الفقه الحنبلي - الافلاس - المكاتبة
(فصل) وان اشترى أرضا من رجل وغراسا من آخر فغرسه فيها ثم أفلس ولم يزد الشجر فلكل واحد منهما الرجوع في عين ماله، ولصاحب الارض قلع الغراس من غير ضمان النقص بالقلع كما ذكرنا لان البائع انما باعه مقلوعا فلا يستحقه إلا كذلك،
وإن أراد بائعه قلعه من الارض فقلعه فعليه تسوية الارض وضمان نقصها الحاصل به لما تقدم، فان بذل صاحب الغراس قيمة الارض لصاحبها ليملكها لم يجبر على ذلك لان الارض أصل لا يجبر على بيعها تبعا، وإن بذل صاحب الارض قيمة الغراس لصاحبها ليملكه إذا امتنع من القلع فله ذلك لان غرسه حصل في ملك غيره بحق فأشبه غرس المفلس في ارض البائع، ويحتمل أن لا يملك ذلك لانه لا يجبر على ابقائه إذا امتنع مع دفع قيمته أو أرش نقصه فلا يكون له أن يتملكه بالقيمة بخلاف التي قبلها والاول أولى وهذا منتقض بغرس الغاصب (فصل) فان كان المبيع صيدا فأفلس المشترى والبائع محرم لم يرجع فيه لانه تملك للصيد فلم يجز في الاحرام كشرائه، وان كان البائع حلالا في الحرم والصيد في الحل فأفلس المشتري فللبائع الرجوع فيه لان الحرم انما يحرم الصيد الذي فيه وهذا ليس من صيده فلا يحرمه، ولو أفلس المحرم وفي ملكه صيد بائعه حلال فله أخذه لان المانع غير موجود فيه (فصل) إذا أفلس وفي يده عين دين بائعها مؤجل وقلنا لا يحل الدين بالفلس فقال أحمد في رواية
الحسن بن ثواب يكون موقوفا إلى أن يحل دينه فيختار البائع الفسخ أو الترك وهو قول بعض اصحاب الشافعي، والمنصوص عن الشافعي أنه يباع في الديون الحالة ويتخرج لنا مثل ذلك لانها حقوق حالة فقدمت على الدين المؤجل كدين من لم يجد عين ماله والقول الاول أولى للخبر، ولان حق هذا البائع تعلق بالعين فقدم على غيره، وان كان مؤجلا كالمرتهن والمجني عليه
(فصل) قال أحمد في رجل ابتاع طعاما نسيئة ونظر إليه وقلبه وقال أقبضه غدا فمات البائع وعليه دين فالطعام للمشتري ويتبعه الغرماء بالثمن وإن كان رخيصا، وكذلك قال الثوري واسحاق لان الملك ثبت للمشتري فيه بالشراء وزال ملك البائع عنه فلم يشاركه غرماء البائع فيه كما لو قبضه (فصل) ورجوع البائع فسخ للبيع لا يحتاج إلى معرفة المبيع ولا القدرة على تسليمه، فلو رجع في المبيع الغائب بعد مضي مدة يتغير فيها ثم وجده على حاله لم يتلف شئ منه صح رجوعه، وان رجع في العبد بعد إباقه أو الجمل بعد شروده صح وصار ذلك له فان قدر عليه أخذه، وإن ذهب كان من ماله، وإن تبين أنه كان تالفا حال استرجاعه بطل الاسترجاع وله أن يضرب مع الغرماء في الموجود من ماله، وان رجع في المبيع واشتبه بغيره واختلفوا في عينه فالقول قول المفلس لانه منكر لاستحقاق ما ادعاه البائع والاصل معه { فصل } قال رحمه الله تعالى (الحكم الثالث بيع الحاكم ماله وقسم ثمنه وينبغي أن يحضره ويحضر الغرماء ويبيع كل شئ في سوقه) إذا حجر على المفلس باع الحاكم ماله لما ذكرنا من حديث معاذ، ولانه مقصود الحجر ويستحب احضار المفلس لمعان أربعة (احدها) احصاء ثمنه وضبطه (الثاني) أنه أعرف بثمن متاعه وجيده ورديئه فإذا حضر تكلم عليه وعرف الغبن من غيره (الثالث) أن الرغبة تكثر فيه فان شراءه من صاحبه أحب إلى المشترين (الرابع) انه اطيب لقلبه، ويستحب احضار، الغرماء لامور اربعة (احدها) ان يباع لهم (الثاني) أنهم ربما رغبوا في شئ فزادوا في ثمنه فيكون اصلح لهم وللمفلس (الثالث)
انه اطيب لقلوبهم وابعد عن التهمة (الرابع) لعل فيهم من يجد عين ماله فيأخذها، فان باعه من غير حضورهم كلهم جاز لان ذلك مفوض إليه وموكول إلى اجتهاده فربما أداه اجتهاده إلى خلاف ذلك والمبادرة إلى البيع قبل احضارهم ويأمرهم ان يقيموا مناديا ينادي على المتاع، فان تراضوا بثقة امضاه الحاكم وإن لم يكن ثقة رده، فان قيل لم يرده وقد اتفق عليه اصحاب الحق فأشبه مالو اتفق المرتهن والراهن على ان يبيع الرهن غير ثقة لم يكن للحاكم الاعتراض؟ قلنا الحاكم ههنا له نظر واجتهاد لانه قد يظهر غريم آخر فيتعلق حقه به بخلاف الرهن فانه لا نظر للحاكم فيه، فان اختار المفلس رجلا واختار الغرماء آخر اقر الحاكم الثقة منهما فان كانا ثقتين قدم المتطوع منهما لانه اوفر، فان كانا متطوعين ضم احدهما إلى الآخر، وإن كانا بجعل قدم أو ثقهما وأعرفهما، فان تساويا قدم من يرى منهما فان وجد متطوعا بالنداء وإلا دفعت الاحرة من مال المفلس لان البيع حق عليه لكونه طريق وفاء دينه، وقيل يدفع من بيت المال لانه من المصالح، وكذلك الحكم في أجر من يحفظ المتاع والثمن وأجر الحمالين ونحوهم، ويستحب بيع كل شئ في سوقه لانه أحوط وأكثر لطلابه ومعرفة قيمته، فان باع في غير سوقه بثمن المثل جاز لان الغرض تحصيل الثمن وربما أدى الاجتهاد إلى أنه أصلح، ولهذا لو قال بع ثوبي بثمن كذا في سوق عينه فباعه بذلك في غيره جاز ويبيع بنقد البلد لانه أصلح، فان كان في البلد نقود باع بغالبها فان تساوت باع بجنس الدين، فان زاد في السلعة أحد في مدة الخيار لزم الامين الفسخ لانه أمكنه بيعه بثمن فلم يبيعه بدونه كما لو زيد فيه قبل العقد، وان زاد بعد لزوم العقد استحب للامين سؤال المشتري الاقالة واستحب للمشتري الاجابة لتعلقه بمصلحة المفلس وقضاء دينه
{ مسألة } (ويترك له من ماله ما تدعو إليه حاجته من مسكن وخادم) لاتباع دار المفلس التي لا غنى له عن سكناها، وبه قال أبو حنيفة وإسحاق والخادم في معنى الدار إذا كان محتاجا إليه، وقال شريح ومالك والشافعي تباع ويكترى له بدلها.
اختاره ابن المنذر لان النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال لغرمائه " خذوا ما وجدتم " وهذا مما وجدوه، ولانه عين مال المفلس فوجب صرفه في دينه كسائر ماله.
ولنا أن هذا مما لاغني للمفلس
عنه فلم يصرف في دينه كثيابه وقوته والحديث قضية في عين يحتمل أنه لم يكن له عقار ولا خادم، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " خذوا ما وجدتم " مما تصدق به عليه والظاهر أنه لم يتصدق عليه بدرا وهو يحتاج إلى سكناها ولا خادم وهو محتاج إلى خدمته، ولان الحديث مخصوص بثياب المفلس وقوته فنقيس عليه محل النزاع وقياسهم منتقض بذلك بأجر المسكن وسائر ماله يستغنى عنه بخلاف مسئلتنا، فان كان له داران يستغني باحداهما بيعت الاخرى لان به غنى عن سكناها، وإن كان مسكنه واسعا يفضل عن سكنى مثله بيع واشترى له مسكن مثله ورد الفضل على الغرماء، وكذلك الثياب التي له إذا كانت رفيعة لا يلبس مثله مثلها (فصل) فان كان المسكن والخادم الذي لا يستغني عنهما عين مال بعض الغرماء أو كان جميع ماله أعيان أموال أفلس بأثمانها ووجدها أصحابها فلهم أخذها بالشرائط المذكورة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به " ولان حقه تعلق بالعين فكان أقوى سببا من المفلس ولان الاعسار بالثمن سبب يستحق به الفسخ فلم يمنع منه تعلق حاجة المشتري
كما قبل القبض وكالعيب والخيار، ولان منعهم من أخذ أموالهم يفتح باب الحيل بأن يشتري من لامال له في ذمته ثيابا يلبسها ودارا يسكنها، أو خادما يخدمه وفرسا يركبها وطعاما له ولعائلته ويمتنع على أربابها أخذها لتعلق حاجته بها فتضيع أموالهم ويستغنى هو بها، فعلى هذا يؤخذ ذلك ولا يترك له منه شئ لانه أعيان أموال الناس فكانوا أحق بها منه كما لو كانت في أيديهم أو أخذها منهم غصبا { مسألة } (وينفق عليه بالمعروف إلى أن يفرغ من قسمته بين غرمائه) وجملة ذلك انه إذا حجر على المفلس، فان كان ذا كسب يفي بنفقته ونفقة من تلزمه مؤنته فهي في كسبه فانه لا حاجة إلى اخراج ماله مع غناه بكسبه فلم يجز كالزيادة على النفقة، وإن كان كسبه دون نفقته كملت من ماله، وان لم يكن ذا كسب أنفق عليه من ماله مدة الحجر وان طال لان ملكه باق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " ومعلوم ان فيمن يعوله من تجب عليه نفقته ويكون دينا عليه وهي زوجته، فإذا قدم نفقة نفسه على نفقة الزوجة فكذلك على حق الغرماء، ولان تجهيز
الميت يقدم على دينه بالاتفاق والحي آكد حرمة من الميت لانه مضمون بالاتلاف، ويقدم أيضا نفقة من تلزمه نفقته من اقاربه مثل الوالد والولد وغيرهم ممن تجب نفقته لانهم يجرون مجرى نفسه في كون ذوي رحمه منهم يعتقون إذا ملكهم كما يعتق إذا ملك نفسه فكانت نفقتهم كنفقته، وكذلك نفقة زوجته لان نفقتها آكد من نفقة الاقارب، وممن اوجب الانفاق على المفلس وزوجته واولاده أبو حنيفة ومالك والشافعي ولا نعلم فيه خلافا، وتجب كسوتهم لان ذلك مما لابد منه، والواجب من النفقة والكسوة ادنى ما ينفق على مثله بالمعروف وادنى ما يكتسى مثله، وكذلك كسوته من جنس ما يكتسبه
مثله، وكسوة امرأته ونفقتها مثل ما يفرض على مثله، واقل ما يكفيه من اللباس قميص وسراويل وشئ يلبسه على راسه قلنسوة أو عمامة أو غيرهما مما جرت عادته ولرجله حذاء ان كان يعتاده، وجبة أو فروة في الشتاء لدفع البرد، فان كانت له ثياب لا يلبس مثله مثلها بيعت واشتري له كسوة مثله ورد الفضل على الغرماء، فان كانت إذا بيعت واشترى له كسوة مثله لا يفضل منها شئ تركت لعدم الفائدة في بيعها (فصل) وان مات المفلس كفن من ماله لان نفقته كانت واجبة من ماله في حال حياته فوجب تجهيزه منه بعد الموت كغيره، وكذلك يجب كفن من يمونه لانهم بمنزلته ولا يلزم كفن زوجته لان نفقتها تجب في مقابلة الاستمتاع وقد فات بموتها فسقطت بخلاف الاقارب فان قرابتهم باقية، ويلزمه تكفين من مات من عبيده وتجهيزه لان نفقته ليست في مقابلة الانتفاع به بدليل وجوب نفقة الصغير والمبيع قبل التسليم، ويكفن في ثلاث أثواب كما كان يلبس في حياته، ويحتمل أن يكفن في ثوب يستره لانه يكفيه فلا حاجة إلى الزيادة، وفارق حال الحياة لانه لابد من تغطية رأسه وكشفه يؤذيه بخلاف الميت، ويمتد الانفاق المذكور إلى حين فراغه من القسمة بين الغرماء لانه لا يزول ملكه إلا بذلك ومذهب الشافعي قريب مما ذكرنا في هذا الفصل (فصل) فان كان المفلس ذا صنعة يكسب ما يمونه ويمون من تلزمه مؤنته أو كان يقدر على أن يكسب ذلك من المباحات ما يكفيه أو يؤجر نفسه أو يتوكل بجعل يكفيه لم يترك له شئ من ماله
للنفقة، وإن لم يقدر على شئ ما ذكرناه ترك له من ماله قدر ما يكفيه.
قال أحمد رحمه الله في رواية
أبي داود: يترك له قوت يتقوته، وان كان له عيال ترك له قوام، وقال في رواية الميموني يترك له قدر ما يقوم به معاشه ويباع الباقي وهذا في حق الشيخ الكبير وذوي الهيآت الذين لا يمكنهم التصرف بأبدانهم، وينبغي أن يجعل مما لا يتعلق به حق بعضهم بعينه لان من تعلق حقه بالعين أقوى سببا من غيره كما ذكرنا في الدار والخادم (فصل) وإذا تلف شئ من ماله تحت يد الامين أو بيع شئ من ماله وأودع ثمنه فتلف عند المودع فهو من ضمان المفلس وبهذا قال الشافعي.
وقال مالك العروض من ماله والدراهم والدنانير من مال الغرماء، وقال المغيرة الدنانير من مال أصحاب الدنانير والدراهم من مال أصحاب الدراهم ولنا أنه من مال المفلس ونمائه فكان تلفه ماله كالعروض من { مسألة } (ويبدأ ببيع ما يسرع إليه الفساد من الطعام الرطب) لان بقائه يتلفه بيقين، ثم ببيع الحيوان لانه معرض للاتلاف ويحتاج إلى مؤنة في بقائه ثم ببيع الاناث لانه يخاف عليه وتناله اليد، ثم ببيع العقار آخرا لانه لا يخاف تلفه بقاؤه أشهر له وأكثر لطلابه { مسألة } (ويعطي المنادي أجرته من المال) لان البيع حق على المفلس لكونه طريق وفاء دينه، وقيل هو من بيت المال لانه من المصالح { مسألة } (ويبدأ بالمجني عليه فيدفع إليه الاقل من الارش أو ثمن الجاني) وقد ذكرنا ذلك في الرهن هذا إذا كان عبده الجاني، فعلى هذا يبدأ ببيعه وما فضل من ثمنه صرف إلى الغرماء، وان كان المفلس هو الجاني فالمجني عليه أسوة الغرماء لان حقه يتعلق بالذمة بخلاف جناية العبد وقد ذكرناه
{ مسألة } (ثم بمن له رهن فيخص بثمنه) يباع الرهن ويختص المرتهن بثمنه إذا كان ثمنه بقدر دينه أو أقل منه سواء كان المفلس حيا أو
ميتا لان حقه متعلق بعين الرهن وذمة الراهن معا وسائرهم يتعلق حقه بالذمة دون العين فكان حقه أقوى.
لا نعلم في هذا خلافا وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي، فان كان ثمن الرهن فضل عن دين المرتهن أعطى قدر دينه ورد الباقي على الغرماء، وان فضل شئ من دينه ضرب بالفاضل مع الغرماء (فصل) ولو باع شيئا أو باعه وكيله وقبض الثمن فتلف وتعذر رده وخرجت السلعة مستحقة ساوى المشتري الغرماء لان حقه لم يتعلق بعين المال فهو بمنزلة أرش جناية المفلس، وذكر القاضي احتمالا أنه يقدم على الغرماء لانه لم يرض بمجرد الذمة فكان أولى كالمرتهن ولانه لو لم يقدم على الغرماء لامتنع الناس من شراء مال المفلس خوفا من ضياع أموالهم فتقل الرغبات فيه ويقل ثمنه فكان تقديم المشتري بذلك على الغرماء أنفع لهم وهذا وجه لاصحاب الشافعي ولنا أن هذا حق لم يتعلق بعين المال فلم يقدم كالذي جنى عليه المفلس وفارق المرتهن فان حقه تعلق بالعين وما ذكروه من المعنى الاول منتقض بأرش جناية المفلس (والثاني) مصلحة لاأصل لها فلا يثبت الحكم بها، فان كان الثمن موجودا يمكن رده وجب رده وينفرد به صاحبه لانه عين ماله لم يتعلق به حق أحد من الناس وكذلك صاحب السلعة المستحقة يأخذها، ومتى باع وكيل المفلس أو العدل أو باع الرهن وخرجت السلعة مستحقة فالعهدة على المفلس ولا شئ على العدل لانه أمين (فصل) ومن استأجر دارا أو بعيرا بعينه أو شيئا غيرهما بعينه ثم أفلس المؤجر فالمستأجر أحق
بالعين التي استأجرها من الغرماء حتى يستوفي حقه لان حقه متعلق بعين المال والمنفعة مملوكة له في هذه المدة فكان أحق بها كما لو اشترى منه شيئا فان هلك البعير أو انهدمت الدار قبل انقضاء المدة انفسخت الاجارة ويضرب مع الغرماء ببقية الاجرة، وان استأجر جملا في الذمة ثم أفلس المؤجر فالمستأجر أسوة الغرماء لان حقه لم يتعلق بالعين وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا، وان أجر دارا ثم أفلس فاتفق الغرماء والمفلس على البيع قبل انقضاء مدة الاجارة فلهم ذلك ويبيعونها مستأجرة فان اختلفوا قدم قول من طلب البيع في الحال لانه أحوط من التأخير.
فإذا استوفى المستأجر سلم المشتري فان اتفقوا على تأخير البيع حتى تنقضي مدة الاجارة فلهم ذلك لان الحق لا يخرج عنهم
(فصل) ولو باع سلعة ثم أفلس قبل تقبيضها فالمشتري أحق بها من الغرماء سواء كانت من المكيل والموزون أو لم تكن لان المشتري قد ملكها وثبت ملكه فيها فكان أحق بها كما لو قبضها، ولا فرق بين ما قبل قبض الثمن وبعده وإن كان عليه سلم فوجد المسلم الثمن قائما فهو أحق به لانه وجد عين ماله وان لم يجده فهو أسوة الغرماء لانه لم يتعلق حقه بعين ماله ولا يثبت ملكه فيه ويضرب مع الغرماء بالمسلم فيه لانه الذي يستحقه دون الثمن.
فان كان في المال جنس حقه أخذ منه بقدر ما يستحقه، وإن لم يكن فيه جنس حقه عزل له قدر حقه فيشتري به المسلم فيه فيأخذه وليس له أن يأخذ المعزول بعينه لئلا يكون بدلا عما في الذمة من المسلم فيه وذلك لا يجوز لقول النبي عليه السلام " من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى غيره " فان أمكن أن يشتري بالمعزول أكثر مما قدر له لرخص المسلم فيه اشترى له بقدر حقه ورد الباقي على الغرماء مثاله رجل أفلس وله دينار وعليه لرجل دينار ولآخر قفيز حنطة من سلم قيمته دينار فانه يقسم
دينار المفلس نصفين لصاحب السلم نصفه فان رخصت الحنطة فصار قيمة القفيز نصف دينار تبينا أن حقه مثل نصف حق صاحب الدينار فلا يستحق من دينار المفلس إلا ثلثه يشترى له به ثلثا قفيز فيأخذه ويرد سدس الدينار على الغريم الآخر، وإن غلا المسلم فيه فصار قيمة القفيز دينارين تبينا أنه يستحق مثلي ما يستحقه صاحب الدينار فيكون له من دينار المفلس ثلثاه فيشترى له بالنصف المعزول ويرجع على الغريم بسدس دينار يشترى له به أيضا لان المعزول ملك للمفلس وانما للغريم قدر حقه فان زاد فللمفلس وإن نقص فعليه { مسألة } (ثم بمن له عين مال يأخذها بالشروط المذكورة) وقد ذكرنا ذلك ثم يقسم الباقي بين باقي الغرماء على قدر ديونهم لتساويهم في الاستحقاق فان كانت ديونهم من جنس الاثمان أخذوها، وإن كان فيهم من دينه من غير جنس الاثمان كالقرض لغير الاثمان فرضي أن يأخذ عوض حقه من الاثمان جاز وإن امتنع وطلب جنس حقه اشتري له بحصته من الثمن من جنس دينه، ولو أراد الغريم الاخذ من المال المجموع، وقال المفلس لا أقضيك إلا
من جنس دينك قدم قول المفلس لان هذه معاوضة فلا تجوز إلا بتراضيهما { مسألة } (فان كان فيهم من له دين مؤجل لم يحل وعنه أنه يحل فيشاركهم) لا يحل الدين المؤجل بفلس من هو عليه ذكره القاضي رواية واحدة، وحكى أبو الخطاب فيه رواية أخرى أنه يحل وهو قول مالك، وعن الشافعي كالمذهبين، واحتجوا بأن الافلاس يتعلق به الدين بالمال فأسقط الاجل كالموت.
ولا أن الاجل حق للمفلس فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه ولانه
لا يوجب حلول ماله فلا يوجب حلول ما عليه كالجنون والاغماء ولانه دين مؤجل على حي فلم يحل قبل أجله كغير المفلس، والاصل المقيس عليه ممنوع وان سلم فالفرق بينهما أن ذمته خربت بخلاف المفلس إذا ثبت هذا فانه إذا حجر على المفلس، فقال أصحابنا لا يشارك أصحاب الديون المؤجلة أصحاب الديون الحالة ويبقى المؤجل في الذمة إلى وقت حلوله فان لم يقسم الغرماء حتى حل الدين شارك الغرماء كما لو تجدد على المفلس دين بجنايته فان أدرك بعض المال بل قسمته شاركهم فيه بجميع دينه، ويضرب مع باقي الغرماء ببقية ديونهم، وان قلنا يحل الدين فهو كاصحاب الديون الحالة سواء { مسألة } (من مات وعليه دين مؤجل لم يحل إذا وثق الورثة وعنه أنه يحل) اختلفت الرواية في حلول الدين بالموت على من هو عليه فروي أنه لا يحل اختاره الخرقي بشرط أن يوثق الورثة وهو قول ابن سيرين وعبيد الله بن الحسن وإسحاق وأبي عبيد، والرواية الاخرى أنه يحل بالموت وبه قال الشعبي والنخعي وسوار ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأى لانه لا يخلو إما أن يبقى في ذمة الميت أو الورثة أو يتعلق بالمال، ولايجوز بقاؤه في ذمة الميت لخرابها وتعذر مطالبته بها ولا ذمة الورثة لانهم لم يلتزموها ولارضي صاحب الدين بذممهم وهي مختلفة متباينة، ولا يجوز تعليقه على الاعيان وتأجيله لانه ضرر بالميت وصاحب الدين ولا نفع للورثة فيه.
أما الميت فلان النبي صلى الله عليه وسلم قال " الميت مرتهن بدينه حتى يقضى عنه " وأما صاحبه فيتأخر حقه، وقد
تتلف العين فيسقط حقه، وأما الورثة فانهم لا ينتفعون بالاعيان ولا يتصرفون فيها، وان حصلت لهم منفعة
فلا يسقط حظ الميت وصاحب الدين لمنفعة لهم.
ولنا ما ذكرنا في المفلس ولان الموت ما جعل مبطلا للحقوق وانما هو ميقات للخلافة وعلامة على الوراثة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " من ترك حقا أو مالا فلورثته " وما ذكروه اثبات حكم بالمصلحة المرسلة لم يشهد لها شاهد الشرع باعتبار، فعلى هذا يبقى الدين في ذمة الميت كما كان ويتعلق بعين ماله كتعلق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه فان أحب الورثة التزام أداء الدين ويتصرفون في المال لم يكن لهم ذلك الا ان يرضى الغريم أو يوثقوا الحق بضمين ملئ أو رهن يثق به لوفاء حقه فانهم قد لا يكونون أملياء ولم يرض بهم الغريم فيؤدي إلى فوات الحق، وذكر القاضي أن الحق ينتقل إلى ذمم الورثة بموت موروثهم من غير ان يشترط التزامهم له فلا ينبغي أن يلزم الانسان دين لا يلتزمه ولم يتعاط سببه ولو لزمهم ذلك بموت موروثهم للزمهم وان لم يخلف وفاء، فان قلنا الدين يحل بالموت فأحب الورثة القضاء من غير التركة فلهم ذلك، وإن اختاروا القضاء منها فلهم ذلك وإن امتنعوا من القضاء باع الحاكم من التركة ما يقضي به الدين، وإن مات مفلس وله غرماء بعض ديونهم مؤجلة، قلنا يحل المؤجل بالموت اقتسموا التركة على قدر ديونهم، وان قلنا لا يحل فأوثق الورثة لصاحب المؤجل اختص أصحاب الحال بالتركة، وان امتنع الورثة من التوثيق حل دينه وشارك أصحاب الحال لئلا يفضي إلى اسقاط دينه بالكلية (فصل) وذكر بعض أصحابنا فيمن مات وعليه دين هل يمنع اليد نقل التركة إلى الورثة؟
روايتين (احداهما) لا يمنعه للخبر المذكور ولان تعلق الدين بالمال لا يزيل الملك في العبد الجاني والرهن والمفلس فلم يمنع نقله فعلى هذا ان تصرف الورثة في التركة ببيع أو غيره صح تصرفهم ولزمهم أداء الدين فان تعذر وفاؤه فسخ تصرفهم كما لو باع السيد عبده الجاني (والثانية) يمنع نقل التركة إليهم لقول الله تعالى (من بعد وصية يوصي بها أو دين) فجعل التركة للوارث بعد الدين والوصية فلا يثبت لهم الملك قبلهما، فعلى هذا لا يصح تصرف الورثة لانهم تصرفوا في غير ملكهم الا أن يأذن لهم الغرماء وان تصرف الغرماء لم يصح الا باذن الورثة
{ مسألة } (وإن ظهر له غريم بعد قسم ماله رجع على الغرماء بقسطه) وبهذا قال الشافعي وحكي عن مالك وحكي عنه لا يحاصهم لانه نقض لحكم الحاكم ولنا أنه غريم يقاسمهم لو كان حاضرا، فإذا ظهر بعد ذلك قاسمهم كغريم الميت يظهر بعد قسم ماله وليس قسم الحاكم ماله حكما انما هو قسمة بان الخطأ فيها فأشبه مالو قسم أرضا بين شركاء ثم ظهر شريك آخر وقسم الميراث ثم ظهر وارث سواه (فصل) ولو أفلس وله دار مستأجرة فانهدمت بعد قبض المفلس الاجرة انفسخت الاجارة فيما بقي من المدة وسقط من الاجرة بقدر ذلك ثم ان وجد عين ماله أخذ منه بقدر ذلك، وان لم يجده ضرب مع الغرماء بقدره وإن كان ذلك بعد قسم ماله رجع على الغرماء بحصته لان سبب وجوبه قبل الحجر ولذلك يشاركهم إذا وجب قبل القسمة، ولو باع سلعة وقبض ثمنها ثم أفلس فوجد بها المشتري عيبا فردها به أو ردها بخيار أو اختلاف في الثمن ونحوه ووجد عين ماله أخذها لان
البيع لما انفسخ زال ملك المفلس عن الثمن كزوال ملك المشتري عن المبيع، وان كان بعد تصرفه فيه شارك المشتري الغرماء.
{ مسألة } (وان بقيت على المفلس بقية وله صنعة فهل يجبر على ايجار نفسه لقضائها على روايتين) (إحداهما) لا يجبر وهو قول مالك والشافعي لقول الله تعالى (وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ولما روى أبو سعيد أن رجلا اصيب في ثمرة ابتاعها فكثر دينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " تصدقوا عليه " فتصدقوا عليه فلم يبلغ وفاء دينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " خذوا ما وجدتم وليس لكم الا ذلك " رواه مسلم ولانه تكسب للمال فلم يجبر عليه كقبول الهبة والصدقة، وكما لا تجبر المرأة على التزويج لتأخذ المهر.
(والثانية) يجبر على الكسب وهو قول عمر بن عبد العزيز وسوار والعنبري واسحاق لما روي
أن النبي صلى الله عليه وسلم باع سرقا في دينه وكان سرق دخل المدينة وذكر أن وراءه مالا فداينه الناس
فركبته ديون ولم يكن وراءه مال فسماه سرقا وباعه بخمسة أبعرة.
رواه الدرا قطني بمعناه من رواية خلد بن مسلم الربحي الا أن فيه كلاما والحر لا يباع ثبت أنه باع منافعه، ولان المنافع، ولان المنافع تجري مجرى الاعيان في صحة العقد عليها وتحريم اخذ الزكاة وثبوت الغنى بها فكذلك في وفاء الدين منها، ولان الاجارة عقد معاوضة فجاز اجباره عليه كبيع ماله، ولانها اجارة لما يملك اجارته فيجبر عليها لوفاء دينه كاجارة أم ولده.
فان قيل حديث سرق منسوخ لان الحر لا يباع والبيع وقع على رقبته بدليل ان في الحديث ان الغرماء قالوا لمشتريه ما تصنع به؟ قال اعتقه، قالوا: لسنا بأزهد منك في اعتاقه فأعتقوه قلنا هذا اثبات فسخ بالاحتمال ولا يجوز، ولم يثبت أن بيع الحر كان جائزا في شريعتنا وحمل بيعه على بيع منافعه اسهل من حمله على بيع رقبته المحرم، فان حذف المضاف واقامة المضاف إليه كثير في القرآن
وفي كلام العرب كقوله تعالى (وأشربوا في قلوبهم العجل واسأل القرية) وغير ذلك، وكذلك قوله أعتقه أي من حقي عليه يدل على ذلك قوله فأعتقوه يعني الغرماء وهم لا يملكون الا الدين الذي عليه، وأما قوله تعالى (فنظرة إلى ميسرة) فيمكن منع دخوله تحت عمومها لما ذكرنا من أنه في حكم الاغنياء في حرمان الزكاة وسقوط نفقته عن قريبه ووجوب نفقة قريبه عليه، وحديثهم قضية عين لا يثبت حكمها الا في مثلها ولم يثبت أن لذلك الغريم كسا يفضل عن قدر نفقته.
أما قبول الهدية والصدقة فمضرة تأباها قلوب ذوي المروءات لما فيها من المنة.
فعلى هذا لا يجبر على الكسب الا من كسبه يفضل عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته لما تقدم.
(فصل) ولا يجبر على قبول صدقة، ولا هدية، ولا وصية، ولا قرض، ولا المرأة على التزويج ليأخذ مهرها لان في ذلك ضررا للحوق المنة في الهدية والصدقة والوصية والعوض في القرض وتملك الزوج للمرأة في النكاح وجوب حقوقه عليها، ولو باع بشرط الخيار ثم أفلس فالخيار بحاله ولا يجبر على ما فيه الحظ من الرد والامضاء لان الفلس يمنعه من احداث عقد أما من امضائه وتنفيذ عقود فلا (فصل) وان جني على المفلس جناية توجب المال ثبت وتعلقت حقوق الغرماء به ولا يصح عفوه فان كانت موجبة للقصاص فهو مخير بين القصاص والعفو ولا يجبر على العفو على مال لان ذلك يفوت
القصاص الذي يجب لمصلحة الزحر، فان اقتص لم يجب للغرماء شئ، وان عفا على مال ثبت وتعلق به حقوق الغرماء، وإن عفا مطلقا انبنى على الروايتين في موجب العمد ان قلنا القصاص خاصة لم يثبت شئ، وان قلنا أحد أمرين ثبتت الدية أو تعلقت بها حقوق الغرماء، وان عفا على غير مال وقلنا القصاص هو الواجب عينا لم يثبت شئ، وان قلنا أحد الامرين يثبت الدية ولم يصح إسقاطه لان عفوه عن القصاص يثبت له الدية ولا يصح إسقاطها، وإن وهب هبة بشرط الثواب ثم أفلس فبذل له الثواب لزمه قبوله ولم يكن له اسقاطه لانه أخذه على سبيل العوض عن الموهوب كالثمن في المبيع وليس له إسقاط شئ من ثمن مبيع أو اجرة اجارة ولاقبض ردئ، ولاقبض المسلم فيه دون صفاته الا باذن غرمائه ومذهب الشافعي في هذا الفصل على نحو ما ذكرنا
{ مسألة } (ولا ينفك عنه الحجر الا بحكم حاكم) لانه ثبت بحكمه فلا يزول الا بحكمه كالمحجور عليه لسفه، وفيه وجه آخر أنه يزول بقسمة ماله لانه حجر عليه لاجله فإذا زال ملكه عنه زال سبب الحجر فزال الحجر كزوال حجر المجنون لزوال جنونه والاول أولى وفارق الجنون فانه يثبت بنفسه فزال بزواله بخلاف هذا ولان فراغ ماله يحتاج إلى معرفة وبحث فوقف ذلك على الحاكم بخلاف الجنون (فصل) وإذا فك الحجر عنه فليس لاحد مطالبته وملازمته حتى يملك مالا، فان جاء الغرماء عقيب فك الحجر عنه فادعوا أن له مالا لم يقبل إلا ببينة، فان جاءوا بعد مدة فادعوا أن في يده مالا أو ادعوا ذلك عقيب فك الحجر عنه وبينوا سببه أحضره الحاكم وسأله، فان أنكر فالقول قوله مع يمينه لانه ما فك الحجر عنه حتى لم يبق له شئ، وان أقر وقال هو لفلان وأنا وكيله أو مضاربة وكان المقر له حاضرا سأله الحاكم فان صدقه فهو له ويستحلفه الحاكم لجواز ان يكونا تواطأ على ذلك ليدفع المطالبة عن المفلس.
وان لم يصدقه عرفنا كذب المفلس فيصير كأنه أقر ان المال له فيعاد الحجر عليه ان طلب الغرماء ذلك، فان أقر لغائب أقر في يديه حتى يحضر الغائب ثم يسأل كما حكمنا في الحاضر
{ مسألة } (ومتى فك عنه الحجر فلزمته ديون وظهر له مال فحجر عليه شارك غرماء الحجر الاول غرماء الحجر الثاني) إلا أن الاولين يضربون ببقية ديونهم والآخرين يضربون بجميعها، وبهذا قال الشافعي وقال مالك: لايدخل غرماء الحجر الاول على هؤلاء الذين تجددت حقوقهم حتى يستوفوا الا أن يكون له فائدة من ميراث أو يجني عليه جناية فيتحاص الغرماء فيه.
ولنا أنهم تساووا في ثبوت حقوقهم في ذمته فتساووا في الاستحقاق كالذين ثبتت حقوقهم في حجر واحد وكتساويهم في الميراث وأرش الجناية، ولان كسبه مال له فتساووا فيه كالميراث { مسألة } (وإن كان للمفلس حق له به شاهد فأبى أن يحلف معه لم يكن لغرمائه أن يحلفوا) المفلس في الدعوى كغيره فإذا ادعى حقه له به شاهد عدل وحلف مع شاهده ثبت المال وتعلقت به حقوق الغرماء وان امتنع لم يجبر لانا لا نعلم صدق الشاهد، ولو ثبت الحق بشهادته لم يحتج إلى يمين معه
فلا نجبره على مالا نعلم صدقه كغيره فان قال الغرماء نحن نحلف مع الشاهد لم يكن لهم ذلك وبهذا قال الشافعي في الجديد، وقال في القديم يحلفون معه لان حقوقهم تعلقت بالمال فكان لهم ان يحلفوا كالورثة يحلفون على مال موروثهم، ولنا أنهم يثبتون ملكا لغيرهم لتتعلق حقوقهم به بعد ثبوته فلم يجز لهم ذلك كالمرأة تحلف لاثبات ملك زوجها لتتعلق نفقتها به وكالورثة قبل موت موروثهم وفارق ما بعد الموت فان المال انتقل إليهم فهم يثبتون بأيمانهم ملكا لا نفسهم.
{ فصل } قال رحمه الله (الحكم الرابع انقطاع المطالبة عن المفلس فمن أقرضه شيئا أو باعه اياه لم يملك مطالبته حتى يفك الحجر عنه) إذا تصرف المحجور عليه في ذمته بشراء أو افتراض صح لانه أهل للتصرف والحجر إنما تعلق بماله وقد ذكرناه وليس للبائع ولا للمقرض مطالبته في حال الحج لان حق الغرماء تعلق بعين ماله الموجود حال الحجر وبما يحدث له من المال فقدموا على غيرهم ممن لم يتعلق حقه بعين المال كتقديم حق المرتهن بثمن الرهن، وتقديم حق المجني عليه بثمن العبد الجاني فلا يشارك اصحاب
هذه الديون الغرماء لما ذكرنا، ولان من علم منهم بفلسه فقد رضي بذلك ومن لم يعلم فهو مفرط ويتبعونه بعد فك الحجر عنه كما لو أقر لانسان بمال بعد الحجر عليه وفي اقراره خلاف ذكرناه فيما مضى فان وجد البائع والمقرض أعيان أموالهما فهل لهم الرجوع فيها؟ على وجهين (أحدهما) لهما ذلك للخبر (والثاني) لافسخ لهما لانهما دخلا على بصيرة بخراب الذمة فأشبه من اشترى معيبا يعلم عيبه وقد ذكرنا ذلك { فصل } قال الشيخ رحمه الله (الضرب الثاني المحجور عليه لحظه وهو الصبي والمجنون والسفية) الحجر على هؤلاء الثلاثة حجر عام لانهم يمنعون التصرف في أموالهم وذممهم والاصل في الحجر عليهم قول الله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) (وابتلوا اليتامي) الآية قال سعيد بن جبير وعكرمة: هو مال اليتيم عندك لا تؤته اياه وانفق عليه وانما أضاف الاموال إلى الاولياء وهي لغيرهم لانهم قوامها، ومدبروها، وقوله (وابتلوا اليتامي) اختبروهم في حفظهم لاموالهم { مسألة } (فلا يصح تصرفهم قبل الاذن) لان تصحيح تصرفهم يفضي إلى ضياع أموالهم وفيه ضرر عليهم { مسألة } (ومن دفع إليهم ماله ببيع أو قرض رجع فيه ما كان باقيا) لانه عين ماله وتصرفهم فاسد فان اتلفه واحد منهم فهو من ضمان مالكه، وكذلك ان تلف
في يده لانه سلطه عليه برضاه وسواء علم بالحجر على السفيه أو لم يعلم لانه ان علم فقد فرط وان لم يعلم فهو مفرط أيضا إذ كان في مظنة الشهرة هذا إذا كان صاحبه قد سلطه عليه، فاما ان حصل في يده باختيار صاحبه من غير تسليط كالوديعة والعارية فاختار القاضي انه يلزمه الضمان ان أتلفه أو تلف بتفريطه ان كان سفيها لانه أتلفه بغير اختيار صاحبه فأشبه مالو كان القبض بغير اختياره، ويحتمل أن لا يضمن لانه عرضها لا تلافه وسلطه عليها فأشبه المبيع أما ما أخذه بغير اختيار المالك كالغصب والجناية فعليه ضمانه لانه لا تفريط من المالك وكذلك الحكم في الصبي والمجنون فان أودع عند الصبي والمجنون أو اعارهما فلا ضمان عليهما فيما تلف بتفريطهما لانهما ليسا من اهل الحفظ، وان أتلفاه ففيه وجهان نذكرهما في الوديعة { مسألة } (ومتى عقل المجنون وبلغ الصبي ورشدا انفك الحجر عنهما بغير حكم حاكم ودفع
اليهما ما لهما ولا ينفك قبل ذلك بحال) إذا عقل المجنون ورشد انفك الحجر عنه ولايحتاج إلى حكم حاكم بغير خلاف وكذلك الصبي إذا بلغ ورشد وهذا مذهب الشافعي، وقال مالك لا يزول الا بحكم حاكم وهو قول بعض أصحاب الشافعي لانه موضع اجتهاد ونظر فانه يحتاج في معرفة البلوغ والرشد إلى اجتهاد فيوقف ذلك على حكم حاكم كزوال الحجر عن السفيه.
ولنا قوله تعالى (فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم اموالهم) أمر بدفع أموالهم إليهم عند البلوغ وايناس الرشد فاشتراط حكم الحاكم زيادة تمنع الدفع عند وجود ذلك حتى يحكم الحاكم وهذا مخالف لظاهر النص، ولانه حجر ثبت بغير حكم الحاكم فيزول بغير حكمه كالحجر على المجنون ولان الحجر عليه انما كان لعجزه عن التصرف في ماله على وجه المصلحة حفظا لماله عليه فمتى بلغ ورشد زال الحجر لزوال سببه، السفيه لنا فيه منع، فعلى هذا الحجر منقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يزول بغير حكم الحاكم وهو الحجر للجنون، وقسم لا يزول الا بحكم حاكم وهو الحجر للسفه، وقسم فيه الخلاف وهو الحجر على الصبي
(فصل) ومتى انفك الحجر عنهما دفع اليهما مالهما لقول الله تعالى (فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) فقال ابن المنذر اتفقوا على ذلك ولان منعه من التصرف انما كان لعجزه عن التصرف حفظا لماله فإذا صار أهلا للتصرف زال الحجر لزوال سببه (فصل) ولا ينفك عنه الحجر ولا يدفع إليه ماله قبل البلوغ والرشد، ولو صار شيخا وهو قول الاكثرين قال ابن المنذر أكثر علماء الامصار من أهل العراق والحجاز والشام ومصر يرون الحجر على كل مضيع لماله صغيرا كان أو كبيرا وبه قال القاسم بن محمد ومالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد وروى الجوزجاني في كتابه قال: كان القاسم بن محمد يلي أمر شيخ من قريش ذي أهل ومال فلا يجوز له أمر في ماله دونه لضعف عقله قال ابن اسحاق رأيته شيخا يخضب وقد جاء إلى القاسم بن محمد فقال يا أبا محمد ادفع إلي مالي فانه لا يولى علي مثلي فقال.
إنك فاسد فقال امرأته طالق البتة وكل مملوك له حر إن لم تدفع الي مالي، فقال القاسم بن محمد وما يحل لنا أن ندفع اليك مالك على حالك هذه فبعث إلى امرأته وقال: هي حرة مسلمة وما كنت لاحبسها عليك وقد فهت بطلاقها فأرسل إليها
فأخبرها ذلك وقال أما رقيقك فلا عتق لك ولا كرامة فحبس رقيقه.
وقال ابن اسحاق ما كان يعاب على الرجل الا سفهه وقال أبو حنيفة لا يدفع ماله إليه قبل خمس وعشرين سنة، وان تصرف نفذ تصرفه فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة فك الحجر عنه ودفع إليه ماله لقول الله تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده) وهذا قد بلغ أشده ويصلح أن يكون جدا ولانه حر بالغ عاقل مكلف فلا يحجر عليه كالرشيد ولنا قول الله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) أي أموالهم وقوله تعالى (وابتلوا اليتامي حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) علق الدفع على شرطين والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما وقال تعالى (فان كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) فأثبت الولاية على السفيه ولانه مبذر فلم يجز دفع ماله إليه كمن له دون ذلك، وأما الآية التي احتجوا بها فانما تدل بدليل خطابها وهو لا يقول به ثم هي مخصصة فيما قبل
خمس وعشرين بالاجماع لعلة السفه وهو موجود بعد خمس وعشرين فيجب أن يخص به أيضا كما أنها لما خصصت في حق المجنون لجنونه فيما قبل خمس وعشرين خصصت بعدها، وما ذكرنا من المنطوق أولى مما يستدل به من المفهوم المخصص وقوله انه صار يصلح جدا لا معنى تحته يقتضي الحكم ولا له أصل يشهد له في الشرع فهو اثباب للحكم بالتحكم ثم هو متصور ممن هو دون هذا السن فان المرأة تكون جدة لاحدى وعشرين سنة وقياسهم منتقض بمن له دون خمس وعشرين سنة فما أوجب الحجر قبلها يوجبه بعدها، إذا ثبت هذا فانه لا يصح تصرفه ولا إقراره، وقال أبو حنيفة يصح بيعه واقراره لان البالغ عنده لا يحجر عليه وانما لم يسلم إليه للآية ولنا أنه لا يدفع إليه ماله لعدم رشده فلم يصح تصرفه واقراره كالصبي والمجنون ولانه إذا نفذ تصرفه واقراره تلف ماله ولم يفد منعه من ماله شيئا ولان تصرفه لو كان نافذا لسلم إليه ماله كالرشيد فانه انما منع ماله حفظا له فإذا لم يحفظ بالمنع وجب تسليمه إليه بحكم الاصل { مسألة } (والبلوغ يحصل بالاحتلام وبلوغ خمس عشرة سنة ونبات الشعر الخشن حول القبل،
وتزيد الجارية بالحيض والحمل) يثبت البلوغ في حق الجارية والغلام باحد الاشياء الثلاثة المذكورة وهي: خروج المني من القبل وهو الماء الدافق الذي يخلق منه الولد كيفما خرج في يقظة أو منام بجماع أو احتلام أو غير ذلك يحصل به البلوغ لا نعلم فيه خلافا لقول الله تعالى (وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم فليستأذنوا) وقوله (والذين لم يبلغو الحلم منكم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حيت يحتلم " رواه أبو داود، وقال ابن المنذر أجمعوا على أن الفرائض والاحكام تجب على المحتلم العاقل، وعلى المرأة بظهور الحيض منها (الثاني) السن وهو بلوغ خمس عشرة سنة في حق الغلام والجارية وبهذا قال الاوزاعي والشافعي وأبو يوسف ومحمد، وقال داود لاحد للبلوغ من السن لقوله عليه السلام " رفع القلم عن
ثلاث عن الصبى حتى يحتلم " واثبات البلوغ لغيره يخالف الخبر وهذا قول مالك، وقال أصحابه سبع عشرة أو ثماني عشرة، وعن أبي حنيفة في الغلام روايتان (احداهما) سبع عشرة (والثاني) ثماني عشرة والجارية سبع عشرة بكل حال لان الحد لا يثبت إلا بتوقيف أو اتفاق ولا توقيف فيما دون هذا ولا اتفاق.
ولنا أن ابن عمر قال عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني متفق عليه، وفي لفظ عرضت عليه يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فردني ولم يرني بلغت وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني فأخبر بهذا عمر بن عبد العزيز فكتب إلى عماله أن لا تفرضوا الا لمن بلغ خمس عشرة رواه الشافعي في مسنده والترمذي وقال حديث حسن صحيح، ولان السن معنى يحصل به البلوغ يشترك فيه الجارية والغلام فاستويا فيه كالانزال وما احتج به مالك وداود لايمنع اثبات البلوغ بغير الاحتلام إذا ثبت بالدليل ولهذا كان انبات الشعر علما عليه (الثالث) نبات الشعر الخشن حول ذكر الرجل وفرج المرأة، فأما الزغب الضعيف فلا اعتبار به فانه يثبت في حق الصغير وبهذا قال مالك والشافعي في قول وقال في الآخر هو بلوغ في حق المشركين وهل هو بلوغ في حق المسلمين؟ فيه قولان، وقال أبو حنيفة لااعتبار به لانه نبات شعر أشبه سائر شعر البدن
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة حكم بأن يقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم فأمر بأن يكشف عن مؤتزريهم فمن أنبت فهو من المقاتلة ومن لم ينبت الحقوه بالذرية.
قال عطية القرظي عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا في فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظر إلي هل أنبت بعد؟
فنظروا إلي فلم يجدوني أنبت بعد فالحقني بالذرية.
متفق على معناه، وكتب عمر رضي الله عنه إلى عامله أن لا تأخذ الجزية الا ممن جرت عليه المواسي، وروى محمد بن يحيى بن حبان أن غلاما من الانصار شبب بامرأة في شعره فرفع إلى عمر فلم يجده أنبت فقال.
لو أنبت لحددتك، ولانه خارج يلازمه البلوغ غالبا يستوي فيه الذكر والانثى فكان علما على البلوغ كالاحتلام، ولان الخارج ضربان متصل ومنفصل، فلما كان من المنفصل ما يثبت به البلوغ كذلك المتصل وما كان بلوغا في حق المشرك كان بلوغا في حق المسلم كالاحتلام والسن { فصل } والحيض علم على البلوغ في حق الجارية لا نعلم فيه خلافا، وقد دل ذلك عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله صلاة حائض الا بخمار " رواه الترمذي وقال حديث حسن، وكذلك الحمل يحصل به البلوغ لان الله تعالى أجرى العادة أن الولد انما يخلق من ماء الرجل وماء المرأة، قال الله تعالى (فلينظر الانسان مم خلق، خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب) وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الاحاديث، فعلى هذا يحكم ببلوغها في الوقت الذي حملت فيه (فصل) إذا وجد خروج المني من الخنثى المشكل فهو علم على بلوغه وكونه رجلا، وان خرج من فرجه أو حاض كان علما على بلوغه وكونه امرأة.
وقال القاضي: ليس واحد منهما علما على البلوغ فان اجتمعا فقد بلغ وهو مذهب الشافعي لجواز أن يكون الفرج الذي خرج ذلك منه خلقة زائدة.
ولنا أن خروج البول من أحد الفرجين دليل على ذكوريته أو أنوثيته فخروج المني والحيض أولى
وإذا ثبت كونه رجلا خرج المني من ذكره، أو امرأة خرج الحيض من فرجها لزم وجود البلوغ، ولان خروج مني الرجل من المرأة أو الحيض من الرجل مستحيل فكان دليلا على التعيين، وإذا ثبت
التعيين لزم كونه دليلا على البلوغ كما لو تعين قبل خروجه، ولانهم سلموا أن خروجهما معا دليل عليه فخروج أحدهما منفردا أولى لان خروجهما معا يقتضي تعارضهما واسقاط دلالتهما إذ لا يتصور أن يجتمع حيض صحيح ومني رجل فلزم أن يكون أحدهما فضلة خارجة من غير محلها، وليس أحدهما أولى بذلك من الآخر فتبطل دلالتهما كالبينتين إذا تعارضتا وكالبول إذا خرج من المخرجين جميعا بخلاف ما إذا وجد أحدهما منفردا فان الله تعالى أجرى العادة بأن الحيض يخرج من فرج المرأة عند بلوغها ومني الرجل يخرج من ذكره عند بلوغه، فإذا وجد ذلك من غير معارض وجب أن يثبت حكمه ويقضى بثبوت دلالته كالحكم بكونه رجلا بخروج البول من ذكره وبكونه أنثى بخروجه من فرجها والحكم للغلام بالبلوغ بخروج المني من ذكره وللجارية بخروج الحيض من فرجها، فعلى هذا إذا خرجا جميعا لم يثبت كونه رجلا ولا امرأة، وهل يثبت البلوغ بذلك؟ فيه وجهان (أحدهما) يثبت وهو اختيار القاضي ومذهب الشافعي لانه ان كان رجلا فقد خرج المني من ذكره، وان كان أنثى فقد حاضت (والثاني) لا يثبت لان هذا يجوز أن لا يكون حيضا ولا منيا فلا يكون فيه دلالة وقد دل على ذلك تعارضهما فانتفت دلالتهما على البلوغ كانتفاء دلالتهما على الذكورية والانوثية { مسألة } (والرشد الصلاح في المال) وهذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأبو حنيفة، وقال الحسن والشافعي وابن المنذر.
الرشد الصلاح في الدين والمال لان الفاسق غير رشيد، ولان افساد دينه يمنع الثقة به في حفظ
ماله كما يمنع قبول قوله وثبوت الولاية على غيره وان لم يعرف منه كذب ولا تبذير.
ولنا قول الله تعالى (فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) قال ابن عباس: يعني صلاحا في أموالهم، وقال مجاهد إذا كان عاقلا، ولان هذا اثبات في نكرة ومن كان مصلحا لما له فقد وجد منه رشد، ولان العدالة لا تعتبر في الرشد في الدوام فلا تعتبر في الابتداء كالزهد في الدنيا، ولان هذا مصلح لما له فأشبه العدل يحققه أن الحجر عليه انما كان لحفظ ماله عليه والمؤثر فيه ما أثر في تضييع المال أو حفظه قولهم ان الفاسق غير رشيد قلنا هو غير رشيد في دينه، أما في ماله وحفظه فهو رشيد ثم هو منتقض
بالكافر فانه غير رشيد في دينه ولا يحجر عليه لذلك، ولا يلزم من منع قبول القول منه دفع ماله إليه، فان من عرف بكثرة الغلط والنسيان أو من يأكل في السوق ويمد رجليه في مجمع الناس لا تقبل شهادتهم وتدفع أموالهم إليهم { مسألة } (ولا يدفع ماله إليه حتى يختبر) لانه انما يعرف رشده باختياره لقول الله تعالى (وابتلوا اليتامي) أي اختبروهم واختباره بتفويض التصرفات التي يتصرف فيها أمثاله إليه، فان كان من أولاد التجار فوض إليه البيع والشراء، فإذا تكرر منه فلم يغبن ولم يضيع ما في يديه فهو رشيد، وان كان من أولاد الدهاقين والكبراء الذين يصان أمثالهم عن الاسواق دفعت إليه نفقة مدة لينفقها في مصالحه فان صرفها في مصارفها ومواقعها واستوفى على وكيله فيما وكله واستقصى عليه دل على رشده، والمرأة يفوض إليها ما يفوض إلى ربة البيت من استئجار الغزالات وتوكيلها في شراء الكتان وأشباه ذلك، فان وجدت ضابطة لما في يديها مستوفية من وكيلها فهي رشيدة
{ مسألة } (وأن يحفظ ما في يده عن صرفه فيما لا فائدة فيه) كالغناء والقمار وشراء المحرمات، وشراء آلات اللهو والخمر وان يتوصل به إلى الفساد فهذا غير رشيد لانه تبذير لماله وتضييعه فيما لا فائدة فيه، فان كان فسقه بالكذب والتهاون بالصلاة مع حفظه لماله لم يمنع ذلك من دفع ماله إليه لما ذكرنا { مسألة } (وعنه لا يدفع إلى الجارية مالها بعد رشدها حتى تتزوج وتلد أو تقيم في بيت الزوج سنة) المشهور في المذهب ان الجارية إذا بلغت ورشدت دفع إليها مالها كالغلام وزال الحجر عنها وان لم تتزوج وهذا قول عطاء والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأبي ثور وابن المنذر، ونقل أبو طالب عن أحمد أن الجارية لا يدفع إليها مالها حتى تتزوج وتلد أو تقيم سنة في بيت الزوج، روي ذلك عن عمر وبه قال شريح والشبعي واسحاق لما روي عن شريح أنه قال.
عهد إلي عمر بن الخطاب أن لا أجيز لجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها حولا أو تلد.
رواه سعيد في سننه ولا يعرف له مخالف فصار اجماعا، وقال مالك لا يدفع إليها مالها حتى تتزوج ويدخل عليها زوجها لان كل حالة جاز للاب
تزويجها من غير اذنها لم ينفك عنها الحجر كالصغيرة ولنا عموم قول الله تعالى (وابتلوا اليتامي حتى إذا بلغوا النكاح، فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) ولانها يتيم بلغ وأنس منه الرشد فيدفع إليه ماله كالرجل، ولانها بالغة رشيدة فجاز لها التصرف في مالها كالتي دخل بها الزوج، وحديث عمر إن صح فلم نعلم انتشاره في الصحابة فلا يترك به الكتاب والقياس، وعلى أن حديث عمر مختص بمنع العطية فلا يلزم منه المنع من تسليم مالها إليها ومنعها من سائر التصرفات ومالك لم يعلم به وانما اعتمد على اجبار الاب لها على النكاح ولنا ان نمنعه وان سلمناه فانما أجبرها على النكاح لان اختبارها للنكاح ومصالحه لا يعلم الا بمباشرته
والبيع والشراء والمعاملات ممكنة قبل النكاح، وعلى هذه الرواية إذا لم تتزوج أصلا احتمل أن يدوم الحجر عليها عملا بعموم حديث عمر ولانه لم يوجد شرط دفع مالها إليها فلم يجز دفعه إليها كما لو لم ترشد وقال القاضي عندي أنه يدفع إليها مالها إذا عنست وبرزت للرجال يعني كبرت { مسألة } (وقت الاختبار قبل البلوغ في احدى الروايتين) وهو أحد الوجهين لاصحاب الشافعي لان الله تعالى قال (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منها رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) فظاهر الآية ان ابتلاءهم قبل البلوغ لوجهين (أحدهما) أنه سماهم يتامى وانما يكونون يتامى قبل البلوغ (الثاني) أنه مد اختبارهم إلى البلوغ بلفظة حتى فيدل على أن الاختبار قبله، ولان تأخير الاختبار إلى البلوغ مؤد إلى الحجر على البالغ الرشيد لان الحجر يمتد إلى أن يختبر ويعلم رشده واختباره قبل البلوغ يمنع ذلك فكان أولى، لكن لا يختبر إلا المراهق المميز الذي يعرف البيع والشراء والمصلحة من المفسدة، وإذا أذن له وليه فتصرفه على ما نذكره، وعنه ان اختباره بعد البلوغ أومأ إليه أحمد لان تصرفه قبل ذلك تصرف ممن لم يوجد فيه مظنة العقل ولاصحاب الشافعي نحو هذا الوجه { فصل } قال رضي الله عنه (ولا تثبت الولاية على الصبي والمجنون الا للاب) لانها ولاية على الصغير فقدم فيها الاب كولاية النكاح ثم وصيته بعده لانه نائبه أشبه وكيله في الحياة ثم للحاكم لان الولاية
انقطعت من جهة القرابة فتثبت للحاكم كولاية النكاح ومذهب أبي حنيفة والشافعي ان الجد يقوم مقام الاب في الولاية لانه أب ولنا أن الجد لا يدلي بنفسه وانما يدلي بالاب الادنى فلم يل مال الصغير كالاخ ولان الاب يسقط الاخوة بخلاف الجد وترث الام معه ثلث الباقي في زوج وأم وأب وزوجة وأم أب بخلاف الجد فلا
يصح قياسه عليه فأما من سواهم فلا يثبت لهم ولاية لان المال محل الجناية ومن سواهم قاصر النفقة غير مأمون على المال فلم يله كالاجنبي، ومن شرط ثبوت الولاية على المال العدالة بغير خلاف لان في تفويضها إلى الفاسق تضييعا للمال فلم يجز كتفويضها إلى السفيه، وكذلك الحكم في السفيه إذا حجر عليه صغيرا واستدام الحجر عليه بعد البلوغ { مسألة } (وليس لوليهما التصرف في مالهما إلا على وجه الحظ لهما وما لاحظ فيه ليس له التصرف به كالعتق والهبة والتبرعات والمحاباة) لقول الله سبحانه وتعالى (ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن) وقوله عليه الصلاة والسلام " لاضرر ولا ضرار " رواه الامام أحمد وهذا فيه اضرار فان فعل شيئا من ذلك أو زاد على النفقة عليهما أو على من تلزمهما مؤنته بالمعروف ضمن لانه مفرط فضمن كتصرفه في مال غيرهما { مسألة } (ولايجوز أن يشتري من مالهما شيئا لنفسه ولا يبيعهما الا الاب لانه غير متهم عليه لكمال شفقته) وبه قال أبو حنيفة ومالك والاوزاعي والشافعي وزادوا الجد وقال زفر لا يجوز لان حقوق العقد تتعلق بالعاقد ولايجوز ان يتعلق به حكمان متضادان، ولنا أن هذا يلي بنفسه فجاز أن يتولى طرفي العقد كالسيد يزوج عبده أمته ولا نسلم ما ذكره من تعلق حقوق العقد بالعاقد، فأما الجد فلا ولاية له على ما ذكرناه فهو كالاجنبي ولان التهمة بين الاب وولده منتفية إذ من طبعه الشفقة عليه والميل إليه وترك حظ نفسه لحظه، وبهذا فارق الوصي والحكم وامينه، فأما الحاكم والوصي فلا يجوز لهما ذلك لانهما متهمان في طلب الحظ لانفسهما فلم يجز ذلك لهما بخلاف الاب
{ مسألة } (ولوليهما مكاتبة رقيقهما وعتقه على مال)
إذا كان الحظ فيه مثل أن تكون قيمته الفا فكاتبه بألفين أو يعتقه بهما فان لم يكن فيها حظ لم يصح، وقال مالك وأبو حنيفة لا يجوز اعتاقه لان الاعتاق بمال تعليق له على شرط فلم يملكه ولي اليتيم كالتعليق على دخول الدار، وقال الشافعي لا يجوز كتابته ولا اعتاقه لان المقصود منهما العتق دون المعاوضة فلم يجز كالاعتاق بغير عوض ولنا أنها معاوضة لليتيم فيها حظ فملكها وليه كبيعه ولا عبرة بنفع العبد ولا يضره كونه تعليقا فانه إذا حصل لليتيم حظ لم يضره نفع غيره ولا كون العتق حصل بالتعليق وفارق ما قاسوا عليه فانه لا نفع فيه لعدم الحظ وانتفاء المقتضي لا لما ذكروه ولو قدر أن يكون في العتق بغير مال نفع كان نادرا وان كان العتق على مال بقدر قيمته أو أقل لم يجز لعدم الحظ فيه، وقال أبو بكر يتوجه جواز العتق بغير عوض للحظ فيه مثل ان تكون له جارية وابنتها يساويان مائة مجتمعتين ولو أفردت إحداهما ساوت مائتين ولا يمكن افرادها بالبيع فيعتق الاخرى لتكثر قيمة الباقية فتصير ضعف قيمتيهما { مسألة } (وله تزويج إمائهما) إذا وجب تزويجهن بأن يطلبن ذلك أو يرى المصلحة فيه لانه ولي عليهن وقائم مقام ما لكهن فكان له تزوجيهن كالمالك.
{ مسألة } (وله السفر بمالهما للتجارة فيه والمضاربة بمال اليتيم والمجنون وله أن يدفعه مضاربة بجزء من الربح) أبا كان أو وصيا أو حاكما أو أمين حاكم وهو أولى من تركه، وممن رأى ذلك ابن عمر والنخعي والحسن بن صالح ومالك والشافعي وأبو ثور ويروى إباحة التجارة به عن عمر وعائشة والضحاك ولا نعلم احدا كرهه الا الحسن ولعله اراد اجتناب المخاطرة به ورأى خزنه احفظ له وهو قول الجمهور لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من ولي يتيما له مال
فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة " وروي موقوفا على عمر وهو أصح من المرفوع ولان
ذلك أحفظ للمولي عليه لتكون نفقته من فاضله وربحه كما يفعله البالغون في أموالهم الا أنه لا يتجر إلا في المواضع الآمنة ولا يدفعه الا إلى الامناء ولا يغرر به، وقد روى عن عائشة أنها أبضعت مال محمد بن أبي بكر في البحر فيحتمل أنه كان في موضع مأمون قريب من الساحل، ويحتمل أنها جعلت ضمانة عليها ان هلك { مسألة } (والربح كله لليتيم) يعني إذا اتجر بنفسه وأجاز الحسن بن صالح واسحاق أن يأخذ الوصي مضاربة لنفسه لانه جاز له ان يدفعه بذلك فجاز ان يأخذه بذلك له، ويتخرج لنا مثل ذلك كما قلنا في الشريك إذا فعل بنفسه ما يجوز له الاجارة عليه فانه يستحق الاجرة في أحد الوجهين كذلك هذا وبه قال أبو حنيفة، والصحيح ما قلناه لان الربح نماء مال اليتيم فلا يستحقه غيره إلا بعقد ولا يجوز أن يعقد الولي المضاربة لنفسه { مسألة } (فأما ان دفعه إلى غيره فللمضارب ما جعل له الولي) ووافقه عليه في قولهم جميعا لان الوصي نائب عن اليتيم فيما فيه مصلحته، وهذا فيه مصلحته فأشبه تصرف المالك في ماله.
(فصل) وله ابضاع ماله وهو دفعه إلى من يتجر به والربح كله لليتيم لانه إذا جاز دفعه بجزء من ربحه فدفعه إلى من يوفر الربح أولى { مسألة } (ويجوز له بيعه نساء إذا كان له الحظ في ذلك) فانه قد يكون اكثر ثمنا وانفع لكن يحتاط على الثمن بأن يأخذ به رهنا أو كفيلا موثوقا يتحفظ الثمن به
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: