الفقه الحنبلي - كتاب القاضي الى القاضي
* (مسألة) * (وإذا ادعى بيعا أو عقدا سواه فهل يشترط ذكر شروطه؟ يحتمل وجهين) أما سائر العقود من البيع والاجارة والصلح وغيرها فلا يفتقر إلى الكشف وذكر
الشروط في أصح الوجهين لانه لا يحتاط لها ولا يفتقر إلى الولي والشهود فلم يفتقر إلى الكشف كدعوى العين
وسواء كان المبيع حارية أو غيرها لانها مبيع فأشبهت العبد وكذلك إذا كان المدعى عبدا أو دينا لم يحتج إلى ذكر السبب لان أسباب ذلك تكثر ولا تنحصر وربما خفي على المستحق سبب استحقاقه فلا يكلف بيانه ويكفيه ان يقول استحق هذه العين التي في يده وأستحق كذا وكذا في ذمته ويقول في البيع اني اشتريت هذه الجارية بألف درهم أو بعتها منه بذلك ولا يحتاج ان يقول وهي ملكه أو وهي ملكي ونحن جائز الامر وتفرقنا عن تراض، وذكر أبو الخطاب في العقود وجها آخر انه يشترط ذكر شروطها قياسا على النكاح وذكر أصحاب الشافعي هذين الوجهين ووجها ثالثا ان كان المبيع جارية اشترط ذكر شروط البيع لانه عقد يستباح به الوطئ أشبه النكاح، وإن كان المبيع غيرهما لم يشترط لعدم ذلك والاول أولى لانها دعوى فيما لا يشترط فيه الولي والشهود أشبه دعوى العين وما لزم ذكره في الدعوى فلم يذكر سأله الحاكم عنه لتصير الدعوى معلومة فيمكن الحاكم الحكم بها.
* (مسألة) * (وإن ادعت المرأة نكاحا على رجل وادعت معها نفقه أو مهرا سمعت دعواها وإن لم تدع سوى النكاح فهل تسمع دعواها؟ على وجهين) إذا ذكرت المرأة مع دعوى الزوجية حقا من حقوق النكاح كالمهر والنفقة ونحوها فان دعواها تسمع بغير خلاف نعلمه لانها تدعي حقا لها تضيفه إلى سببه فتسمع دعواها كما لو ادعت اضافته إلى الشراء
وان افردت دعوى النكاح فقال القاضي تسمع دعواها أيضا لانه سبب لحقوق لها فتسمع دعواها كالبيع وقال أبو الخطاب فيه وجه آخر انه لا تسمع دعواها لان النكاح حق للزوج عليها فلا تسمع دعواها حقا لغيرها وان قلنا بالاول سئل الزوج فان أنكر ولم تكن بينة فالقول قوله بغير يمين لانه إذا لم تستحلف المرأة والحق عليها فلالا لا يستحلف من الحق له وهو ينكره أولى ويحتمل ان يستحلف لان دعواها انما سمعت لتضمنها دعوى حقوق مالية تشرع فيها اليمين وان أقامت البينة بالنكاح ثبت لها ما تضمنه النكاح من حقوقها وأما اباحتها فتبنى على باطن الامر فان علم انها أمرأته حلت له لان انكاره النكاح ليس بطلاق ولا نوى به الطلاق وان علم انها ليست امرأته إما العدم العقد أو
لبينونتها لم تحل له وهل يمكن منها في الظاهر؟ يحتمل وجهين (احدهما) يمكن منها لان الحاكم قد حكم بالزوجية (والثاني) لا يمكن منها لاقراره على نفسه بتحريمها عليه فيقبل قوله في حق نفسه دون ما عليه كما لو تزوج امرأة ثم قال هي اختي من الرضاعة فإذا ثبت هذا فان دعواها النكاح كدعوى الزوج فيما ذكرناه من الكشف عن سبب النكاح وشرائط العقد ومذهب الشافعي قريب مما ذكرنا في هذا الفصل * (مسألة) * (وان ادعى قتل موروثه ذكر القاتل وانه انفرد به أو شاركه فيه غيره وانه قتله عمدا أو خطأ أو شبه عمد ويصفه) ويذكر صفة العمد لانه قد يعتقد ما ليس بعد عمدا فلا يؤمن ان يقتص ممن لا يجب له القصاص عليه وهو مما لا يمكن تلافيه فوجب الاحتياط فيه
* (مسألة) * (وان ادعى الارث ذكر سببه) لان اسبابه تختلف ولابد في الشهادة من ان تكون على سبب معين فكذلك في الدعوى * (مسألة) * (وان ادعى سيفا محلى يذهب قومه بغير جنس حليته وان كان محلى يذهب وفضة قومه بما شاء منهما للحاجة) * (فل) * قال الشيخ رحمه الله (وتعتبر في البينة العدالة ظاهرا وبالنا في اختيار الخرقي والقاضي وعنه نقبل شهادة كل مسلم لم يظهر منه ريبة اختارها أبو بكر فان جهل اسلامه رجع إلى قوله والمذهب الاول) وجملة ذلك ان الحاكم إذا شهد عنده شاهدان فان عرف عدالتهما حكم بشهادتهما وان عرف فسقهما لم يقبل قولهما وان لم يعرف حالهما سأل عنهما لان معرفة العدالة شرط في جميع الحقوق وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وعن أحمد رواية أخرى يحكم بشهادتهما إذا عرف اسلامهما بظاهر الحال الا ان يقول الخصم هما فاسقان وهذا قول الحسن والمال والحد في ذلك سواء لان الظاهر من المسلمين العدالة ولهذا قال عمر رضي الله عنه المسلمون عدول بعضهم على بعض وروي ان اعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد برؤية الهلال فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اتشهد ان لا إله إلا الله؟ " قال نعم فصام
وأمر الناس بالصيام، ولان العدالة امر خفي سببها الخوف من الله عزوجل ودليل ذلك الاسلام فإذا وجد فليكتف به ما لم يقم على طلاقه دليل وقال أبو حنيفة في الحدود والقصاص كالرواية الاولى وفي سائر الحقوق كالثانية لان الحدود والقصاص مما يحتاط لهما وتندرئ بالشبهات بخلاف غيرها
ولنا ان العدالة شرط فوجب العلم بها كالاسلام وكما لو طعن الخصم فيهما فأما الاعرابي المسلم فانه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبتت عدالتهم بثناء الله تعالى عليهم فان من ترك دينه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إيثار الدين الاسلام وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت عدالته وأما قول عمر فالمراد به الظاهر العدالة ولا يمنع ذلك وجوب البحث ومعرفة حقيقة العدالة فقد روي عنه انه اتي بشاهدين فقال لست اعرفكما ولا يضركما ان لم اعرفكما جيئا بمن يعرفكما فأتيا برجل فقال له عمر تعرفهما؟ فقال نعم فقال عمر صحبتهما في السفر الذي تبين فيه جواهر الناس؟ قال لا قال عاملتهما في الدراهم والدنانير التي تقطع فيها الرحم؟ قال لا قال كنت جارا لهما تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال لا قال يا ابن أخي لست تعرفهما جيئا بمن يعرفكما وهذا بحث يدل على انه لا يكتفى بدونه.
إذا ثبت هذا فان الشاهد يعتبر فيه أربعة شروط الاسلام والبلوغ والعقل والعدالة وليس فيها ما يحفى ويحتاج إلى البحث الا العدالة فيحتاج إلى البحث عنها لقول الله تعالى (ممن ترضون من الشهداء) ولا يعلم انه مرضي حتى يعرفه أو يخبر عنه فيأمر الحاكم بكتب اسمائهم وكناهم ونسبهم ويرفع فيها ما يتميزون به عن غيرهم ويكتب صنائعهم ومعائشهم وموضع مساكنهم وصلاتهم ليسأل عنهم جيرانهم وأهل سوقهم ومسجدهم ومحلتهم ويحكيهم فيكتب اسودا وأبيض أو انزع أو أغم أو أشهل أو أكحل اقني الانف أو افطس رقيق الشفتين أو غليظهما طويل أو قصير أو ربعة ونحو هذا التمييز ولا يقع اسم على اسم ويكتب اسم المشهود له وقدر الحق ويكتب ذلك كله لاصحاب مسائله لكل واحد رقعة وانما ذكرنا المشهود له لئلا يكون بينه وبين الشاهد عدواة وذكرنا قدر الحق لانه ربما كان ممن يرون قبوله في اليسير دون الكثير فتطيب نفس المزكي به إذا كان يسيرا ولا تطيب إذا كان كثيرا
وينبغي للقاضي ان يخفي عن كل واد من أصحاب مسائله ما يعطي الآخر من الرقاع لئلا يتواطئوا، وان
شاء الحاكم عين لصاحب مسائله من يسأله ممن يعرفه من جيران الشاهد وأهل الخبرة به وان شاء أطلق ولم يعين المسئول ويكون السؤال سرا لئلا يكون فيه هتك المسئول عنه وربما يخاف المسؤل من الشاهد والمشهود له والمشهود عليه ان يخبر بما عنده أو يستحي وينبغي ان يكون أصحاب مسائله غير معروفين لئلا يقصدوا بهدية أو رشوة وان يكونوا أصحاب عفاف في الطعمة والانفس ذوي عقول وافرة ايرياء من الشحناء والبغضة لئلا يطعنوا في الشهود ويسألوا عن الشاهد عدوه فيطعن فيه فيضيع حق المشهود له ولا يكونوا من أهل الاهواء والعصبية يميلون إلى من وافقهم على من خالفهم ويكونون امناء ثقات لان هذا موضع أمانة وإذا رجع أصحاب مسائله فأخبر اثنان بالعدالة قبلت شهادته وان أخبر بالجرح رد شهادته وان أخبر احدهما بالجرح والآخر بالتعديل بعث آخرين فان عادا فأخبرا با التعديل تمت بينة التعديل وسقط الجرح لان بينته لم تتم وان أخبرا بالجرح ثبت ورد الشهادة وإن أخبر أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل لم تتم البينتان ويقدم الجرح ولا يقبل الجرح والتعديل الا من اثنين ويقبل قول أصحاب المسائل وقيل لا تقبل شهادة المسؤولين ويكلف اثنين منهم ان يشهدوا بالتزكية والجرح عنده على شرط الشهادة واللفظ وغيره ولا يقبل من صاحب المسألة لان ذلك شهادة على شهادة مع حضور شهود الاصل ووجه القول الاول ان شهادة أصحاب المسائل شهادة استفاضة لا شهادة على شهادة فيكتفى بمن يشهد بها كسائر شهادات الاستفاضة ولانه موضع حاجة فانه لا يلزم المزكي الحضور للتزكية وليس للحاكم اجباره عليها فصار كالمرض والغيبة في سائر الشهادات ولاننا لو لم نكتف بشهادة أصحاب المسائل لتعذرت التزكية لانه قد لا يكون في جيران الشاهد من يعرفه للحاكم فلا يعرفه الحاكم فيفوت الجرح والتعديل (فصل) ولا بد للحاكم من معرفة اسلام الشاهد قاله القاضي ويحصل ذلك باحد أمور أربعة
(أحدها) إخباره عن نفسه أنه مسلم وإتيانه بكلمة الاسلام وهي شهادة ألا اله الا الله وأن محمدا رسول الله لانه لو لم يكن مسلما صار بذلك مسلما (الثاني) اعتراف المشهود عليه باسلامه لانه حق عليه (الثالث) خبرة الحاكم لاننا اكتفينا بذلك في عدالته فكذلك في اسلامه (الرابع) ان تقوم به بينة ولا بد من معرفة الحرية في موضع تعتبر فيه ويكفي في ذلك أحد امور ثلاثة البينة أو اعتراف
المشهود عليه أو خبرة الحاكم ولا يكفي اعتراف الشاهد لانه لا يملك ان يصير حرا فلا يملك الاقرار به (فصل) إذا شهد عند الحاكم مجهول الحال فقال المشهود عليه هو عدل ففيه وجهان (احداهما) يلزم الحاكم بشهادته لان البحث عن عدالته لحق المشهود عليه وقد اعترف بها ولانه إذا أقر بعدالته فقد أقر بما يوجب الحكم لخصمه عليه فيؤخذ اقراره كسائر أقاريره (والثاني) لا يجوز الحكم بشهادته لان الحكم بها تعديل فلا يثبت بقول واحد ولان اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى ولهذا لو رضي الخصم بان يحكم عيه بقول فاسق لم يجز الحكم به لانه لا يخلوا اما ان يحكم عليه مع تعديله أو مع انتفائه، لا يجوز ان يقال مع تعديله لان التعديل لا يثبت بقول الواحد ولا يجوز مع انتفاء تعديله لان الحكم بشهادة غير العدل لا يجوز بدليل شهادة من ظهر فسقه ومذهب الشافعي مثل هذا فان قلنا بالاول فلا يثبت تعديله في غير المشهد عليه لانه لم يوجد منه التعديل وانما حكم عليه لاقراره بوجود شرط الحكم، واقراره يثبت في حقه دون غيره * (مسألة) * (وإن علم الحاكم عدالتهما عمل بعلمه وحكم بشهادتهما) لا نعلم فيه خلافا وإذا عرف عدالة الشهود قال للمشهود قد شهدا عليك فان كان عندك ما يقدح
في شهادتهم فبينه عندي فان لم يقدح في شهادتهم حكم عليه لان الحق قد صح على وجه لا اشكال فيه * (مسألة) * (الا أن يرتاب بهما فيفرقهما ويسال كل واحد منهما كيف تحملت الشهادة؟ ومتى؟ وفي أي موضع؟ وهل كنت وحدك أو انت وصاحبك؟ فان اختلفا لم يحكم بشهادتهما وإن اتفقا وعظهما وخوفهما فان ثبتا حكم بها إذا ساله المدعي) وجملة ذلك ان الحاكم إذا ارتاب بشهادة الشهود احتاج إلى البحث عنهم لقول الله تعالى (ممن ترضون من الشهداء) ولا نعلم أنه مرضي حتى نعرفه أو نخبر عنه فيفرقهما ليظهر له حالهما فيفرقهم ويسال كل واحد عن شهادته وصفتها فيقول كنت أول من شهد أو كتب أو لم يكتب وفي أي مكان شهدت؟ وفي اي شهر؟ واي يوم؟ وهل كنت وحدك أو مع غيرك؟ فان اختلفوا سقطت شهادتهم لانه قد ظهر له ما يمنع قبولها ويقال أول من فعل هذا دانيال وقيل سليمان عليهما السلام وهو صغير
وروي عن علي رضي الله عنه ان سبعة نفر خرجوا فقد واحد منهم فاتت زوجته عليا تدعي على الستة فسألهم علي فانكروا وفرقهم وأقام كل واحد منهم عند سارية ووكل به من يحفظه فدعا واحدا منهم فسأله فانكر فقال الله أكبر فظن الباقون أنه قد اعترف فدعاهم فاعترفوا فقال للاول قد شهدوا عليك وأنا قاتلك فاعترف فقلتهم * (مسألة) * (وان اتفقوا وعظهم وخوفهم كما روي عن شريح أنه كان يقول للشاهدين إذا حضرا يا هذان الا تريان؟ اني لم ادعكما ولست أمنعكما ان ترجعا وانما يقضي على هذا أنتما وأنا متق بكما فاتقيا وفي لفظ فاني بكما اقضي وبكما اتقي يوم القيامة)
وروى أبو حنيفة قال كنت عند محارب بن دثار وهو قاضي الكوفة فجاء رجل فادعى على رجل حقا فانكره فاحضر المدعي شاهدين فشهدا له فقال المشهود عليه والذي تقوم به السماء والارض لقد كذبا علي في الشهادة وكان محارب بن دثار متكئا فاستوى جالسا وقال سمعت ابن عمر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ان الطير لتخفق باجنحتها وترمي ما في حواصلها من هول يوم القيامة وان شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار " فان صدقتما فاثبتا وان كذبتما فغطيا رؤوسكما وانصرفا * (فصل) * قال رحمه الله (ينبغي للقاضي ان يسال عن شهوده كل قليل لان الرجل ينتقل من حال إلى حال وهل هذا مستحب أو واجب؟ فيه وجهان) (أحدهما) مستحب لان الاصل بقاء ما كان فلا يزول حتى يثبت الجرح (والثاني) يجب البحث كلما مضت مدة يتغير الحال فيها لان العيب يحدث وذلك على ما يراه الحاكم، ولاصحاب الشافعي وجهان مثل هذين * (مسألة) * (وليس للحاكم ان يرتب شهودا لا يقبل غيرهم) لان الله تعالى قال (وأشهدوا ذوي عدل منكم) ولان فيه اضرارا بالناس وتضيبقا عليهم لان كثيرا من الوقائع التي يحتاج إلى البينة فيها تقع عند غير المرتبين فمتى ادعى انسان شهادة غير المرتبين وجب على الحاكم سماع بينته والنظر في عدالة شاهديه ولا يجوز ردهما بكونهما من غير المرتبين
لان ذلك يخالف الكتاب والسنة والاجماع لكن له ان يرتب شهود اشهدهم الناس فيستغنون باشهادهم عن تعديلهم ويستغني الحاكم عن الكشف عن احوالهم فيكون فيه تخفيف من وجه ويكونون ايضا يزكون من عرفوا عدالته من غيرهم إذا شهد * (مسألة) * (فان ثبتا حكم بشهادتهما لان الظاهر صدقهما ولا يحكم حتى يسأله المدعي لان الحق وقد ذكرناه) (فصل) إذا اتصلت به الحادثة واستنارت به الحجة لاحد الخصمين حكم إذا سأله لما بينا وإن كان فيها لبس أمرهما بالصلح فان ابيا أخرهما إلى البيان فان عجلها قبل البيان لم يصح حكمه، وممن رأى الاصلاح بين الخصوم شريح وعبد الله بن عتبة وأبو حنيفة والشعبي والعنبري وروي عن عمر أنه قال ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فان فصل القضاء يحدث بين القوم الضغئن قال أبو عبيد انما يسعه الصلح في الامور المشكلة، أما إذا استنارت الحجة لاحد الخصمين وتبين له موضع الظلم فليس له أن يحمله على الصلح ونحوه قول عطاء واستحسنه ابن المنذر، وروي عن شريح أنه ما أصلح بين متحاكمين إلا مرة واحدة (فصل) وإذا حدثت حادثة نظر في كتاب الله والا نظر في سنة رسول الله فان لم يجدها نظر في القياس فالحقها باشبه الاشياء بها لما روى عمرو بن الحارث بن أخي المغيرة بن شعبة عن رجل من أصحاب معاذ من اهل حمص عن معاذ ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن " بم تحكم؟ - قال بكتاب الله قال - فان لم تجد - قال بسنة رسول الله قال - فان لم تجد؟ - قال اجتهد رأيي ولا آلو قال - الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله " فان قيل عمرو بن
أخي المغيرة والرجال مجهولون قلنا قد رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ ثم انه حديث مشهور في كتب اهل العلم رواه سعيد بن منصور والامام أحمد وغيرهما وتلقاه العلماء بالقبول وجاء عن الصحابة من قولهم ما يوافقه فروى سعيد ان عمر قال لشريح انظر ما تبين لك في كتاب الله
فاتبع فيه السنة وما لم يتبين ذلك في السنة فاجتهد فيه رأيك وعن ابن مسعود مثل ذلك * (مسألة) * (وإن جرحهما المشهود عليه كلف البينة بالجرح فان سال الانظار وانظر ثلاثا ليجرحهما) لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في كتابه إلى أبي موسى: واجعل لمن ادعى حقا غائبا امدا ينتهي إليه، فان أحضر بينة أخذت له حقه وإلا استحللت القضية عليه فانه انفي للشك وأجلى للعمى * (مسألة) * وللمدعي ملازمته الا ان يقيم بينة بالجرح) لان الحق قد ثبت في الظاهر فإذا لم يقم بينة بالجرح حكم عليه لظهور الحق * (مسألة) * (ولا يسمع الجرح الا مفسرا بما يقدح في العدالة ويعتبر فيه اللفظ فيقول أشهد اني رأيته يشرب الخمر أو سمعته يقذف أو رأيته يظلم الناس باخذ أموالهم أو ضربهم أو يعامل بالربا أو يعلم ذلك بالاستفاضة في الناس ولا بد من ذكر السبب وتعيينه) وبهذا قال الشافعي وسوار وعنه يكفي ان يشهد أنه فاسق وليس بعدل وبه قال أبو حنيفة لان التعديل يسمع مطلقا وكذلك الجرح لان التصريح بالسبب يجعل الجارح فاسقا يوجب عليه الحد في بعض الحالات وهو ان يشهد عليه بالزنا فيفضي الجرح إلى جرح الجارح وتبطل شهادته ولا يتجرح بها المجروح
ولنا أن الناس يختلفون في أسباب الجرح كاختلافهم في شارب يسير النبيذ فوجب ان لا يقبل بمجرد الجرح لئلا يجرحه بما لا يراه القاضي جرحا ولان الجرح ينقل عن الاصل فان الاصل في المسلمين العدالة والجرح ينقل عنها فلا بد ان يعرف الناقل لئلا يعتقد نقله بما لا يراه الحاكم ناقلا وقولهم إنه يفضي إلى جرح الجارح وايجاب الحد عليه قلنا ليس كذلك لانه يمكنه التعريض من غير تصريح فان قيل ففي بيان السبب هتك المجروح قنا لا بد من هتكه فان الشهادة عليه بالفسق هتك ولكن جاز ذلك للحاجة الداعية إليه كما جازت الشهادة عليه به لاقامة الحد عليه بل ههنا أولى فان فيه دفع الظلم عن المشهود عليه وهو حق آدمي فكان أولى بالجواز لان هتك عرضه بسببه لانه تعرض للشهادة مع ارتكابه ما يوجب جرحه فكان هو الهاتك لنفسه إذ كان فعله المحوج للناس إلى جرحه
فان صرح الجارح بقذفه بالزنا فعليه الحد إن لم يأت بتمام أربعة شهداء وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا حد عليه إذا كان بلفظ الشهادة لانه لم يقصد ادخال المعرة عليه ولنا قول الله سبحانه (والذين يرمون المحصنات ثم لم ياتوا باربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) ولان أبا بكرة ورفيقه شهدوا على المعيرة بالزنا ولم يكمل زياد شهادته فجلدهم عمر حد القذف بمحضر من الصحابة ولم ينكره منكر فكان اجماعا ويبطل ما ذكروه بما شهدوا عليه لاقامة الحد عليه (فصل) فان أقام المدعي بينة ان هذين الشاهدين شهدا بذا الحق عند حاكم فردت شهادتهما لفسقهما بطلت شهادتهما لان الشهادة إذا ردت لفسق لم تقبل مرة ثانية (فصل) ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء وقال أبو حنيفة يقبل لانه لا يعتبر فيه لفظ الشهادة فاشبه الرواية وأخبار الديانات
ولنا أنها شهادة فيما ليس بمال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال في غالب الاحوال فاشبه الشهادة في القصاص وما ذكروه ممنوع (فصل) ولا يقبل الجرح من الخصم بلا خلاف بين العلماء فلو قال المشهود عليه هذان فاسقان أو عدوان أو أبا المشهود له لم يقبل قوله لانه متهم في قوله ويشهد بما يجر إلى نفسه نفعا فاشبه الشهادة لنفسه ولاننا لو قبلنا قوله لم يشأ أحد ان يبطل شهادة من شهد عليه إلا أبطلها فتضيع الحقوق وتذهب حكمة البينة (فصل) ولا تقبل شهادة المتوسمين، وذلك إذ حضر مسافران فشهدا عند حاكم لا يعرفهما لم تقبل شهادتهما، وقال مالك يقبلهما إذا رأى منها سيما الخير لانه لا سبيل إلى معرفة عدالتهما ففي التوقف عن قولهما تضييع الحقوق فوجب الرجوع فيهما إلى السيماء الجميلة ولنا ان عدالتهما مجهولة فلم يجز الحكم بشهادتهما كشاهدي الخضر وما ذكروه معارض بأن قبول شهادتهما يفضي إلى القضاء بشهادتهما في دفع الحق إلى غير مستحقه * (مسألة) * (وإن شهد عنده فاسق يعرف حاله قال للمدعي زدني شهودا)
ولا يقبل قوله لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) ويقول للمدعي زدني شهودا لئلا يفضحه
* (مسألة) * (وإن جهل حاله طالب المدعي بتزكيته) لانه روي عن عمر رضي الله عنه أنه أتي بشاهدين فقال لهما اني لا أعرفكما ولا يضركما ان لم أعرفكما جيئا بمن يعرفكما ولان العدالة شرط في قبول الشهادة على ما ذكرنا فإذا شك في وجودها كانت كعدمها كشروط الصلاة * (مسألة) * (ويكفي في التزكية شاهدان يشهدان أنه عدل رضي ولا يحتاج في التزكية ان يقول علي ولي) وهذا قول اكثر اهل العلم وبه يقول شريح وأهل العراق ومالك وبعض الشافعية وقال اكثرهم لا يكفيه الا أن يقول علي ولي واختلفوا في تعليله فقال بعضهم لئلا تكون بينهم عداوة أو قرابة وقال بعضهم لئلا يكون عدلا في شئ دون شئ ولنا قوله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم) فان شهدا أنه عدل ثبت ذلك بشهادتهما فيدخل في عموم الآية ولانه إذا كان عدلا لزم أن يكون له وعليه وفي حق سائر الناس وفي كل شئ فلا يحتاج إلى ذكره ولا يصح ما ذكروه فان الانسان لا يكون عدلا في شئ دون شي؟ ء ولا في حق شخص دون شخص فانها لا توصف بهذا ولا تنتفي أيضا بقوله علي ولي فان من ثبتت عدالته لم تزل بقرابة ولا عداوة وانما ترد شهادته للتهمة مع كونه عدلا ثم ان هذا إذا كان معلوما انتفاؤه بينهما لم يحتج إلى ذكره ولا نفيه عن نفسه ولان العداوة لا تمنع من شهادته له بالتزكية وانما تمنع الشهادة عليه وهذا شاهد له بالتزكية والعدالة فلا حاجة إلى نفي العداوة (فصل) ولا يكفي ان يقول ما أعلم منه إلا الخير وهذا مذهب الشافعي وقال أبو يوسف يكفي لانه إذا كان من أهل الخبرة به ولا يعلم منه الا الخير فهو عدل
ولنا أنه لم يصرح بالتعديل فلم يكن تعديلا كما لو قال أعلم منه خيرا وما ذكروه لا يصح لان
الجاهل بحال أهل الفسق لا يعلم منهم الا الخير لانه يعلم اسلامهم وهو لا يعلم منهم غير ذلك وهم غير عدول، قال أصحابنا ولا يقبل التعديل الا من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة وهو مذهب الشافعي لخبر عمر الذي قدمناه، ولان عادة الناس اظهار الطاعات وإسرار المعاصي فان لم يكن ذا خبرة باطنة فربما اغتر بحسن ظاهره وهو فاسق في الباطن وهذا يحتمل ان يريد الاصحاب بما ذكروه ان الحاكم إذا علم ان المعدل لا خبرة له لم تقبل شهادته بالتعديل كما فعل عمر رضي الله عنه ويحتمل أنهم أرادوا أنه لا تجوز للمعدل الشهادة بالعدالة إلا ان تكون له خبرة باطنة، فاما الحكم إذا شهد عنده العدل بالتعديل ولم يعرف حقيقة الحال فله ان يقبل الشهادة من غير كشف، وان استكشف الحال كما فعل عمر رضي الله عنه فحسن * (مسألة) * (وان عدله اثنان وجرحه اثنان فالجرح أولى) وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك ينظرا أيهما أعدل الذان جرحاه أو الذان عدلاه؟ فيؤخذ بقول أعدلهما ولنا ان الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدل فوجب تقديمه لان التعديل متضمن ترك الريب والجارح مثبت لوجود ذلك والاثبات مقدم على النفي ولان الجارح يقول رأيته يفعل والمعدل مستنده أنه لم يره يفعل ويمكن صدقهما والجمع بين قوليهما بان يراه الجارح يفعل المعصية ولا يراه المعدل فيكون مجروحا
* (مسألة) * (وان سأل المدعي حبس المشهود عليه حتى يزكي شهوده فهل يحبس؟ على وجهين) (أحدهما) يحبس لان الظاهر العدالة وعدم السبق ولان الذي على الغريم قد أتى به وإنما بقي ما كان على الحاكم وهو الكشف عن عدالة الشهود (والثاني) لا يحبس لان الاصل براءة الذمة وقيل يحبس في المال فقط * (مسألة) * (وان اقام شاهدا وسأل حبسه حتى يقيم الاخر حبسه ان كان في المال) لان الشاهد حجة فيه وإنما اليمين معونه له، وان كان في غيره لم يحبس لانه لا يكون حجة في
اثباته أشبه ما لو لم يقم شاهدا وفيه وجه آخر أنه يحبس كالتي قبلها والاول أولى لانه إن حبس ليقيم شاهدا آخر لتتم بهما البينة فهو كالحق الذي لا يثبت الا بشاهدين، وان حبس ليحلف معه فلا حاجة إليه لان الحلف ممكن في الحال، فان حلف ثبت حقه وإلا لم يجب شئ، ويحتمل ان يقال ان كان المدعي بازلا لليمين والتوقف لاثبات عدالة الشاهدين حبس كما ذكرنا في التي قبلها، وان كان التوقف عن الحكم لغير ذلك لم يحبس لما ذكرناه قال القاضي وكل موضع حبس فيه بشاهدين دام الحبس حتى تثبت عدالة الشهود أو فسقهم، وكل موضع حبس لشاهد واحد فانه يقال للمشهود له ان جئت بشاهد آخر إلى بكيت والا اطلقناه، وان اقام شاهدين فحبس حتى يزكي شهوده فقيل يمهل ثلاثة أيام أيضا كالتي قبلها وهو أولى ان شاء الله تعالى لان الحبس عقوبة فإذا قلنا يحبس حتى يزكي شهوده فكل من أراد حبس خصمه أقام شاهدين مجهولين لا يعرفهما الحاكم ويبقى خصمه في الحبس دائما وهذا ضرر كثير مع ان الاصل براءة الذمة فاما الثلاثة أيام فهي يسيره
(فصل) إذا ادعى العبد ان سيده اعتقه وأقام شاهدين لم يعدلا فسأل الحاكم ان يحول بينه وبين سيده إلى ان يبحث الحاكم عن عدالة الشهود فعل الحاكم ذلك ويؤجره من ثقة ينفق عليه من كسبه ويحبس الباقي فان عدل الشاهدان ان أسلم إليه الباقي من كسبه وان فسقا رد إلى سيده وإنما حلنا بينهما لما ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا، ولاننا لو لم نحل بينهما افضى إلى ان تكون امة يطؤها وان أقام شاهدا واحدا وسأل ان يحال بينهما ففيه وجهان (فصل) وان أقامت المرأة شاهدين يشهدان بطلاقها ولم تعرف عدالة الشهود حيل بينه وبينها وان أقامت شاهدا واحدا لم يحل بينهما لان البينة لم تتم وهذا مما لا يثبت الا بشاهدين * (مسألة) * (وان حاكم إليه من لا يعرف لسانه ترجم له من يعرف لسانه) إذا تحاكم إلى القاضي العربي اعجميان أو أعجمي وعربي فلا بد من مترجم عنهما * (مسألة) * (ولا يقبل في الترجمة والجرح والتعديل والتعريف والرسالة الا قول عدلين) وبهذا قال الشافعي وعن أحمد انه يقبل واحد وهذا اختيار أبي بكر عبد العزيز وابن المنذر
وقول أبي حنيفة قال ابن المنذر في حديث زيد بن ثابت ان النبي صلى الله عليه وسلم امره ان يتعلم كتاب يهود قال فكنت أكتب له إذا كتب إليهم وأقرأ له إذا كتبوا ولانها مما لا تفتقر إلى لفظ الشهادة فاجزأ فيها الواحد كاخبار الديانات ولانه نقل ما خفي عن الحاكم إليه فيما يتعلق بالمتحاكمين فوجب فيه العدد كالشهادة ولان ما لا يفهمه الحاكم وجوده عنده كغيبته فإذا ترجم له كان كنقل الاقرار إليه من غير مجلسه ولا يقبل ذلك الا من شاهدين كذا ههنا فعلى هذه الرواية تكون الترجمة شهادة تفتقر إلى العدد
والعدالة ويعتبر فيها من الشروط ما يعتبر في الشهادة على الاقرار بذلك الحق فان كان مما يتعلق بالحدود والقصاص اعتبر فيه الحرية ولم يكف الا شاهدان ذكران ان كان مما لا يكفي فيه ترجمة رجل وامرأتين ولم تعتبر الحرية فيه وإن كان في حد زنا خرج في الترجمة وجهان (احدهما) لا يكفي فيه أقل من أربعة رجال احرار عدول (والثاني) يكفي فيه اثنان بناء على الروايتين في الشهادة على الاقرار بالزنا ويعتبر فيه لفظ الشهادة لانه شهادة وإن قلنا يكفي فيه واحد فلا بد من عدالته ولا يقبل من كافر ولا فاسق ويقبل من العبد لانه من أهل الشهادة ولرواية وقال أبو حنيفة لا يقبل من العبد لكونه ليس من أهل الشهادة ولنا انه خبر يكفي فيه قول الواحد فيقبل فيه خبر العبد كاخبار الديانات ولا نسلم ان هذه شهادة ولان العبد ليس من أهل الشهادة ولا يعتبر فيه لفظ الشهادة كالرواية وعلى هذا الاصل ينبغي ان يقبل فيه ترجمة المرأة إذا كانت من أهل العدالة لان روايتها مقبولة، فأما الجرح والتعديل فلا يكون الا من اثنين وبهذا قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن وابن المنذر وعن أحمد يقبل ذلك من واحد وهو اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة لانه خبر ولا يعتبره فيه لفظ الشهادة فيقبل من واحد كالرواية ولنا انه إثبات صفة من يبني الحاكم حكمه على صفته فاعتبر العدد كالحضانة وفارق الرواية فانها على المساهلة ولا نسلم انها لا تفتقر إلى لفظ الشهادة (فصل) والحكم في التعريف والرسالة كالحكم في الترجمة وفيها من الخلاف ما فيها، ذكره شيخنا في الكتاب المشروح وذكره الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب
* (مسألة) * (ومن ثبتت عدالته مرة فهل يحتاج إلى تجديد البحث عن عدالته مرة أخرى؟ على وجهين) وجملة ذلك أن من ثبتت، عدالته ثم شهد عند الحاكم بعد ذلك بزمن قريب حكم بشهادته وعدالته لان عدالته ثبتت وان كان بعده بزمن طويل ففيه وجهان (احدهما) لا يحتاج إلى ذلك (والثانى) يحتاج لان من طول الزمان تتغير الاحوال * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (وإن ادعى على غائب أو مستتر في البلد أو ميت أو صبي أو مجنون وله بينة سمعها الحاكم وحكم بها) من ادعى حقا على غائب في بلد آخر وطلب من الحاكم سماع البينة والحكم بها عليه فعلى الحاكم إجابته إذا كملت الشروط وبهذا قال إبن شبرمة ومالك والشافعي والاوزاعي والليث وسوار وأبو عبيد وإسحاق وإبن المنذر وكان شريح لا يرى القضاء على الغائب وعن أحمد مثله وبه قال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وروي ذلك عن القاسم والشعبي إلا ان أبا حنيفة قال إذا كان له خصم حاضر من وكيل أو شفيع جاز الحكم عليه واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعل " إذا تقاضي اليك رجلان فلا تقض للاول حتى تسمع كلام الآخر فانك تدري بما تقضي " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ولانه قضاء لاحد الخصمين وحده فلم يجز كما لو كان الآخر في البلد ولانه يجوز ان يكون الغائب مما يبطل البينة ويقدح فيها فلم يجز الحكم عليه
ولنا ان هندا قالت يا رسول الله ان أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي قال " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " متفق عليه ففضى عليه لها ولم يكن حاضرا، ولان هذا بينة مسموعة وعادلة فجاز الحكم بها كما لو كان الخصم حاضرا يقدم عليه إذا كان غائبا كسماع البينة وأما حديثهم فنقول به إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع كلامهما وهذا يقتضي أن يكونا حاضرين ويفارق الحاضر الغائب فان البينة لا تسمع على حاضر الا بحضرته والغائب بخلافه، وقد ناقض أبو حنيفة
أصله فقال إذا جاءت امرأة فادعت ان لها زوجا غائبا وله مال في يد رجل وتحتاج إلى النفقة فاعترف لها بذلك فان الحاكم يقضي عليه بالنفقة، ولو ادعى على حاضر أنه اشترى من غائب ما فيه شفعة وأقام بينة بذلك حكم بالبيع والاخذ بالشفعة ولو مات المدعى عليه فحضر بعض ورثته أو حضر وكيل الغائب وأقام المدعي بينة حكم له بما ادعاه، والغيبة المعتبرة إلى مسافة القصر لانها التي تبنى عليها الاحكام (فصل) وكذلك الحكم في المستتر في البلد لانه تعذر حضوره اشبه الغائب بل أولى فان الغائب معذور ولا عذر للمستتر نص عليه أحمد في رواية حرب وروى حرب باسناده عن أبي موسى قال كان الخصمان إذا اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتعدا الموعد فوفى أحدهما ولم يوف الآخر قضى للذي وفى ولانه لو لم يحكم عليه لجعل الاستتار وسيلة إلى تضييع الحقوق * (مسألة) * (والميت المدعى عليه كالغائب بل أولى) لان الغائب قد يحضر بخلاف الميت
قال الشاعر: وكل ذي غيبة يؤوب * وغائب الموت لا يؤوب وكذلك الصبي والمجنون المدعى عليهما يجوز سماع البينة عليهما والحكم عليهما لانه لا يعبر عن نفسه فهو كالغائب وفي المستتر قول آخر يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
* (مسألة) * (وهل يحلف المدعى عليه إذا لم يبرأ إليه منه ولا من شئ منه؟ على روايتين) وجملة ذلك ان البينة إذا قامت على غائب أو غير مكلف كالصبي والمجنون لم يستحلف المدعي مع يمينه في أشهر الروايتين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " ولانها بينة عادلة فلم تجب اليمين معها كما لو كانت على حاضرة والثانية يستحلف معها وقول الشافعي لانه يجوز ان يكون استوفى ما قامت به البينة أو ملكه العين التي قامت بها البينة، ولو كان حاضرا فادعى ذلك لوجبت اليمين فإذا تعذر ذلك منه لغيبته أو عدم تكليفه يجب ان يقوم الحاكم مقامه فيما يمكن دعواه ولان الحاكم مأمور بالاحتياط في حق الصبي والمجنون والغائب لان كل ولاحد منهم لا يعبر عن نفسه وهذا من الاحتياط والاولى ظاهر المذهب * (مسألة) * (ثم إذا قدم الغائب أو بلغ الصبى أو أفاق المجنون فهو على حجته)
أما إذا قدم الغائب عن الحكم فان الحكم يقف على حضوره وان جرح الشهود لم يحكم عليه وان استنظر الحاكم أجله ثلاثا فان أقام البينة بجرحهم والا حكم عليه وان ادعى القضاء أو الابراء وكانت له بينة به برئ والا حلف المدعي وحكم، له وان قدم بعد الحكم فجرح الشهود بأمر كان قبل الشهادة
بطل الحكم لفوات شرطه، وان جرحهم بأمر بعد اداء الشهادة أو مطلقا لم يبطل الحكم ولم يقبله الحاكم لجواز ان يكون بعد الحكم فلا يقدح فيه (فصل) ولا يقضي على الغائب الا في حقوق الآدميين فأما في الحدود التي لله تعالى فلا يقضي بها عليه لان مبناها على المساهلة والاسقاط فان قامت بينة على غائب بسرقة مال حكم بالمال دون القطع (فصل) ظاهر كلام احمد انه إذا قضى على الغائب بعين سلمت إلى المدعي وإن قضى عليه بدين ووجد له مال احذ منه فانه قال في رواية حرب في رجل أقام بينة ان له سهما من ضيعة في ايدي قوم فتواروا عنه يقسم عليهم شهدوا أو غابوا ويدفع إلى هذا حقه ولانه ثبت حقه بالبينة فيسلم إليه كما لو كان خصمه حاضرا ويحتمل ألا يدفع إليه شئ حتى يقيم كفيلا انه متى حضر خصمه وابطل دعواه فعليه ضمان ما اخذه لئلا ياخذ المدعي ما حكم له به ثم يأتي خصمه فيبطل حجته أو يقيم بينة بالقضاء والابراء أو يملك العين التي قامت بها البينة بعد ذهاب المدعي أو موته فيضيع مال المدعى عليه، وظاهر كلام احمد الاول فانه قال في رجل عنده دابة مسروقة فقال هي عندي وديعة إذا اقيمت البينة انها له تدفع إلى الذي اقام البينة حتى يجئ صاحب الوديعة فيثبت.
* (مسألة) * (وإن كان الخصم في البلد غائبا عن المجلس لم تسمع البينة حتى يحضر فان امتنع من الحضور سمعت البينة وحكم بها في إحدى الروايتين، وفي الاخرى لا تسمع حتى يحضر فان أبي بعث إلى صاحب الشرطة ليحضره فان تكرر منه الاستتار أقعد على بابه من يضيق عليه في دخوله وخروجه حتى يحضر).
وجملة ذلك أن الحاضر في البلد أو قريبا منه إذا لم يمتنع من الحضر لم يحكم عليه قبل
حضوره في قول أكثر أهل العلم ولاصحاب الشافعي وجه أنه يقضي عليه في غيبته لانه غائب أشبه الغائب البعيد.
ولنا انه أمكن سؤاله فان امتنع من الحضور أو توارى فظاهر كلام أحمد جواز القضاء عليه لما ذكرنا عنه في رواية حرب وروى عنه ابو طالب في رجل وجد غلامه عند رجل فأقام البينة انه غلامه فقال الذي عنده الغلام أودعني هذا رجل فقال احمد أهل المدينة يقضون على الغائب ويقولون انه لهذا الذي أقام البينة وهو مذهب حسن وأهل البصرة يقضون على غائب يسمونه الاعذار وهو إذا ادعى على رجل الفا وأقام بينة فاختفى المدعى عليه يرسل إلى بابه فينادي الرسول ثلاثا فان جاء والا فقد أعذروا إليه فهذا يقوي قول أهل المدينة وهو مذهب حسن، قد ذكر الشريف ابو جعفر وابو الخطاب انه يقضى عى الغائب الممنع وهو مذهب الشافعي لانه تعذر حضوره وسؤاله فجاز القضاء عليه كالغائب البعيد بل هو أولى لان البعيد معذور وهذا لا عذر له وعلى القول الآخر إذا امتنع من الحضور بعث إلى صاحب الشرطة ليحضره فان تكرر منه الاستتار أقعد على بابه من يضيق عليه في دخوله وخروجه حتى يحضر لان ذلك طريق إلى حضوره وتخليص الحق منه.
* (مسألة) * (وان ادعى ان أباه مات عنه وعن أخ له غائب وله مال في يد فلان أو دين عليه فاقر المدعى عليه أو ثبتت بينته سلم إلى المدعي نصيبه وأخذ الحاكم نصيب الغائب فحفظ له ويحتمل انه إذا كان المال دينا ان يترك نصيب الغائب في ذمة الغريم حتى يقدم).
وجملة ذلك أن من ادعى أن أباه مات وخلفه وأخا غائبا لا وارث له سواهما وترك في يد انسان
دارا أو عينا منقوله فأقر له صاحب اليد أو أنكر فثبت ما ادعاه ثبت ما في يد المدعي للميت وانتزع من يد المنكر فدفع نصفها إلى المدعي وجعل النصف الآخر في يد أمين للغائب تكرمة له ان كان يمكن كراؤه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ان كان مما لا ينقل ولا يحول ومما ينحفظ ولا يخاف هلاكه لم ينزع نصيب الغائب من يد المدعى عليه لان الغائب لم يدعه هو ولا وكيله فلم ينزع من يد من هو فيه كما لو ادعى أحد الشريكين دارا مشتركة بينه وبين أجنبي فانه يسلم إلى المدعي نصيبه
ولا ينزع نصيب الغائب كذا ههنا.
ولنا انها تركة ميت ثبتت ببينة فوجب ان ينزع نصيب الغائب كالنقول وكما لو كان أخوه صغيرا أو مجنونا ولان في بقائه له ضررا لانه قد يتعزر على الغائب اقامة البينة وقد يموت الشاهدان أو يغيبا أو تزول عدالتهما ويعزل الحاكم فيضيع حقه فوجب أن يحفظ بانتزاعه كالمنقول ويفارق الشريك للاجنبي اجمالا وتفصيلا، أما الاجمال فان المنقول ينتزع نصيب شريكه في الميراث ولا ينزع نصيب الاجنبي وأما التفصيل فان البينة ثبت بها الحق للميت بدليل انه تقضى منه ديونه وتنفذ منه وصاياه ولان الاخ يشاركه فيما أخذه إذا تعذر عليه اخذ الباقي فأما ان كان دينا في ذمة انسان فهل يقبض الحاكم نصيب الغائب؟ فيه وجهان.
(أحدهما) يقبضه كما يقبض العين (والثاني) لا يقبضه لانه إذا كان في ذمة من هو عليه كان أحوط من أن يكون امانة في يد الامين لانه لا يؤمن عليه التلف إذا قبضه والاول أولى لان في الذمة يعرض التلف بالفلس والموت وعزل الحاكم وتعذر البينة إذا ثبت هذا فاننا إذا دفعنا إلى الحاضر نصف العين أو الدين لم نطالبه بضمين لاننا دفعناه بقول الشهود والمطالبة بالضمين طعن عليهم قال أصحابنا سواء كان الشاهدان من أهل الخبرة الباطنة أو لم يكونا، ويحتمل ان لا تقبل شهادتهما في نفي وارث آخر حتى يكونا من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة لانه ليس من أهل المعرفة لان جهله بالوارث دليل على عدمه فلا يكتفى به وهذا قول الشافعي فعلى هذا تكون الدار موقوفة فلا يسلم إلى الحاضر نصفها حتى يسأل الحاكم ويكشف عن المواضع التي كان يطرقها وينادي مناديا ينادي ان فلانا مات فان كان له وارث فليأت فإذا غلب على ظنه انه لو كان له وارث ظهر دفع إلى الحاضر نصيبه وهل يطلب منه ضمين يحتمل وجهين وكذلك الحكم إذا كانا من أهل الخبرة الباطنة لكن لم يقولا ولا نعلم له وارثا سواه.
(فصل) فان كان مع الابن ذو فرض فعلى ظاهر المذهب يعطى فرضه كاملا وعلى هذا التخريج يعطى اليقين فان كانت له زوجة أعطيت ربع الثمن عائلا فيكون ربع التسع لجواز أن يكون
له اربع زوجات وان كانت له جدة ولم يثبت موت أمه لم يعط شيئا وان علم موتها أعطيت ثلث السدس لجواز أن يكون له ثلاث جدات وتعطاه عائلا فيكون ثلث العشر ولا يعطى العصبة شيئا لجواز ان يكون وارث يحجبه وان كان زوجا أعطي الربع عائلا وهو الخمس لجواز أن تكون المسألة عائلة فيعطى اليقين فإذا كشف الحاكم أعطى الزوج نصيبه وكمل لذوي الفروض فروضهم.
(فصل) إذا اختلفا في دار في يد أحدهما فأقام المدعي بينة ان الدار كانت ليست ملكه أو منذ شهر فهل تسمع البينة ويقضي بها على وجهين.
(أحدهما) تسمع ويحكم بها لانها تثبت الملك في الماضي وإذا ثبت استديم حتى يعلم زواله (والثاني) لا تسمع، قال القاضي هو الصحيح لان الدعوى لا تسمع ما لم يدعي المدعي الملك في الحال فلم يسمع ما لم يدعه لكن ان انضم إلى شهادتهما بيان سبب يد الثاني وتعريف تعديها فقالا نشهد انها كانت ملكه أمس فغصبها هذا منه أو سرقها أو ضلت منه فالتقطها هذا ونحو ذلك سمعت وقضي بها لانه إذا لم يتبين السبب فاليد دليل الملك ولا تنافي بين ما شهدت به البينة وبين دلالة اليد لجواز أن يكون ملكه أمس ثم ينتقل إلى صاحب اليد فإذا ثبت أن سبب اليد عدوان خرجت عن كونها دليلا فوجب القضاء باستدامة الملك السابق، فان أقر المدعى عليه انها كانت للمدعي أمس أو فيما مضى سمع اقراره في الصحيح وحكم به لانه حينئذ يحتاج إلى سبب انتقالها إليه فيصير هو المدعي فيحتاج إلى بينة ويفارق البينة من وجهين.
(احدهما) انه أقوى من البينة لكونها شهادة الانسان على نفسه ويزول به النزاع بخلاف البينة (الثاني) أن البينة لا تسمع إلا على ما ادعاه والدعوى يجب ان تكون معلقة بالحال والاقرار يسمع ابتداء، فان شهدت البينة أنها كانت في يده أمس ففي سماعها وجهان، وإن أقر المدعى عليه بذلك فالصحيح أنها تسمع ويقضي بها لما ذكرنا.
* (مسألة) * (وإن ادعى انسان أن الحاكم حكم له بحق فصدقه قبل قول الحاكم وحده) وان لم يذكر الحاكم ذلك فشهد عدلان انه حكم له به قبل شهادتهما وأمضى القضاء وكذلك
ان شهدا أن فلانا وفلانا شهدا عندك بكذا قبل شهادتهما) إذا ادعى انسان على الحاكم إنك حكمت لي بهذا الحق على خصمي فذكر الحاكم حكمه أمضاه وألزم خصمه ما حكم به عليه وليس هذا حكما بالعلم انما هو امضاء لحكمه السابق وان لم يذكره القاضي فشهد عنده شاهدان على حكمه لزمه قبولهما وامضاء القضاء وبه، قال ابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن قال القاضي هذا قياس قول أحمد لانه قال يرجع الامام إلى قول اثنين فصاعدا من المأمومين وقال أبو حنيفة وابو يوسف والشافعي لا يقبل لانه لا يمكنه الرجوع إلى الاحاطة والعلم فلا يرجع إلى الظن كالشاهد إذا نسي شهادته نشهد عنده شاهدان انه شهد لم يكن له ان يشهد.
ولنا انهما لو شهدا عنده بحكم غيره قبل فكذلك إذا شهدا عنده بحكمه فانهما شهدا بحكم حاكم وما ذكروه لا يصح لان ذكر ما نسيه إليه ويخالف الشاهد لان الحاكم يمضي ما حكم به إذا ثبت عنده والشاهد لا يقدر على إمضاء شهادته وإنما يمضيها الحاكم وكذلك ان شهدا ان فلانا وفلانا شهدا عندك بكذا قبل شهادتهما على الشاهدين كما يقبل شهادتهما على الحق نفسه * (مسألة) * (وإن لم يشهد به أحد لكن وجده في قمطره في صحيفة تحت ختمه بخطه فهل ينفذه؟ على روايتين) (إحداهما) لا ينفذه إلا أن يذكره نص عليه احمد في الشهادة قاله بعض أصحابنا وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ومحمد بن الحسن (والثانية) انه يحكم به وبه قال ابن أبي ليلى قال شيخنا وهذا الذي رأيته عن احمد في الشهادة لانه إذا كان في قمطره تحت ختمه لم يحتمل أن يكون إلا صحيحا ووجه الاولى انه حكم حاكم لم يعلمه فلم يجز انفاذه إلا ببينة كحكم غيره ولانه يجوز أن يزور عليه وعلى خطه وختمه والخط يشبه الخط فان قيل فلو وجد في دفتر أبيه حقا على انسان جاز له أن يدعيه ويحلف عليه فلنا هذا يخالف الحكم والشهادة بدليل الاجماع على أنه لو وجد خط أبيه بشهادة لم يجز أن يحكم بها ولا يشهد بها ولو وجد حكم أبيه مكتوبا بخطه لم يجز له انفاذه ولانه يمكنه الرجوع فيما حكم به إلى نفسه لانه فعله فروعي ذلك، وأما ما كتبه ابوه فلا يمكنه الرجوع فيه إلى نفسه فكفى فيه الظن
* (مسألة) * (وكذلك الشاهد إذا وجد خطه بشهادة في كتاب ولم يذكرها فهل له أن يشهد بها؟ على روايتين)
(إحداهما) له أن يشهد بها لان الظاهر انه خطه (والثانية) لا يشهد بها إلا أن يذكرها لانها قد تتزور على خطه وقد وجد ذلك (فصل) قال الشيخ رحمه الله ومن كان له على انسان حق ولم يمكنه أخذه بالحاكم وقدر له على مال لم يجز أن يأخذ قدر حقه نص عليه احمد واختاره عامة شيوخنا وجملة ذلك انه إذا كان لرجل على غيره حق وهو مقر به باذل له لم يكن له أن يأخذ من ماله إلا ما يعطيه بلا خلاف بين أهل العلم فان أخذ من ماله شيئا بغير إذنه لزمه رده إليه وإن كان قد حقه لانه لا يجوز أن يملك عليه عينا من أعيان ماله بغير اختياره لغير ضرورة وإن كانت من جنس حقه لانه قد يكون للانسان غرض في العين فان أتلفها أو تلفت فصارت دينا في ذمته وكان الثابت في ذمته من جنس حقه تقاصا في قياس المذهب والمشهور من مذهب الشافعي وان كان مانعا له لامر يبيح المنع كالتأجيل والاعسار لم يجز أخذ شئ من ماله بغير خلاف، وان أخذ شيئا لزمه رده ما كان باقيا أو عوضه ان كان تالفا ولا يحصل التقاص ههنا لان الدين الذي له لا يستحق أخذه في الحال بخلاف التي قبلها، وإن كان ماله بغير حق وقدر على استخلاصه بالحاكم والسلطان لم يجز له الاخذ أيضا بغير خلاف لانه قدر على استيفاء حقه ممن يقوم مقامه فأشبه ما لو قدر على استيفائه من وكيله، وان لم يقدر على ذلك لكونه جاحدا له ولا بينة به ولكونه لا يجيبه إلى المحاكمة ولا يمكنه إجباره على ذلك أو نحو هذا فالمشهور في المذهب انه ليس له أخذ قدر حقه وهو إحدى الروايتين عن مالك قال ابن عقيل قد جعل أصحابنا المحدثون بجواز الاخذ وجها في المذهب أخذا من حديث هند حين قال لها النبي صلى الله عليه وسلم " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وقال أبو الخطاب ويتخرج لنا جواز الاخذ فان كان المقدور عليه قدر حقه من جنسه أخذه وإن كان من غير جنسه تحرى واجتهد في تقويمه لما ذكرنا من حديث هند، ومن قوله الرهن يركب
ويحلب بقدر ما ينفق والمرأة تأخذ مؤنتها، وبائع السلعة يأخذها من مال المفلس بغير رضاه وقال الشافعي إن لم يقدر على استخلاص حقه ببينة فله أخذ قدر حقه من جنسه أو من غير جنسه وان كان له بينة وقدر على استخلاصه ففيه وجهان والمشهور من مذهب مالك انه إن لم يكن لغيره عليه دين فله أن يأخذ بقدر حقه وإن كان عليه دين لم يجز لانهما يتحاصان في ماله إذا أفلس وقال أبو حنيفة له أن يأخذ بقدر حقه إن كان عينا أو ورقا أو من جنس حقه، وإن كان المال عرضا لم يجز لان أخذ العرض عن حقه اعتياض ولا تجوز المعاوضة إلا برضاء من المتعاوضين قال الله
تعالى (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) واحتج من أجاز الاخذ بحديث هند حين جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ان أبا سفيان رجل صحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " متفق عليه وإذا جاز لها أن تأخذ من مالها ما يكفيها بغير إذنه جاز للرجل الذي له الحق على الرجل ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أد الامانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " رواه الترمذي وقال حديث حسن ومتى أخذ منه قدر حقه من ماله بغير إذنه فقد خانه فيدخل في عموم الخبر وقال عليه الصلاة والسلام " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه " ولانه إن أخذ من غير جنسه كان معاوضة بغير تراض، وإن أخذ من جنس حقه فليس له تعيين الحق بغير رضاء صاحبه فان التعيين إليه ألا ترى انه لا يجوز له أن يقول لا آخذ حقي إلا من هذا الكيس دون هذا ولان كل ما لا يجوز له تملكه إذا لم يكن له دين لا يجوز له أخذه إذا كان له دين كما لو كان باذلا له فاما حديث هند فان احمد اعتذر عنه بأن حقها واجب عليه في كل وقت وهذا اشارة منه إلى الفرق بالمشقة في المحاكمة في كل وقت والمخاصمة كل يوم تجب فيه النفقة بخلاف الدين، وفرق أبو بكر بينهما بفرق آخر وهو ان قيام الزوجية كقيام البينة فكأن الحق صار معلوما بعلم قيام مقتضيه وبينهما فرقان آخران (احداهما) ان للمرأة من البسط في ماله بحكم العادة ما يؤثر في إباحة أخذ الحق وبذل اليد فيه بالمعروف بخلاف الاجنبي
(الثاني) ان النفقة تراد لاحياء النفس وابقاء المهجة وهذا مما لا يصبر عنه ولا سبيل إلى تركه فجاز أخذ ما تندفع به هذه الحاجة بخلاف الدين حتى يقول لو صارت النفقة ماضية لم يكن لها أخذها ولو وجب لها عليه دين آخر لم يكن لها أخذه فعلى هذا ان أخذ شيئا لزمه رده ان كان باقيا وان كان تالفا وجب مثله ان كان مثليا أو قيمته ان كان متقوما فان كان من جنس دينه تقاصا وتساقطا في قياس المذهب وان كان من غير جنسه غرمه، ومن جوز من أصحابنا الاخذ فانه ان وجد جنس حقه جاز له الاخذ بقدر حقه من غير زيادة وليس له الاخذ من غير جنسه مع قدرته على جنس حقه، وان لم يجد الا من جنس غير حقه فيحتمل أن لا يجوز له تملكه لانه لا يجوز له أن يبيعه من نفسه وهذا يبيعه من نفسه وتلحقه فيه تهمة، ويحتمل أن يجوز له ذلك كما قالوا الرهن ينفق عليه إذا كان محلوبا أو مركوبا
يحلب ويركب بقدر النفقة وهي من غير الجنس.
واختلف أصحاب الشافعي في هذا فمنهم من جوزه له ومنهم من قال: يواطئ رجلا يدعي عليه عند الحاكم دينا فيقر له بملك الشي المأخوذ الذي أخذه فيمتنع من عليه الدعوى من قضاء الدين ليبيع الحاكم الشئ المأخوذ ويدفعه إليه * (مسألة) * (وحكم الحاكم لا يزيل الشئ عن صفته في الباطن وذكر ابن أبي موسى عنه رواية أخرى انه يزيل العقود والفسوخ) ذهب جمهور العلماء إلى أن حكم الحاكم لا يزيل الشئ عن صفته في الباطن منهم مالك والاوزاعي والشافعي واحمد وإسحاق وابو ثور وداود ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة إذا حكم بعقد أو فسخ أو طلاق نفذ حكمه ظاهرا وباطنا، فلو ان رجلين تعمدا الشهادة على رجل انه طلق امرأته فقبلهما القاضي بظاهر عدالتهما ففرق بين الزوجين لجاز لاحد الشاهدين نكاحها بعد قضاء عدتها وهو عالم بتعمد الكذب، ولو ان رجلا ادعى نكاح امرأه وهو يعلم انه كاذب وأقام شاهدي زور فحكم الحاكم حلت له بذلك وصارت زوجته قال ابن المنذر وتفرد أبو حنيفة فقال لو استأجرت امرأة شاهدين شهدا لها بطلاق زوجها وهما يعلمان كذبها وتزويرها فحكم الحاكم بطلاقها يحل لها أن تتزوج وحل لاحد الشاهدين نكاحها، واحتج بما روي عن علي رضي الله عنه ان رجلا ادعى على امرأة نكاحا فرفعها إلى علي رضي الله عنه فشهد له شاهدان بذلك
فقضى بينها وبالزوجية فقالت والله ما تزوجني يا أمير المؤمنين اعقد بيننا عقدا حتى أحل له فقال شاهداك زوجاك فدل على أن النكاح ثبت بحكمه ولان اللعان يفسخ به النكاح وان كان أحدهما كاذبا فالحكم أولى ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " انما انا بشر مثلكم وانكم تختصمون الي ولعل بعضكم ان يكون الحن بحجته من بعض فاقضي له على نحو ما اسمع منه فمن قضيت له بشئ من حق اخيه فلا ياخذ منه شيئا فانما اقطع له قطعة من النار " متفق عليه وهذا يدخل فيه ما إذا دعى انه اشترى منه شيئا فحكم له ولانه
حكم له بشهادة زور فلا يحل له ما كان محرما عليه كالمال المطلق، واما الخبر عن علي ان صح فلا حجة لهم فيه لانه أضاف التزويج إلى الشاهدين لا إلى حكمه ولم يجبها إلى التزويج لان فيه طعنا على الشهود فاما اللعان فانما حصلت الفرقة به لا بصدق الزوج ولهذا لو قامت البينة به لم ينفسخ النكاح.
إذا ثبب هذا فإذا شهد على امرأة بنكاح وحكم به الحاكم ولم تكن زوجته فانها لا تحل له ويلزمها في الظاهر وعليها ان تمتنع منه ما أمكنها فان أكرهها فالاثم عليه دونها، وان وطئها الرجل فقال أصحابنا وبعض الشافعية عليه الحد لانه وطئها وهو يعلم أنها أجنبية، وقيل لاحد عليه لانه وطئ مختلف في حكمه فيكون شبهة وليس لها ان تتزوج غيره وقال أصحاب الشافعي تحل لزوج ثان غير أنها ممنوعة منه في الحكم وقال القاضي يصح النكاح ولنا ان هذا يفضي إلى الجمع بين الوطئ للمرأة من اثنين أحدهما يطؤها بحكم الظاهر والآخر بحكم الباطن وهذا فساد فلا يشرع ولانها منكوحة لهذا الذي قامت به البينة في قول بعض الائمة فلم يجز تزويجها لغيره كالمنكوحة بغير ولي، وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى مثل مذهب أبي حنيفة كما حكى ابن أبي موسى في ان حكم الحاكم يزيل العقود والفسوخ والاول هو المذهب (فصل) قال ابن المنذر ويكره للقاضي ان يفتي في الاحكام كان شريح، يقول انا اقضي ولا افتي أما الفتيا في الطهارة وسائر ما لا يحكم في مثله فلا بأس بالفتيا فيه.
باب حكم كتاب القاضى إلى القاضى الاصل في كتاب القاضي والامير إلى الامير الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله
تعالى (إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم أن لا تعلوا علي وأئتوني مسلمين) وأما السنة فان النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وإلى ملوك الاطراف وكان يكتب إلى ولاته وعماله وسعاته وكان في كتابه إلى قيصر " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى قيصر عظيم الروم أما بعد فاسلم تسلم واسلم يؤتك الله أجرك مرتين وان توليت فان عليك اثم الاريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " وروى الضحاك بن سفيان قال كتب الي رسول الله صلى الله عليه وسلم ان اورث امرأة اشيم الضبابي من دية زوجها وأجمعت الامة على كتاب القاضي إلى القاضي ولان الحاجة إلى قبوله داعية فان من له حق في بلد غير بلده لا يمكنه اثباته والمطالبة به الا بكتاب القاضي فوجب قبوله * (مسألة) * (يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في المال وما يقصد به المال كالقرض والغصب والبيع والرهن والصلح والوصية له والجناية الموجبة للمال ولا يقبل في حد لله تعالى وهل يقبل فيما عدا ذلك مثل القصاص والنكاح والطلاق والخلع والعتق والنسب والكتابة والتوكيل والوصية إليه؟ على روايتين فاما حد القذف فان قلنا هو حق لله تعالى فلا يقبل فيه وان قلنا هو حق آدمي فهو كالقصاص)
وجملة ذلك ان كتاب القاضي إلى القاضي يقبل في المال بغير خلاف علمناه ولا يقبل في الحدود كحق الله تعالى وهل يقبل فيما عدا هذا؟ على وجهين وبهذا قال أصحاب الرأي وقال الشافعي يقبل كل حق لآدمي من الجراح وغيرها وهل يقبل في الحدود التي لله تعالى؟ على قولين (أحدهما) يقبل وهو قول مالك وأبي ثور وحد القذف ينبني على الخلاف فيه على ما ذكرنا ولنا على أنها لا تقبل في الحدود أنها مبنية على الستر والدرء بالشبهات والاسقاط بالرجوع عن الاقرار وكتاب القاضي إلى القاضي شهادة وفيه شبهة فانه يتطرق إليه احتمال الغلط أو السهو في شهود الفرع مع احتمال ذلك في شهود الاصل وهذا احتمال زائد لا يوجد في شهادة الاصل وهو معتبر بدليل أنها لا تقبل مع القدرة على شهود الاصل فوجب ان لا تقبل فيما يندرئ بالشهبات ولان كتاب القاضي إلى القاضي إنما يقبل للحاجة ولا حاجة إلى ذلك في الحد لان ستر صاحبه أولي من الشهادة عليه ولانه لا نص في ذلك ولا يصح قياسه على
الاموال لما بينهما من الفرق والتساهل وظاهر كلام احمد رحمه الله ان كتاب القاضي إلى القاضي لا يقبل في القصاص أيضا ولا حد القذف لانه قال إنما يجوز في الحقوق أما الدماء والحد فلا وهذا قول أبي حنيفة، وظاهر كلام الخرقي أنه يقبل وهو قول مالك والشافعي وأبي ثور ولانه حق آدمي لا يسقط بالرجوع عن الاقرار به أشبه الاموال وذكر أصحابنا عن أحمد هذا رواية لانه قال شهادة رجل في
الطلاق جائزة قال أحمد ما أحسن ما قال فجعله أصحابنا رواية في القصاص قال شيخنا وليس هذا برواية فان الطلاق لا يشبه القصاص والمذهب أنها لا تقبل فيه لانه عقوبة بدنية تدرأ بالشبهاب وتبنى على الاسقاط فاشبهت الحد فاما ما عدا الحدود ولاموال كالنكاح والطلاق وسائر ما لا يثبت الا بشاهدين فنص أحمد على قبولها في الطلاق والحقوق فدل على جميعها في قبول هذا الحقوق وهو قول الخرقي وقال ابن حامد لا يقبل في النكاح ونحوه قول ابي بكر فعلى قولهما لا تقبل الشهادة على الشهادة الا في المال وما يقصد به وهو قول ابي عبيد لانه حق لا يثبت الا بشاهدين فاشبه حد القذف ووجه الاول انه حق لا يدرأ بالشبهات فيثبت بالشهادة على الشهادة كالمال وبهذا فارق الحدود وكتابة القاضي إلى القاضي حكمها حكم الشهادة على الشهادة لانه شهادة على شهادة * (مسألة) * (ويجوز كتاب القاضي فيما حكم به لينفذه في المسافة القريبة ومسافة القصر ويجوز فيما ثبت عنده ليحكم به في المسافة البعيدة دون القريبة) وجملة ذلك ان كتاب القاضي على ضربين (أحدهما) أن يكتب بما حكم به وذلك مثل أن يحكم على رجل بحق فيتغيب قبل وفائه أو يدعي حقا على غائب ويقيم به بينة ويسأل الحاكم الحكم عليه فيحكم عليه ويسأله أن يكتب له كتابا بحكمه إلى قاضي البلد الذي فيه الغائب فيكتب إليه أو تقوم البينة على حاضر فيهرب قبل الحكم عليه فيسأل صاحب الحكم الحاكم الحكم عليه وأن يكتب له كتابا بحكمه ففي هذه
الصور الثلاث تلزم الحاكم اجابته إلى الكتابة ويلزم المكتوب إليه قوله سواء كان بينهما مسافة قريبة أو بعيدة حتى لو كانا في جانبي البلد أو مجلس الحاكم لزمه قبوله وامضاؤه وسواء كان حكما على حاضر أو غائب لا نعلم
في هذا خلافا لان حكم الحاكم يجب امضاؤه على كل حاكم (الضرب الثاني) ان يكتب بعلمه شهادة شاهدين عنده بحق لفلان مثل ان تقوم البينة عنده بحق لرجل على آخر ولم يحكم به فيسأل صاحب الحق ان يكتب له كتابا بما حصل عنده فانه يكتب له أيضا، قال القاضي ويكون في كتابه شهد عندي فلان وفلان بكذا ليكون المكتوب إليه هو الذي يقضي به ولا يكتب ثبت عندي لان قوله ثبت عندي حكم بشهادتهما فهذا لا يقبله المكتوب إليه إلا في المسافة البعيدة التي هي مسافة القصر ولا يقبله فيما دونها لانه نقل شهادة فاعتبر فيه ما يعتبر في الشهادة على الشهادة ونحو هذا قول الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد يجوز ان يقبله في بلده وحكي عن أبي حنيفة مثل هذا وقال بعض المتأخيرين من أصحابه الذي يقتضيه مذهبه أنه لا يجوز كما لا يجوز ذلك في الشهادة على الشهادة واحتج من اجازه لانه كتاب الحاكم بما ثبت عنده فجاز قبوله مع القرب ككتابة حكمه ولنا ان ذلك نقل الشهادة إلى المكتوب إليه فلم يجز مع القرب كالشهادة على الشهادة ويفارق كتابه بالحكم فليس هو نقل إنما هو خبر
(فصل) ويقبل الكتاب من قاضي مصر إلى قاضي مصر وإلى قاضي قرية ومن قاضي قرية إلى قاضي قرية وإلى قاضي مصر * (مسألة) * (ويجوز ان يكتب إلى قاض معين وإلى من يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين وحكامهم من غير تعيين ويلزم من وصله قبوله) وبهذا قال أبو ثور واستحسنه أبو يوسف وقال أبو حنيفة لا يجوز ان يكتب إلى غير معين ولنا أنه كتاب حاكم من ولايته وصل إلى حاكم فلزم قبوله كما لو كان الكتاب إليه بعينه * (مسألة) * (ولا يقبل الكتاب الا أن يشهد به شاهدان يحضرهما القاضي الكاتب فيقرؤه عليهما ثم يقول اشهدكما ان هذا كتابي إلى فلان بن فلان ويدفعه اليهما فإذا وصلا إلى المكتوب إليه دفعا إليه الكتاب وقالا نشهد أن هذا كتاب فلان اليك كتبه من عمله وأشهدنا عليه، والاحتياط
ان يشهد عليه بما فيه ويختمه ولا يشترط ختمه وان كتب كتابا وادرجه وختمه وقال هذا كتابي إلى فلان اشهدا علي بما فيه لم يصح لان احمد قال فيمن كتب وصيته وختمها ثم اشهد على ما فيها فلا حتى يعلمه ما فيها ويتخرج الجواز لقوله إذا وجدت وصية الرجل مكتوبة عند رأسه من غير ان يكون اشهد
أو اعلم أحدا بها عند موته وعرف خطه وكان مشهورا فانه ينفذ ما فيها فعلى هذا عرف المكتوب إليه انه خط القاضي الكاتب وختمه جاز قبوله والعمل على الاول) وجملته انه يشترط لقبول كتاب القاضي شروط ثلاثه (أحدها) أن يشهد به شاهدان عدلان ولا يكفي معرفة المكتوب إليه خط الكاتب وختمه ولا يجوز له قبوله بذلك في قول الجمهور وحكي عن الحسن وسوار العنبري انهم قالوا إذا كان يعرف خطه وختمه قبله وهو قول أبي ثور والاصطخري ويتخرج لنا مثل ذلك لانه تحصل به غلبة الظن فأشبه شهادة الشاهدين ولنا ان ما أمكن اثباته بالشهادة لم يجز الاقتصار على الظاهر كاثبات العقود ولان الخط يشبه الخط والختم يمكن التزوير عليه ويمكن الرجوع إلى الشهادة فلم يعول على الخط كالشاهد لا يعول في الشهادة على الخط وفي هذا انفصال عما ذكروه.
إذا اثبت هذا فان القاضي إذا كتب الكتاب دعا رجلين يخرجان إلى البلد الذي فيه القاضي المكتوب إليه فيقرأ عليهما الكتاب أو يقرؤه غيره عليهما والاحوط أن ينظرا معه فيما يقرؤه فان لم ينظرا جاز لانه لا يستقرأ الا ثقة فإذا قرأ عليهما قال اشهدا علي ان هذا كتابي إلى فلان وان قال اشهدا على بما فيه كان اولى فان اقتصر على قوله هذا كتابي إلى فلان فظاهر كلام الخرقي انه لا يجزئ لانه يحملها الشهادة فاعتبر ان يقول اشهدا علي كالشهادة
على الشهادة وقال القاضي يجزئ وهو مذهب الشافعي ثم ان كان ما في الكتاب قليلا اعتمدا على حفظه وان كان كثيرا فلم يقدرا على حفظه كتب كل واحد منهما مضمونه وقابل بها لتكون معه يذكر بهاما يشهد به ويقبضان الكتاب قبل أن يغيبا لئلا يدفع اليهما غيره فإذا وصل الكتاب معهما إليه قرأه الحاكم أو غيره عليهما فإذا سمعاه قالا نشهد أن هذا كتاب فلان لانها أداء شهادة
فلا بد فيها من لفظ الشهادة، ويجب أن يقولا من عمله لان الكتاب لا يقبل الا إذا وصل من مجلس عمله وسواء وصل الكتاب مختوما أو غير مختوم مقبولا أو غير مقبول لان الاعتماد على شهادتهما لا على الخط والختم فان امتحى الكتاب وكانا يحفظان ما فيه جاز لهما أن يشهدا بذلك، وان لم يحفظاه لم يمكنهما الشهادة، وقال أبو حنيفة وابو ثور لا يقبل الكتاب حتى يشهد شاهدان على ختم القاضي ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابا إلى قيصر ولم يختمه فقيل له انه لا يقرأ كتابا غير مختوم فاتخذ الخاتم واقتصاره على الكتاب دون الختم دليل على ان الختم ليس بشرط في القبول وانما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ليقرءوا كتابه ولانهما لو شهدا بما في الكتاب وعرفا ما فيه لوجب قبوله كما لو وصل مختوما وشهدا بالختم.
إذا ثبت هذا فانه انما يعتبر ضبطهما لمعنى الكتاب وما يتعلق به الحكم قال الاثرم سمعت أبا
عبد الله يسأل عن قوم شهدوا على صحيفة وبعضهم ينظر فيها وبعضهم لا ينظر قال إذا حفظ فليشهد قيل كيف وهو كلام كثير؟ قال يحفظ ما كان عليه الكلام والوضع قلت يحفظ المعنى؟ قال نعم قيل له والحدود والثمن وأشباه ذلك؟ قال نعم * (مسألة) * (ولو أدرج الكتاب وختمه وقال هذا خطي اشهدا علي بما فيه أو قد أشهدتكما على نفسي بما فيه لم يصح هذا التحمل) وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال أبو يوسف إذا ختمه بختمه وعنونه جاز أن يتحملا الشهادة عليه مدرجا فإذا وصل الكتاب شهدا عنه انه كتاب فلان ويتخرج لنا مثل هذا فانهما شهدا بما في الكتاب فجاز، وان لم يعلما تفصيله كما لو شهدا بما في هذا الكيس من الدراهم جازت شهادتهما وان لم يعرفا قدرها ولنا انهما شهدا بمجهول لا يعلمانه فلم تصح شهادتهما كما لو شهد أن لفلان على فلان مالا، وفارق
ما ذكره فان تعيينه الدراهم التي في الكيس أغنى عن معرفة قدرها، وههنا الشهادة على ما في الكتاب
دون الكتاب وهما لا يعرفانه (الشرط الثاني) أن يكتبه القاضي من موضع عمله وولايته فان كتبه من غير ولايته لم يسغ قبوله لانه لا يسوغ له في غير ولايته حكم فهو فيه كالعامي (الشرط الثالث) أن يصل الكتاب إلى المكتوب إليه في موضع ولايته فان وصله في غيره لم يكن له قبوله حتى يصير إلى موضع ولايته، ولو ترافع إليه خصمان في غير محل ولايته لم يكن له الحكم بينهما بحكم ولايته إلا إذا تراضيا عليه فيكون حكمه حكم غير القاضي إذا تراضيا به، وسواء كان الخصمان من أهل عمله أو لم يكونا، ولو ترافع إليه خصمان وهو في موضع ولايته من غير أهل ولايته كان له الحكم بينهما لان الاعتبار بموضعهما إلا أن يأذن الامام لقاض أن يحكم بين أهل ولايته حيث كانوا ويمنعه من الحكم بين غير أهل ولايته حيثما كان فيكون الامر على ما أذن فيه ومنع منه لان الولاية بتوليته فيكون الحكم على وفقها * (مسألة) * (وإذا وصل الكتاب فأحضر المكتوب إليه الخصم المحكوم عليه في الكتاب فقال لست فلان بن فلان فالقول قوله مع يمينه إلا أن تقوم به بينة فان ثبت انه فلان من فلان ببينة أو إقرار فقال: المحكوم عليه غيري لم يقبل إلا ببينة تشهد ان في البلد من يساويه فيما سمي ووصف به فيتوقف حتى يعلم المحكوم عليه منهما) وجملة ذلك أنه إن أنكر وقف الحاكم ويكتب إلى الحاكم الكاتب يعلمه الحال وما وقع من الاشكال حتى يحضر الشاهدين فيشهدا عنه بما يتميز به المشهود عليه منهما فان ادعي المسمي انه كان في البلد من
يشاركه في الاسم والصفة وقد مات نظر فان كان موته قبل وقوع المعاملة التي وقع الحكم بها أو كان ممن لم يعاصره المحكوم عليه أو المحكوم له لم يقع إشكال وكان وجوده كعدمه، وان كان موته بعد الحكم أو بعد المعاملة وكان ممن أمكن أن تجري بينه وبين المحكوم له معاملة فقد وقع الاشكال كما لو كان حيا لجواز أن يكون الحق على الذي مات (فصل) وإذا كتب بثبوت بينة أو إقرار بدين جاز وحكم به المكتوب إليه وأخذ المحكوم عليه
وان كان ذلك عينا كنقار محدود أو عينا مشهورة لا تشتبه بغيرها كعبد معروف مشهورا ودابة كذلك حكم المكتوب إليه أيضا والزم تسليمه إلى المحكوم له به، وإن كان عينا لا تتميز إلا بالصفة كعبد غير مشهور أو غيره من الاعيان التي لا تتميز إلا بالوصف ففيه وجهان (أحدهما) لا يقبل كتابه به وهو قول ابي حنيفة وأحد الوجهين لاصحاب الشافعي لان الوصف لا يكفي بدليل انه لا يجوز أن يشهد لرجل بالوصف والتحلية كذلك المشهود به (والثاني) يجوز لانه يثبت في الذمة بالعقد على هذه الصفة فأشبه الدين ويخالف المشهود له فانه لا حاجة إلى ذلك فيه فان الشهادة له لا تثبت إلا بعد دعواه ولان المشهود عليه يثبت بالصفة والتحلية فكذلك المشهود به فعلى هذا الوجه ينفذ العين مختومة وان كان عبدا أو أمة ختم في عنقه وبعثه إلى القاضي الكاتب ليشهد الشاهدان على عينه فان شهدا عليه دفع إلى المشهود له به وان لم يشهدا على عينه وقالا: المشهود به غير هذا وجب على آخذه رده إلى صاحبه ويكون حكمه حكم المغصوب
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: