الفقه الحنبلي - الحرابة - الخمر
(مسألة) (وان عض انسان انسانا فانتزع يده من فيه فسقطت ثناياه ذهبت هدرا) وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وروى سعيد عن هشيم عن محمد بن عبد الله ان رجلا عض رجلا فانتزع يده من فيه فسقطت بعض اسنان العاض فاختصما إلى شريح فقال
شريح انزع يدك من في السبع وابطل اسنانه وحكي عن مالك وابن أبي ليلى عليه الضمان لقول النبي صلى الله عليه وسلم في السن خمس من الابل ولنا ماروى يعلى بن امية قال كان لي أجير فقاتل رجلا فعض احدهما يد الآخر قال فانتزع المعضوض يده من في العاض فانتزع احد ثنيتيه فاتى النبي صلى الله عليه وسلم فاهدر ثنيته فحسبت انه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم افيدع يده في فمك تقضمها قضم الفحل) متفق عليه ولانه عضو تلف ضرورة دفع شر صاحبه فلم يضمن كما لو صال عليه فلم يمكنه دفعه الا بقطع عضوه وحديثهم يدل على دية السن إذا قلعت ظلما وهذه لم تقلع ظلما وسواء كان المعضوض ظالما أو مظلوما لان العض محرم، الا ان يكون العض مباحا له مثل ان يمسكه في موضع يتضرر بامساكه أو يعصر يده بما لا يقدر على التخلص من ضرره الا بعضه فيعضه فما سقط من أسنانه ضمنه لانه عاد وكذلك لو عض احدهما يد الآخر ولم يمكن المعضوض تخليص يده الا بعضه فله عضه ويضمن الظالم منهما ما تلف من المظلوم وما تلف من الظالم كان هدرا وكذلك الحكم فيما إذا عضه في غير يده أو عمل به عملا غير العض افضى إلى تلف شئ من الفاعل لم يضمنه وقد روى محمد بن عبيد الله أن غلاما أخذ قمعا من اقماع الزياتين فادخله بين رجلي رجل ونفخ فيه فذعر الرجل من ذلك وخبط برجله فوقع على الغلام فكسر بعض اسنانه فاختصموا إلى شريح فقال شريح لا اعقل الكلب الهرار قال القاضي يخلص المعضوض يده بأسهل ما يمكنه، فان امكنه فك لحييه بيده
الاخرى فعل وان لم يمكنه لكمه على فكه فان لم يمكنه فله ان يبعج بطنه وان أتى على نفسه، قال شيخنا
والصحيح ان هذا الترتيب غير معتبر وله ان يجذب يده اولا لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل ولانه لا يلزمه ترك يده في فم العاض حتى يتحيل بهذه الاشياء المذكورة ولان جذب يده تخليص وما حصل من سقوط الاسنان حصل ضرورة التخليص الجائز ولكم فكه جناية غير التخليص وربما تضمنت التخليص وربما اتلفت الاسنان التي لم يحصل العض بها فكانت البداءة بجذب يده اولى وينبغي انه متى امكنه جذب يده فعدل إلى لكم فكه فأتلف سنا ضمنه لامكان التخلص بما هو أولى منه (مسألة) (وان نظر في بيته من خصاص الباب أو نحوه فحذف عينه ففقأها فلا شئ عليه) وجملة ذلك أن من اطلع في بيت إنسان من ثقب أو شق باب أو نحوه فرماه صاحب الدار بحصاة أو طعنه بعود فقلع عينه لم يكن عليه جناح ولا يضمنها، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يضمنها لانه لو دخل منزله ونظر فيه أو نال من امرأته ما دون الفرج لم يجز قلع عينه فبمجرد النظر أولى.
ولنا ما روى ابو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لو أن امرأ اطلع عليك بغير اذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح) وعن سهل بن سعد أن رجلا اطلع في جحر من باب النبي صلى الله عليه وسلم يحك رأسه بمدرى في يده فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لو علمت أنك تنظرني لطمت - أو - لطعنت بها عينك) متفق عليهما، ويفارق ما قاسوا عليه لان من دخل المنزل يعلم به فيستتر منه بخلاف الناظر من ثقب فانه يرى من غير علم به ثم الخبر أولى من القياس، وظاهر كلام أحمد أنه لا يعتبر في هذا أنه
لا يمكنه دفعه إلا بذلك لظاهر الخبر، وقال ابن حامد يدفعه باسهل ما يمكنه دفعه يقول له أولا انصرف فان لم يفعل أشار إليه أنه يحذفه فان لم ينصرف فله حذفه حينئذ واتباع السنة أولى، فان ترك الاطلاع ومضى لم يجز رميه لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يطعن الذي اطلع ثم انصرف، ولانه ترك الجناية فأشبه من عض ثم ترك العض لم يجز قلع اسنانه وسواء كان المكان المطلع منه صغيرا كثقب أو شق أو واسعا كنقب كبير، وذكر بعض أصحابنا أن الباب المفتوح كذلك، والاولى انه لا يجوز حذف من نظر من باب مفتوح، لان التفريط من تارك الباب مفتوجا (مفتوحا) والظاهر أن من ترك الباب مفتوحا أنه يستتر لعلمه أن الناس ينظرون منه وبعلم بالناظر فيه والواقف عليه فلم (يجز رميه) كداخل الدار وان اطلع
فرماه صاحب الدار فقال المطلع ما تعمدته لم يضمنه على ظاهر كلام أحمد، لان الاطلاع قد وجد والرامي لا يعلم ما في قلبه وعلى قول ابن حامد يضمنه لانه لم يدفعه بما هو أسهل وكذلك لو قال لم أر شيئا حين اطلعت، وان كان المطلع أعمى لم يجز رميه لانه لا يرى شيئا ولو كان إنسان عريانا في طريق لم يكن له رمي من نظر إليه لانه المفرط، وان كان المطلع في الدار من محارم النساء اللائي فيها، فقال
بعض أصحابنا ليس لصاحب الدار رميه الا أن يكن متجردات فيصرن كالاجانب، وظاهر الخبر أن لصاحب الدار رميه سواء كان فيها نساء أو لم يكن لانه لم يذكر انه كان في الدار التي اطلع فيها على النبي صلى الله عليه وسلم نساء وقوله (لو ان امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته) عام في الدار التي فيها نساء وغيرها (فصل) وليس لصاحب الدار رمي الناظر بما يقتله ابتداء فان رماه بحجر يقتله أو حديدة تقتله ضمنه بالقصاص لانه إنما له ما يقلع به العين المبصرة التي حصل الاذى منها دون ما يتعدى إلى غيرها فان لم يندفع المطلع برميه بالشئ اليسير جاز رميه بأكبر منه حتى يأتي ذلك على نفسه وسواء كان الناظر في الطريق أو ملك نفسه أو غير ذلك.
باب حد المسكر الخمر محرم بالكتاب والسنة والاجماع.
اما الكتاب فقول الله تعالى (يا ايها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) والآية التي بعدها إلى قوله (فهل أنتم منتهون) واما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم (كل مسكر خمر وكل خمر حرام) رواه الامام احمد وأبو داود، وروى عبد الله بن عمران النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه) رواه أبو داود وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الخمر بأخبار تبلغ بمجموعها رتبة التواتر واجمعت الامة على تحريمه، وإنما حكي عن قدامة ابن مظعون وعمرو بن معد يكرب وأبي جندل بن سهل أنهم قالوا هي حلال لقول الله تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) الآية فبين لهم علماء الصحابة معنى هذه الآية
وتحريم الخمر واقاموا عليهم الحد لشربهم إياه فرجعوا إلى ذلك فانعقد الاجماع فمن استحلها الآن فقد كذب النبي صلى الله عليه وسلم لانه قد علم ضرورة من جهة النقل تحريمه فيكفر بذلك ويستتاب فان تاب
والا قتل روى الجوزجاني باسناده عن ابن عباس ان قدامة بن مظعون شرب الخمر فقال له عمر: ما حملك على ذلك فقال ان الله عزوجل يقول [ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ] الآية واني من المهاجرين الاولين من أهل بدر وأحد فقال عمر للقوم أجيبوا الرجل فسكتوا عنه فقال لابن عباس اجبه فقال انما أنزلها الله عذرا للماضين لمن شربها قبل أن تحرم وأنزل (إنما الخمر والميسر) حجة على الناس، ثم سأل عمر عن الحد فيها فقال علي بن ابي طالب إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فاجلدوا ثمانين فجلده عمر ثمانين: وروى الواقدي ان عمر قال له أخطأت التأويل يا قدامة إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله عليك، وروى الخلال باسناده عن محارب بن دثار أن اناسا شربوا بالشام الخمر فقال لهم يزيد بن ابي سفيان شربتم الخمر؟ قالوا نعم يقول الله تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) الآية فكتب فيهم إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه ان أتاك كتابي هذا نهارا فلا تنتظر بهم إلى الليل وإن اتاك ليلا فلا تنتظر بهم نهارا حتى تبعث بهم إلي لئلا يفتنوا عباد الله فبعث بهم إلى عمر فشاور فيهم الناس فقال لعلي ما ترى؟ فقال ارى انهم
قد شرعوا في دين الله ما لم يأذن الله فيه فان زعموا أنها حلال فاقتلهم فقد احلوا ما حرم الله وان زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين ثمانين فقد افتروا على الله وقد أخبرنا الله بحد ما يفتري بعضنا على بعض قال فجلدهم عمر ثمانين ثمانين.
إذا ثبت هذا فالمجمع على تحريمه عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده وما عداه من الاشربة المسكرة فهو محرم وفيه اختلاف نذكره ان شاء الله تعالى (مسألة) (كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام من أي شئ كان ويسمى خمرا حكمه حكم عصير العنب في تحريمه ووجوب الحد على شاربه) روي تحريم ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وأبي
ابن كعب وأنس وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والقاسم وقتادة وعمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد واسحاق، وقال أبو حنيفة في عصير العنب إذا طبخ وذهب ثلثاه ونقيع التمر والزبيب إذا طبخ وان لم يذهب ثلثاه ونبيذ الحنطة والذرة والشعير ونحو ذلك نقيعا كان أو مطبوخا كل ذلك حلال الا ما بلغ السكر، فأما عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده أو طبخ فذهب اقل من ثلثيه ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد بغير طبخ فهذا محرم قليله وكثيره لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (حرمت الخمرة لعينها والمسكر من كل شراب)
ولنا ماروى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل مسكر خمر وكل خمر حرام) وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أسكر كثيره فقليله حرام) رواهما ابو داود والاثرم وغيرهما وعن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فمل ء الكف منه حرام) رواه أبو داود وغيره وقال عمر رضي الله عنه نزل تحريم الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والبر والشعير، والخمر ما خامر العقل متفق عليه، ولانه مسكر فأشبه عصير العنب فأما حديثهم فقال احمد ليس في الرخصة في المسكر حديث صحيح وحديث ابن عباس رواه سعيد عن مسعر عن أبي عون عن ابن شداد عن ابن عباس قال والمسكر من كل شراب، وقال ابن المنذر جاء اهل الكوفة باحاديث معلولة ذكرناها مع عللها وذكر الاثرم أحاديثهم التي يحتجون بها عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة فضعفها كلها وبين عللها، وقد قيل ان خبر ابن عباس موقوف عليه مع انه يحتمل أنه أراد بالسكر المسكر من كل شراب فانه يروي هو وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (كل مسكر حرام) (مسألة) (ولا يجوز شربه للذة ولا للتداوي ولا لعطش ولا غيره إلا أن يضطر إليه لدفع لقمة غص بها فيجوز)
لا يجوز شربه للذة لما ذكرنا ولا للتداوي بها لذلك، فان فعل فعليه الحد وقال أبو حنيفة يباح شربها للتداوي، وللشافعي وجهان كالمذهبين، وله وجه ثالث يباح للتداوي دون العطش لانها حال
ضرورة فابيح فيها كدفع الغصة وسائر ما يضطر إليه ولنا ماروى الامام احمد باسناده عن طارق بن سويد انه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال انما أصنعها للدواء فقال (انه ليس بدواء ولكنه داء) وباسناده عن مخارق ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة وقد نبذت نبيذا في جرة فخرج والنبيذ يهدر فقال (ما هذا؟) فقالت فلانة اشتكت بطنها فنقعت لها فدفعه برجله فكسره وقال (ان الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاء) ولانه محرم لعينه فلم يبح للتداوي كلحم الخنزير، ان شربها للعطش وكانت ممزوجة بما يروي من العطش أبيحت لدفعه عند الضرورة كما تباح الميتة عند المخمصة وكاباحتها لدفع الغصة، وقد روينا في حديث عبد الله بن حذافة أنه حبسه طاغية الروم في بيت فيه ماء ممزوج بخمر ولحم خنزير مشوي ليأكله ويشرب الخمر وتركه ثلاثة أيام فلم يفعل ثم اخرجوه حين خشوا موته فقال والله لقد كان الله احله لي فاني مضطر ولكن لم اكن
أشمتكم بدين الاسلام وان كانت صرفا أو ممزوجة بشئ يسير لا يروي من العطش لم تبح وعليه الحد وقال أبو حنيفة تباح وهو أحد الوجهين لاصحاب الشافعي لانه حال ضرورة ولنا أن العطش لا يندفع به فلم يبح كما لو تداوى بها فيما لا يصلح له فاما شربها لدفع الغصة فيجوز كما يجوز أكل الميتة في حال المخمصة ولا نعلم في ذلك خلافا (مسألة) (ومن شربه مختارا عالما أن كثيره يسكر قليلا كان أو كثيرا فعليه الحد ثمانين جلدة وعنه أربعون) ولا نعلم بينهم خلافا في عصير العنب غير المطبوخ، واختلفوا في سائرها فمذهب احمد التسوية بين عصير العنب وغيره من المسكرات وهو قول الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة والاوزاعي ومالك والشافعي، وقالت طائفة لا يحد إلا أن يسكر، منهم ابو وائل والنخعي وكثير من أهل الكوفة وأصحاب الرأي، وقال ابو ثور من شربه معتقدا تحريمه حد، ومن شربه متأولا فلا حد عليه لانه مختلف فيه فأشبه النكاح بلا ولي ولنا ماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من شرب الخمر فاجلدوه) رواه ابو داود وغيره وقد
ثبت أن كل مسكر خمر فيتناول الحديث قليله وكثيره ولانه شراب فيه شدة مطربة فوجب الحد بقليله كالخمر والاختلاف فيها لا يمنع وجوب الحد فيها بدليل مالو اعتقد تحريهما، وبهذا فارق النكاح بلا ولي وغيره من المختلف فيه وقد حد عمر رضي الله عنه قدامة بن مظعون وأصحابه مع اعتقادهم حل ما شربوه والفرق بين هذا وبين سائر المختلف فيه من وجهين (أحدهما) أن فعل المختلف فيه ههنا داعية إلى فعل ما أجمع على تحريمه وفعل سائر المختلف فيه يصرف عن جنسه من المجمع على تحريمه (الثاني) ان السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قد استفاضت بتحريم المختلف فيه فلم يبق فيه لاحد عذر في اعتقاد إباحته بخلاف غيره من المجتهدات.
قال احمد بن القاسم سمعت ابا عبد الله يقول في تحريم المسكر عشرون وجها عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعضها (كل مسكر خمر) وبعضها (كل مسكر حرام) (فصل) وحده ثمانون في احدى الروايتين، وبهذا قال مالك والثوري وأبو حنيفة ومن تبعهم لاجماع الصحابة فانه روي ان عمر استشار الناس في حد الخمر فقال عبد الرحمن اجعله كأخف
الحدود ثمانين فضرب عمر ثمانين وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشام، وروي أن عليا قال في المشورة إنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفتري روى ذلك الجوزجاني والدارقطني وغيرهما (والرواية الثانية) أن الحد أربعون وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي لان عليا رضي الله عنه جلد الوليد بن عقبة اربعين ثم قال جلد النبي صلى الله عليه وسلم اربعين وأبو بكر اربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي رواه مسلم، وعن أنس قال اتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر فضربه بالنعال نحوا من اربعين ثم أتي به ابو بكر فصنع مثل ذلك ثم أتي به عمر فاستشار الناس في الحدود فقال ابن عوف أقل الحدود ثمانون فضربه عمر متفق عليه وفعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة لا يجوز تركه لفعل غيره ولا ينعقد الاجماع على ما خالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعلي رضي الله عنهما فتحمل الزيادة على أنها تعزير يجوز فعلها إذا رآها الامام (فصل) وانما يلزم الحد من شربها مختارا لشربها فان شربها مكرها فلا حد عليه ولا اثم سواء
أكره بالوعيد أو الضرب أو ألجئ إلى شربها بأن يفتح فوه وتصب فيه فان النبي صلى الله عليه وسلم قال
(عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه النسائي وكذلك من اضطر إليها لدفع غصة بها إذا لم يجد مائعا سواها فان الله تعالى قال في آية التحريم (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) وكذلك ان شربها لعطش شديد وكانت ممزوجة بما يروي من العطش فانها تباح بذلك عند الضرورة كما تباح الميتة في المخمصة (فصل) فإذا ثرد في الخمر أو اصطبغ به أو طبخ به لحما فأكل من مرقه فعليه الحد لان عين الخمر موجودة وكذلك ان لت به سويقا فأكله فان عجن به دقيقا فخبزه وأكله لم يحد لان النار أكلت أجزاء الخمر فلم يبق الا أثره، وإن احتقن بالخمر لم يحد لانه ليس بشرب ولا أكل ولانه لم يصل إلى حلقه فأشبه مالو داوى به جرحه فان استعط به فعليه الحد لانه أوصله إلى باطنه من حلقه ولذلك نشر الحرمة في الرضاع دون الحقنة، وحكي عن أحمد أن على من احتقن به الحد لانه اوصله إلى جوفه والاول أولى لما ذكرنا (فصل) ويشترط لوجوب الحد على من شربها ان يعلم ان كثيرها يسكر فان لم يعلم فلا حد عليه لانه غير عالم بالتحريم ولا قصد ارتكاب المعصية بها فأشبه من رفت إليه غير امرأته وهذا قول عامة
أهل العلم فأما من شربها غير عالم بتحريمها فلا حد فيه أيضا لان عمر وعثمان قالا لا حد الا على من علمه ولانه غير عالم بالتحريم أشبه من لم يعلم أنها خمر، ومتى ادعى الجهل بتحريمها وكان ناشئا ببلد الاسلام بين المسلمين لم تقبل دعواه لان هذا لا يكاد يخفى على مثله فلم تقبل دعواه فيه وإن كان حديث عهد بالاسلام أو ناشئا ببادية بعيدة عن البلد قبل منه لانه يحتمل ماقاله (مسألة) (والرقيق على النصف من ذلك) أي على النصف من حد الحر وهو أربعون ان قلنا إن الحد ثمانون ويستوي في ذلك العبد والامة وعلى الرواية الاخرى عشرون (فصل) ويجلد العبد والامة بدون سوط الحر ذكره الخرقي لانه لما خفف عنه في عدده خفف
عنه في صفته كالتعزير مع الحد ويحتمل أن يكون سوطه كسوط الحر لانه انما يتحقق التنصيف إذا كان السوط مثل السوط، أما إذا كان نصفا في عدده وأخف منه في سوطه كان أقل من النصف والله سبحانه قد أوجب النصف بقوله (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) (مسألة) (والذمي لا يحد بشربه في الصحيح عنه) لانه يعتقد حله فلم يحد بفعله كنكاح المجوس ذوات محارمهم، وعنه يحد لانه شرب مسكرا عالما به مختارا أشبه شارب النبيذ إذا اعتقد حله
(فصل) ولا يجب الحد حتى يثبت شربه باحد شيئين الاقرار أو البينة ويكفي الاقرار مرة واحدة في قول عامة أهل العلم لانه لا يتضمن اتلافا فأشبه حد القذف، ومتى رجع عن اقراره قبل رجوعه لانه حد لله سبحانه فقبل رجوعه كسائر الحدود ولا يعتبر مع الاقرار وجود الرائحة وحكي عن أبي حنيفة لا حد عليه الا أن توجد رائحة ولنا انه أحد بينتي الشرب فلم يعتبر معه وجود الرائحة كالشهادة ولانه قد يقر بعد زوال الرائحة عنه ولانه اقرار بحد فاكتفي به كسائر الحدود (مسألة) (وهل يجب الحد بوجود الرائحة؟ على روايتين) لا يجب الحد برائحة الخمر من فيه في قول أكثر أهل العلم منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي وعن أحمد أنه يحد بذلك رواها عنه أبو طالب وهو قول مالك لان ابن مسعود جلد رجلا وجد منه رائحة الخمر، وروي عن عمر أنه قال اني وجدت من عبيد الله ريح شراب فأقر أنه شرب الطلاء فقال عمر اني سائل عنه فان كان ينكر جلدته، ولان الرائحة تدل على شربه فجرى مجرى الاقرار والاول أولى لان الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها أو ظنها ماء فلما صارت في فيه مجها أو ظنها لا تسكر أو كان مكرها أو أكل نبقا بالغا أو شرب شراب التفاح فانه يكون منه كرائحة الخمر وإذا
احتمل ذلك لم يجب الحد الذي يدرأ بالشبهات وحديث عمر حجة لنا فانه لم يكتف بوجود الرائحة
ولو وجب ذلك لبادر إليه عمر (فصل) وإن وجد سكران أو تقيأ الخمر فعن أحمد لا حد عليه لاحتمال أن يكون مكرها أو لم يعلم أنها تسكر وهذا مذهب الشافعي، ورواية أبي طالب عنه في الحد بالرائحة تدل على وجوب الحد ههنا بطريق الاولى لان ذلك لا يكون الا بعد شربها فأشبه ما لو قامت البينة عليه بشربها وقد روى سعيد ثنا هشيم ثنا المغيرة عن الشعبي قال لما كان من أمر قدامة ما كان جاء علقمة الخصي قال أشهد أني رأيته يتقيؤها فقال عمر من قاءها فقد شربها فضربه الحد، وروى حصين بن المنذر الرقاشي قال شهدت عثمان واتي بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر فشهد أحدهما أنه رآه شربها وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها فقال عثمان انه لم يتقيأها حتى شربها فقال لعلي أقم عليه الحد فأمر علي عبد الله بن جعفر فضربه رواه مسلم وفي رواية قال له عثمان لقد تنطعت في الشهادة وهذا بمحضر من علماء الصحابة وسادتهم فلم ينكر فكان اجماعا ولانه يكتفى بالشهادة عليه أنه شربها ولا يتقايؤها أو لا يسكر منها حتى يشربها
(فصل) وأما البينة فلا تكون الا رجلين عدلين مسلمين يشهدان أنه شرب مسكرا ولا يحتاجان إلى بيان نوعه لانه لا ينقسم إلى ما يوجب الحد والى مالا يوجبه بخلاف الزنا فانه يطلق على الصريح وعلى دواعيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (العينان تزنيان واليدان تزنيان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) فلهذا احتاج الشاهد إلى تفسيره وفي مسئلتنا لا يسمى غير المسكر مسكرا فلم يفتقر إلى ذكر نوعه، ولا يفتقر في الشهادة إلى ذكر عدم الاكراه ولا ذكر علمه أنه مسكر لان الظاهر الاختيار والعلم وما عداهما نادر فلم يحتج إلى إثباته ولذلك لم يعتبر في شئ من الشهادات ولم يعتبره عثمان في الشهادة على الوليد بن عقبة ولا عمر في الشهادة على قدامة بن مظعون ولا في الشهادة على المغيرة بن شعبة ولو شهد بعتق أو طلاق لم يفتقر إلى ذكر الاختيار كذا ههنا
(مسألة) (والعصير إذا اتت عليه ثلاثة أيام حرم إلا ان يغلى قبل ذلك فيحرم نص عليه) اما إذا غلي العصير كغليان القدر وقذف بزبده فلا خلاف في تحريمه، وان اتت عليه ثلاثة أيام
ولم يغل فقال أصحابنا هو حرام وقال أحمد اشربه ثلاثا ما لم يغل فإذا اتت عليه أكثر من ثلاثة أيام فلا تشربه، وأكثر أهل العلم يقولون هو مباح ما لم يغل ويسكر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (اشربوا في كل وعاء ولا تشربو مسكرا) اخرجه أبو داود، ولان علة تحريمه الشدة المطربة وانما ذلك في المسكر خاصة ووجه الاول ما روى أبو داود باسناده عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقى الخدم أو يهراق، وروى الشالنجي باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (اشربوا العصير ثلاثا ما لم يغل) وقال ابن عمر اشربه ما لم يأخذه شيطانه قيل وفي كم يأخذه شيطانه؟ قال في ثلاث ولان الشدة تحصل في الثلاث غالبا وهي خفية تحتاج
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: