الفقه الحنبلي - ادب القاضي - طريق الحكم
بشرط أن لا تكون له حكومة) اما الرشوة في الحكم ورشوة العالم فحرام
على الآخذ بلا خلاف قال الله تعالى (أكالون للسحت) قال الحسن وسعيد بن جبير في تفسيره هو الرشوة، وقال إذا قبل القاضي الرشوة بلغت به الكفر، وروى عبد الله بن عمر قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ورواه أبو هريرة وزاد في الحكم رواه أبو بكر في زاد المسافر وزاد والرائش وهو السفير بينهما ولان المرتشي انما يرتشي ليحكم بغير الحق أو يتوقف الحكم عنه وذلك من أعظم الظلم قال مسروق سألت بن مسعود عن السحت اهو الرشوة في الحكم؟ قال لا (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) و (الظالمون) و (الفاسقون) وانما السحت أن يستعينك على مظلمة فيهدي لك فلا تقبل.
وقال
قتادة قال كعب الرشوة تسفه الحليم وتعمي عين الحكيم.
فاما الراشي فان رشاه ليحكم له بباطل أو يدفع عنه فهو ملعون وإن رشاه ليدفع ظلمه ويجزئه على واجبه فقال عطاء وجابر بن زيد والحسن لا بأس أن يصانع عن نفسه قال جابر: ما رأينا في زمن زياد أنفع لنا من الرشا ولانه يستنقذ ماله كما يستنفذ الرجل أسيره.
(فصل) ولا يقبل الحاكم هدية وذلك لان الهدية يقصد بها في الغلب استمالته ليعتني به في الحكم فيشبه الرشوة قال مسروق إذا قبل القاضي الهدية اكل السحت وإذا قبل الرشوة بلغت به لكفر وقد روى أبو حميد الساعدي قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الازد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فقال هذا لكم وهذا اهدي الي فقام النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال " ما بال العامل نبعثه فيقول هذا لكم وهذا اهدي الي؟ الا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر ايهدى إليه ام لا؟ والذي نفس محمد بيده لا نبعث أحدا منكم فيأخذ شيئا الا جاء يوم القيامة يحمله ان كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تثغر " فرفع يده حتى رأيت عفرة ابطيه فقال " اللهم هل بلغت ثلاثا؟ " متفق عليه ولان حدوث الهدية عند حدوث الولاية يدل على أنها من أجلها ليتوسل بها إلى ميل الحاكم معه على خصمه فلم يجز قبولها كالرشوة فاما ان كان يهدي إليه قبل ولايته جاز قبولها منها بعد الولاية لانها لم تكن من أجل الولاية لوجود سببها قبلها بدليل وجودها
قبل الولاية قال القاضي ويستحب له التنزه عنها فان أحس انه يقدمها بين يدي خصومة أو فعلها حال
الحكومة حرم أخذها في هذه الحال لانه كالرشوة وهذا كله مذهب الشافعي وروي عن أبي حنيفة وأصحابه ان قبول الهدية مكروه غير محرم وفيما ذكرناه دلالة على التحريم * (مسألة) * (فان ارتشى الحاكم أو قبل هدية ليس له قبولها ردها إلى اربابها) لانه أخذها منهم بغير حق فاشبه المأخوذ بعقد فاسد ويحتمل ان يجعلها في بيت المال لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن اللتبية بردها إلى أربابها وقد قال أحمد إذا اهدى البطريق لصاحب الجيش عينا أو فضة لم تكن له دون سائر الجيش قال أبو بكر يكونون فيه سواء * (مسألة) * (ويكره ان يتولى البيع والشراء بنفسه ويستحب ان يوكل في ذلك من لا يعرف أنه وكيله) لما روى أبو الأسود المالكي عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما عدل ولي اتجر في رعيته أبدا " ولانه يعرف فيحابى فيكون كالهدية ولان ذلك يشغله عن النظر في أمور الناس وقد روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه لما بويع أخذ الذراع وقصد السوق فقالوا يا خليفة رسول الله لا يسعك ان تشتغل عن أمور المسلمين فقال " فاني لا أدع عيالي يضيعون " قالوا فنحن نفرض لك ما يكفيك ففرضوا له كل يوم درهمين فان باع واشترى صح البيع وتم بشروطه وأركانه ان احتاج إلى مباشرته ولم يكن له ما يكفيه لم يكره لان أبا بكر رضي الله عنه قصد السوق ليتجر حتى فرضوا له ما يكفيه ولان القيام بعياله فرض عين فلا يتركه لوهم مضرة وإنما إذا استغنى عن مباشرته ووجد من يكفيه ذلك كره لما ذكرناه من المعنيين وينبغي ان يوكل في ذلك من لا يعرف أنه وكيله لئلا يحابى
وهذا مذهب الشافعي وحكي عن أبي حنيفة أنه قال لا يكره له البيع والشراء وتوكيل من لا يعرف لما ذكرنا من قضية أبي بكر رضي الله عنه ولما ذكرناه وروي عن شريح أنه قال شرط علي عمر حين ولاني القضاء ان لا أبيع ولا أبتاع ولا ارتشي ولا اقضي وانا غضبان وقضية أبي بكر حجة لنا فان الصحابة انكروا عليه فاعتذر بحفظ عياله عن الضياع فلما اغنوه عن البيع والشراء بما فرضوا له قبل
قولهم وترك التجارة فحصل الاتفاق منهم على تركها عند الغنى عنها * (مسألة) * (وتستحب له عيادة المرضى وشهود الجنائز ما لم تشغله عن الحكم وزيارة الاخوان والصالحين من الناس لانه قربة وطاعة وان كثر ذلك فليس له الاشتغال به عن الحكم) لان هذا تبرع فلا يشتغل به عن الفرض وله حضور البعض لان هذا يفعله لنفع نفسه بتحصيل الاجر والقربة له بخلاف الولائم لانه يراعى فيها حق الداعي فيكسر قلب من لم يجب إذا اجيب غيره * (مسألة) * (وله حضور الولائم) لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يحضرها ويأمر بحضورها وقال من لم يجب فقد عصى الله ورسوله فان كثرت وازدحمت تركها كلها ولم يجب أحدا لان هذا يشغله عن الحكم الذي تعين عليه لكنه يعتذر إليهم ويسألهم التحليل ولا يجيب بعضا دون بعض لان في ذلك كسرا لقلب من لم يجبه الا ان يختص بعضها بعذر يمنعه دون بعض مثل ان يكون في إحداها منكر أو تكون في مكان بعيد أو يشتغل
بها زمنا طويلا والاخرى بخلاف ذلك فله الاجابة إليها دون الاولى لان عذره ظاهر في التخلف عن الاولى * (مسألة) * (ويوصي الوكلاء والاعوان على بابه بالرفق بالخصوم وقلة الطمع ويجتهد ان يكونوا شيوخا أو كهولا من أهل الدين والعفة والصيانة) لانهم أقل شرا فان الشباب شعبة من الجنون ولان الحاكم يأتيه النساء وفي اجتماع الشباب بهن ضرورة * (مسألة) * (ويتخذ كاتبا مسلما مكلفا عدلا حافظا عالما يجلسه حيث يشاهد ما يكتبه ويجعل القمطر مختوما بين يديه) وجملة ذلك أنه يستحب للحاكم ان يتخذ كاتبا لان النبي صلى الله عليه وسلم استكتب زيد بن ثابت وغيره ولان الحاكم تكثر اشغاله ونظره فلا يمكنه تولي الكتابة بنفسه وان أمكنه الكتابة بنفسه جاز والاستنابة فيه أولى ولا يجوز ان يستنيب في ذلك الا عدلا لان الكتابة موضع أمانة ويستحب ان يكون فقيها ليعرف مواقع الالفاظ التي تتعلق بها الاحكام ويفرق بين الجائز والواجب وينبغي ان يكون وافر العقل نزها ورعا لئلا يستمال بالطمع ويكون مسلما لان الله تعالى قال (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم
لا يألونكم خبالا) وقد روي أن أبا موسى قدم على عمر ومعه كاتب نصراني فاحضر أبو موسى شيئا من مكتوباته عند عمر فاستحسنه وقال قل لكاتبك يجئ ويقرأ كتابه قال إنه لا يدخل المسجد قال ولم؟ قال إنه نصراني فانتهره عمر وقال لا تأتمنوهم وقد خونهم الله تعالى ولا تقربوهم وقد ابعدهم الله ولا تعزوهم وقد اذلهم الله ولان الاسلام من شروط العدالة والعدالة شرط وقال أصحاب الشافعي في
اشراط عدالته واسلامه وجهان (أحدهما) يشترط لما ذكرنا (والثاني) لا يشترط لان ما يكتبه لابد من وقوف القاضي عليه فهو من الخيانة ويستحب ان يكون جيد الخط لانه أكمل وان يكون حرا ليخرج من الخلاف وان كان عبدا جاز لان شهادة العبد جايزة ويكون القاسم على الصفة التي ذكرنا في الكاتب ولابد من كونه حاسبا لانه عمله وبه يقسم فهو كالخط للكاتب والفقه للحاكم ويستحب للحاكم ان يجلس الكاتب بين يديه ليشاهد ما يكتبه ويشافهه بما يملى عليه وان قصد ناحية جاز لان المقصود يحصل لان ما يكتبه يعرض على الحاكم فيستبرئه ويجعل القمطر مختوما بين يديه ليترك فيه ما يجتمع من المحاضر والسجلات ويتحرز من ان يدخله كتاب مزور أو يؤخذ منه شئ * (مسألة) * (ويستحب ان لا يحكم الا بحضرة الشهود) ليستوفى بهم الحقوق ويثبت بهم الحجج والمحاضر فان كان ممن يحكم بعلمه فان شاء ادناهم إليه وان شاء أبعدهم منه بحيث إذا احتاج إلى إشهادهم على حكمه استدعاهم ليشهدوا بذلك وان كان ممن لا يحكم بعلمه اجلسهم بالقرب حتى يسمعوا كلام المتحاكمين لئلا يقر منهم مقر ثم ينكر ويجحد فيحفظوا عليه اقراره * (مسألة) * (ولا يحكم لنفسه ولا لمن لا تقبل شهادته له ويحكم بينهم بعض خلفائه) أو بعض رعيته فان عمر حاكم أبيا إلى زيد وحاكم رجلا عراقيا إلى شريح وحاكم علي يهوديا إلى شريح وحاكم عثمان طلحة إلى جبير بن مطعم وان عرضت حكومة لوالديه أو ولده أو من لا تقبل شهادته له ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز له الحكم فيها بنفسه وان حكم لم ينفذ حكمه له كنفسه
(والثاني) ينفذ حكمه اختاره أبو بكر وهو قول أبي يوسف وابن المنذر وأبي ثور لانه حكم لغيره
أشبه الاجانب وعلى القول الاول متى عرضت لهؤلاء حكومة حكم بينهم الامام أو حاكم آخر أو بعض خلفائه فان كانت الحكومة بين والديه أو ولديه أو والده وولده لم يجز الحكم بينهما على أحد الوجهين لانه لا تقبل شهادته لاحدهما على الاخر فلم يجز الحكم بينهما كما لو كان خصمه اجنبيا وفي الآخر يجوز وهو قول بعض أصحاب الشافعي لانهما سواء عنده فارتفعت تهمة الميل فاشبها الاجنبيين (فصل) قال رضي الله عنه وأول ما ينظر في أمر المحبسين فيبعث ثقة إلى الحبس فيكتب اسم كل محبوس ومن حبسه؟ وفيم حبسه؟ في رقعة منفردة ثم ينادي في البلدان القاضي ينظر في أمر المحبسين غدا فمن له منهم خصيم فليحضر إنما بدأ بالنظر في أمر المحبسين لان الحبس عذاب وربما كان فيهم من لا يستحق البقاء فيه فينفذ إلى حبس القاضي الذي كان قبله ثقة فيكتب اسم كل محبوس وفيم حبس؟ ولمن حبس؟ وتحمل الرقاع إليه ويأمر مناديا ينادي في البلد ثلاثة أيام ان القاضي فلان بن فلان ينظر في أمر المحبسين يوم كذا فمن كان له محبوس فليحضر فإذا احضر الناس في ذلك اليوم جعل الرقاع بين يديه فيمد يده إليها فما وقع في يده منها نظر إلى اسم المحبوس وقال من خصم فلان المحبوس؟ فإذا قال خصمه انا بعث ثقة إلى الحبس فاخرج خصمه وحضر معه مجلس الحكم ويفعل ذلك في قدر ما يعلم انه يتسع زمانه للنظر في ذلك المجلس ولا يخرج غيرهم فإذا حضر المحبوس وخصمة لم يسأل خصمه لم حبسه؟ لان الظاهر
ان الحاكم إنما حبسه بحق لكن يسار المحبوس بم حبست؟ ولا يخلو جوابه من خمسة اقسام (أحدها) أن يقول حبسني بحق له حال انا ملئ به فيقول له الحاكم اقض؟ والا رددتك إلى الحبس (الثاني) ان يقول له على دين انا معسر به فيسأل خصمه فان صدقه فلسه الحاكم وأطلقه وان كذبه نظر في سبب الدين فان كان سببا حصل له به مال كقرض أو شراء لم يقبل قوله في الاعسار إلا ببينة بان ماله تلف أو نفد أو ببينة انه معسر فيزول الاصل الذي ثبت ويكون القول قوله فيما يدعيه عليه من المال، وان لم يثبت له أصل مال ولم يكن لخصمه بينة بذلك فالقول قول المحبوس مع يمينه انه معسر لان الاصل الاعسار، وان شهدت لخصمه بينة بان له مالا لم تقبل حتى يبين ذلك المال بما
يتميز به فان شهدت عليه البينة بدار معينة أو غيرها فصدقها فلا كلام وان كذبها وقال ليس هذا لي وانما هو في يدي لغيري لم يقبل الا أن يعزوه إلى معين فان كان الذي اقر له حاضرا سئل فان كذبه في إقراره سقط وقضى من المال دينه، وان صدقه وكانت له بينة فهو أولى لان له بينة وصاحب اليد يقر له به وان لم تكن له بينة فذكر القاضي أنه لا يقبل قولهما ويقضي الدين منه لان البينة شهدت لصاحب اليد بالملك فتضمنت شهادتها وجوب القضاء منه فإذا لم تقبل شهادتها في حق نفسه قبلت فيما تضمنته لانه حق لغيره ولانه متهم في إقراره لغيره لانه قد يفعل ذلك ليخلص ماله ويعود إليه فتلحقه تهمة فلم تبطل البينة بقوله وفيه وجه آخر يثبت الاقرار وتسقط البينة لانها تشهد بالملك لمن لا يدعيه وينكره
(القسم الثالث) أن يقول حبسني لان البينة شهدت علي لخصمي بحق ابتحث عن حال الشهود فهذا ينبني على اصل وهو ان الحاكم هل له ذلك اولا؟ وفيه وجهان (أحدهما) ليس له ذلك لان الحبس عذاب فلا يتوجه عليه قبل ثبوت الحق عليه فعلى هذا لا يرده إلى الحبس ان صدقة خصمه في هذا (والثاني) يجوز حبسه لان المدعي قد أقام ما عليه وانما بقي ما على الحاكم من البحث ولاصحاب الشافعي وجهان كهذين يرده إلى الحبس حتى يكشف عن حال شهوده وان كذبه خصمه وقال بل عرف الحاكم عدالة شهودي وحكم عليه بالحق فالقول قوله لان الظاهر ان حبسه بحق (القسم الرابع) أن يقول حبسني الحاكم بثمن كل أو قيمة خمر أرقته لذمي لانه كان يرى ذلك فان صدقه خصمه فذكر القاضي انه يطلقه لان غرم هذا ليس بواجب وفيه وجه آخر ان الحاكم ينفذ حكم الحاكم الاول لانه ليس له نقض حكم غيره باجتهاده وفيه وجه ثالث انه يتوقف ويجتهد ان يصطلحا على شئ لانه لا يمكنه فعل أحد الامرين وللشافعي قولان كالوجهين الآخرين فان كذه خصمه وقال بل حبست لحق واجب غير هذا فالقول قوله لان الظاهر حبسه لحق * (مسألة) * (وان كان حبس في تهمة أو افتيات على القاضي قبله خلى سبيله) لان المقصود بحبسه التأديب وقد حصل)
* (مسألة) * (وان لم يحضر له خصم فقال حبست ظلما ولا حق علي ولا خصم نادى بذلك ثلاثا فان حضر له خصم والا أحلفه وخلى سبيله) لان الظاهر انه لو كان له خصم لظهر * (مسألة) * (ثم ينظر في امر المجانين واليتامى والوقوف) والنظر في ذلك بالنظر في امر الاوصياء ونظار الوقوف لانهم يكونون ناظرين في أموال اليتامى والمجانين وتفرقة الوصية بين المساكين لان المنظور عليه ان كان من الايتام والمجانين لم تمكنهم المطالبة لانهم لا قول لهم وان كانوا مساكين لم يتعين الاخذ منهم فإذا قدم إليه الوصي فان كان الحاكم قبله نفذ وصيته لم يعزله لان الحاكم ما نفذ وصيته إلا بعد معرفته اهليته في الظاهر ولكن نراعيه فان تغيرت حاله بفسق أو ضعف اضاف إليه امينا قويا يعينه وان كان الاول ما نفذ وصيته نظر فيه فان كان امينا قويا أقره، وان كان أمينا ضعيفا ضم إليه من يعينه، وان كان فاسقا عزله واقام غيره، وعلى قول الخرقي يضم إليه امين ينظر عليه فان كان قد تصرف أو فرق الوصية وهو أهل الوصية نفذ تصرفه، فان كان ليس باهل وكان الموصى لهم بالغين عاقلين معينين صح الدفع إليهم لانهم قبضوا حقوقهم، وان كانوا غير معينين كالفقراء والمساكين ففيه وجهان (أحدهما) عليه الضمان ذكره القاضي وأصحاب الشافعي لانه ليس له التصرف (والثاني) لا ضمان عليه لانه اوصله إلى أهله، وكذلك ان فرق الوصية غير الموصى إليه بتفريقها فعلى الوجهين (فصل) وينظر في أمناء الحاكم وهم من رد إليهم الحاكم النظر في امر الاطفال وتفرقة الوصايا
التي لم يتعين لها وصي فان كانوا بحالهم أقرهم لان الذي قبله ولاهم، ومن تغير حاله عزله ان فسق، وان ضعف ضم إليه أمينا (فصل) ثم ينظر في امر الضوال واللقطة التي يتولى الحاكم حفظها فان كانت مما يخاف تلفه كالحيوان أو في حفظه مؤنة كالاموال الحافية باعها وحفظ ثمنها لاربابها، وان لم تكن كذلك كالاثمان حفظها لاربابها ويكتب عليها ليعرفها * (مسألة) * (ثم ينظر في حال القاضي قبله فان كان ممن يصلح للقضاء لم ينقض من أحكامه إلا
ما خالف نص كتاب أو سنة أو اجماعا) ولا يجب على الحاكم تتبع قضايا من كان قبله لان الظاهر صحتها وصوابها وانه لا يتولى القضاء الا من هو من اهل الولاية فان تتبعها نظر في الحاكم قبله فان كان ممن يصلح للقضاء فما وافق من احكامه الصواب أو لم يخالف كتابا ولا سنة ولا اجماعا لم يجز نفضه، وان كان مخالفا لاحد هذه الثلاثة وكان في حق الله تعالى كالعتاق والطلاق نقضه لان له النظر في حقوق الله تعالى، وان كان يتعلق بحق آدمي لم ينقضه إلا بمطالبة صاحبه لان الحاكم لا يستوفي حقا لمن لا ولاية عليه بغير مطالبته فان طلب صاحبه ذلك نقضه وبهذا قال الشافعي وزاد إذا خالف قياسا جليا نقضه وعن مالك وابي حنيفة انهما قالا لا ينقض الحكم إلا إذا خالف الاجماع ثم ناقضا قولهما فقال مالك إذا حكم بالشفعة للجار نقض حكمه، وقال أبو حنيفة إذا حكم ببيع متروك التسمية أو حكم بين العبيد بالقرعة نقض حكمه، وقال محمد بن الحسن إذا حكم بالشاهد واليمين نقض حكمه وهذه
مسائل خلاف موافقة للسنة، واحتجوا على أنه لا ينقض ما لم يخالف الاجماع بانه يسوع فيه الخلاف فلم ينقض حكمه كما لا نص فيه وحكي عن ابي داود انه ينقض جميع ما بان له خطؤه لان عمر رضي الله عنه كتب إلى ابي موسى لا يمنعك قضاء قضيته بالامس ثم راجعت نفسك فيه اليوم فهديت لرشدك ان تراجع فيه الحق فان الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ولانه خطأ فوجب الرجوع عنه كما لو خالف الاجماع، وحكي عن مالك انه وافقهما في قضاء نفسه ولنا على نقضه إذا خالف نصا أو اجماعا أنه قضاء لم يصادف شرطه فوجب نقضه كما لو خالف الاجماع وبيان مخالفته للشرط.
ان شرط الحكم بالاجتهاد عدم النص بدليل خبر معاذ، ولانه إذا ترك الكتاب والسنة فقد فرط فوجب نقض حكمه كما لو خالف الاجماع أو كما لو حكم بشهادة كافرين وما قالوه يبطل بما حكيناه عنهم فان قيل إذا صلى بالاجتهاد إلى جهة ثم بان له الخطأ لم يعد قلنا القرق بينهما من ثلاثة اوجه
(احدها) ان استقبال القبلة يسقط حال العذر في حال المسايفة، والخوف من عدو أو سبع أو نحو مع العلم ولا يجوز له ترك الحق إلى غيره مع العلم بحال الثاني ان الصلاة من حقوق الله تعالى تدخلها المسامحة (الثالث) ان القبلة يتكرر فيها الاشتباه فيشق القضاء وههنا إذا بان له الخطاء لا يعود الاشتباه بعد ذلك.
وأما إذا تغير اجتهاده من غير أن يخالف نصا ولا اجماعا أو خالف اجتهاده اجتهاد من قبله لم ينقضه لمخالفته لان الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك فان أبا بكر حكم في مسائل
باجتهاده وخالفه عمر فلم ينقض أحكامه وعلي خالف عمر في اجتهاده فلم ينقض أحكامه وخالفهما علي فلم ينقض أحكامهما فان أبا بكر سوى بين الناس في العطاء وأعطى العبيد وخالفه عمر ففاضل بين الناس وخالفهما علي فسوى بين الناس وحرم العبيد ولم ينقض أحد منهم ما فعله من قبله وجاء اهل نجران إلى علي فقالوا يا أمير المؤمنين كتابك بيدك وشفاعتك بلسانك فقال ويحكم ان عمر كان رشيد الامر ولن ارد قضاء قضي به عمر رواه سعيد وروي ان عمر حكم في المشركة باسقاط الاخوة من الابوين ثم شكر بينهم بعد وقال تلك على ما قضينا هذه على ما قضينا، وقضى في الجد بقضايا مختلفة، ولم يرد الاولى ولانه يؤدي إلى نقض الحكم بمثله وهذا يؤدي إلى أن لا يثبت الحكم أصلا لان الحكم الثاني يخالف الذي قبله والثالث يخالف الثاني فلا يثبت الحكم فان قيل فقد روي ان شريحا حكم في ابني عم أحدهما أخ للام ان المال للاخ فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقال: علي بالعبد فجئ به فقال في اي كتاب الله وجدت ذلك؟ فقال قال الله تعالى (وألو الارحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله) فقال له علي قد قال الله تعالى (وان كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس) ونقض حكمه قلنا لم يثبت عندنا ان عليا نقض حكمه ولو ثبت فيحتمل أن يكون على اعتقاد انه خالف نص الكتاب في الآية التي ذكرها فنقض حكمه لذلك (فصل) إذا تغير اجتهاده قبل الحكم فانه يحكم بما تغير اجتهاده إليه ولا يجوز أن يحكم باجتهاده الاول
لانه إذا حكم به فقد حكم بما يعتقد انه باطل وهذا كما قلنا فيمن تغير اجتهاده في القبلة بعدما صلى لا يعيد وان كان قبل أن يصلي صلى إلى الجهة التي تغير اجتهاده إليها وكذلك إذا بان فسق الشهود قبل الحكم بشهادتهم لم يحكم بها ولو بان بعد الحكم لم ينقضه * (مسألة) * (وان كان ممن لا يصلح نقض أحكامه وان وافقت الصحيح ويحتمل أن لا ينقض الصواب منها) أما إذا كان القاضي قبله لا يصلح للقضاء نقض قضاياه كلها ما أخطأ فيها وما أصاب ذكره أبو الخطاب وهو مذهب الشافعي لان وجود قضائه كعدمه، قال شيخنا تنقض قضاياه المخالفة للصواب كلها سواء كانت مما يسوغ فيه الاجتهاد أو لا يسوغ لان حكمه غير صحيح وقضاؤه كلا قضاء لعدم شرط القضاء فيه وليس في نقض قضاياه نقض الاجتهاد بالاجتهاد، لان الاول ليس باجتهاد ولا ينقض ما وافق الصواب لعدم الفائدة في نقضه فان الحق وصل إلى مستحقه ولو وصل الحق إلى مستحقه بطريق القهر من غير حكم لم يغير ذلك فكذلك إذا كان بقضاء وجوده كعدمه * (مسألة) * (وإن استعداه أحد على خصم له أحضره وعنه لا يحضره حتى يعلم ان لما ادعاه أصلا) هذه المسألة فيها روايتان (احداهما) انه يلزم القاضي أن يعديه ويستدعي خصمه سواء عما بينهما معاملة أو لم يعلم وسواء كان المستعدي ممن يعامل المستعدى عليه أو لا يعامله كالفقير يدعي على ذي ثروة وهيئة نص على هذا في رواية الاثرم في الرجل يستعدي على الحاكم انه يحضره ويستحلفه، وهذا اختيار أبي بكر ومذهب
أبي حنيفة والشافعي لان في تركه تضييعا للحقوق واقرارا للظلم فانه قد يثبت له الحق على من هو أرفع منه بغصب أو يشتري منه شيئا ولا يوفيه أو يودعه شيئا أو يعيره إياه فلا يرده ولا تعلم بينهما معاملة فإذا لم يعد عليه سقط حقه وهذا أعظم ضررا من حضور مجلس الحاكم فانه لا يقبضه وقد حضر عمر وأبي عند زيد وحضر هو وآخر عند شريح وحضر المنصور عند رجل من ولد طلحة بن عبيدالله (والثانية) لا يستعديه إلا أن تعلم بينهما معاملة ويبين أن لما أعاده أصلا روي ذلك عن علي رضي الله عنه هو مذهب مالك لان في اعدائه على كل أحد بتذيل أهل المروءات وإهانة ذوى الهيآت فانه
لا يشاء أحد أن يتبذلهم عند الحاكم إلا فعل وربما فعل هذا من لا حق له ليفتدي المدعى عليه من حضوره وشر خصمه بطائفة من ماله والاولى أولى لان ضرر تضييع الحق أعظم من هذا وللمستعدى عليه ان يوكل من يقوم مقامه ان كره الحضور.
* (مسألة) * (وان استعداه على القاضي قبله سأله عما يدعيه فان قال لي عليه دين من معاملة أو رشوة راسله بذلك، فان اعترف أمره بالخروج منه وإن انكر وقال انما يريد تبذيلي فان عرف أن لما ادعاه أصلا أحضره وإلا فهل يحضره؟ على روايتين) وجملة ذلك انه إذا استعدي على الحاكم المعزول لم يعده حتى يعرف ما يدعيه فيسأله عنه صيانة للقاضي عن الامتهان فان ذكر انه يدعي عليه حقا من دين أو غصب اعداه عليه وحكم بينهما كغير القاضي وكذلك ان ادعى انه أخذ منه رشوة على الحكم لان أخذ الرشوة عليه لا يجوز فهي كالغصب وان ادعى عليه الجور في الحكم وكان المدعي بينة أحضره وحكم بالبينة وان لم تكن معه بينة ففيه
وجهان (أحدهما) لا يحضره لان في احضاره وسؤاله امتهانا له وأعداء القاضي كثير وإذا فعل هذا معه لم يؤمن أن لا يدخل في القضاء أحد خوفا من عاقبته (والثاني) يحضره لجواز أن يعترف فان حضر واعترف حكم عليه وان أنكر فالقول قوله من غير يمين لان قول القاضي مقبول بعد العزل كما تقبل ولايته، وإن ادعى عليه انه قتل ابنه ظلما فهل يستحضره من غير بينة؟ فيه وجهان فان أحضره فاعترف حكم عليه وإلا فالقول قوله، وان ادعى انه أخرج عينا من يده بغير حق فالقول قول الحاكم من غير يمين ويقبل قوله للمحكوم له على ما سنذكره ان شاء الله تعالى.
* (مسألة) * (وإن قال حكم علي بشهادة فاسقين فالقول قوله بغير يمين) لان القول قوله في حكمه فلو قال حكمت على فلان بكذا قبل قوله بغير يمين فكذا في هذه المسألة لانه شاهد على فعل نفسه أشبه المرضعة إذا شهدت بالرضاع لم يلزمها يمين وكذلك القاسم إذا شهد بالقسمة لان الشاهد لا يمين عليه.
* (مسألة) * (وإن قال الحاكم المعزول كنت حكمت في ولايتي لفلان على لفلان بحق قبل قوله
وبه قال اسحاق ويحتمل أن لا يقبل قوله).
ذكره أبو الخطاب قال شيخنا وقول القاضي في فروع هذه المسألة يقتضي ان لا يقبل قوله ههنا وهو قول اكثر الفقهاء لان من لا يملك الحكم لا يملك الاقرار به كمن أقر بعتق عبد بعد بيعه، ثم اختلفوا فقال الاوزاعي وابن أبي ليلى هو بمنزلة الشاهد إذا كان معه شاهد آخر قبل
وقال أصحاب الرأي لا يقبل إلا شاهدان سواه يشهدان بذلك، وهو ظاهر مذهب الشافعي لان شهادته على نفسه لا تقبل.
ولنا انه لو كتب إلى غيره ثم عزل ووصل الكتاب بعد عزله لزم المكتوب إليه قبول كتابه فكذلك هذا ولانه اخبر بما حكم به وهو غير متهم فيجب قبوله كحال ولايته.
(فصل) فأما ان قال في ولايته كنت حكمت لفلان بكذا قبل قوله سواء قال قضيت عليه بشاهدين عدلين أو قال سمعت بينته وعرفت عدالتهم أو قال قضيت عليه بنكوله أو قال أقر فلان عندي لفلان بحق فحكمت به، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وابو يوسف، وحكي عن محمد بن الحسن انه لا يقبل حتى يشهد معه رجل عدل، لانه اخبار بحق على غيره فلم يقبل فيه قول واحد كالشهادة.
ولنا انه يملك الحكم فملك الاقرار به كالزوج إذا أخبر بالطلاق والسيد إذا أخبر بالعتق ولانه لو اخبر أنه رأى كذا وكذا فحكم به قبل كذا ههنا وفارق الشهادة فان الشاهد لا يملك اثبات ما أخبر به فأما ان قال حكمت بعلمي أو بالنكول أو بشاهدين ويمين في الاموال فانه يقبل أيضا وقال الشافعي لا يقبل قوله في القضاء بالنكول وينبني قوله حكمت عليه بعلمي على القولين في جواز القضاء بعلمه لانه لا يملك الحكم بذلك فلا يملك الاقرار به.
ولنا انه اخبر بحكمه فيما لو حكم به لنفذ حكمه فوجب قبوله كالصور التي تقدمت ولانه حاكم أخبر يحكمه في ولايته فوجب قبوله كالذي سلمه ولان الحاكم إذا حكم في مسألة يسوغ فيها الاجتهاد لم يسغ
نقض حكمه ولزم غيره امضاؤه والعمل به فصار بمنزلة الحكم بالبينة العادة ولا نسلم ما ذكره وان قال حكمت لفلان على فلان بكذا ولم يضف حكمه إلى بينة ولا غيرها وجب قبوله وهو ظاهر ما ذكره شيخنا في الكتاب المشروع وظاهر قول الخرقي لانه لم يذكر ما ثبت به الحكم وذلك لان الحاكم متى ما حكم بحكم يسوغ فيه الاجتهاد وجب قبوله وصار بمنزلة ما اجتمع عليه.
(فصل) فان أخبر القاضي بحكمه في غير موضع ولايته قبل وهو ظاهر كلام الخرقي لانه إذا قبل قوله بحكمه بعد العزل وزوال ولايته بالكلية فلان يقبل مع بقائها في غير موضع ولايته أولى وقال القاضي لا يقبل قوله وقال لو اجتمع قاضيان في غير ولايتهما كقاضي دمشق وقاضي مصر اجتمعا في بيت المقدس فاخبر أحدهما الآخر بحكم حكم به أو شهادة ثبتت عنده لم يقبل أحدهما قول صاحبه ويكونان كشاهدين اخبر أحدهما صاحبه بما عنده وليس له أن يحكم به إذا رجع إلى عمله لانه خبر من ليس بقاض في موضعه، وإن كانا جميعا في عمل أحدهما كأنهما اجتمعا في دمشق فان قاضي دمشق لا يعمل بما يخبره به قاضي مصر لانه يخبره في غير عمله وهل يعمل قاضي مصر بما أخبره به قاضي دمشق إذا رجع إلى مصر؟ فيه وجهان بناء على القاضي هل له أن يحكم بعلمه؟ على روايتين لان قاضي دمشق اخبره به في عمله ومذهب الشافعي في هذا كقول القاضي ههنا.
* (مسألة) * (فان ادعى على امرأة غير برزة لم يحضرها وامرها بالتوكيل فان وجبت عليها اليمين ارسل إليها من يحلفها).
إذا كان المدعى عليه امرأة فان كانت برزة وهي التي تبرز لقضاء حوائجها امرت بالتوكيل فان
توجهت اليمين عليها بعث الحاكم امينا معه شاهدان فيستحلفها بحضرتهما، فان أقرت شهدا عليها، وذكر القاضي أن الحاكم يبعث من يقضي بينها وبين خصمها في دارها وهو مذهب الشافعي لان النبي صلى الله عليه وسلم قال " واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها " فبعث إليها ولم يستدعها، وان أحضروا عندها كان بينهم وبينها ستر تتكلم من ورائه فان اعترفت للمدعي انها خصمه حكم بينهما وإن أنكرت ذلك جئ بشاهدين من ذوي رحمها يشهدان أنها المدعى عليها
ثم يحكم بينهما وان لم تكن بينه التحفت بجلبابها وأخرجت من وراء الستر لموضع الحاجة وما ذكرناه أولى ان شاء الله لانه أستر لها وإذا كانت خفرة منعها الحياء من النطق بحجتها والتعبير عن نفسها سيما مع جهلها بالحجة وقلة معرفتها بالشرع وحججه * (مسألة) * (وإن ادعى على غائب عن البلد في موضع لا حاكم فيه كتب إلى ثقات من أهل ذلك البلد ليتوسطوا بينهما فان لم يقبلوا قيل للخصم حقق ما تدعيه ثم يحضره وإن بعدت المسافة) إذا استعدي على غائب وكان الغائب في غير ولاية القاضي لم يكن له ان يعدي عليه فان كان في ولايته وله في بلده خليفة فان كانت له بينة ثبت الحق عنده وكتب إلى خليفته ولم يحضره وإن لم تكن بينة حاضرة نفذ إلى خصمه ليحاكمه عند خليفته وإن لم يكن له فيه خليفة وكان فيه من يصلح للقضاء قيل له حرر دعواك لانه يجوز أن يكون ما يدعيه ليس بحق عنده كالشفعة للجار وقيمة الكلب أو خمر الذمي فلا يكلف الحضور لما لا يقضى عليه به مع المشقة فيه بخلاف الحاضر فانه لا مشقة في
حضوره فإذا تحررت بعث فأحضر خصمه بعدت المسافة أو قربت وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف إن كان يمكنه أن يحضر ويعود فيأوى إلى موضعه أحضره وإلا لم يحضره ويوجه من يحكم بينهما، وقيل إن كانت المسافة دون مسافة القصر أحضره وإلا فلا ولنا أنه لابد من فصل الخصومة بين المتخاصمين فإذا لم تمكن إلا بمشقة فعل ذلك كما لو امتنع من الحضور فانه يؤدب ولان الحاق المشقة به أولى من الحاقها بمن ينفذه الحاكم ليحكم بينهما وإن كانت امرأة برزة لم يشترط في سفره هذا محرم نص عليه أحمد لانه حق آدمي وحق الآدمي مبني على الشح والضيق (باب طريق الحكم وصفته) إذا جلس إليه خصمان فله أن يقول من المدعي منكما؟ وله أن يسكت حتى يبتدئا ويستحب أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم رواه أبو داود وروى سعيد باسناده عن الشعبي قال كان بين عمر بن الخطاب وأبي بن كعب مداراة
في شئ فجعلا بينهما زيد بن ثابت فاتياه في منزله فقال له عمر أتيناك لتحكم بيننا في بينة تؤتي الحكم فوسع له زيد عن صدر فراشه فقال ههنا يا أمير المؤمنين فقال له عمر جرت في أول القضاء لكن أجلس مع خصمي فجلسا بين يديه فادعى ابي فانكر عمر فقال زيد لابي اعف أمير المؤمنين
من اليمين فحلف عمر ثم أقسم لا يدرك زيد باب القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء وقال علي رضي الله عنه حين خاصم اليهودي على درعه إلى شريح لو أن خصمي مسلم لجلست معه بين يديك ولان ذلك أمكن للحاكم في العدل بينهما والاقبال عليهما والنظر في خصومتهما (فصل) فإذا جلسا بين يديه فان شاء قال من المدعي منكما؟ لانهما حضرا لذلك، وإن شاء سكت ويقول القائم على رأسه من المدعي منكما؟ ان سكتا جميعا ولا يقول الحاكم ولا صاحبه لاحدهما تكلم لان في افراده بذلك تفضيلا له وتركا للانصاف قال عمرو بن قيس شهدت شريحا إذا جلس إليه الخصمان ورجل قائم على رأسه يقول أيكما المدعي فليتكلم؟ فان ذهب الآخر يشغب نهره حتى يفرغ المدعي ثم يقول تكلم فان بدأ احدهما فادعي فقال خصمه أنا المدعي لم يلفت إليه وقال أجب عن دعواه ثم ادع بما شئت فان ادعيا معا فقياس المذهب ان يقرع بينهما وهو قياس قول الشافعي لان احدهما ليس بأولى من الآخر وقد تعذر الجمع بينهما فيقرع بينهما كالمرأتين إذا زفتا في ليلة واحدة واستحسن ابن المنذر ان يسمع منهما جميعا وقيل يرجئ أمرهما حتى يتبين من المدعي منها؟ وما ذكرناه أولى لانه لا يمكن الجمع بين الحكم في القضيتين معا وارجاء امرهما اضرار بهما وفيما ذكرناه دفع للضرر بحسب الامكان وله نظير في مواضع من الشرع فكان أولى * (مسألة) * (ثم يقول للخصم ما تقول فيما ادعاه) لان شاهد الحال يدل على طلب المطالبة لان احضاره والدعوى انما يراد ليسأل الحاكم المدعى عليه فقد أغني ذلك عن سؤاله ويحتمل ألا يملك سؤاله عن ذلك لانه حق المدعي فلا يتصرف فيه بغير اذنه كالحكم له * (مسألة) * (وإن أقر لم يحكم له حتى يطالبه المدعي بالحكم) إذا أقر المدعي عليه لزمه ما ادعي عليه وليس للحاكم ان يحكم عليه الا بمسألة المقر له لان الحكم
عليه حق له فلا يستوفيه الا بمسألة مستحقة هكذا ذكره اصحابنا قال شيخنا: ويحتمل ان يجوز له الحكم قبل مسألة المدعي لان الحال تدل على ارادته ذلك فاكتفى بها كما اكتفى في مسألة المدعى عليه الجواب ولان كثيرا من الناس لا يعرف مطالبة الحاكم بذلك فيترك مطالبته به لجهله فيضيع حقه فعلى هذا يجوز له الحكم قبل مسألته، وعلى القول الاول ان سأله الخصم الحكم له حكم على المقر والحكم ان يقول ألزمتك ذلك أو قضيت عليك له أو يقول اخرج إليه منه فمتى قال له أحد هذه الثلاثة كان حكما بالحق * (مسألة) * (وإن أنكر مثل ان يقول المدعي اقرضته الفا أو بعته فيقول ما أقرضني ولا باعني أو ما يستحق علي ما ادعاه ولا شيئا منه أو لا حق له علي صح الجواب) * (مسألة) * (وللمدعي ان يقول لي بينة؟ وهذا موضع البينة فان لم يقل قال الحاكم ألك بينة؟ لما روي ان رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم حضرمي وكندي فقال الحضرمي يا رسول الله ان هذا غلبني على ارض لي فقال الكندي هي أرضي في يدي ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي " ألك بينة؟ - قال لا قال - فلك يمينه " وهو حديث حسن صحيح وإن كان المدعي عارفا بانه موضع البينة فالحاكم مخير بين ان يقول ألك بينة؟ وبين ان يسكت فإذا قال لي بينة حاضرة أمره باحضارها ذكره شيخنا في الكتاب المشروح وذكر في كتاب المغني ان المدعي إذا قال لي بينة لم يقل له الحاكم احضرها لان ذلك حق له فله ان يفعل ما يرى فإذا أحضرها لم يسألها الحاكم عما عندها حتى يسأله المدعي ذلك لانه حق له فلا يتصرف فيه
من غير اذنه فإذا سأله المدعي سؤالها قال من كانت عنده شهادة فليذكر إن شاء ولا يقول لهما اشهدا لانه أمر وكان شريح يقول للشاهدين ما أنا دعوتكما ولا أنهاكما ان ترجعا وما يقضي على هذا المسلم غيركما واني بكما أقضي اليوم وبكما اتقي يوم القيامة * (مسألة) * (وإذا سمع الحاكم الشهادة وكانت صحيحة حكم بها إذا سأله المدعي)
فيقول للمدعى عليه قد شهدا عليك فان كان عندك ما يقدح في شهادتهم فبينه عندي فان لم يظهر ما يقدح فيهما حكم عليه إذا سأل الحاكم لان الحكم بالبينة حق له فلا يستوفيه الا بمسالة مستحقه * (مسألة) * (ولا خلاف في أنه يجوز له الحكم بالاقرار والبينة في مجلسه إذا سمعه معه شاهدان فان لم يسمعه معه أحد أو سمعه معه شاهد واحد فله الحكم نص عليه) لان الاقرار أحد البيتين فجاز الحكم به في مجلسه كالشهادة وقال القاضي لا يحكم به حتى يسمعه معه شاهدان لانه إذا لم يسمعه معه أحد كان حكما بعلمه * (مسألة) * (وليس له الحكم بعلمه فيما رآه أو سمعه في غير مجلسه نص عليه وهو اختيار الاصحاب وعنه ما يدل على جواز ذلك سواء كان في حد أو غيره) ظاهر المذهب ان الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره وسواء في ذلك ما علمه قبل الولاية أو بعدها وهذا قول شريح والشعبي ومالك وأسحاق وأبي عبيد ومحمد بن الحسن وهو أحد قولى الشافعي وعن احمد رواية اخرى يجوز له ذلك وهو قول أبي يوسف وأبي ثور وهو القول للشافعي واختيار المزني لان النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت له هند ان أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من
النفقة ما يكفيني وولدي قال " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فحكم لها من غير بينة ولا إقرار لعلمه بصدقها وروى ابن عبد البر في كتابه ان عروة ومجاهد رويا ان رجلا من بني مخزوم استعدى عمر ابن الخطاب على أبي سفيان بن حرب انه ظلمه حدا في موضع كذا وكذا فقال عمر اني لاعلم الناس بذلك وربما لعبت انا وانت فيه ونحن غلمان فاتي بابي سفيان فأتاه به فقال عمر يا أبا سفيان انهض بنا إلى موضع كذا وكذا فنهضوا ونظر عمر فقال يا أبا سفيان خذ هذا الحجر من ههنا فضعه ههنا فقال والله لا أفعل فقال والله لتفعلن فقال والله لا أفعل فعلاه بالدرة وقال خذه لا أم لك فضعه ههنا فانك ما علمت قدم الظلم فأخذ أبو سفيان الحجر فوضعه حيث قال عمر ثم ان عمر استقبل القبلة فقال اللهم لك الحمد حيث لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه واذللته لي بالاسلام فاستقبل القبلة أبو سفيان وقال اللهم لك الحمد حيث لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الاسلام ما أذل به لعمر قال فحكم بعلمه ولان
الحاكم يحكم بالشاهدين لانهما يغلبان على الظن فما تحققه وقطع به كان أولى ولانه يحكم في تعديل الشهود وجرحهم فكذلك في ثبوت الحق قياسا عليه وقال أبو حنيفة ما كان من حقوق الله تعالى لا يحكم فيه بعلمه لان حقوق الله تعالى مبينة على المساهلة والمسامحة وأما حقوق الادميين فما علمه قبل ولايته لم يحكم به، وما علمه في ولايته حكم به لان ما علمه قبل ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود قبل ولايته، وما علمه في ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود في ولايته ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " انما انا بشر وانكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ان يكون ألحن بحجته من بعض فاقضي له على نحو ما اسمع منه " فدل على انه لم يقضي بما يسمع لا بما يعلم وقال النبي
صلى الله عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي " شاهداك أو يمينه ليس لك منه الا ذاك " وروي عن عمر رضي الله عنه انه تداعى عنده رجلان فقال له احدهما انت شاهدي فقال ان شئتما شهدت ولم أحكم أو أحكم ولا أشهد وذكر ابن عبد البر عن عائشة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث ابا جهم على على الصدقة فلاحاه رجل في فريضة فوقع بينهما شجاج فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فاعطاهم الارش ثم قال " اني خاطب الناس ومخبرهم انكم قد رضيتم ارضيتم؟ قالوا نعم فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر القصة وقال - ارضيتم؟ - قالوا لا وهم بهم المهاجرون فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فاعطاهم ثم صعد فخطب الناس فقال - ارضيتم؟ " قالوا نعم وهذا يبين انه لم يأخذ بعلمه وروى عن أبي بكر رضي الله عنه قال لو رأيت حدا على رجل لم آخذه حتى تقوم البينة ولان تجويز القضاء بعلمه يفضي إلى تهمته والحكم بما اشتهى ويحيله على علمه فأما حديث ابي سفيان فلا حجة فيه لانه فتيا لا حكم بدليل ان النبي صلى الله عليه وسلم افتى في حكم أبي سفيان من غير حضوره ولو كان حكما عليه لم يحكم عليه في غيبته وحديث عمر الذي رووه كان انكارا لمنكر رآه لا حكم بدليل انه ما وجدت منهم دعوى ولا انكار بشروطهما ودليل ذلك ما رويناه عنه ثم لو كان حكما كان معارضا بما رويناه عنه ويفارق الحكم بالشهادة فانه لا يفضي إلى تهمة بخلاف مسئلتنا، وأما الجرج والتعديل فانه يحكم فيه بعلمه بغير خلاف لانه لو لم يحكم فيه بعلمه لتسلسل فان المزكيين يحتاج إلى معرفة عدالتهما وجرحهما فإذا لم يعمل بعلمه احتاج كل واحد منهما إلى
مزكيين ثم كل واحد منهما يحتاج إلى مزكيين فيتسلسل وما نحن فيه بخلافه * (مسألة) * (وان قال المدعي مالي بينة فالقول قول المنكر مع يمينه فيعلمه ان له اليمين على خصمه فان سأله احلافه احلفه)
لان الحق له فإذا أحلفه خلى سبيله وليس له استحلافه قبل مسألة المدعي لان اليمين حق له فلم يجز استيفاؤها قبل مطالبة مستحقها كنفس الحق وسقطت الدعوى لما روى وائل بن حجر ان رجلا من حضرموت ورجلا من كندة اتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي ان هذا غلبني علي ارض لي ورثتها من أبي وقال الكندي ارضي وفي يدي لا حق له فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم " شاهداك أو يمينه " قال انه لا يتورع من شئ قال " ليس لك الا ذلك " رواه مسلم بمعناه * (مسألة) * (وان احلفه أو حلف من غير سؤال المدعي لم يعتد بيمينه) لانه أتي بها في غير وقتها فان سألها المدعي اعادها له لان الاولى لم تكن يمينه وان أمسك المدعي عن إحلاف خصمه الدعي عليه ثم اراد احلافه بالدعوى المتقدمة جاز لانه لم يسقط حقه منها وانما أخرها وان قال أبرأتك من هذه اليمين سقط حقه منها في هذه الدعوى أوله ان يستأنف الدعوى لان حقه لا يسقط بالابراء من اليمين وإن استأنف الدعوى وانكر المدعي عليه فله ان يحلفه لان هذه الدعوى غير الدعوى التي ابرأه بها من اليمين فان حلف سقطت الدعوي ولم يكن للمدعي ان يحلفه يمينا اخرى لا في هذا المجلس ولا في غيره * (مسألة) * (وان نكل قضى عليه بالنكول) نص عليه واختاره عامة شيوخنا فيقول له ان حلفت والا قضيت عليك ثلاثا فان لم يحلف قضى عليه إذا سأل المدعي ذلك لما روى أحمد ان ابن عمر باع زيد بن ثابت عبدا فادعى عليه زيد انه باعه اياه عالما بعيبه فانكره ابن عمر فتحاكما إلى عثمان رضي الله عنه فقال عثمان احلف بانك ما علمت به عيبا فأبى ابن عمر ان يحلف فرد عليه العبد ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " اليمين على المدعي عليه "
فحصرها في جنبته فلم تشرع لغيره وهذا مذهب أبي حنيفة واختار أبو الخطاب أنه لا يحكم بالنكول ولكن يرد اليمين على خصمه وقال قد صوبه أحمد وقال ما هو ببعيد يحلف ويستحق فيقول الحاكم لخصمه لك رد اليمين على المدعي فان ردها حلف المدعي وحكم له لما روى ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على صاحب الحق رواه الدار قطني وروي ان المقداد اقترض من عثمان مالا فقال عثمان هو سبعة آلاف وقال المقداد هو أربعة آلاف فقال المقداد لعثمان احلف أنه سبعة آلاف فقال له عمر انصفك فان حلف حكم له * (مسألة) * (فان نكل أيضا صرفهما) إذا نكل المدعي سئل عن سبب نكوله لانه لا يجب بنكوله لغيره حق بخلاف المدعى عليه فان قال امتنعت لان لي بينة اقيمها أو حسابا انظر فيه فهو على حقه من اليمين ولا يضيق عليه في اليمين لانه لا يتأخر بتركه الا حقه بخلاف المدعى عليه وان قال لا أريد ان أحلف فهونا كل فان عاد احدهما فبذل اليمين لم يسمعها في ذلك المجلس لانه اسقط حقه منها حتى يحتكما في مجلس آخر فإذا استأنف الدعوى أعيد الحكم بينهما كالاول * (مسألة) * (وان قال المدعي لي بينة بعد قوله مالي ببينة لم يسمع ذكره الخرقي) لانه أكذب بينته لكونه اقر أنه لا يشهد له أحد فان شهد له إنسان كان تكذيبا له ويحتمل ان يقبل لانه يجوز ان ينسى ويكون الشاهدان سمعا منه وصاحب الحق لا يعلمه فلا يثبت ذلك أنه كذب نفسه * (مسألة) * (وان قال لا أعلم لي بينة ثم قال علمت لي بينة سمعت) لانه يجوز ان تكون له بينة لم يعلمها ثم علمها
* (مسألة) * (وان قال شاهدان نحن نشهد لك فقال هذان بينتي سمعت) قاله أبو الخطاب لما ذكرنا * (مسألة) * (وان قال ما أريد أن تشهد الي لم يكلف إقامة البينة) لانه أسقط حقه منها * (مسألة) * (وان قال لي بينة وأريد يمينه فان كانت غائبة فله احلافه وان كانت حاضرة فهل له ذلك؟ على وجهين)
إذا قال المدعي لي بينة غائبة قال الحاكم لك يمينه فان شئت فاستحلفه وان شئت اخرته إلى ان تحضر بينتك وليس لك مطالبته بكفيل ولا ملازمته حتى تحضر البينة نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " شاهداك أو يمينه ليس لك الا ذلك " فان أحلفه ثم حضرت بينته حكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق لان اليمين إنما يصار إليها عند عدم البينة فادا وجدت البينة بطلت اليمين وتبين كذبها، فان قال لي بينة حاضرة وأريد يمينه ثم أقيم بينتي لم يملك ذلك في أحد الوجهين وفي الآخر له احلافه وهو قول أبي يوسف كما لو كانت البينة غائبة ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " شاهداك أو يمينه ليس لك الا ذلك " وأو للتخيير بين شيئين فلا يكون الجمع بينهما لانه أمكن فصل الخصومة بالبينة فلم يشرع غيرها معها مع إرادة المدعي اقامتها وحضورها كما لو يطلب يمينه ولان اليمين بدل فلم يجب الجمع بينها وبين مبدلها كسائر الابدال مع مبدلاتها وان قال المدعي لا أريد إقامتها وإنما أريد يمينه اكتفي بها واستحلف لان البينة حقه فإذا رضي باسقاطها وترك اقامتها فله ذلك كنفس الحق فان حلف المدعي عليه ثم أراد المدعي اقامة
بينة لم يملك ذلك في أحد الوجهين لانه قد أسقط حقه من اقامتها ولان تجويز اقامتها يفتح باب الحيلة لانه يقول لا أريد اقامتها ليحلف خصمه ثم يقيمها (والثاني) له ذلك لان البينة لا تبطل بالاستحلاف كما لو كانت غائبة فان كان له شاهد واحد في المال عرفه الحاكم ان له ان يحلف مع شاهده ويستحق فان قال لا أحلف أنا وارضى بيمينه استحلف فإذا حلف سقط الحق عنه فان عاد المدعي بعدها وقال أنا احلف مع شاهدي لم يستحلف ولم يسمع منه ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لان اليمين فعله وهو قادر عليها فامكنه ان يسقطها بخلاف البينة وان عاد قبل ان يحلف المدعى عليه فبذل اليمين لم يكن له ذلك في هذا المجلس وكل موضع قلنا يستحلف المدعى عليه فان الحاكم يقول له ان حلفت والا جعلتك ناكلا وقضيت عليك ثلاثا فان حلف والا حكم عليه بنكوله إذا سأله المدعي ذلك * (مسألة) * (فان سكت عن جواب المدعي فلم يقر ولم ينكر حبسه الحاكم حتى يجيب ولا يجعله بذلك ناكلا)
ذكره القاضي في المحرر وقال أبو الخطاب يقول له الحاكم ان اجبت والا جعلناك ناكلا وحكمت عليك ويكرر ذلك ثلاثا فان أجاب والا جعله ناكلا وحكم عليه لانه ناكل عما توجه الجواب فيه فيحكم عليه بالنكول عنه باليمين * (مسألة) * (وان حلف المنكر ثم احضر المدعي بينة حكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق) وجملة ذلك ان المدعي إذا ذكر ان له بينة بعيدة ولا يمكنة إحضارها أو لا يريد اقامتها فطلب اليمين من المدعى عليه احلف له فإذا حلف ثم أحضر المدعي بينة حكم له وبهذا قال شريح والشعبي ومالك والثوري والليث والشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وإسحاق وحكي عن ابن أبي ليلى وداود
ان بينته لا تسمع لان اليمين حجة المدعى عليه فلا تسمع بعدها حجة المدعي كما لا تسمع يمين المدعى عليه بعد بينة المدعي ولنا قول عمر رضي الله عنه البينة الصادقة أحب الي من اليمين الفاجرة، وظاهر هذه البينة الصدق ويلزم من صدقها فجوز اليمين المتقدمة فتكون اولى ولان كل حالة يجب عليه الحق فيها باقراره يجب عليه بالبينة كما قبل اليمين وما ذكراه لا يصح لان البينة الاصل واليمين بدل عنها ولهذا لا تشرع الا عند تعذرها والبدل يبطل بالقدرة على المبدل كبطلان التيمم بالقدرة على الماء ولا يبطل الاصل بالقدرة على البدل ويدل على الفرق بينهما أنهما حال اجتماعهما وامكان سماعهما تسمع البينة ويحكم بها ولا تسمع اليمين ولا يسأل عنها (فصل) فان طلب المدعي حبس المدعى عليه واقامة كقيل به إلى اقامة ببيته البعيدة لم يقبل منه ولم تكن له ملازمة خصمه نص عليه أحمد لانه لم يثبت له قبله حق يحبس به ولا يقيم به كفيلا ولان الحبس عذاب فلا يلزم معصوما لم يتوجه عليه حق ولو جاز ذلك لتمكن كل ظالم من حبس من شاء من الناس بغير حق وان كانت ببيته قريبة فله ملازمته حتى يحضرها لان ذلك من ضرورة اقامتها فانه لو لم يتمكن من ملازمته لذهب من مجلس الحاكم ولا تمكن اقامتها الا بحضرته ولانه لما تمكن من احضاره مجلس الحكم حتى يقيم فيه البينة تمكن من ملازمته فيه حتى تحضر البينة ويفارق البينة البعيدة
ومن لا يمكن حضورها فان الزامه الاقامة إلى حين حضورها يحتاج إلى حبس أو ما يقوم مقامه ولا سبيل إليه (فصل) ولو أقام المدعي شاهدا واحدا ولم يحلف معه وطلب يمين المدعى عليه أحلف له ثم ان أحضر شاهدا آخر بعد ذلك كملت بينته وقضي بها لما ذكرنا في التي قبلها والله أعلم
* (مسألة) * (وان قال لي مخرج مما ادعاه لم يكن مجيبا) لان الجواب أحد أمرين اقرار أو إنكار وليس هذا واحدا منهما * (مسألة) * (وان قال لي حساب أريد ان أنظر فيه لم يلزم المدعي انظاره) لان حق الجواب يثبت له حالا فلم يلزمه انظاره كما لو ثبت عليه الدين وذكر شيخنا في كتاب الكافي أنه ينظر ثلاثا ولا يهمل أكثر منها لانه كثير وهو الصحيح ان شاء الله تعالى لانه يحتاج إلى ذلك لمعرفة قدر دينه أو يعلم أهل عليه شئ اولا والثلاث مدة يسيرة * (مسألة) * (وان قال قضيته أو ابرأني ولي ببينة بالقضاء أو الابراء وسأل الانظار انظر ثلاثا) لانها قريبة وللمدعي ملازمته لئلا يهرب أو يتغيب ولا يؤخر الحق عن المدة التي انظر فيها فان عجز عن اقامة البينة حلف المدعي على نفي ما ادعاه واستحق لانه يصير منكرا واليمين على المنكر (فصل) فان شهدت البينة للمدعي فقال المدعى عليه احلفوه أنه يستحق ما شهدت به البينة لم يحلف لان في ذلك طعنا على البينة * (مسألة) * (وان ادعي عليه عينا في يده فاقربها لغيره جعل الخصم فيها وهل يحلف المدعى عليه على وجهين فان كان المقر له حاضرا مكلفا سئل فان ادعاها لنفسه ولم تكن بينة وأخذها وان اقر بها للمدعي سلمت إليه وان قال ليست لي ولا أعلم لمن هي؟ سلمت إلى المدعي في أحد الوجهين في الآخر لا تسلم إليه الا ببينة ويجعلها الحاكم عند امين، وان اقر بها لغائب أو صبي أو مجنون سقطت عنه الدعوى، ثم ان كان للمدعي بينة سلمت إليه وهل يحلف؟ على وجهين وان لم تكن له بينة حلف المدعي عليه انه لا يلزمه
تسليمها إليه واقرت في يده الا ان يقيم بينة انها لمن سمى فلا يحلف
وجملة ذلك ان الانسان إذا ادعى دارا في يد غيره فقال الذي هي في يده ليست لي إنما هي لفلان وكان المقر بها له حاضرا سئل عن ذلك فان صدقه صار الخصم فيها وكان صاحب اليد لان من هي في يده اعترف ان يده بائنة عن يده واقرار الانسان بما في يده اقرار صحيح فيصير خصما للمدعي فان كانت للمدعي بينة حكم له بها، وان لم تكن له بينة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، وان قال المدعي احلفوا المقر الذي كانت العين في يده انه لا يعلم انها لي فعليه اليمين لانه لو أقر بها لزم الغرم كما لو قال هذه العين لزيد ثم قال هي لعمرو فانها تدفع إلى زيد ويغرم قيمتها لعمرو ومن لزمه الغرم مع الاقرار لزمته اليمين مع الانكار، وفيه وجه انه لا يحلف لانه أقام المقر له مقام نفسه فيقوم مقامه في اليمين وتجزئ اليمين عنهما فان رد المقر له الاقرار فقال ليست لي وانما هي للمدعي حكم له بها، وان لم تكن له بينة ففيه وجهان (أحدهما) تدفع إلى المدعي لانه يدعيها ولا منازع له فيها ولان من هي في يده لو ادعاها ثم نكل قضينا له بها فمع عدم ادعائه لها اولى (والثاني) لا تدفع إليه لانه لم يثبت لها مستحق لان المدعي لا يد له ولا بينة وصاحب اليد معترف انها ليست له فيأخذها الامام فيحفظها لصاحبها وهذا الوجه الذي ذكره القاضي والاول أصح لما ذكرنا من دليله ولاصحاب الشافعي وجهان كهذين ووجه ثالث ان المدعي يحلف انها له وتسلم إليه ويتخرج لنا مثله
بناء على القول برد اليمين إذا نكل المدعى عليه وان قال المقر له هي لثالث انتقلت الخصومة إليه وصار بمنزلة صاحب اليد لانه أقر له بها من له اليد حكما * (مسألة) * (وان أقر بها الغائب أو لغير مكلف معين كالصبي والمجنون صارت الدعوى عليه فان لم تكن للمدعي بينة لم يقض له بها) لان الحاضر يعترف انها ليست له، ولا يقضى على الغائب بمجرد الدعوى ويقف الامر حتى يقدم الغائب ويصير غير المكلف مكلفا وتكون الخصومة معه، فان قال المدعي احلفو إلى المدعي عليه أحلفناه لما تقدم، وان اقر بها للمدعي لم تسلم إليه لانه اعترف انها لغيره ويلزمه ان يغرم له قيمتها لانه فوتها عليه باقراره بها لغيره، وان كان مع المدعي بينة سمعها الحاكم وقضى بها وكان الغائب على
خصومته متى خطر له ان يقدح في بينة المدعي وان يقيم بينة تشهد بانتقال الملك إليه من المدعي، وان أقام بينة انها ملكه فهل يقضي به؟ على وجهين بناء على تقديم بينة الداخل والخارج فان قلنا تقدم بينة الخارج فأقام الغائب بينة تشهد له بالملك والنتاج أو لسبب من أسباب الملك فهل تسمع بينته ويقضى بها؟ على وجهين فان كان مع المقر بينة تشهد بها للغائب سمعها الحاكم ولم يقض بها لان البينة للغائب والغائب لم يدعها هو ولا وكيله وانما سمعها الحاكم لما فيها من الفائدة وهو زوال التهمة عن الحاضر وسقوط اليمين عنه إذا ادعى عليه أنك تعلم انها لي ويتخرج ان يقضى بها إذا قلنا بتقديم بينة الداخل وان للمودع المحاكمة في الوديعة إذا غصبت لانها بينة مسموعة فيقضى بها كبينة المدعي إذا لم تعارضها بينة أخرى فان ادعى من هي في يده انها معه باجارة أو عارية وأقام بينة بالملك للغائب لم يقض بها لوجهين (احدهما) ان ثبوت الاجارة والعارية يترتب على ثبوت الملك للمؤجر ولا يمكن ثبوت الملك
للمؤجر بهذه البينة فلا تثبت الاجارة المترتبة عليها (والثاني) ان بينة الخارج مرتبة على بينة الداخل ويتخرج القضاء بها على تقديم بينة الداخل وكون الحاضر له فيها حق ومتى عاد المقر بها لغيره فاعادها لنفسه لم تسمع دعواه لانه اقر بانه لا يملكها فلا يسمع منه الرجوع عن اقراره والحكم في غير المكلف كالحكم في الغائب على ما ذكرناه.
* (مسألة) * (وان أقر بها لمجهول قيل له اما ان تعرفه واما أن نجعلك ناكلا وقضينا عليك فان أصر قضي عليه بالنكول).
لانه لا تمكن الدعوى على مجهول فيضيع الحق باقراره هذا فيجب ان لا يقبل كما لو يسكت.
* (فصل) * قال رحمه الله (ولا تصح الدعوى إلا محررة تحريرا يعلم به المدعى إلا في الوصية والاقرار فانه يصح بالمجهول) أما في غير ذلك فلا يصح لان الحاكم يسأل المدعى عليه عما ادعاه المدعي فان اعترف به لزمه ولا يمكن ان يلزمه مجهولا ويفارق الاقرار فان الحق عليه فلا يسقط بتركه اثباته وانما صحت الدعوى في الوصية مجهولة فانها تصح مجهولة فانه لو وصى له بشئ أو سهم صح فلا يمكنه ان يدعيها إلا مجهولة
كما يثبت وكذلك الاقرار لما صح ان يقر بمجهول صح لخصمه ان يدعي عليه انه أقر له بمجهول.
إذا ثبت هذا فان كان المدعي أثمانا فلابد من ذكر ثلاثة أشياء الجنس والنوع والقدر فيقول عشرة دنانير مصرية وان اختلفت بالصحاح والمكسرة.
* (مسألة) * (فان كان المدعى عينا حاضرة عينها بالاشارة لانها تعلم بذلك وان كانت غائبة ذكر صفاتها ان كانت تنضبط بها وإلا ذكر قيمتها) لانها لا تتميز ولا تصير معلومة إلا بذلك فان تعذر ذلك رجعنا إلى القيمة كما لو تلفت العين.
* (مسألة) * (وان كانت تالفة من ذوات الامثال ذكر قدرها وجنسها وصفتها).
لان المثل واجب في ذوات الامثال فوجبت فيه هذه الصفات لانه لا يتحقق المثل بدونها وان ذكر قيمتها كان أولى لانه احصر، وإن كان مما لا مثل له كالنبات والحيوان ذكر قيمته لانها تجب بتلفه وكذلك ان كان جوهرا تعين ذكر قيمته لانها تجب بتلفه لانها لا تنضبط إلا بذلك فان كان المدعى دارا فلابد من بيان موضعها وحدودها فيدعي ان هذا بحدودها وحقوقها لي وانها في يده ظلما وأنا أطالبه بردها وان ادعى عليه ان هذه الدار لي وانه يمنعني منها صحت الدعوى وان لم يقل انها في يده لانه يجوز ان ينازعه ويمنعه وان لم تكن في يده وان ادعى جراحة فيها أرش معلومة كالموضحة من الحر لم يحتج إلى ذكر أرشها لانه معلوم وان كانت من عبد أو كانت من حر لا مقدر فيها فلابد من ذكر أرشها وان ادعى على أبيه دينا لم تسمع الدعوى حتى يدعي ان اباه مات وترك في يده مالا لان الولد لا يلزمه قضاء دين والده ما لم يكن كذلك ويحتاج ان يذكر تركة ابيه ويحررها ويذكر قدرها كما يصنع في قدر الدين هكذا ذكره القاضي، قال شيخنا والصحيح انه يحتاج إلى ذكر ثلاثة أشياء قدر دينه وموت ابيه وانه وصل إليه من تركة ابيه ما فيه وفاء لدينه ان قال ما فيه وفاء لبعض دينه احتاج ان يذكر ذلك القدر والقول قول المدعى عليه في نفي تركة الاب مع يمينه وكذلك ان انكر موت أبيه ويكفيه أن يحلف على نفي العلم لانه على نفي فعل الغير وقد يموت ولا يعلم به ابنه، ويكفيه ان يحلف انه ما وصل إليه من تركة أبيه شئ ولا يلزمه ان يحلف ان أباه لم يخلف شيئا لانه قد يخلف تركة لا تصل
إليه فلا يلزمه الايفاء منه.
* (مسألة) * (وان ادعى نكاحا فلابد من ذكر المرأة بعينها إن حضرت وإلا ذكر اسمها ونسبها وذكر شروط النكاح وانه تزوجها بولي مرشد وشاهدي عدل ورضاها في الصحيح من المذهب ان كانت ممن يعتبر رضاها).
وهذا منصوص الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك لا يحتاج إلى ذكر شرائطه لانه نوع ملك فأشبه ملك العبد الا انه لا يحتاج أن يقول وليست معتدة ولا مرتدة.
ولنا ان الناس اختلفوا في شرائط النكاح فمنهم من يشترط الولي والشهود ومنهم من لا يشترط إذن البكر البالغ لابيها في تزويجها ومنهم من يشترطه وقد يدعي نكاحا يعتقده صحيحا والحاكم لا يرى صحته ولا ينبغي أن يحكم بصحته مع جهله بها ولا يعلمها ما لم يذكر الشروط وتقوم البينة بها ويفارق المال فان أسبابه لا تنحصر وقد يخفى على المدعي سبب ثبوت حقه والعقود تكثر شروطها ولذلك اشترطنا لصحة البيع شروطا سبعة فربما لا يحسن المدعي عددها ولا يعرفها والاموال مما يتساهل فيها ولذلك افترقا في اشتراط الولي والشهود في عقوده فافترقا في الدعوى وأما الردة والعدة فالاصل عدمهما ولا يختلف الناس فيه ولا تخ؟ لف به الاغراض فان كانت المرأة امة والزوج حرا فقياس ما ذكرناه انه يحتاج إلى عدم الطول وخوف العنت لانهما من شرائط صحة نكاحهما فأما ان ادعى استدامة الزوجية ولم يدع العقد لم يحتج إلى ذكر شروطه في أحد الوجهين لانه يثبت بالاستفاضة ولو اشترط ذكر الشروط لاشترطت الشهادة به ولا يلزم ذلك في شهادة الاستفاضة وفي الثاني يحتاج إلى ذكر الشروط لانه دعوى نكاح أشبه دعوى العقد.
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: