الفقه الحنبلي - الاعتكاف - الحج والعمرة

لمرض لا يمكنه المقام معه كالقيام المتدارك أو سلس البول، أو الاغماء، أو لا يمكنه المقام إلا بمشقة شديدة مثل أن يحتاج إلى خدمة وفراش فله الخروج، وإن كان المرض خفيفا كالصداع، ووجع الضرس ونحوه فليس له الخروج، فان خرج بطل اعتكافه لانه خروج لما له منه بد (فصل) وإن حاضت المعتكفة أو نفست وجب عليها الخروج من المسجد بغير خلاف لانه حدث يمنع اللبث في المسجد، وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " رواه أبو داود، والنفاس في معنى الحيض فثبت فيه حكمه، قال الخرقي تخرج من المسجد وتضرب خباء في الرحبة هذا إن كان للمسجد رحبة فان لم يكن رجعت إلى بيتها، فإذا طهرت عادت فأتمت اعتكافها وقضت ما فاتها ولا كفارة عليها لانه خروج معتاد أشبه الخروج للجمعة، وإن كان للمسجد رحبة خارجة من المسجد يمكن ضرب خبائها فيه ضربت خباءها فيه مدة حيضها وهو قول أبي قلابة، وقال النخعي تضرب فسطاطها في دارها، فإذا طهرت قضت تلك الايام، وإن دخلت بيتا أو سقفا استأنفت، وقال الزهري وعمرو بن دينار وربيعة ومالك ترجع إلى منزلها لانه وجب عليها الخروج من المسجد فلم تلزمها الاقامة في رحبته كالخارجة لعدة أو خوف فتنة ووجه قول الخرقي ماروى المقدام بن شريح عن عائشة رضي الله عنها قالت: كن معتكفات إذا حضن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باخراجهن من المسجد وأن يشربن الاخبية في رحبة المسجد.
رواه أبو حفص باسناده وفارق المعتدة فان خروجها لتعتد في بيتها وتقيم فيه ولا يحصل ذلك مع الكون في الرحبة، وكذلك الخائفة من الفتنة خروجها لتسلم منها فلا تقيم في موضع لا تحصل السلامة بالاقامة فيه، قال والظاهر أن أقامتها في الرحبة مستحبة وليس بواجب، وإن لم تقم في الرحبة رجعت إلى منزلها أو غيره ولا شئ عليها إلا القضاء لايام حيضها لا نعلم فيه خلافا إلا قول ابراهيم وهو تحكم لا دليل عليه (فصل) فأما الاستحاضة فلا تمنع الاعتكاف لكونها لا تمنع الصلاة، وقد قالت عائشة رضي
الله عنها اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه مستحاضة فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي.
أخرجه البخاري ويجب عليها أن تتحفظ وتتلجم لئلا
تلوث المسجد فان لم يكن صيانته منها خرجت من المسجد لانه عذر وخروج لحفظ المسجد من نجاستها أشبه الخروج لقضاء الحاجة (فصل) والمتوفى عنها يجب عليها أن تخرج لقضاء العدة، وبهذا قال الشافعي وقال ربيعة ومالك وابن المنذر تمضي في اعتكافها حتى تفرغ منه ثم ترجع إلى بيت زوجها فتعتد فيه لان الاعتكاف المنذور واجب والاعتداد في البيت واجب فقد تعارض واجبان فيقدم أسبقهما ولنا أن الاعتداد في بيت زوجها واجب فلزمها الخروج إليه كالجمعة في حق الرجل ودليلهم ينتقض بالخروج إلى الجمعة وسائر الواجبات (مسألة) (ولا يعود مريضا ولا يشهد جنازة إلا أن يشترطه فيجوز وعنه له ذلك من غير شرط) اختلفت الرواية عن الامام احمد في الخروج لعيادة المريض وشهود الجنازة مع عدم الشرط فروي عنه ليس له فعله ذكره الخرقي وهو قول عطاء وعروة ومجاهد والزهري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وعنه أن له عيادة المريض وشهود الجنازة ثم يعود إلى معتكفه، نقلها عنه الاثرم ومحمد ابن الحكم وهو قول علي، وبه قال سعيد بن جبير والنخعي والحسن لما روى عاصم بن ضمرة عن علي قال: إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة، وليعد المريض، وليحضر الجنازة، وليأت أهله وليأمرهم بالحاجة وهو قائم، رواه الامام أحمد والاثرم، قال أحمد عاصم بن ضمرة عندي حجة ووجه الاولى ماروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف لا يدخل البيت إلا لحاجة
الانسان.
متفق عليه وعنها أنها قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا! ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد منه، عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه.
رواهما أبو داود، ولان هذا ليس بواجب فلا يجوز ترك الاعتكاف الواجب له كالمشي في حاجة أخيه ليقضيها فان تعينت عليه صلاة الجنازة فأمكنه فعلها في المسجد لم يجز الخروج إليها، وإن لم يمكنه ذلك فله الخروج إليها، وإن تعين عليه دفن الميت أو تغسيله فله الخروج لان هذا واجب متعين فيقدم على الاعتكاف كصلاة الجمعة
(فصل) فاما ان كان تطوعا فاحب الخروج منه لعيادة مريض أو شهود جنازة جاز لان كل واحد منهما تطوع فلا يتحتم واحد منهما لكن الافضل المقام على اعتكافه لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرج على المريض ولم يكن الاعتكاف واجبا عليه (فصل) فان شرط فعل ذلك في الاعتكاف فله فعله اوجبا كان الاعتكاف أو تطوعا وكذلك ما كان قربة كزيارة أهله أو رجل صالح أو عالم وكذلك ماكان مباحا مما يحتاج إليه كالعشاء في منزله والمبيت فيه فله فعله قال الاثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن المعتكف يشترط ان يأكل في أهله قال فان اشترط فنعم قلت له فيبيت في اهله؟ قال إذا كان تطوعا جاز وممن أجاز أن يشترط العشاء في أهله الحسن والعلاء
ابن زياد والنخعي وقتادة ومنع منه أبو مجاز ومالك والاوزاعي قال مالك لا يكون في الاعتكاف شرط ولنا أنه يجب بعقده فكان الشرط إليه فيه كالوقف ولان الاعتكاف لا يختص بقدر وإذا شرط الخروج فكأنه نذر القدر الذي أقامه وان قال متى مرضت أو عرض لي عارض خرجت جاز شرطه (فصل) وان شرط الوطئ في اعتكافه أو الفرجة أو النزهة أو البيع للتجارة أو التكسب بالصناعة في المسجد لم يجز لان هذا ينافي الاعتكاف أشبه إذا شرط ترك الاقامة في المسجد ولان الله تعالى قال (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) فاشتراط ذلك كاشتراط المعصية والصناعة في المسجد منهي عنها في غير الاعتكاف ففي الاعتكاف أولى وسائر ما ذكرنا يشبه ذلك ولا حاجة إليه وإن احتاج إليه فلا يعتكف لان ترك الاعتكاف أولى من فعل المنهي عنه قال أبو طالب سألت أحمد عن المعتكف يعمل عمله من الخياط وغيره قال ما يعجبني أن يعمل قلت ان كان يحتاج قال إن كان يحتاج لا يعتكف (فصل) وللمعتكف صعود سطح المسجد لانه من جملته ولهذا يمنع الجنب من اللبث فيه وهذا قول
أبي حنيفة ومالك والشافعي لا نعلم فيه مخالفا ويجوز أن يبيت فيه
(فصل) ورحبة المسجد ليست منه في ظاهر كلام الخرقي هذا ليس للمعتكف الخروج إليها وعن أحمد ما يدل على هذا وروى المروذي أن المعتكف يخرج إلى رحبة المسجد هي من المسجد وجمع القاضي بين الروايتين فقال ان كان عليها حائط وباب فهي كالمسجد لانها معه وتابعه له وان لم تكن محوطة لم يثبت لها حكم المسجد فان خرج إلى منارة خارج المسجد فسد اعتكافه قال أبو الخطاب ويحتمل أن لا يبطل لان منارة المسجد كالمتصلة به (مسألة) (وله السؤال عن المريض في طريقه ما لم يعرج لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله) وروت عائشة رضي الله عنها قالت: ان كنت لادخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه الا وأنا مارة متفق عليه وليس له الوقوف لان فيه ترك الاعتكاف وله الدخول إلى مسجد يتم اعتكافه فيه لانه محل للاعتكاف والمكان لا يتعين للاعتكاف بنذره وتعيينه فمع عدم ذلك أولى وقد ذكرنا تفصيل ذلك (مسألة) (فان خرج لما لا بد منه خروجا معتادا لحاجة الانسان فلا شئ عليه لانه لابد له منه) فلو بطل اعتكافه بخروجه إليه لم يصح لاحد الاعتكاف وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج لحاجته وهو معتكف وكذلك خروج المرأة لحيضها لانها خرجت باذن الشرع ولا يجب عليها كفارة لانه خروج لعذر معتاد أشبه الخروج لقضاء الحاجة وحكم النفاس حكم الحيض لانه في معناه (مسألة) (وان خرج لغير المعتاد في المتتابع وتطاول خير بين استئنافه واتمامه مع كفارة يمين وان فعله في معين قضى وفي الكفارة وجهان) إذا خرج المعتكف لغير المعتاد كالخروج إلى النفير المتعين والشهادة الواجبة والخوف من الفتنة والمرض وعدة الوفاة ونحو ذلك ولم يتطاول فهو على اعتكافه لانه خروج يسير مباح أو واجب فلم يبطل به الاعتكاف كحاجة الانسان وان تطاول ثم زال عذره وكان الاعتكاف تطوعا فهو مخير ان شاء رجع إلى معتكفه وان شاء لم يرجع لانه لا يلزم بالشروع وان كان واجبا رجع إلى معتكفة فبنى على ما مضى من اعتكافه ثم لا يخلو من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يكون نذر اعتكافا في أيام غير متتابعة ولا معينة فهذا يلزمه أن يتم ما بقي عليه لكن يبتدئ اليوم الذي خرج فيه من أوله ليكون متتابعا
ولا كفارة عليه لانه أتى بالمنذور على وجهه فلم تلزمه كفارة كما لو لم يخرج (الثاني) أن يكون معينا كشهر رمضان فعليه قضاء ما ترك وكفارة يمين لتركه النذر في وقته وفيه وجه آخر لا كفارة عليه وقد روي ذلك عن احمد (الثالث) نذر أياما متتابعة فهو مخير بين البناء والقضاء مع التكفير وبين الاستئناف ولا كفارة عليه لانه أتى بالمنذور على وجهه فلم تلزمه كفارة كما لو أتى به من غير أن يسبقه الاعتكاف الذي خرج منه وذكر الخرقي مثل هذا قال من نذر أن يصوم شهرا متتابعا فلم يسمه فمرض في بعضه فإذا عوفي بنى على ما مضى من صيامه وقضى ما تركه وكفر كفارة يمين وان أحب أتى بشهر متتابع ولا كفارة عليه.
وقال أبو الخطاب فيمن ترك الصيام المنذور لعذر فعن احمد فيه رواية أخرى لا كفارة عليه وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد لان المنذور كالمشروع ابتداء ولو أفطر في رمضان لعذر لم يلزمه شئ فكذلك المنذور وقال القاضي ان خرج لواجب كجهاد تعين أو شهادة واجبة أو عدة الوفاة فلا كفارة عليه لانه خروج واجب لحق الله تعالى فلم يجب فيه شئ كالمرأة تخرج لحيضها ونفاسها فيقتضي قوله ان الخروج إذا لم يكن واجبا بل كان مباحا كخروج من خوف الفتنة ونحوه يوجب الكفارة لانه خرج لحاجة نفسه خروجا غير معتاد وظاهر كلام الخرقي وجوب الكفارة لان النذر كاليمين ومن حلف على فعل شئ فحنث لزمته الكفارة سواء كان لعذر أو لغيره وسواء كانت المخالفة واجبة أو لم يكن وفارق صوم رمضان من حيث إن الفطر لا يوجب كفارة سواء كان لعذر أو لغيره وفارق الحيض فانه يتكرر ويظن وجوده في زمن النذر فيصير كالخروج لحاجة الانسان (مسألة) (وان خرج لما له منه بد في المتتابع لزمه استئنافه وان فعله في معين فعليه الكفارة وفي الاستئناف وجهان) إذا خرج لما له منه بد عامدا بطل اعتكافه الا أن يشترطه على ما ذكرناه.
وان خرج ناسيا فقال القاضي لا يفسد اعتكافه لانه فعل المنهي عنه ناسيا فلم تفسد العبادة كالاكل في الصوم وقال ابن عقيل يفسد لانه ترك الاعتكاف وهو لزوم المسجد والترك يستوي عمده وسهوه كترك النية في الصوم فان أخرج بعض جسده لم يفسد اعتكافه وان كان عمدا لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج
رأسه من المسجد وهو معتكف إلى عائشة فتغسله وهي حائض متفق عليه (فصل) ويبطل اعتكافه بالخروج وان قل وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وقال أبو يوسف ومحمد لا يبطل حتى يكون أكثر من نصف يوم لان اليسير معفوعنه لان صفية أتت النبي صلى الله عليه وسلم تزوره في معتكفه فلما خرجت لتنقلب خرج معها ليقلبها (1) ولان اليسير معفو عنه بدليل مالو تأنى في مشيه ولنا أنه خروج من معتكفه لغير حاجة فأبطله كما لو أقام أكثر من نصف يوم وأما خروج النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أنه لم يكن له منه بد لانه كان ليلا فلم يأمن عليها ويحتمل أنه فعل ذلك لكو
اعتكافه تطوعا له ترك جميعه فكان له ترك بعضه ولذلك تركه لما أراد نساؤه الاعتكاف معه وأما المشي فيختلف فيه طباع الناس وعليه في تغيير مشيه مشقة ولا كذلك هاهنا فانه لا حاجة به إلى الخروج إذا ثبت ذلك فانه ان فعله في متتابع لزمه الاستئناف لانه امكنه الاتيان بالمنذور على صفته أشبه حالة الابتداء وان فعله في معين لزمه الكفارة لتركه النذر لغير عذر وفي الاستئناف وجهان (أحدهما) يلزمه كالمتتابع ولانه كان يلزمه التتابع مع التعين فان تعذر التعين لزمه التتابع لامكانه ومن ضرورته الاستئناف (والوجه الثاني) لا يلزمه الاستئناف لان ما مضى منه قد أدى العبادة فيه أداء صحيحا فلم تبطل بتركها في غيره كما لو أفطر في أثناء شهر رمضان ولان التتابع هاهنا حصل ضرورة التعيين مصرح به فإذا لم يكن بد من الاخلال باحدهما ففيما حصل ضرورة أولى ولان وجوب التتابع من حيث الوقت لامن حيث النذر فالخروج في بعضه لا يبطل ما مضى منه كصوم رمضان إذا أفطر لغير عذر فعلى هذا يقضي ما أفسد فيه حسب ويكفر على كلا الوجهين لاصل الوجهين فيمن نذر صوما معينا فأفطرفي بعضه فان فيه روايتين كالوجهين اللذين ذكرناهما وكذلك الحكم في كل من أفسد اعتكافه بجماع أو غيره فان كان الاعتكاف تطوعا فلا قضاء عليه لان التطوع لا يلزم بالشروع فيه في غير الحج والعمرة وقد ذكرنا ذلك (فصل) فان نذر اعتكاف أيام متتابعة بصوم فأفطر يوما فسد تتابعه ووجب الاستئناف لاخلاله
بالاتيان بما نذره على صفته والله أعلم (مسألة) (وان وطئ المعتكف في الفرج فسد اعتكافه ولا كفارة عليه الا لترك نذره وقال أبو بكر عليه كفارة يمين وقال القاضي عليه كفارة الظهار) الوطئ في الاعتكاف محرم بالاجماع والاصل فيه قول الله تعالى (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها) فان وطئ في الفرج متعمدا أفسد اعتكافه باجماع أهل العلم حكاه ابن المنذر ولان الوطئ إذا حرم في العبادة أفسدها كالحج والصوم وان كان ناسيا أفسده أيضا وهذا قول أبي حنيفة ومالك وقال الشافعي لا يفسد لانها مباشرة لا تفسد الصوم فلا تفسد الاعتكاف
كالمباشرة فيما دون الفرج ولنا أن ما حرم في الاعتكاف استوى عمده وسهوه في إفساده كالخروج من المسجد ولا نعلم أنها لا تفسد الصوم ولان المباشرة دون الفرج لا تفسد الاعتكاف الا إذا اقترن بها الانزال إذا ثبت هذا فلا تجب الكفارة بالوطئ في ظاهر المذهب وهو ظاهر كلام الخرقي وقول عطاء والنخعي وأهل المدينة ومالك وأهل العراق والثوري وأهل الشام والاوزاعي ونقل حنبل عن الامام أحمد أن عليه كفارة وهو قول الحسن والزهري واختيار القاضي لانها عبادة يفسدها الوطئ بعينه فوجبت الكفارة بالوطئ فيها كالحج وصوم رمضان ولنا أنها عبادة لا تجب بأصل الشرع فلم تجب بافسادها كفارة كالنوافل، ولانها عبادة لا يدخل المال في جبرانها فلم تجب الكفارة بافسادها كالصلاة، ولان وجوب الكفارة انما يثبت بالشرع ولم يرد الشرع بايجابها فيبقى على الاصل، وما ذكروه ينتقض بالصلاة وبالصوم في غير رمضان والقياس على الحج لا يصح لانه مباين لسائر العبادات، ولهذا يمضي في فاسده ويلزم بالشروع فيه، ويجب بالوطئ فيه بدنة بخلاف غيره، ولانه لو وجبت الكفارة ههنا بالقياس عليه لزم أن تكون بدنة لان الحكم في الفرع يثبت على صفة الحكم في الاصل إذ كان القياس انما هو توسعة مجرى الحكم فيصير النص الوارد في الاصل واردا في الفرع فيثبت فيه الحكم الثابت في الاصل بعينه، وأما القياس على الصوم فهو دال على
نفي الكفارة لان الصوم كله لا يجب بالوطئ فيه كفارة سوى رمضان، والاعتكاف أشبه بغير رمضان لانه نافلة لا يجب إلا بالنذر ثم لا يصح قياسه على رمضان أيضا لان الوطئ فيه انما أوجب الكفارة لحرمة رمضان، ولذلك تجب على كل من لزمه الامساك وإن لم يفسد به صوما واختلف موجبو الكفارة فيها، فقال القاضي تجب كفارة الظهار وهو قول الحسن والزهري، وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل قال أبو عبد الله إذا كان نهارا وجبت عليه الكفارة، قال الشيخ رحمه الله: ويحتمل أن أبا عبد الله انما أوجب عليه الكفارة إذا فعل ذلك في رمضان لانه اعتبر ذلك في النهار لاجل الصوم، ولو كان بمجرد الاعتكاف لما اختص الوجوب بالنهار كما لم يختص الفساد به وحكي عن أبي بكر أن عليه كفارة يمين (قال شيخنا) ولم أر هذا عن أبي بكر في كتاب الشافي ولعل أبا بكر انما أوجب عليه الكفارة في موضع تضمن لافساد الاخلال بالنذر فوجب لتركه نذره وهي كفارة يمين، وأما في غير ذلك فلا لان الكفارة انما تجب بنص أو اجماع أو قياس، وليس ههنا نص ولا اجماع ولا قياس فان نظير الاعتكاف الصوم، ولا تجب بافساده كفارة إذا كان تطوعا ولا منذورا ما لم يتضمن الاخلال بنذره فتجب به كفارة يمين كذلك ههنا، فأما إن كان منذورا فأفسده بالوطئ فالحكم فيه كالحكم فيما إذا أفسده بالخروج لما له منه بد لانه في معناه، وقد ذكرنا ما فيه التفصيل (مسألة) (وإن باشر فيما دون الفرج فأنزل فسد اعتكافه وإلا فلا) إذا كانت المباشرة دون الفرج لغير شهوة فلا بأس بها مثل أن تغسل رأسه أو تفليه لما ذكرنا
من حديث عائشة، وإن كانت لشهوة فهي محرمة لقوله تعالى (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) ولقول عائشة رضي الله عنها: السنة للمعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس أمرأة ولا يباشرها، رواه أبو داود، ولانه لا يأمن افضاءها إلى افساد الاعتكاف وما أفضى إلى الحرام حرام، فان فعل فأنزل فسد اعتكافه وإن لم ينزل لم يفسد، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وقال في الآخر يفسد في الحالين وهو قول مالك لانها مباشرة محرمة فأفسدت
الاعتكاف كما لو أنزل ولنا أنها مباشرة لا يفسد صوما ولا حجا فلم تفسد الاعتكاف كالمباشرة لغير شهوة وفارق التي أنزل بها لانها تفسد الصوم ولا كفارة عليه إلا على رواية حنبل (فصل) وإن ارتد فسد اعتكافه لقول الله تعالى (لئن أشركت ليحبطن عملك) ولانه خرج
بالردة عن كونه من أهل الاعتكاف، وإن شرب ما أسكره فسد اعتكافه بخروجه عن كونه من أهل
المسجد، ومتى أفسد اعتكافه فلا كفارة عليه إلا أن يكون واجبا وقد ذكرناه (مسألة) (ويستحب للمعتكف التشاغل بفعل القربة واجتناب ما لا يعنيه) يستحب للمعتكف التشاغل بالصلاة وقراءة القرآن وذكر الله تعالى ونحو ذلك من الطاعات المحضة ويجتنب مالا يعنيه من الاقوال والافعال لان من كثر كلامه كثر سقطه، وفي الحديث " من حسن اسلام المرء تركه مالا يعنيه " ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش فان ذلك مكروه في غير الاعتكاف ففيه أولى ولا يبطل الاعتكاف بشئ من ذلك لانه لما لم يبطل بمباح الكلام لم يبطل بمحظوراته وعكسه الوطئ ولا بأس بالكلام بمحادثته ومحادثة غيره فان صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته لازوره ليلا فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني (1) وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الانصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم " على رسلكهما انها صفية بنت حيي " فقالا سبحان الله يارسول الله قال " ان الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم واني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا " أو قال " شيئا " متفق عليه وقال علي رضي الله عنه أيما رجل معتكف فلا يساب ولا يرفث في الحديث ويأمر أهله بالحاجة أي وهو يمشي ولا يجلس عندهم رواه الامام أحمد (فصل) ويجتنب المعتكف البيع والشراء الا مالا بد له منه قال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول المعتكف لا يبيع ولا يشتري الا مالا بد له منه طعام أو نحو ذلك فأما التجارة والاخذ والعطاء فلا يجوز
وقال الشافعي لا بأس أن يبيع ويشتري ويخيط ويتحدث ما لم يكن مأثما
ولنا ماروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البيع والشراء في المسجد رواه الترمذي وقال حديث حسن ورأى عمر ان القصير رجلا يبيع في المسجد فقال يا هذا ان هذا سوق الآخرة فان أردت البيع فاخرج إلى سوق الدنيا وإذا منع من البيع والشراء في غير حال الاعتكاف ففيه أولى فأما الصنعة فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز منها ما يتكسب به ولانه بمنزلة البيع والشراء ويجوز ما يعمله لنفسه كخياطة قميصه ونحوه وقد روى المروذي قال سألت ابا عبد الله عن المعتكف ترى له أن يخيط قال لا ينبغي له أن يعتكف إذا كان يريد أن يفعل، وقال القاضي لا تجوز الخياطة في المسجد سواء كان محتاجا إليها أو لم يكن لان ذلك معيشة وتشغل عن الاعتكاف فأشبه البيع والشراء فيه قال شيخنا: والاولى أن يباح له ما يحتاج إليه من ذلك إذا كان يسيرا مثل ان ينشق قميصه فيخيطه أو ينحل شئ يحتاج إلى ربطه فيربطه لان هذا يسير تدعو الحاجة إليه فجرى مجرى لبس قميصه وعمامته
(فصل) وليس الصمت من شريعة الاسلام وظاهر الاخبار تحريمه، قال قيس بن مسلم دخل أبو بكر رضي الله عنه على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال مالها لا تتكلم؟ قالوا حجب مصمتة، فقال لها تكلمي هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية فتكلمت.
رواه البخاري، وروى أبو داود باسناده عن علي رضي الله عنه قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا صمات يوم إلى الليل " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صوم الصمت، فان نذر ذلك لم يلزمه الوفاء به، وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر ولا نعلم فيه مخالفا لما روى ابن عباس قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ولا
يستظل، ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " مره فليتكلم، وليستظل وليقعد وليتم صيامه "
رواه البخاري، ولانه نذر فعل منهي عنه فلم يلزمه كنذر المباشرة في المسجد، وإن أراد فعله لم يكن له ذلك سواء نذره أو لم ينذره، وقال أبو ثور وابن المنذر له فعله إذا كان أسلم ولنا النهي عنه وظاهره التحريم والامر بالكلام ومقتضاه الوجوب، وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه إن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، وهذا صريح لم يخالفه أحد من الصحابة فيما علمناه واتباع ذلك أولى (فصل) ولا يجوز أن يجعل القرآن بدلا من الكلام لانه استعمال له في غير ما هو له أشبه استعمال المصحف في التوسد ونحوه وقد جاء " لا تناظروا بكتاب الله " قيل معناه لا تتكلم به عند الشئ تراه كأن ترى رجلا قد جاء في وقته فيقول (وجئت على قدر يا موسى) ونحوه ذكر أبو عبيد نحو هذا المعنى (مسألة) (ولا يستحب له اقراء القرآن والعلم والمناظرة فيه إلا عند الخطاب إذا قصد به الطاعة) أكثر أصحابنا لا يستحبون للمعتكف اقراء القرآن وتدريس العلم ومناظرة الفقهاء ومجالستهم وكتابة الحديث ونحو ذلك مما يتعدى نفعه وهو ظاهر كلام أحمد وقال أبو الحسن الآمدي في استحباب ذلك روايتان.
واختار أبو الخطاب أنه مستحب إذا قصد به طاعة الله تعالى لا المباهاة وهذا مذهب الشافعي لان ذلك أفضل العبادات ونفعه يتعدى فكان أولى من تركه كالصلاة واحتج أصحابنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف فلم ينقل عنه الاشتغال بغير العبادات المختصة به، ولان الاعتكاف عبادة من شرطها المسجد فلم يستحب فيها ذلك كالطواف وما ذكروه يبطل بعيادة المرضى وشهود الجنازة فعلى هذا القول فعله لهذه الافعال أفضل من الاعتكاف قال المروذي قلت لابي عبد الله ان رجلا يقرئ في المسجد وهو يريد أن يعتكف ولعله أن يختم في كل يوم فقال إذا فعل هذا كان لنفسه وإذا قعد في المسجد كان له ولغيره يقرئ أحب الي وسئل أيما أحب اليك الاعتكاف أو الخروج إلى عبادان فقال ليس يعدل الجهاد عندي شئ يعني أن الخروج إلى عبادان أفضل من الاعتكاف
(فصل) ولا بأس أن يتزوج المعتكف ويشهد النكاح في المسجد لانه عبادة لا تحرم الطيب فلا تحرم النكاح كالصوم ولان النكاح طاعة وحضوره قربة ومدته لا تتطاول فلم يكره كتشميت العاطس ورد السلام
(فصل) ولا بأس أن يتنظف بأنواع التنظف لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجل رأسه وهو معتكف وله أن يتطيب ويلبس الرفيع من الثياب وليس ذلك بمستحب قال الامام احمد لا يعجبني أن يتطيب وذلك لان الاعتكاف عبادة تختص مكانا فكان ترك الطيب فيها مشروعا كالحج وليس ذلك بمحرم لانه لا يحرم اللباس ولا النكاح أشبه الصوم (فصل) ولا بأس أن يأكل المعتكف في المسجد ويضع سفرة يسقط عليها ما يقع منه كيلا يتلوث المسجد ويغسل يده في الطست ليفرغ خارج المسجد ولا يجوز أن يخرج ليغسل يده لان من ذلك بدا وهل يكره تجديد الطهارة في المسجد؟ فيه روايتان (إحداهما) لا يكره لان أبا العالية قال حدثني من كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اما ما حفظت لكم منه أنه كان يتوضأ في المسجد وعن ابن عمر أنه كان يتوضأ في المسجد الحرام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال والنساء وعن ابن سيرين قال كان أبو بكر وعمر والخلفاء رضي الله عنهم يتوضئون في المسجد وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس وابن جريج (والثانية) يكره لانه لا يسلم من أن يبصق في المسجد أو يتمخط والبصاق في المسجد خطيئة ولانه
يبل من المسجد مكانا يمنع المصلين من الصلاة فيه وان خرج من المسجد للوضوء وكان تجديدا بطل لانه خروج لما له منه بد وان كان وضوأ عن حدث لم يبطل لان الحاجة داعية إليه سواء كان في وقت الصلاة أو قبلها لانه لا بد من الوضوء للحدث وانما يتقدم عن وقت الحاجة إليه لمصلحة وهو كونه على وضوء ربما يحتاج إلى صلاة النافلة (فصل) إذا أراد أن يبول في المسجد في طست لم يبح له ذلك لان المساجد لم تبن لهذا وهو
مما يقبح ويفحش ويستخف به فوجب صيانة المسجد عنه كما لو أراد أن يبول في أرضه لم يغسله، وإن
أراد الفصد والحجامة فيه فكذلك ذكره القاضي لانه اراقة نجاسة في المسجد فأشبه البول فيه، وإن
دعت إليه حاجة كبيرة خرج من المسجد ففعله، وإن استغنى له الخروج إليه كالمرض الذي يمكن احتماله وقال
ابن عقيل يحتمل أن يجوز الفصد في المسجد في طست بدليل أن المستحاضة يجوز لها الاعتكاف ويكون
تحتها شئ يقع فيه الدم، قالت عائشة رضي الله عنها: اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه
مستحاضة فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي.
رواه البخاري والاول أولى والفرق بينهما أن المستحاضة لا يمكنها التحرز من ذلك إلا بترك الاعتكاف بخلاف الفصد والله أعلم
(كتاب المناسك) (مسألة) (يجب الحج والعمرة في العمر مرة واحدة بخمسة شروط) الحج في اللغة القصد وعن الخليل قال: الحج كثرة القصد إلى من تعظمه.
قال الشاعر: واشهد من عوف حئولا كثيرة * يحجون سب الزبرقان المزعفرا أي يقصدون، والسب العمامة، وفي الحج لغتان الحج والحج بفتح الحاء وكسرها، والحج في الشرع اسم لافعال مخصوصة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى وهو أحد أركان الاسلام الخمسة والدليل على وجوبه الكتاب والسنة والاجماع، أما الكتاب فقوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا * ومن كفر فان الله غني عن العالمين) روي عن ابن عباس ومن كفر باعتقاده أنه غير واجب، وقال الله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم " بني الاسلام على خمس شهادة أن لا إله الا الله " وذكر فيها الحج (فصل) وانما يجب مرة واحدة في العمر لما روى مسلم باسناده عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا " فقال رجل أكل عام يارسول الله؟
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم " ثم قال " ذروني ما تركتكم فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وإذا أمرتكم
فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه " في أخبار سوى هذين كثيرة وأجمعت الامة على وجوب الحج على المستطيع في العمر مرة واحدة (فصل) وتجب العمرة على من يجب عليه الحج في احدى الروايتين، يروى ذلك عن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي والثوري والشافعي في أحد قوليه، والرواية الثانية ليست واجبة روى ذلك عن ابن مسعود وبه قال مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أواجبة هي؟ قال " لا وان تعتمروا فهو أفضل " أخرجه الترمذي قال حديث حسن صحيح وعن طلحة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " الحج جهاد والعمرة تطوع " رواه ابن ماجة ولانه نسك غير مؤقت فلم يكن واجبا كالطواف المجرد ووجه الاولى قول الله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) ومقتضى الامر الوجوب ثم إنه عطفها على الحج والاصل التساوى بين المعطوف والمعطوف عليه قال ابن عباس إنها لقرينة الحج في كتاب الله وعن الضبي بن معبد قال أتيت عمر فقلت يا أمير المؤمنين إني أسلمت وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما فقال عمر هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود والنسائي وعن ابن رزين أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله ان أبي شيخ كبير ولا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن فقال " حج عن أبيك واعتمر " رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح وذكره أحمد ثم قال وحديث يرويه سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أوصني قال " تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج وتعتمر " وروى الاثرم باسناده عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن وكان في الكتاب " أن العمرة هي الحج الاصغر " ولانه قول من سمينا من الصحابة لم نعلم لهم مخالفا الا ابن مسعود وقد اختلف عنه، وأما حديث جابر فقال الترمذي قال الشافعي هو
ضعيف لا تقوم به الحجة وليس في العمرة شئ ثابت بانها تطوع وقال ابن عبد البر روى ذلك باسانيد لا تصح ولا تقوم بمثلها الحجة ثم نحلمه على المعهود وهو العمرة التي قضوها حين احصروا في الحديبية أو على العمرة التي اعتمروها مع حجتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فانها لم تكن واجبة على من اعتمر أو على ما زاد على العمرة الواحدة وتفارق العمرة الطواف لان من شرطها الاحرام بخلاف الطواف وليس على أهل مكة عمرة نص عليه أحمد وقال: كان أبن عباس يرى العمرة واجبة ويقول: يا أهل مكة ليس عليكم عمرة وانما عمرتكم طوافكم بالبيت، وبهذا قال عطاء وطاوس، قال عطاء ليس أحد من خلق الله إلا عليه حج وعمرة واجبان لابد منهما لمن استطاع اليهما سبيلا إلا أهل مكة
فان عليهم حجة وليس عليهم عمرة من أجل طوافهم بالبيت ووجه ذلك أن ركن العمرة ومعظمها الطواف بالبيت وهم يفعلونه فاجزأ عنهم، وحمل القاضي كلام الامام أحمد على أنه لا عمرة عليهم مع الحجة لانه يتقدم منهم فعلها في غير وقت الحج، قال الشيخ رحمه الله والامر على ما قلناه (مسألة) (وانما يجب الحج والعمرة بخمس شروط: الاسلام والعقل والبلوغ والحرية والاستطاعة) لا نعلم في هذا كله خلافا، أما الصبي والمجنون فلانهما غير مكلفين لما روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل " رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن وأما العبد فلا تجب عليه لانها عبادة تطول مدتها وتتعلق بقطع مسافة ويشترط لها الاستطاعة بالزاد والراحلة وتضيع حقوق السيد المتعلقة به فلم تجب عليه كالجهاد، وغير المستطيع لا يجب عليه لان الله تعالى خص المستطيع بالايجاب عليه، وقال الله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وأما الكافر فلانه ليس من أهل العبادات (فصل) وهذه الشروط تنقسم ثلاثة أقسام (منها) ما هو شرط للوجوب والصحة وهما الاسلام والعقل فلا يجب على كافر ولا مجنون، ولا يصح منهما لكونهما ليسا من أهل العبادات، (ومنها) ما هو
شرط للوجوب والاجزاء وهو البلوغ والحرية وليس شرطا للصحة فلو حج الصبي والعبد صح حجهما
ولم يجزئهما عن حجة الاسلام إن بلغ الصبي أو عتق العبد، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم إلا من شذ عنهم ممن لا يعتد بخلافه على أن الصبي إذا حج في حال صغره والعبد إذا حج في حال رقه ثم بلغ الصبي وعتق العبد ان عليهما حجة الاسلام إذا وجدا إليها سبيلا، كذلك قال ابن عباس وعطاء والحسن والنخعي والثوري ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، قال الترمذي وقد أجمع أهل العلم عليه.
وقال الامام أحمد رحمه الله عن محمد بن كعب القرظي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين عهدا أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه، فان أدرك فعليه الحج " رواه سعيد في سننه والشافعي في مسنده عن ابن عباس من قوله، ولان الحج عبادة بدنية فعلها قبل وقت وجوبها فلم يمنع ذلك وجوبها عليه في وقتها كما لو صلى قبل الوقت، أو كما لو صلى ثم بلغ في الوقت (ومنها) ما هو شرط للوجوب وذلك الاستطاعة (مسألة) (إلا أن يبلغ ويعتق في الحج قبل الخروج من عرفة وفي طوافها فيجزئهما) إذا بلغ الصبي أو عتق العبد بعرفة أو قبلها غير محرمين فاحرما ووقفا بعرفة فاتما المناسك أجزأهما عن حجة الاسلام بغير خلاف علمناه لانهما لم يفتهما شئ من أركان الحج ولا فعلا منها شيئا قبل وجوبه، وإن كان البلوغ والعتق وهما محرمان أجزأهما أيضا عن حجة الاسلام، كذلك قال ابن عباس وهو مذهب الشافعي واسحاق وهو قول الحسن في العبد، وقال مالك لا يجزئهما اختاره ابن المنذر.
وقال أصحاب الرأي لا يجزئ العبد، فأما الصبي فان جدد احراما بعد أن احتلم قبل الوقوف أجزأه وإلا فلا لان احرامهما لم ينعقد واجبا فلا يجزي عن الواجب كما لو بقيا على حالهما ولنا أنه أدرك الوقوف حرا بالغا فاجزأه كما لو أحرم تلك الساعة، قال أحمد وطاوس عن ابن عباس أذا أعتق العبد بعرفة اجزأت عنه حجته، فان أعتق بجمع لم تجز عنه، وهؤلاء يقولون لاتجزئ ومالك يقوله أيضا، وكيف لا يجزئه وهو لو أحرم تلك الساعة كان حجه تاما وما أعلم أحدا قال لا يجزئه إلا هؤلاء
(فصل) والحكم فيما إذا أعتق للعبد وبلغ الصبي بعد خروجهما من عرفة فعادا إليها قبل طلوع الفجر ليلة النحر كالحكم فيما إذا كانا فيها لانهما قد أدركا من الوقت ما يجزئ ولو كان لحظة، وإن لم يعودا أو كان ذلك بعد طلوع الفجر من يوم النحر لم يجزئهما عن حجة الاسلام ويتمان حجهما تطوعا لفوات الوقوف المفروض ولا دم عليهما لانهما حجا تطوعا باحرام صحيح من الميقات فأشبها البالغ الذي يحج تطوعا، فان قيل فلم لا قلتم إن الوقوف فعلاه يصير فرضا كما قلتم في الاحرام الذي أحرم به قبل
البلوغ إنه يصير بعد بلوغه فرضا؟ قلنا انما اعتددنا له باحرامه الموجود بعد بلوغه وما قبله تطوع لم ينقلب فرضا ولا اعتد له به الوقوف مثله، فنظير أن يبلغ وهو واقف بعرفة فانه يعتد له بما أدرك من الوقوف ويصير فرضا دون ما مضى (فصل) إذا بلغ الصبي أو عتق العبد قبل الوقوف أو في وقته وأمكنهما الاتيان بالحج لزمهما ذلك لان الحج واجب على الفور فلا يجوز تأخيره مع امكانه كالبالغ الحر وان فاتهما الحج لزمتهما العمرة عند من أوجبهما لانها واجبة أمكن فعلها فاشبهت الحج ومتى أمكنهما ذلك فلم يفعلا استقر الوجوب عليهما سواء كانا وسرين أو معشرين لان ذلك وجب عليهما بامكانه في موضعه فلم يسقط بفوات القدرة بعده (فصل) والحكم في الكافر يسلم والمجنون يفيق حكم الصبي يبلغ في جميع ما ذكرنا الا أن هذين لا يصح منهما احرام ولو أحرما لم ينعقد احرامهما لانهما من غير أهل العبادات وحكمهما حكم من لم يحرم (مسألة) (ويحرم الصبي المميز باذن وليه وغير المميز يحرم عنه وليه ويفعل ما يعجز عنه من عمله حج الصبي صحيح فان كان مميزا أحرم باذن وليه وان لم يكن مميزا أحرم عنه وليه فيصير محرم بذلك وبه قال مالك والشافعي وروي عن عطاء والنخعي وقال أبو حنيفة لا ينعقد احرام الصبي ولا يصير محرما باحرام وليه لان الاحرام سبب يلزم به حكم فلم يصح من الصبي كالنذر ولنا ماروى ابن عباس قال رفعت امرأة صبيا فقالت يارسول الله ألهذا حج؟ قال " نعم ولك أجر " رواه مسلم وغيره من الائمة وروى البخاري عن السائب بن يزيد قال حج بي مع النبي صلى الله عليه وسلم
وأنا ابن سبع سنين، ولان أبا حنيفة قال يجتنب ما يجتنبه المحرم ومن اجتنب ما يجتنبه المحرم كان إحرامه صحيحا والنذر لا يجب به شئ بخلاف مسئلتنا والكلام في حج الصبي في فصول أربعة في الاحرام عنه أو منه وفيما يفعله ينفسه أو بغيره وفي حكم جناياته على احرامه وفيما يلزمه من القضاء والكفارة (الفصل الاول في احرامه) فان كان مميزا أحرم باذن وليه ولا يصح بغير اذنه لانه عقد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد من الصبي بنفسه كالبيع، وان كان غير مميز فأحرم عنه من له ولاية على ماله كالاب والوصي وأمين الحاكم صح، ومعنى إحرامه عنه انه يعقد له الاحرام فيصح للصبي دون الولي كما يعقد له النكاح فعلى هذا يصح عقد الاحرام عنه سواء كان الولي محرما أو حلالا ممن عليه حجة الاسلام أو غيره، فان أحرمت عنه أمه صح لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ولك أجر " ولا يضاف الاجر إليها إلا لكونه تبعا لها في الاحرام، قال الامام أحمد في رواية حنبل: يحرم عنه أبوه أو وليه واختاره
ابن عقيل وقال المال الذي يلزم بالاحرام لا يلزم الصبي وانما يلزم من أدخله في الاحرام في أحد الوجهين، وقال القاضي ظاهر كلام أحمد انه لا يحرم عنه إلا وليه لانه لا ولاية للام على ماله والاحرام يتعلق به إلزام مال فلا يصح من غير ذي ولاية كشراء شئ له، فأما غير الام والولي من الاقارب كالاخ والعم وابنه فيخرج فيهم وجهان بناء على القول في الام، أما الاجانب فلا يصح إحرامهم عنه وجها واحدا (الفصل الثاني) ان كل ما أمكنه فعله بنفسه لزمه فعله ولا ينوب عنه غيره فيه كالوقوف والمبيت بمزدلفة ونحوهما وما عجز عنه عمله الولي عنه.
قال جابر خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاجا ومعنا النساء والصبيان فأحرمنا عن الصبيان، رواه سعيد في سننه ورواه ابن ماجة وفيه فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم، ورواه الترمذي قال فكنا نلبي عن النساء، ونرمي عن الصبيان، قال ابن المنذر كل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي كان ابن عمر يفعل ذلك، وبه قال عطاء والزهري ومالك والشافعي واسحاق، وعن ابن عمر أنه كان يحج سبيانه وهم صغار فمن استطاع منهم أن يرمي رمى ومن لم يستطع أن يرمي رمى عنه، وعن أبي اسحاق ان أبا بكر رضي الله عنه طاف بابنه في خرقة، رواهما الاثرم، قال الامام أحمد يرمى عن الصبي أبوه أو وليه، قال القاضي ان أمكنه
أن يناول النائب الحصى ناوله وان لم يمكنه استحب أن يوضع الحصى في يده ثم يؤخذ منه فيرمى عنه وان وضعها في يد الصغير ورمى بها فجعل يده كالآلة فحسن، ولا يجوز أن يرمي الا من قد رمى عن نفسه لانه لا يجوز أن ينوب عن الغير وعليه فرض نفسه كالحج، وأما الطواف فانه ان أمكنه المشي مشى والا طيف به محمولا أو راكبا لما ذكرنا من فعل أبي بكر، ولان الطواف بالكبير محمولا لعذر يجوز فالصغير أولى، ولا فرق بين أن يكون الحامل له حلالا أو حراما ممن أسقط الفرض عن نفسه أو لم يسقطه لان الطواف للمحمول لا للحامل ولذلك صح أن يطوف راكبا على بعير وان طيف به محمولا أو راكبا وهو يقدر على الطواف بنفسه ففيه روايتان نذكرهما فيما بعد ان شاء الله تعالى ومتى طاف بالصبي اعتبرت النية من الطائف فان لم ينو الطواف عن الصبي لم يجزئه لانه لما لم يعتبر النية من الصبي اعتبرت من غيره كما في الاحرام، فان نوى الطواف عنه وعن الصبي احتمل وقوعه عن نفسه كالحج إذا نوى عنه وعن غيره، واحتمل أن يقع عن الصبي كما لو طاف بكبير ونوى كل واحد عن نفسه لكون المحمول أولى، واحتمل أن يلغو لعدم التعيين لكون الطواف لا يقع عن غير معين وأما الاحرام فان الصبي يجرد كما يجرد الكبير، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها انها كانت تجرد الصبيان إذا دنوا من الحرم قال عطاء يفعل بالصغير كما يفعل بالكبير ويشهد به المناسك كلها الا أنه لا يصلى عنه
(الفصل الثالث في محظورات الاحرام) وهي قسمان ما يختلف عمده وسهوه كاللباس والطيب ومالا يختلف كالصيد وحلق الشعر (فالاول) لا فدية على الصبي فيه لان عمده خطأ (والثاني) عليه فيه الفدية وان وطئ أفسد حجه ويمضي في فاسده وفي وجوب القضاء عليه وجهان (احدهما) لا يجب لئلا تجب عبادة بدنية على غير مكلف (والثاني) يجب لانه افساد موجب للبدنة فاوجب القضاء كوطئ البالغ فان قضى بعد البلوغ بدأ بحجة الاسلام فان أحرم بالقضاء قبلها انصرف إلى حجة الاسلام وهل تجرئه عن القضاء؟ ينظر فان كانت الفاسدة قد أدرك فيها شيئا من الوقوف بعد بلوغه أجزأ عنهما جميعا وإلا لم يجزئه وكذلك حكم العبد والله أعلم (مسألة) (ونفقة الحج وكفارته في مال وليه وعنه في مال الصبي)
أما نفقة الحج فقال القاضي ما زاد على نفقة الحضر فهو في مال الولي لانه كلفه ذلك عن غير حاجة بالصبي إليه اختاره أبو الخطاب وحكي عن القاضي أنه ذكر في الخلاف أن جميع النفقة على الصبي لان الحج له فنفقته عليه كالبالغ ولان له فيه مصلحة بتحصيل الثواب له ويتمرن عليه فصار كاجر المعلم والطبيب والصحيح الاول لان هذا لا يجب في العمر الا مرة فلا حاجة إلى التمرن عليه ولانه قد لا يجب فلا يجوز تكليفه بذل ماله من غير حاجة إليه (فصل) فان اغمى على البالغ فاحرم عنه رفيقه لم يصح وهذا قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة يصير محرما باحرام رفيقه عنه استحسانا ولنا أنه بالغ فلم يصر محرما باحرام رفيقه كالنائم ولانه لو أذن في ذلك وأجازه لم يصح فمع عدمه أولى (مسألة) (وليس للعبد الاحرام إلا باذن سيد ولا للمرأة الاحرام نفلا الا باذن زوجها فان شرعا فيه بغير اذن فلهما تحليلهما ويكونان كالمحصر وان كان باذن لم يجز تحليلهما) وجملته أنه ليس للعبد الاحرام بدون اذن سيده لانه تفوت به حقوق سيده الواجبة عليه بالتزام ما ليس بواجب فان فعل انعقد احرامه صحيحا لانها عبادة بدنية فاشبهت الصلاة والصوم ولسيده تحليله في أظهر الروايتين اختارها ابن حامد لان في بقائه عليه تفويتا لحقه بغير اذنه فلم يلزم ذلك لسيده كالصوم المضر ببدنه (والثانية) ليس له تحليله اختارها أبو بكر لانه لا يمكن التحلل من تطوع نفسه فلم يملك تحليل عبده والاول اصح وانما لم يملك تحليل نفسه لانه التزم التطوع باختياره فنظيره أن يحرم عبده باذنه، وفي مسئلتنا يفوت حقه الواجب بغير اختياره فاما ان احرم باذن سيده لم يكن له تحليله وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة له ذلك لانه ملكه منافع نفسه فكان له
الرجوع فيها كالمعير يرجع في العارية ولنا أنه عقد لازم باذن سيده فلم يكن لسيده فسخه كالنكاح ولا يلزم عليه العارية لانها ليست لازمة ولو أعاره شيئا ليرهنه فرهنه لم يكن له الرجوع فيه فان باعه سيده بعد ما احرم فحكم مشتريه في تحليله حكم بائعه لانه اشتراه مسلوب المنفعة أشبه الامة المزوجة والمستأجرة فان علم المشتري بذلك
فلا خيار له كما لو اشترى معيبا يعلم عيبه وان لم يعلم فله الفسخ لانه يتضرر بمضي العبد في حجه لفوات منافعه إلا أن يكون احرامه بغير اذن سيده ونقول له تحليله فلا فسخ له لانه يمكنه دفع الضرر عنه ولو أذن له سيده في الاحرام وعلم العبد برجوعه قبل احرامه فهو كمن لم يؤذن له وان لم يعلم ففيه وجهان بناء على الوكيل هل ينعزل بالعزل قبل العلم على روايتين (فصل) إذا نذر العبد الحج صح نذره لانه مكلف فصح نذره كالحر ولسيده منعه من المضي فيه لانه يفوت حق سيده الواجب فمنع منه كما لو لم ينذر ذكره القاضي وابن حامد وروي عن أحمد أنه قال لا يعجبني منعه من الوفاء به وذلك لما فيه من اداء الواجب فيحتمل أن ذلك على الكراهة لا على التحريم لما ذكرنا، ويحتمل التحريم لانه واجب فلا يملك منعه منه كسائر الواجبات والاول أولى فان اعتق لزمه الوفاء به بعد حجة الاسلام فان أحرم به أولا انصرف إلى حجة الاسلام في الصحيح من المذهب كالحر إذا نذر حجا (فصل) في جناياته وما جنى على إحرامه لزمه حكمه وحكمه فيما يلزمه حكم الحر المعسر فرضه الصيام وإن تحلل بحصر عدو أو حلله سيده فعليه الصيام لا يتحلل قبل فعله كالحر وليس لسيده أن يحول بينه وبين الصوم نص عليه لانه صوم واجب أشبه صوم رمضان فان ملكه السيد هديا واذن له في اهدائه وقلنا انه يملكه فهو كالواجب للهدى لا يتحلل الا به وان قلنا لا يملكه ففرضه الصيام وان أذن له سيده في تمتع أو قران فعليه الصيام بدلا عن الهدي الواجب بهما وذكر القاضي ان على سيده تحمل ذلك عنه لانه باذنه فكان على من أذن فيه كما لو فعله النائب باذن المستنيب، قال شيخنا وليس بجيد لان الحج للعبد وهذا من موجباته فيكون عليه كالمرأة إذا حجت باذن زوجها ويفارق من يحج عن غيره فان الحج للمستنيب فموجبه عليه وان تمتع أو قارن بغير اذن سيده فالصيام عليه بغير خلاف وان أفسد حجه فعليه أن يصوم لذلك لانه لا مال هل فهو كالمعسر الحر (فصل) وان وطئ قبل التحلل الاول فسد نسكه ويلزمه المضي في فاسده كالحر لكن ان كان الاحرام مأذونا فيه فليس لسيده اخراجه منه لانه ليس له منعه من صحيحه فلم يملك منعه من
فاسده وان كان بغير اذنه فله تحليله منه لان له تحليله من صحيحه فالفاسد أولى وعليه القضاء سواء كان الاحرام مأذونا فيه أو غير مأذون ويصح القضاء في حال رقه لانه وجب فيه فصح كالصلاة والصيام ثم ان كان الاحرام الذي أفسده مأذونا فيه فليس له منعه من قضائه لان اذنه في الحج الاول اذن في موجبه ومقتضاه ومن موجبه القضاء لما أفسده فان كان الاول غير مأذون فيه احتمل أن لا يملك منعه من قضائه لانه واجب وليس للسيد منعه من الواجبات واحتمل ان له منعه منه لانه يملك منعه من الحج الذي شرع فيه بغير اذنه فكذلك هذا فان اعتق قبل القضاء فليس له فعله قبل حجة الاسلام لانها آكد فان أحرم بالقضاء انصرف إلى حجة الاسلام في الصحيح من المذهب وبقي القضاء في ذمته وان عتق في أثناء الحجة الفاسدة فأدرك من الوقوف ما يجزئه أجزأه القضاء عن حجة الاسلام لان المقضي لو كان صحيحا أجزأه فكذلك قضاؤه فان أعتق بعد ذلك لم يجزئه لان المقضي لم يجزئه فكذلك القضاء والمدبر والمعلق عتقه بصفة وام الولد والمعتق بعضه حكمه حكم القن فيما ذكرناه (فصل) وان أحرمت المرأة بحج أو عمرة تطوعا فلزوجها تحليلها ومنعها منه في ظاهر المذهب وهو ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي ليس له تحليلها لان الحج يلزم بالشروع فيه فلم يملك تحليلها منه كالمنذور قال وحكي عن أحمد في امرأة تحلف بالصوم أو بالحج لها أن تصوم بغير اذن زوجها قد ابتليت وابتلى زوجها ولنا أنه تطوع يفوت حق غيرها منه أحرمت بغير اذنه فملك تحليلها كالامة إذا أحرمت بغير اذن سيدها والمدينة تحرم بغير اذن غريمها على وجه يمنعه ايفاء دينه الحال عليها ولان العدة تمنع المضي في الاحرام لحق الله عزوجل فحق الآدمي أولى لان حقه أضيق لشحه وحاجته وكرم الله وغناه وكلام احمد لا يتناول محل النزاع بل قد خالفه من وجهين (أحدهما) أنه في الصوم وتأثير الصوم في منع حق الزوج يسير لكونه في النهار دون الليل (الثاني) أن الصوم إذا وجب صار كالمنذور والشروع ههنا على وجه غير مشروع فلم يكن له حرمة بالنسبة إلى صاحب الحق
(فصل) فان كانت حجة الاسلام لكن لم تكمل شروطها لعدم الاستطاعة فله منعها من الخروج إليها والتلبس بها لانها غير واجبة عليها فان احرمت بها بغير اذن لم يملك تحليلها لان ما أحرمت به يقع عن حجة الاسلام الواجبة بأصل الشرع كالمريض إذا تكلف حضور الجمعة ويحتمل
أن له تحليلها لفقدان شرطها فأشبهت الامة والصغيرة فانه لما فقدت الحرية والبلوغ ملك منعها ولانها ليست واجبة عليها اشبهت سائر التطوع فأما الخروج إلى حج التطوع والاحرام به فله منعها منه (مسألة) (وليس للرجل منع امرأته من حج الفرض ولا تحليلها ان أحرمت به بغير خلاف حكاه ابن المنذر فان أذن لها فله الرجوع ما لم تتلبس بالاحرام ومتى قلنا له تحليلها فحللها فحكمها حكم المحصر يلزمها الهدى أو الصوم ان لم تجده كسائر المحصرين) ليس للزوج منع أمرأته من المضي إلى الحج الواجب عليها إذا كملت شروطه وكان لها محرم يخرج معها لانه واجب وليس له منعها من الواجبات كالصوم والصلاة وهذا قول النخعي واسحاق واصحاب الرأي وهو الصحيح من قولي الشافعي وله قول آخر أن له منعها بناء على أن الحج على التراخي ووجه ذلك ما تقدم ويستحب لها استئذانه نص عليه فان اذن لها والا خرجت بغير إذنه (فصل) ولا تخرج إلى الحج في عدة الوفاة نص عليه ولها الخروج إذا كانت مبتوتة لان المبيت ولزوم منزلها واجب في عدة الوفاة دون لمبتوتة فانه لا يجب عليها ذلك وقدم على الحج لانه يفوت وأما الرجعية فحكمها حكم الزوجة فان خرجت للحج فتوفى زوجها في الطريق فسنذكر ذلك في العدد إن شاء الله تعالى والله أعلم وان تكمل شروطه فله منعها من المضي إليه والشروع فيه لانه يفوت حقه بما ليس بواجب عليها فملك منعها منه كصوم التطوع (فصل) فان أحرمت بالحج الواجب عليها لم يكن له منعها، وكذلك إن أحرمت بالعمرة الواجبة ولا تحليلها إذا أحرمت في قول أكثر أهل العلم منهم النخعي واسحاق وأصحاب الرأي، وبه قال الشافعي في أصح قوليه، وقال في الآخر له منعها لان الحج عنده على التراخي فلا يتعين في هذا العام والصحيح الاول لان الحج الواجب يتعين بالشروع فيه فصار كالصلاة إذا أحرمت بها في أول
وقتها وقضاء رمضان إذا شرعت فيه، ولان حق الزوج مستمر على الدوام فلو ملك منعها في هذا العام ملكه في كل عام فيفضي إلى اسقاط أحد أركان الاسلام (فصل) فان أحرمت بواجب فحلف عليها زوجها بالطلاق الثلاث أن لا تحج العام فليس لها ان تحل لان الطلاق مباح وليس لها ترك الفضيلة لاجله، ونقل مهنا عن أحمد أنه سئل عن هذه المسألة فقال قال عطاء الطلاق هلاك وهي بمنزلة المحصر فاحتج بقول عطاء فلعله ذهب إليه لان ضرر الطلاق عظيم لما فيه من خروجها من بيتها ومفارقة زوجها وولدها، وقد يكون ذلك أعظم من ذهاب مالها، ولذلك سماه عطاء هلاكا، ولانه لو منعها عدو من الحج إلا أن تدفع إليه مالها كان ذلك حصرا فهذا أولى
(فصل) وليس للوالد منع ولده من حج الفرض والنذر ولا تحليله من احرامه وليس للولد طاعته في تركه لان النبي صلى الله عليه وسلم قال " لاطاعة لمخلوق في معصية الله تعالى " فأما التطوع فله منعه من الخروج لان له منعه من الغزو وهو من فروض الكفايات فالتطوع أولى، فان أحرم بغير اذنه لم يملك تحليله لانه وجب بالدخول فيه فصار كالواجب ابتداء أو كالنذر (فصل) فان أحرمت المرأة بحجة النذر بغير اذن فهل لزوجها منعها؟ على روايتين حكاهما القاضي وأبو الحسين (احداهما) ليس له منعها كحجة الاسلام (والثانية) له منعها لانه وجب عليها بايجابها أشبه حج التطوع إذا احرمت به (فصل) الشرط الخامس الاستطاعة وهي أن يملك زادا وراحلة صالحة لمثله بآلتها لصالحة لمثله، أو ما يقدر به على تحصيل ذلك فاضلا عما يحتاج إليه من مسكن وخادم وقضاء دينه ومؤنته ومؤنة عياله على الدوام الاستطاعة المشترطة لوجوب الحج والعمرة ملك الزاد والراحلة، وبه قال الحسن ومجاهد وسعيد ابن جبير والشافعي واسحاق، قال الترمذي والعلم عليه عند أهل العلم، وقال عكرمة هي الصحة، وقال الضحاك إن كان شابا فليؤاجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه، وعن مالك ان كان يمكنه المشي وعادته سؤال الناس لزمه الحج لان هذه الاستطاعة في حقه فهو كواجد الزاد والراحلة
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالراد والراحلة فوجب الرجوع إلى تفسيره فروي الدارقطني باسناده عن جابر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وأنس وعائشة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما السبيل؟ قال " الزاد والراحلة " وروي ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله ما يوجب الحج؟ قال: " الزاد والراحلة " رواه الترمذي وقال حديث حسن
وروى الامام أحمد قال: أنا هشيم عن يونس عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) قال رجل يارسول الله ما السبيل؟ قال " الزاد والراحلة " ولانها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فاشترط لوجوبها الزاد والراحلة كالجهاد وما ذكروه ليس باستطاعة فانه شاق وإن كان عادة، والاعتبار بعموم الاحوال دون خصوصها كما أن رخص السفر تعم من يشق عليه ومن لا يشق عليه، وكذلك من كان له ما يقدر به على تحصيل الزاد والراحلة بالشروط المذكورة لانه في معنى ملك الزاد والراحلة، ولان القدرة على ما تحصل به الرقبة في الكفارة كملك الرقبة فكذلك ههنا (فصل) ويختص اشتراط الراحلة بالبعيد الذي بينه وبين البيت مسافة القصر، فأما القريب الذي يمكنه المشي فلا يعتبر وجود الراحلة في حقه لانها مسافة قريبة ويمكنه السعي إليها فلزمه كالسعي
إلى الجمعة، وإن كان ممن لا يمكنه المشي كالشيخ الكبير اعتبر وجود الحمولة في حقه لانه عاجز عن المشي أشبه البعيد، وأما الزاد فلابد منه فان لم يجد زادا ولا قدر على كسبه لم يلزمه الحج (فصل) والزاد الذي تشترط القدرة عليه هو ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب وكسوة فان كان يملكه أو وجده يباع بثمن المثل في الغلاء والرخص أو بزيادة يسيرة لا تجحف بماله لزمه شراؤه وإن كانت تجحف بماله لم يلزمه كما قلنا في شراء الماء للوضوء وإذا كان يجد الزاد في كل منزل لم يلزمه حمله وان لم يجده كذلك لزمه حمله وأما الماء وعلف البهائم فسنذكره ان شاء الله تعالى (فصل) ويشترط أن يجد راحلة تصلح لمثله اما بشراء أو كراء لذهابه ورجوعه ويجد ما يحتاج
إليه من آلتها التي تصلح لمثله فان كان ممن يكفيه الرحل والقتب ولا يخشى السقوط اكتفى بذلك وان كان ممن لم تجر عادته بذلك أو يخشى السقوط عنهما اعتبر وجود محمل وما أشبهه ممن لا يخشى سقوطه عنه ولا مشقة فيه لان اعتبار الراحلة في حق القادر على المشي انما كان لدفع المشقة فيجب أن يعتبر ههنا ما تندفع به المشقة وان كان ممن لا يقدر على خدمة نفسه والقيام بأمره اعتبرت القدرة على من يخدمه لانه من سبيله
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: