطعمة * (والاصل فيها الحل) * لقول الله تعالى (وخلق لكم ما في الارض جميعا) وقوله (ويحل لهم الطيبات) وقوله سبحانه (أحلت لكم بهيمة الانعام) * (مسألة) * (فيحل كل طعام طاهر لا مضرة به كالحبوب والثمار لانه من الطيبات) فأما النجاسات كالميتة والدم وغيرهما فحرام لانها من الخبائث لقول الله تعالى (حرمت عليكم الميتة والدم) وقوله (ويحرم عليهم الخبائث) ويحرم ما فيه مضرة من السموم ونحوها لمضرتها وأذيتها لانها تقضي إلى هلاك النفس وقد قال الله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (مسألة) * (والحيوانات مباحة لعموم النص الدال على الاباحة إلا الحمر الاهلية) أكثر أهل العلم يرون تحريم الحمر الاهلية قال احمد خمسة وعشرون من اصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم وكرهوها، قال ابن عبد البر لا خلاف بين أهل العلم اليوم في تحريمها، وحكي عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما انهما كانا يقولان بظاهر قوله تعالى (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير) وتلاها ابن عباس وقال ما خلا هذا فهو حلال، وسئلت عائشة عن الفأرة فقالت ما هي بحرام وتلت هذه الآية، ولم ير عكرمة وأبو وائل بأكل لحم الخنزير بأسا، وروي عن غالب بن الحر قال أصابتنا سنة فقلت يا رسول الله أصابتنا سنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر وأنت حرمت لحوم الحمر الاهلية قال " أطعم أهلك من سمين حمرك فانما حرمتها من أجل حوالي القرية "
ولنا ما روى جابر بن عبد الله ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الاهلية وأذن في لحوم الخيل متفق عليه، قال ابن عبد البر وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الحمر الاهلية علي وعبد الله ابن عمر وعبد الله بن عمر وجابر والبراء و عبد الله بن أبي أوفى وانس وزاهر الاسلمي باسانيد صحاح حسان وحديث غالب بن الحر لا يعرج على مثله مع ما عارضه، ويحتمل ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لهم في مجاعتهم وبين علة تحريمها المطلق لكونها تأكل العذرات، قال عبد الله بن أبي أوفي حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم البتة من أجل انها تأكل العذرة (فصل) وألبان الحمر محرمة في قول اكثرهم ورخص فيها عطاء وطاوس والزهري والاول أصح
* (مسألة) * (وما له ناب يفرس به كالاسد والتمر والذئب والفهد والكلب والخنزير وابن آوى والسنور وابن عرس والنمس والقرد إلا الضبع) ذكر شيخنا في هذه المسألة الخنزير ولان له ناب يفرس به وهو محرم بالنص وقوله تعالى (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) ولا خلاف في تحريمه بين أهل العلم، فأما ما سوى الخنزير مما ذكرنا فأكثر اهل العلم يرون تحريم كل ذي ناب قوي من السباع يعدو ويكسر إلا الضبع منهم مالك والشافعي - إلا ان الشافعي لا يحرم ابن عرس - وأبو ثور واصحاب الحديث، وقال سعيد بن جبير
والشعبي وبعض اصحاب مالك هو مباح لعموم قوله (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما - إلى قوله الا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير)
ولنا ما روى أبو ثعلبة الخشني قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع متفق عليه، وقال أبو هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أكل كل ذي ناب من السباع حرام " قال ابن عبد البر هذا حديث ثابت صحيح مجمع على صحته وهو نص صريح يخص عموم الآيات فيدخل فيه الاسد والنمر والذئب والفهد والكلب، وقد روي عن الشعبي انه سئل عن رجل يتداوى بلحم الكلب فقال لا شفاه الله وهذا يدل على انه رأى تحريمه (فصل) والقرد محرم كرهه ابن عمر وعطاء والحسن ولم يجيزوا بيعه، قال ابن عبد البر لا أعلم خلافا بين علماء المسلمين في ان القرد لا يؤكل ولا يجوز بيعه، وروي عن الشعبي ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحم القرد ولانه سبع له ناب فيدخل في عموم التحريم وهو مسخ أيضا فيكون من الخبائث المحرمة
(فصل) وابن آوى وابن عرس والنمس حرام وسئل عن ابن آوى وابن عرس فقال كل شئ ينهش بأنيابه فهو من السباع وبهذا قال أبو حنيفة واصحابه، وقال الشافعي ابن عرس مباح لانه ليس له ناب قوي فأشبه الضب ولاصحابه في ابن آوى وجهان ولنا انها من السباع فتدخل في عموم النهي ولانها مستخبثة غير مستطابة فان ابن آوى يشبه الكلب ورائحته كريهة فيدخل في عموم قوله تعالى (ويحرم عليهم الخبائث) * (مسألة) * (وما له مخلب من الطير يصيد به كالبازي والصقر والشاهين والحدأة والبومة) هذا قول أكثر اهل العلم منهم الشافعي وابو ثور واصحاب الرأي وقال مالك والليث والاوزاعي ويحيى بن سعيد لا يحرم من الطير شئ، قال مالك لم أر أحدا من اهل العلم يكره سباع الطير،
واحتجوا بعموم الآيات المبيحة وقول أبي الدرداء وابن عباس ما سكت الله عنه فهو مما عفي عنه
ولنا ما روى ابن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير رواهما أبو داود، وهذا يخص عموم الآيات ويقدم على ما ذكروه فيدخل في هذا كل ماله مخلب يعدو به كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والباشق والحدأة والبومة وأشباهها * (مسألة) * (وما يأكل الجيف كالنسر والرخم واللقلق وغراب البين والابقع) قال عروة ومن يأكل الغراب وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقا؟ والله ما هو من الطيبات ولعله أراد قول النبي صلى الله عليه وسلم " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والفارة والعقرب والكلب العقور " فهذه الخمس محرمة لان النبي صلى الله عليه وسلم أباح قتلها في الحرم، ولا يجوز قتل صيد
مأكول في الحرم لان ما يؤكل لا يجوز قتله إذا قدر عليه بل يذبح ويؤكل، وسئل أحمد عن العقعق فقال إن لم يكن يأكل الجيف فلا بأس به، قال أصحابنا هو يأكل الجيف فيكون على هذا محرما (فصل) ويحرم الخطاف والخشاف والخفاش وهو الوطواط قال الشاعر: مثل النهار يزيد أبصار الورى * نورا ويعمى أعين الخفاش قال أحمد ومن يأكل الخشاف؟ وسئل عن الخطاف فقال ما أدري، وقال النخعي كل الطير حلال إلا الخفاش، وانما حرمت هذه لانها مستخبثة لا تستطيبها العرب ولا تأكلها، ويحرم الزنابير واليعاسيب والنحل وأشباهها لانها مستخبثة غير مستطابة * (مسألة) * (وما يستخبث كالقنفذ والفار والحيات والحشرات كلها)
القنفذ حرام قال أبو هريرة هو حرام وكرهه مالك وأبو حنيفة ورخص فيه الشافعي والليث وأبو ثور ولنا ما روي عن أبي هريرة قال ذكر القنفذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " هو خبيثة من الخبائث " رواه أبو داود ولانه يشبه المحرمات ويأكل الحشرات فاشبه الجرذ (فصل) وما استطابته العرب فهو حلال لقول الله تعالى (ويحل لهم الطيبات) يعني ما يستطيبونه وما استخبثته العرب فهو محرم لقول الله تعالى (ويحرم عليهم الخبائث) والذين تعتبر استطابتهم
واستخباثهم هم أهل الحجاز من أهل الامصار لانهم الذين نزل عليهم الكتاب وخوطبوا به وبالسنة فرجع في مطلق ألفاظهما إلى عرفهم دون غيرهم، ولم يعتبر أهل البوادي لانهم للضرورة والمجاعة يأكلون ما وجدوا ولهذا سئل بعضهم عما يأكلون فقال: ما دب ودرج إلا أم حبين قال لتهن أم حبين
العافية وما وجد في أمصار المسلمين مما لا يعرفه أهل الحجاز رد إلى أقرب ما يشبهه في الحجاز فان لم يشبهه شئ منها فهو مباح لدخوله في عموم قوله تعالى (قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما) الآية ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما سكت الله عنه فهو مما عفي عنه " فعلى هذا من المستخبثات الحشرات كالديدان والجعلان وبنات وردان والخنافس والفأر والاوزاغ والحرباء والعضا والجراذين والعقارب والحيات وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ورخص مالك وابن أبى ليلى، والاوزاعي في ذلك كله إلا الاوزاغ فان ابن عبد البر قال هو مجمع على تحريمه، وقال مالك الحية حلال إذا ذكيت واحتجوا بعموم الآية المبيحة، ولنا قول الله تعالى (ويحرم عليهم الخبائث) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " خمس فواسق يقتلن في
الحل والحرم العقرب والفأرة والغراب والحدأة والكلب العقور " وفي الحديث " الحية " مكان الفأرة ولو كانت من الصيد المباح لم يبح قتلها لان الله تعالى قال (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) وقال سبحانه (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) ولانها مستخبثة فحرمت كالاوزغ ومأمور بقلتها فاشبهت الوزغ (فصل) والسنور الاهلي محرم وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن أكل الهر.
* (مسألة) * (وما تولد من مأكول وغيره كالبغل والسمع، والسمع ولدا الضبع من الذئب وقيل سمي العسبار، والعسبار ولد الذئب من الذيخ ذكره صاحب الصحاح)
البغال محرمة عند كل من حرم الحمار الاهلي لانها متولدة منه والمتولد من شئ حكمه حكمه في
التحريم وهكذا ان تولد بين الوحشي والانسي ولد فهو محرم تغليبا للتحريم، والسمع المتولد بين الذئب والضبع محرم وكذا العسبار ولد الذئبة من الذيخ قال قتادة ما البغل إلا شئ من الحمار، وعن جابر قال ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل * (مسألة) * (وفي الثعلب والوبر وسنور البر واليربوع روايتان) اختلفت الرواية عن احمد في الثعلب فأكثر الروايات عن احمد تحريمه وهذا قول أبي هريرة ومالك وأبي حنيفة لانه سبع فيدخل في عموم النهي، وروي عن احمد رحمه الله اباحته اختاره
الشريف أبو جعفر ورخص فيه عطاء وقتادة وطاوس والليث وسفيان بن عيينة والشافعي لانه يفدى في الحرم والاحرام، قال احمد وعطاء كل ما يودى إذا أصابه المحرم فانه يؤكل، واختلفت الرواية في سنور البر كاختلافها في الثعلب والقول فيه كالقول في الثعلب وللشافعي في سنور البر وجهان.
فأما الوبر فمباح وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد وعمرو بن دينار والشافعي وابن المنذر وأبو يوسف قال القاضي هو محرم وهو قول أبي حنيفة واصحابه إلا أبا يوسف ولنا انه يفدى في الاحرام والحرم وهو كالارنب يأكل النبات والبقول وليس له ناب يفرس به ولا هو من المستخبثات فكان مباحا كالارنب ولان الاصل الاباحة وعموم النص يقتضيها ولم يرد فيه تحريم فتجب اباحته.
فأما اليربوع فسئل احمد عنه فرخص فيه وهذا قول عروة وعطاء الخراساني والشافعي وأبي ثور وابن المنذر وفيه رواية أخرى انه محرم وروي ذلك عن ابن سيرين والحكم وحماد واصحاب الرأي لانه يشبه الفأر
ولنا ان عمر رضي الله عنه حكم فيه بجفرة ولان الاصل الاباحة ما لم يرد فيه تحريم.
وأما السنجاب فقال القاضي هو محرم لانه ينهش بنابه فأشبه الجرد، ويحتمل انه مباح لانه يشبه اليربوع ومتى تردد بين الاباحة والتحريم غلبت الاباحة لانها الاصل وعموم النصوص يقتضيها (فصل) والفيل محرم قال احمد ليس هو من أطعمة المسلمين وقال الحسن هو مسخ وكرهه أبو حنيفة
والشافعي ورخص الشعبي في أكله ولنا أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وهو من أعظمها نابا ولانه مستخبث فيدخل في عموم الآية المحرمة
(فصل) فأما الدب فينظر فيه فان كان ذا ناب يفرس به فهو محرم وإلا فهو مباح، قال احمد إن لم يكن له ناب فلا بأس به وقال اصحاب أبي حنيفة هو سبع لانه اشبه شئ بالسباع فلا يؤكل ولنا ان الاصل الاباحة ولم يتحقق وجود المحرم فيبقى على الاصل وشبهه بالسباع انما يعتبر في وجود العلة المحرمة وهو كونه ذا ناب يصيد به ويفرس فإذا لم يوجد ذلك كان داخلا في عموم النصوص المبيحة * (مسألة) * (وما عدا هذا فمباح كبهيمة الانعام والخيل والدجاج) لعموم النصوص الدالة على الاباحة كبهيمة الانعام وهي الابل والبقر والغنم قال الله تعالى (أحلت لكم بهيمة الانعام) والخيل كلها عرابها وبراذينها، نص أحمد على ذلك وبه قال ابن سيرين وروي ذلك عن ابن الزبير والحسن وعطاء والاسود بن يزيد وبه قال حماد بن زيد والليث وابن المبارك
والشافعي وأبو ثور، وقال سعيد بن جبير ما أكلت شيئا أطيب من معرفة برذون، وحرمها أبو حنيفة وكرهها مالك والاوزاعي وابو عبيد لقول الله تعالى (والخيل والبغال والحمير لتركبوها) وعن خالد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حرام عليكم الحمر الاهلية وخيلها وبغالها " ولانه ذو حافر أشبه الحمار ولنا قول جابر نهى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الاهلية وأذن في لحوم الخيل متفق عليه، وقالت أسماء نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه ونحن بالمدينة متفق عليه ولانه حيوان طاهر مستطاب ليس بذي ناب ولا مخلب فيحل كبهيمة الانعام ولانه داخل في عموم الآيات والاخبار المبيحة، وأما الآية فانهم انما يتعلقون بدليل خطابها وهم لا يقولون به، وحديث خالد ليس له اسناد جيد قاله احمد قال وفيه رجلان لا يعرفان يرويه ثور عن رجل ليس
بمعروف فلا نترك أحاديثنا لمثل هذا الحديث المنكر، والدجاج مباح قال أبو موسى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الدجاج متفق عليه * (مسألة) * (والوحشي من البقر والظباء والحمر يباح) بقر الوحش على اختلاف أنواعها من الابل والتيتل والوعل والمها وكذلك الظباء وحمر الوحش من الصيود كلها مباحة وتفدي في الاحرام وهذا كله مجمع عليه لا نعلم فيه خلافا إلا ما روى طلحة بن مصرف ان الحمار الوحشي إذا أنس واعتلف فهو بمنزلة الاهلي، قال احمد وما ظننت انه روي في هذا شئ وليس الامر عندي كما قال وأهل العلم على خلافه لان الظباء إذا تأنست لم تحرم والاهلي إذا توحش لم يحل ولا يتغير منها شئ عن أصله وما كان عليه، قال عطاء في حمار الوحش
إذا تناسل في البيوت لا تزول عنه اسماء الوحش، فأما الزرافة فسئل احمد عنها تؤكل؟ قال نعم وهي دابة تشبه البعير إلا ان عنقها أطول من عنقه وجسمها ألطف من جسمه وأعلى منه ويداها أطول من رجليها وهي مباحة لعموم النصوص المبيحة ولانها مستطابة ليس لها ناب ولا هي من المستخبثات أشبهت الابل وحرمها أبو الخطاب والاول أصح لما ذكرنا، والنعامة مباحة وقد قضى فيها الصحابة رضي الله عنهم ببدنة إذا قتلها المحرم ولا نعلم في اباحتها خلافا * (مسألة) * (والارنب مباحة) أكلها سعد بن أبي وقاص ورخص فيها أبو سعيد وعطاء وابن المسيب والليث ومالك والشافعي وأبا ثور وابن المنذر ولا نعلم قائلا بتحريمها إلا شيئا روي عن عمرو بن العاص وقد صح عن أنس
انه قال أنفجنا أرنبا فسعى القوم فلعبوا فأخذتها وجئت بها أبا طلحة فذبحها فبعث بوركها أو قال فخذها إلى النبي صلى الله عليه فقبله متفق عليه، وعن محمد بن صفوان أو صفوان بن محمد قال صدت أرنبين فذبحتهما بمروة فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني بأكلهما رواه أبو داود ولانها حيوان مستطاب ليس بذي ناب فأشبه الضب
* (مسألة) * (وسائر الوحش لعموم النص والضبع والضب) رويت الرخصة في الضبع عن سعد وابن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير وعكرمة وإسحاق، قال عروة ما زالت العرب تأكل الضبع لا ترى بأكلها بأسا، وقال أبو حنيفة والثوري ومالك هي
حرام وروي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب فانها من السباع وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وهي من السباع فتدخل في عموم النهي، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه سئل عن الضبع فقال " ومن يأكل الضبع؟ " ولنا ما روى جابر قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكل الضبع فقلت صيد هي؟ قال " نعم " احتج به أحمد، وفي لفظ قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال " هو صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم " رواه أبو داود، وعن عبد الرحمن بن أبي عمار قال قلت لجابر الضبع أصيد هي؟ قال نعم، قلت أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم رواه النسائي وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح قال ابن عبد البر هذا لا يعارض حديث النهي عن كل ذي
ناب من السباع لانه أقوى منه قلنا هذا تخصيص لا معارض ولا يعتبر في التخصيص كون المخصص في رتبة المخصص بدليل تخصيص عموم الكتاب باخبار الاحاد، فأما الخبر الذى فيه " ومن يأكل الضبع؟ " فهو حديث طويل يرويه عبد الملك بن المخارق تفرد به وهو متروك الحديث، وقد قيل ان الضبع ليس لها ناب فعلى هذا لا تدخل في عموم النهي (فصل) والضب مباح في قول أكثر أهل العلم منهم عمر بن الخطاب وابن عباس وأبو سعيد وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو سعيد كنا معشر أصحاب محمد لان يهدى إلى احد ناضب أحب إليه من دجاجة وقال عمر ما يسرني أن مكان كل ضب دجاجة سمينة ولوددت أن في كل جحر ضب ضبين وبهذا قال مالك والليث والشافعي وابن المنذر وقال الثوري وأبو حنيفة هو حرام لما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم انه نهى عن اكل لحم الضب وروي نحوه عن علي ولانه ينهش فاشبه ابن عرس ولنا ما روى ابن عباس قال دخلت انا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة فأتي بضب محنوذ فقيل هو ضب يا رسول الله فرفع يده فقلت احرام هو يا رسول الله؟ قال " لا ولكن لم يكن بارض قومي فأجدني اعافه " قال خالد فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر متفق عليه قال ابن عباس ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الضب تقذرا وأكل على مائدته ولو كان حرما ما أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم الضب ولكنه قذره ولو كان عندي لاكلته ولان الاصل الحل ولم يوجد المحرم فبقي على الاباحة ولم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي ولا تحريم ولان اباحته قول من سمينا من الصحابة رضي الله عنهم ولم يثبت عنهم خلافه فيكون اجماعا * (مسألة) * (والزاغ مباح)
وبذلك قال الحكم وحماد ومحمد بن الحسن والشافعي في أحد قوليه ويباح غراب الزرع وهو الاسود الكبير الذي يأكل الزرع ويطير مع الزاغ لان مرعاهما الزرع والحبوب فأشبها الحجل وسائر الطير كالحمام وأنواعه من الفواخت والجوازل والرقاطي والدباسي والعصافير والقنابر والقطا والحبارى والحجل لما روى سفينة قال أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حبارى رواه أبو داود، والكركي والكروان والبط والاوز وما اشبهه مما يلتقط الحب أو يفدى في الاحرام مباح لانه مستطاب ويفدى في حق المحرم فكان مباحا كبقية ما يفدى وكذلك الغرانيق والطواويس وطير الماء كله وأشباه ذلك لا نعلم فيه خلافا
(فصل) واختلفت الرواية عن أحمد في الهدهد والصرد فعنه انهما حلال لانهما ليسا من ذوات المخلب ولا مستخبثات وعنه تحريمهما لان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الهدهد والصرد والنملة والنحلة وكل ما كان لا يصيد بمخلبه ولا يأكل الجيف ولا يستخبث فهو حلال * (مسألة) * (وجميع حيوان البحر مباح لقول الله تعالى (أحل لكم صيد البحر طعامه متاعا لكم)
الا الضفدع والحية والتمساح وقال ابن حامد الا الكوسج) كل صيد البحر مباح الا الضفدع وهذا قول الشافعي وقال الشعبي لو أكل أهلي الضفادع لاطعمتهم ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن قتل الضفدع رواه النسائي فيدل على تحريمه ولانها
مستخبثة، وكذلك الحية وقد ذكرنا الخلاف فيها، فاما التمساح فقال ابن حامد لا يؤكل التمساح ولا الكوسج لانهما يأكلان الناس وذكر ابن أبي موسى في التمساح رواية انه مكروه غير محرم للآية وروي عن ابراهيم النخعي أو غيره انهم كانوا يكرهون سباع البحر كما يكرهون سباع البر وذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وقال أبو علي النجاد لا يباح من البحري ما يحرم نظيره في البر كخنزير الماء وانسانه وهو قول الليث الا في كلب الماء فانه يرى اباحة كلب البر والبحر وقال أبو حنيفة لا يباح الا السمك وقال مالك كل ما في البحر مباح لعموم قوله سبحانه (أحل لكم صيد البحر وطعامه) (فصل) وكلب الماء مباح وركب الحسن بن علي سرجا عليه جلد من جلود كلاب الماء
وهذا قول مالك والشافعي والليث ويقتضيه قول الشعبي والاوزاعي ولا يباح عند أبي حنيفة وهو قول أبي علي النجاد وبعض أصحاب الشافعي ولنا عموم الآية والخبر قال عبد الله سألت أبي عن كلب الماء فقال ثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج عن عمر وبن دينار وأبي الزبير سمعا شريحا رجلا ادرك النبي صلى الله عليه وسلم يقول " كل شئ في البحر فهو مذبوح " فذكرت ذلك لعطاء فقال أما الطير فنذبحه وقال أبو عبد الله كلب الماء نذبحه (فصل) قال أحمد لا أكره الجري وكيف لنا بجري ورخص فيه علي والحسن ومالك والشافعي
وأبو ثور وأصحاب الرأي وسائر أهل العلم وقال ابن عباس الجري لا نأكله ورافقهم الرافضة ومخالفتهم صواب
(فصل) وتحرم الجلالة التي أكثر علفها النجاسة وبيضها ولبنها وعنه يكره ولا يحرم قال أحمد أكره لحوم الجلالة والبانها قال القاضي هي التى تأكل العذرة فإذا كان أكثر علفها النجاسة حرم لحمها ولبنها وفي بيضها روايتان وان كان أكثر علفها الطاهر لم يحرم أكلها ولا لبنها قال شيخنا وتحديد الجلالة بكون أكثر علفها النجاسة لم نسمعه عن أحمد ولا هو ظاهر كلامه لكن يمكن تحديده بان يكون كثيرا في ماكولها ويعفى عن اليسير وقال الليث انما كانوا يكرهون الجلالة التي لا طعام لها الا الرجيع وما أشبهه وقال ابن أبي موسى في الجلالة روايتان
(احداهما) هي محرمة (والثانية) هي مكروهة غير محرمة وهذا قول الشافعي وكره أبو حنيفة لحومها والعمل عليها حتى تحبس ورخص العمل في لحومها وألبانها لان الحيوان لا ينجس بأكل النجاسات بدليل ان شارب الخمر لا يحكم بتنجيس أعضائه والكافر الذي يأكل الخنزير والمحرمات لا يكون ظاهره نجسا ولو نجس لما طهر بالاسلام ولا الاغتسال ولو تنجست الجلالة لما طهرت بالحبس ولنا ما روى ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها، رواه أبو داود وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الابل الجلالة ان يؤكل لحمها ولا يحمل عليها الا الادم ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة رواه الخلال باسناده
ولان لحمها يتولد من النجاسة فيكون نجسا كرماد النجاسة وأما شارب الخمر فليس ذلك أكثر غذائه وانما يتغذى الطاهرات وكذلك الكافر في الغالب * (مسألة) * (حتى تحبس وتزول الكراة بحبسها اتفاقا) واختلف في قدره فروي انها تحبس ثلاثا سواء كانت طائرا أو بهيمة وكان ابن عمر إذا اراد أكلها حبسها ثلاثا وهذا قول أبي ثور لان ما طهر حيوانا يطهر الآخر كالذي نجس ظاهره، والاخرى تحبس الدجاجة ثلاثا والبعير والبقرة ونحوهما يحبس أربعين يوما وهذا قول عطاء في الناقة والبقرة لحديث عبد الله ابن عمر ولانهما أعظم جسما وبقاء علفهما فيهما اكثر من بقائه في الدجاجة والحيوان الصغير وعنه
تحبس الشاة سبعا لانها اكبر من الطائر ودون البعير والبقرة، ويكره ركوب الجلالة وهو قول عمر
وابنه وأصحاب الرأى لحديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوبها ولانها ربما عرقت فتلوث بعرقها * (مسألة) (وما يسقي بالماء النجس من الزرع والثمار محرم وكذلك ما سمد به وقال ابن عقيل يحتمل ان يكره ذلك ولا يحرم ولا يحكم بتنجيسها) لان النجاسة تستحيل في بطنها فتطهر بالاستحالة كالدم يستحيل في أعضاء الحيوان لحما ويصير لبنا وهذا قول أكثر الفقهاء منهم أبو حنيفة والشافعي وكان سعد بن أبي وقاص يدمل أرضه بالعرة ويقول مكيل عرة مكيل بر والعرة عذرة الناس ولنا ما روى ابن عباس قال كنا نكري اراضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشترط عليهم ان لا يدملوها بعذرة الناس ولانها تتغذى بالنجاسات وتسري فيها أجزاؤها والاستحالة لا تطهر فعلى هذا تطهر إذا سقيت الطاهرات كالجلالة إذا حبست واطعمت الطاهرات
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (ومن اضطر إلى محرم مما ذكرنا فله ان يأكل منه ما يسد رمقه وهل له الشبع؟ على روايتين) أجمع العلماء على تحريم الميتة والخنزير حالة الاختيار وعلى إباحة الاكل منها في الاضطرار وكذلك سائر المحرمات والاصل في ذلك قوله تعالى (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) وقوله (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه) ويباح له أكل ما يسد رمقه ويأمن معه الموت بالاجماع ويحرم ما زاد على الشبع بالاجماع أيضا وفي الشبع روايتان
(احداهما) لا يباح وهو قول أبي حنيفة واحدى الروايتين عن مالك واحد القولين للشافعي قال الحسن يأكل قدر ما يقيمه لان الآية دلت على تحريم الميتة واستثني ما اضطر إليه فإذا اندفعت الضرورة
لم يحل له الاكل كحالة الابتداء ولانه بعد سد الرمق غير مضطر ولم يبح له الاكل كذا ههنا (والثانية) أبيح له النشبع اختارها أبو بكر لما روى جابر ابن سمرة ان رجلا نزل الحرة فنفقت عنده ناقة فقالت له امرأته اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله فقال حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال " هل عندك غنى يغنيك؟ " قال لا قال " فكلوها " ولم يفرق رواه أبو داود ولان ما جاز سد الرمق منه جاز الشبع منه كالمباح ويحتمل ان يفرق بينما إذا كانت الضرورة مستمرة وبينما إذا كانت مرجوة الزوال فما كانت مستمرة كحال الاعرابي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جز الشبع لانه إذا
اقتصر على سد الرمق عادت الضرورة إليه عن قريب ولا يتمكن من البعد عن الميتة مخافة الضرورة المستقبلة ويفضي إلى ضعف بدنه وربما ادى ذلك إلى تلفه بخلاف التى ليست مستمرة فانه يرجى الغنى فيها بما يحل له.
إذ ثبت هذا فان الضرورة المبيحة هي التي يخاف التلف بها ان ترك الاكل قال احمد إذا كان يخشى على نفسه سواء كان من جوع أو يخاف ان ترك الاكل عجز عن المشي وانقطع عن الرفقة فهلك أو يعجز عن الركوب فيهلك ولا يتقيد ذلك بزمن محصور (فصل) وهل يجب الاكل من الميتة أو غيرها من الحرمات على المضطر؟ فيه وجهان (احدهما) يجب وهو قول مسروق واحد الوجهين لاصحاب الشافعي قال الاثرم سئل أبو عبد الله
عن المضطر يجد الميتة ولم يأكل فذكر مسروق من اضطر فلم يأكل ولم يشرب فمات.
دخل النار وهذا اختيار ابن حامد لقول الله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وترك الاكل مع امكانه في هذه الحال إلقاء بيده إلى التهلكة وقال الله تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم ان الله كان بكم رحيما) ولانه قادر على احياء نفسه بما أحله الله له فلزمه كما لو كان معه طعام حلال (والثاني) لا يلزمه لما روي عن عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ان طاغية الروم حبسه في بيت وجعل معه خمرا ممزوجا بماء ولحم خنزير مشوي ثلاثة أيام فلم يأكل ولم يشرب حتى مال رأسه من الجوع والعطش وخشوا موته فاخرجوه فال قد كان الله احله لي لانني مضطر
ولكن لم أكن لاشمتك بدين الاسلام، ولان اباحة الاكل رخصة فلا تجب عليه كسائر الرخص ولان له غرضا في اجتناب النجاسة والاخذ بالعزيمة وربما لم تطلب نفسه تناول الميتة وفارق الحلال في الاصل من هذه الوجوه (فصل) وتباح المحرمات عند الاضطرار في الحضر والسفر جميعا لان الآية مطلقة غير مقيدة باحدى الحالتين وقوله سبحانه (فمن اضطر) لفظ عام في كل مضطر ولان الاضطرار يكون في الحضر
في سنة المجاعة وسبب الاباحة الحاجة إلى حفظ النفس عن الهلاك لكون هذه المصلحة اعظم من مصلحة اجتناب النجاسات والصيانة عن تناول المستخبثات وهذا المعنى عام في الحالين وظاهر كلام احمد أن الميتة لا تحل لمن يقدر على دفع ضرورته بالمسألة وروي عن أحمد أنه قال اكل الميتة انما يكون في السفر يعني انه في الحضر يمكنه السؤال وهذا عن أحمد خرج مخرج الغالب فان الغالب ان الحضر يوجد فيه الطعام الحلال ويمكن دفع الضرورة بالسؤال ولكن الضرورة امر معبر بوجود حقيقته لا يكتفى فيه بالمظنة بل متى وجدت الضرورة اباحت سواء وجدت المظنة أو لم توجد ومتى انتفت لم يبح الاكل لوجود مظنتها بحال (فصل) قال أصحابنا ليس للمضطر في سفر المعصية الاكل من الميتة كقاطع الطريق والآبق
القول الله تعالى (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه) قال مجاهد (غير باغ) على المسلمين (ولا عاد) عليهم وقال سعيد بن جبير إذا خرج يقطع الطريق فلا رخصة له فان تاب واقلع عن معصيته حل له الاكل (فصل) وهل للمضطر التزود من الميتة، على روايتين (اصحهما) له ذلك وهو قول مالك لانه لا ضرر في استصحابها ولا في إعدادها لدفع ضرورته وقضاء حاجته ولا يأكل منها الا عند ضرورته (والثانية) لا يجوز لانه توسع فيما لم يبح الا للضرورة فان استصحبها فلقيه مضطر لم يجز له بيعه اياه لانه انما يبح له منها ما يدفع به الضرورة ولا ضرورة إلى البيع لانه لا يملكه ويلزمه إعطاء الآخر بعير عوض
إذا لم يكن هو مضطرا في الحال إلى منعه لان ضرورة الذي لقيه موجودة وحاملها يخاف الضرر في ثاني الحال * (مسألة) * (وان وجد طعاما لا يعرف مالكه وميتة أو صيدا وهو محرم فقال أصحابنا ياكل الميتة) ويحتمل ان يحل له الطعام والصيد إذا لم تقبل نفسه الميتة وكقول اصحابنا قال سعيد بن المسيب وزيد بن اسلم، وقال مالك ان كانوا يصدقونه انه مضطر اكل من الزرع والثمرة وشرب اللبن وان خاف ان تقطع يده أو لا يقبل منه أكل الميتة، ولاصحاب الشافعي وجهان (احدهما) يأكل الطعام وهو قول عبد الله بن ينار لانه قادر على الطعام الحلال فلم يجز له أكل الميتة كما لو بذل له صاحبه ولنا ان أكل الميتة منصوص عليه ومال الآدمي مجتهد فيه فكان العدول إلى المنصوص
عليه أولى لان حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة وحق الآدمي مبني على الشح والضيق ولان حق الادمي تلزمه غرامته وحق الله تعالى لا عوض له ويحتمل ان يحل له أكل الطعام والصيد إذا لم تقبل نفسه الميتة لانه قادر على الطعام الحلال فاشبه ما لو بذله له صاحبه (فصل) وإذا وجد المضطر من يطعمه ويسقيه لم يحل له الامتناع من الاكل والشرب ولا العدول إلى الميتة الا ان يخاف ان يسمه فيه أو يكون الطعام الذي يطعمه مما يضره ويخاف ان يهلكه أو يمرضه (فصل) وإن وجد طعاما مع مالكه وامتنع من بذله أو بيعه منه ووجد ثمنه لم يجز له مكابرته عليه وأخذه منه وعدل إلى الميتة سواء كان قويا يخاف من مكابرته التلف أو لم يخف فان بذله بثمن مثله وقدر على الثمن لم يحل له أكل الميتة لانه قادر على طعام حلال، وان بذله بزيادة على ثمن المثل لا تجحف بماله لزمه شراؤه أيضا
لما ذكرناه وان كان عاجزا عن الثمن فهو في حكم العادم وان امتنع من بذله الا بأكثر من ثمن مثله فاشتراه المضطر بذلك لم يلزمه أكثر من ثمن مثله لان الزيادة احوج إلى بذلها بغير حق فلم يلزم كالمكره (فصل) وان وجد المحرم ميتة وصيدا أكل الميتة وبه قال الحسن ومالك وأبو حنيفة واصحابه وقال الشافعي في واحد قوليه يأكل الصيد ويفديه وهو قول الشعبي لان الضرورة تبيحه ومع القدرة
عليه لا تحل الميتة لعناه عنها قال شيخنا ويحتمل ان يحل أكل الصيد إذا لم تقبل نفسه الميتة ووجه الاول ان اباحة المية منصوص عليها واباحة الصيد مجتهد فيها وتقديم المنصوص عليه أولى فان لم يجد ميتة ذبح الصيد واكله نص عليه احمد لانه مضطر إليه عينا، وقد قيل ان في الصيد تحريمات ثلاثا تحريم قتله وتحريم أكله وتحريم الميتة لان ما ذبحه المحرم من الصيد يكون ميتة فقد ساوى الميتة في هذا وفضل هذا بتحريم القتل
والاكل لكن يقال على هذا ان الشارع إذا اباح له أكله لم يصر ميتة ولذا لو لم يجد الميتة فذبحه كان ذكيا طاهرا وليس بنجس ولا ميتة ولهذا يتعين عليه ذبحه في محل الذبح وتعتبر شروط الذكاة فيه ولا يجوز قتله ولو كان ميتة لم يتعين ذلك عليه (فصل) إذا ذبح المحرم الصيد عند الضرورة جاز له ان يشبع منه لانه لحم ذكي ولا حق فيه لآدمي سواه فأبيح له الشبع منه كما لو ذبحه حلال لا من أجله (فصل) فان لم يجد المضطر شيئا لم يبح له بعض أعضائه، وقال بعض أصحاب الشافعي له ذلك لان له أن يحفظ الجملة بقطع عضو كما لو وقعت فيه الاكلة.
ولنا أن اكله من نفسه ربما قتله فيكون قاتلا لنفسه ولا يتيقن حصول البقاء بأكله، أما قطع الاكلة فانه يخاف الهلاك بذلك فأبيح له ابعاده ودفع الضرر المتوجه منه بتركه كما أبيح قتل الصائل عليه ولم يبح له قتله ليأكله.
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: