الفقه الحنبلي - مناسك الحج2

(أحدها) قوله (دعي عمرتك) و (الثاني) قوله (وامتشطي) و (الثالث) قوله (هذه عمرة مكان عمرتك) ولنا ما روى جابر قال: أقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عركت ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تبكي فقال " ما شأنك؟ " قالت شأني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحل ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن فقال " إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج " ففعلت ووقفت المواقف حتى أذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ثم قال " قد حللت من حجتك وعمرتك " قالت يارسول الله أني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال " فاذهب بها يا عبد الرحمن فاعمرها من التنعيم " وروى طاوس عن عائشة أنها قالت أهللت بعمرة فقدمت ولم أطف حتى حضت فنسكت المناسك كلها، وقد أهللت بالحج فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " يوم النفر يسعك طوافك لحجك وعمرتك " فأبت فبعث معها عبد الرحمن بن أبي بكر فأعمرها من التنعيم.
رواهما مسلم وهما يدلان على جميع ما ذكرنا، ولان ادخال الحج على العمرة جائز بالاجماع من غير خشية الفوات فمع خشيته أولى، وقال
ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن لمن أهل بالعمرة أن يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف بالبيت، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي في حجة الوداع أن يهل بالحج مع العمرة ومع امكان الحج مع بقاء العمرة لا يجوز رفضها كغير الحائض، فأما حديث عروة فان قوله " انقضي رأسك وامتشطي ودعي العمرة " انفرد به عروة وخالف به كل من روى عن عائشة حين حاضت وقد روي ذلك طاوس والقاسم والاسود وغيره عن عائشة فلم يذكروا ذلك، وحديث جابر وطاوس مخالفان لهذه الزيادة
وقد روى حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن ابيه عن عائشة حديث حيضها فقال فيه حدثني غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها " دعي عمرتك، وانقضي رأسك وامتشطي " وذكر تمام الحديث، وهذا يدل على أنه لم يسمع من عائشة هذه الزيادة وهو مع ما ذكرنا من مخالفة بقية الرواة يدل على الوهم مع مخالفتها للكتاب والاصول إذ ليس لنا موضع آخر يجوز فيه رفض العمرة مع امكان اتمامها، ويحتمل أن قوله " دعي العمرة " أي دعيها بحالها وأهلي بالحج معها أو دعي أفعال العمرة فانها تدخل في أفعال الحج، فأما العمرة من التنعيم فلم يأمرها بها النبي صلى الله عليه وسلم، وانما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم اني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال " فاذهب بها يا عبد الرحمن فاعمرها من التنعيم " وروى الاثرم باسناده عن الاسود عن عائشة رضي الله عنها قال: قلت اعتمرت بعد الحج؟ قالت والله ما كانت عمرة ما كانت الا زيارة ورب البيت انما هي مثل نفقتها.
قال احمد: انما أعمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة حين ألحت عليه فقالت يرجع الناس بنسكين وأرجع بنسك فقال " يا عبد الرحمن أعمرها " فنظر إلى أدنى الحل فأعمرها منه (مسألة) (ومن أحرم مطلقا صح وله صرفه إلى ما شاء) يصح الاحرام بالنسك المطلق وهو أن لا يعين حجا ولا عمرة لانه إذا صح الاحرام مع الابهام صح مع الاطلاق قياسا عليه، فإذا أحرم مطلقا فله صرفه إلى ما شاء من الانساك لان له أن يبتدئ
الاحرام بأيها شاء فكان له صرف المطلق إلى ذلك.
والاولى صرفه إلى العمرة لانه إن كان في غير أشهر الحج فالاحرام بالحج مكروه أو ممتنع، وإن كان في أشهر الحج فالعمرة أولى لان التمتع أفضل وقد قال احمد يجعله عمرة لان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا موسى حين أحرم بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلها عمرة كذا هذا
(مسألة) (وان أحرم بمثل ما أحرم به فلان انعقد احرامه بمثله) يصح ابهام الاحرام وهو أن يحرم بما أحرم به فلان لما روى أبو موسى رضي الله عنه قال قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء فقال لي بما أهللت؟ فقلت لبيك باهلال كاهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أحسنت " فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم قال " حل " متفق عليه وروى جابر وأنس أن عليا قدم من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بما أهللت؟ فقال أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جابر في حديثه قال " فاهد وأمكث احراما " وقال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا أن معي هديا لحللت " متفق عليهما ولا يخلو من أبهم احرامه من أربعة أحوال (أحدها) أن يعلم ما أحرم به فلان فينعقد حرامه بمثله فان عليا رضي الله عنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " ماذا قلت حين فرضت الحج؟ " قال قلت اللهم اني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فان معي الهدي فلا تحل " (الثاني) أن لا يعلم ما أحرم به فلان فيكون حكمه حكم الناسي على ما سنذكره ان شاء الله تعالى (الثالث) أن يكون فلان قد أحرم مطلقا فيكون حكمه حكم الفصل الذي قبله (الرابع) أن لا يعلم هل أحرم فلان أو لا فحكمه حكم من لم يحرم لان الاصل عدم احرامه فيكون احرامه ههنا مطلقا يصرفه إلى ما شاء فان صرفه قبل الطواف وقع طوافه عما صرف إليه، وان طاف قبل صرفه لم يعتد بطوافه لانه طاف لا في حج ولا عمرة
(مسألة) (وان أحرم بحجتين أو عمرتين انعقد احرامه باحداهما)
إذ احرم بحجتين أو عمرتين انعقد باحداهما ولغت الاخرى، وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة ينعقد بهما وعليه قضاء احداهما لانه احرم بها ولم يتمها ولنا أنهما عبادتان لا يلزمه المضي فيهما فلم يصح الاحرام بهما كالصلاتين، وعلى هذا لو أفسد حجه وعمرته لم يلزمه إلا قضاؤها وعند أبي حنيفة يلزمه قضاؤهما معا بناء على صحة احرامه بهما (مسألة) (وان احرم بنسك ونسيه جعله عمرة وقال القاضي يصرفه إلى ما شاء) أما إذا احرم بنسك ونسيه قبل الطواف فله صرفه إلى اي الانساك شاء فانه ان صرفه إلى عمرة وكان المنسي عمرة فقد اصاب وان كان حجا مفردا أو قارنا فله فسخهما إلى العمرة على ما ذكرناه وان صرفه إلى القران وكان المنسي قرانا فقد اصاب وان كان عمرة فادخال الحج على العمرة جائز قبل الطواف فيصير قارنا، وان كان مفردا لغا احرامه بالعمرة، وصح حجه، وسقط فرضه وان صرفه إلى الافراد وكان مفردا فقد اصاب وان كان متمتعا فقد ادخل الحج على العمرة وصار قارنا في الحكم وفيما بينه وبين الله تعالى وهو يظن انه مفرد وان كان قارنا فكذلك والمنصوص عن احمد انه يجعله عمرة قال القاضي هذا على سبيل الاستحباب لانه إذا استحب ذلك مع العلم فمع عدمه اولى وقال أبو حنيفة يصرفه إلى القران، وهو قول الشافعي الجديد، وقال في القديم يتحري فيبني على غالب ظنه لانه من شرائط العبادة فيدخله التحري كالقبلة ومبنى الخلاف على فسخ الحج إلى العمرة فانه جائز عندنا ولا يجوز عندهم فعلى هذا ان صرفه إلى المتعة فهو متمتع عليه دم المتعة ويجزئه عن الحج والعمرة جميعا وان صرفه إلى افراد أو قران لم يجزه عن العمرة إذ من المحتمل ان يكون المنسي حجا مفردا
وليس له ادخال العمرة على الحج فتكون صحة العمرة مشكوكا فيها فلا تسقط بالشك ولا دم عليه لذلك فانه لم يثبت حكم القران يقينا فلا يجب الدم مع الشك في سببه، ويحتمل ان يجب وأما إن شك بعد الطواف لم يجز صرفه إلا إلى العمرة لان ادخال الحج على العمرة بعد الطواف غير جائز إلا ان يكون معه هدي فان صرفه إلى حج أو قران فانه يتحلل بفعل الحج ولا يجزئه واحد من النسكين لانه يحتمل أن يكون حجا وادخال العمرة عليه غير جائز فلم يجزه عن واحد منهما مع
الشك ولا دم عليه للشك فيما يوجب الدم ولا قضاء عليه للنسك فيما يوجبه، وإن شك وهو في الوقوف بعد الطواف والسعي جعله عمرة فقصر، ثم أحرم بالحج فانه إن كان المنسي عمرة فقد أصاب وكان متمتعا، وإن كان أفرادا أو قرانا لم ينفسخ بتقصيره وعليه دم بكل حال لانه لا يخلو إما أن يكون متمتعا عليه دم المتعة أو غير متمتع فلزمه دم لتقصيره، وإن شك ولم يكن طاف وسعى جعله قرانا لانه إن كان قرانا فقد أصاب، وإن كان معتمرا فقد أدخل الحج على العمرة وصار قارنا، وإن كان مفردا لغا احرامه بالعمرة وصح احرامه بالحج، وإن صرفه إلى الحج جاز ايضا، ولا يجزئه عن العمرة في هذه المواضع لاحتمال أن يكون مفردا وادخال العمرة على الحج غير جائز ولا دم عليه للشك في وجود سببه (مسألة) (وان أحرم عن رجلين وقع عن نفسه) إذا استنابه اثنان في النسك فاحرم عنهما به وقع عن نفسه دونهما لانه لا يمكن وقوعه عنهما،
وليس أحدهما أولى به من الآخر، وان أحرم عن نفسه وغيره وقع عن نفسه لانه إذا وقع عن نفسه ولم ينوها فمع نيته أولى (مسألة) (وان أحرم عن أحدها لا بعينه وقع عن نفسه، وقال أبو الخطاب له صرفه إلى ايهما شاء) اما إذا أحرم عن أحدهما غير معين فانه يقع عن نفسه أيضا لان أحدهما ليس أولى من الآخر أشبه المسألة قبلها.
ويحتمل أن يصح وله صرفه إلى ايهما شاء اختاره أبو الخطاب لان الاحرام يصح بالمجهول فصح عن المجهول كما لو أحرم مطلقا فان لم يفعل حتى طاف شوطا وقع عن نفسه ولم يكن له صرفه إلى احدهما لان الطواف لا يقع عن غير معين (مسألة) (وإذا استوى على راحلته لبى تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم " لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " تستحب التلبية إذا استوى على راحلته لان النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها وأدنى أحوال الامر الاستحباب.
وروى سهل بن سعد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم يلبي الا
لبى ما عن يمينه من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الارض من ههنا وههنا " وتستحب البداية بها إذا استوى على راحلته لما روى أنس وابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ركب راحته واستوت
به أهل رواه البخاري.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الاحرام حين فرغ من صلاته فلما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل يعني لبى ومعنى الاهلال رفع الصوت من قولهم استهل الصبي إذا صاح والاصل فيه انهم كانوا إذا رأوا الهلال صاحوا فقيل لكل صائح مستهل وانما يرفع بالتلبية وهذه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم روى ابن عمر في المتفق عليه ان تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " رواه مسلم عن جابر.
والتلبية مأخوذة من لب بالمكان إذا لزمه فكأنه قال أنا أقيم على طاعتك وأمرك غير خارج عن ذلك، ولا شارد عليك هذا ونحوه.
وثنوها وكرروها لانهم أرادوا اقامة بعد إقامة كما لو قالوا حنانيك أي رحمة بعد رحمة أو رحمة مع رحمة أو ما أشبهه.
وقال جماعة من العلماء معنى التلبية اجابة نداء ابراهيم عليه السلام حين نادى بالحج.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال.
لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له أذن في الناس بالحج قال: رب وما يبلغ صوتي قال أذن
وعلي البلاغ فنادى ابراهيم أيها الناس كتب عليكم الحج فسمعه ما بين السماء والارض أفلا ترى الناس يجيئون من أقطار الارض يلبون ويقولون لبيك إن الحمد (بكسر الهمزة) نص عليه أحمد والفتح جائز والكسر أجود قال ثعلب: من قال أن بالفتح فقد خص ومن قال بكسر الالف فقد عم يعني أي إن من كسر فقد جعل الحمد لله على كل حال ومن فتح فمعناه لبيك لان الحمد لك أي لهذا السبب (فصل) ولا تستحب الزيادة على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكره ونحوه.
وقال الشافعي وابن المنذر لقول جابر فاهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد " لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " وأهل الناس بهذا الذي يهلون ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته وكان ابن عمر يلبي بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزيد مع هذا لبيك لبيك، لبيك وسعديك والخير
بيديك والرغباء اليك والعمل متفق عليه وزاد عمر رضي الله عنه لبيك ذا النعماء والفضل لبيك لبيك مرهوبا ومرغوبا اليك لبيك هذا معناه رواه الاثرم ويروي أن انسا كان يزيد: لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا.
ففي هذا دليل على أنه لا بأس بالزيادة ولا تستحب لان النبي صلى الله عليه وسلم لزم تلبيته فكررها ولم يزد عليها: وقد روي أن سعدا سمع بعض بني أخيه وهو يلبي يا ذا المعارج فقال انه لذو المعارج وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (مسألة) (والتلبية سنة ويستحب رفع الصوت بها والاكثار منها والدعاء بعدها) التلبية سنة كما ذكرنا وليست واجبة، وبه قال الشافعي وعن أصحاب مالك انها واجبة يجب
الدم بتركها، وعن الثوري وأبى حنيفة انها من شرط الاحرام لا يصح الا بها كالتكبير للصلاة لان ابن عباس قال في قوله تعالى (فمن فرض فيهن الحج) قال الاهلال، وعن عطاء وطاوس وعكرمة هي التلبية ولان النسك عبادة ذات إحلال واحرام فكان في أولها ذكر واجب كالصلاة ولنا أنها ذكر فلم تجب في الحج كسائر الاذكار، وفارق الصلاة فان النطق في آخرها يجب فوجب في أولها بخلاف الحج، ويستحب رفع الصوت بها لان النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الحج أفضل؟ قال " العج والثج " حديث غريب: العج رفع الصوت بالتلبية والثج اسالة الدماء بالذبح والنحر وروى الترمذي باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " أتاني جبريل يأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية " وهو حديث حسن صحيح، وقال أنس: سمعتهم يصرخون بها صراخا وقال أبو حازم: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية.
وقال سالم: كان ابن عمر يرفع صوته بالتلبية فلا يأتي الروحاء حتى يصحل صوته، ولا يجهد نفسه في رفع الصوت زيادة على الطاقة لئلا ينقطع صوته وتلبيته (فصل) ويستحب الاكثار منها على كل حال لما روى ابن ماجة عن عبد الله بن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مامن مسلم يضحى (1) لله يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كما ولدته أمه " رواه ابن ماجة
(فصل) ولا يستحب رفع الصوت بها في مساجد الامصار ولا في الامصار إلا في مكة والمسجد
الحرام لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع رجلا يلبي بالمدينة فقال: ان هذا لمجنون إنما التلبية إذا برزت وهذا قول مالك.
وقال الشافعي يلبي في المساجد كلها ويرفع صوته لعموم الحديث ولنا قول ابن عباس ولان المساجد انما بنيت للصلاة وجاءت الكراهة لرفع الصوت عامة الا الامام خاصة فوجب ابقاؤها على عمومها فاما مكة فتستحب التلبية فيها لانها محل النسك وكذلك المسجد الحرام وسائر مساجد الحرم كمسجد منى وفي عرفات أيضا (فصل) ويتسحب الدعاء بعدها فيسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار ويدعو بما أحب لما روى الدارقطني باسناده عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله مغفرته ورضوانه، واستعاذه برحمته من النار.
وقال القاسم بن محمد: يستحب للرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لانه موضع شرع فيه ذكر الله تعالى فشرع فيه الدعاء، ولان الدعاء مشروع مطلقا فتأكدت مشروعيته بعد ذكر الله تعالى.
ويستحب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعدها لانه موضع شرع فيه ذكر الله تعالى فشرعت فيه الصلاة على رسوله كالصلاة، أو فشرع فيه ذكر رسوله كالاذان (فصل) ويستحب ذكر ما أحرم به في تلبيته.
قال احمد: ان شئت لبيت بالحج وان شئت لبيت بعمرة وإن شئت لبيت بحج وعمرة فقلت لبيك بحجة وعمرة.
وقال أبو الخطاب: لا يستحب ويروي عن ابن عمر وهو قول الشافعي لان جابرا قال: ما سمى النبي صلى الله عليه وسلم في تلبيته
حجا ولا عمرة، وسمع ابن عمر رجلا يقول لبيت بعمرة فضرب صدره قال تعلمه ما في نفسك ولنا ما روى أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لبيك عمرة وحجا " وقال جابر: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول لبيك بالحج وقال ابن عباس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يلبون بالحج، وقال ابن عمر: بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاهل بالعمرة ثم أهل بالحج متفق على هذه الاحاديث.
وقال أنس: سمعتهم يصرخون بهما صراخا رواه البخاري، وهذه الاحاديث أصح من حديثهم واكثر، وقول ابن عمر يخالفه قول أبيه فان النسائي روى باسناده عن الضبي بن معبد انه أول ما حج لبى بالحج والعمرة جميعا ثم ذكر ذلك لعمر فقال: هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وان لم يذكر ذلك في تلبيته فلا بأس فان النية محلها القلب والله سبحانه عالم بها (فصل) ولا يلبي بغير العربية الا أن يعجز عنها لانه ذكر مشروع فلا يشرع بغير العربية كالاذان والاذكار المشروعة في الصلاة (فصل) وإن حج عن غيره كفاه مجرد النية عنه قال أحمد لا بأس بالحج عن الرجل ولا يسميه وان ذكره في التلبية فحسن قال أحمد إذا حج عن رجل يقول أول ما يلبي: عن فلان، ثم لا يبالي أن لا يقول بعد ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي سمعه يلبي عن شبرمه " لب عن نفسك ثم لب عن شبرمة "
ومتى لبى بالحج والعمرة بدأ بذكر العمرة نص عليه أحمد وذلك لقول أنس إن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لبيك عمرة وحجا " (مسألة) (ويلبي إذا علا نشزا أو هبط واديا وفي دبر الصلوات المكتوبات.
واقبال الليل والنهار وإذا التقت الرفاق) التلبية مستحبة في جميع الاوقات ويتأكد استحبابها في ثمانية مواضع منها الستة المذكورة، والسابع إذا فعل محظورا ناسيا، الثامن (1) إذا سمع ملبيا لما روى جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبي في حجته إذا لقي راكبا أو علا أكمة أو هبط واديا وفي دبر الصلوات المكتوبة ومن آخر الليل: وقال ابراهيم النخعي كانوا يستحبون التلبية دبر الصلاة المكتوبة، وإذا هبط واديا، وإذا علا نشزا، وإذا لقي راكبا وإذا استوت به راحلته، وبهذا قال الشافعي وقد كان قبل يقول مثل قول مالك لا يلبي عند اصطدام الرفاق والحديث يدل عليه وكذلك قول النخعي (فصل) ويجزئ من التلبية دبر الصلاة مرة واحدة قال الاثرم قلت لابي عبد الله ماشئ يفعله
العامة يلبون في دبر الصلاة ثلاثا؟ فتبسم وقال ما أدري من أين جاؤا به قلت أليس يجزئه مرة واحدة؟ قال بلى وذلك لان المروي التلبية مطلقا من غير تقييد وذلك يحصل بمرة واحدة وهكذا التكبير في أدبار الصلوات الخمس في أيام الاضحى وأيام التشريق.
وان زاد فلا بأس لان ذلك زيادة ذكر وخير وتكراره ثلاثا حسن فان الله وتر يحب الوتر
(فصل) ولا بأس بالتلبية في طواف القدوم، وبه قال ابن عباس وعطاء بن السائب وربيعة ابن عبد الرحمن وابن أبي ليلى وداود والشافعي، وروي عن سالم بن عبد الله انه قال: لا يلبي حول البيت، وقال ابن عينية: ما رأينا أحدا يقتدى به يلبي حول البيت إلا عطاء بن السائب.
وقال أبو الخطاب: لا يلبى وهو قول للشافعي لانه مشتغل بذكر يخصه فكان أولى ولنا أنه زمن التلبية فلم يكره له كما لو لم يكن حول البيت ويمكن الجمع بين التلبية والذكر المشروع في الطواف، ويكره له رفع الصوت بالتلبية حول البيت لئلا يشغل الطائفين عن طوافهم واذكارهم (فصل) ولا بأس أن يلبي الحلال، وبه قال الحسن والنخعي وعطاء بن السائب والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وكره هذا مالك ولنا أنه ذكر مستحب للمحرم فلم يكره لغيره كسائر الاذكار (مسألة) (ولا ترفع المرأة صوتها بالتلبية إلا بقدر ما تسمع نفسها) قال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن السنة في المرأة ان لا ترفع صوتها وإنما عليها أن تسمع نفسها، وبهذا قال عطاء ومالك والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن سليمان بن يسار أنه قال: السنة عندهم أن المرأة لا ترفع صوتها بالاهلال وإنما كره لها رفع الصوت مخافة الفتنة بها ولهذا لا يسن لها اذان ولا اقامة، والمسنون لها في التنبيه في الصلاة التصفيق دون التسبيح
باب محظورات الاحرام وهي تسعة (مسألة) (حلق الشعر)
أجمع أهل العلم على أنه لا يجوز للمحرم أخذ شئ من شعره إلا من عذر لقول الله تعالى (ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله) وروى كعب بن عجرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لعلك يؤذيك هوام رأسك " قال نعم يارسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو اطعم ستة مساكين أو انسك شاة " متفق عليه ففيه دليل على أن الحلق كان محرما قبل ذلك (فصل) فان كان له عذر من مرض أو قمل أو غيره مما يتضرر بابقاء الشعر فله ازالته لقوله سبحانه (فمن كان مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) وللحديث المذكور قال ابن عباس رضي الله عنه: فمن كان منكم مريضا أي برأسه قروح أو به أذى من راسه أي قمل (مسألة) (وتقليم الاظفار) أجمع العلماء على أن المحرم ممنوع من تقليم أظفاره إلا من عذر لانه ازالة جزء من بدنه يترفه به أشبه الشعر فان انكسر فله ازالته قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن للمحرم أن يزيل ظفره بنفسه إذا انكسر لان بقاءه يؤلمه أشبه الشعر النابت في عينه (مسألة) (فمن حلق أو قلم ثلاثة فعليه دم وعنه لا يجب الا في أربع فصاعدا) الكلام في هذه المسألة في فصلين
(أحدهما) في وجوب الفدية بحلق شعر رأسه ولا خلاف في ذلك إذا كان لغير عذر، وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على وجوب الفدية على من حلق وهو محرم لغير علة والاصل في وجوبها ما ذكرنا من الآية والخبر، وظاهر كلام شيخنا ههنا يدل على أنه لا فرق بين أن يقطع شعره لعذر أو غيره أو كان عامدا أو مخطئا أنه يجب به الفدية وقد دل عليه ظاهر الآية والخبر وهو ظاهر المذهب، وبه قال الشافعي ونحوه عن الثوري وفيه وجه آخر أنه لافدية على الناسي وهو قول اسحاق وابن المنذر لقوله عليه السلام " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان " ولنا أنه اتلاف فاستوى عمده وسهوه كاتلاف مال الآدمي، ولان الاية قد دلت على وجوب الفدية على من حلق رأسه للاذى وهو معذور فكان تنيها على وجوبها على غير المعذور وفيها دليل على
وجوبها على المعذور بغير الاذى مثل المحتجم الذي يحلق موضع محاجمه، أو شعرا عن شجته وفي معنى الناسي والنائم الذي يقلع شعره أو يصوب رأسه من نار فيحرق لهبها شعره ونحو ذلك (الفصل الثاني) في القدر الذي تجب به الفدية وذلك ثلاث شعرات فما زاد قال القاضي: هذا المذهب، وهو قول الحسن وعطاء وابن عيينة والشافعي وأبي ثور لانه شعر آدمي يقع ليه الجمع المطلق أشبه ربع الرأس (1) وفيه رواية أخرى ذكرها الخرقي أنه لا يجب الا في أربع فصاعدا لان الاربع كثير أشبهت ربع الرأس.
أما الثلاث فهي آخر القلة وآخر الشئ منه فاشبهت ما كان دونها وذكر ابن أبي موسى رواية أنه لا يجب فيما دون الخمس ولا نعلم وجها لذلك، وقال أبو حنيفة لا يجب الدم
بدون ربع الرأس لانه يقوم مقام الكل ولهذا إذا رأى رجلا يقول رايت فلانا وانما أري احدى جهاته، وقال مالك إذا حلق من رأسه ما أماط به الاذى وجب الدم، وقد ذكرنا ما يدل على ما ذهبنا إليه، وقول أبي حنيفة إن الربع يقع عليه اسم الكل ممنوع وما ذكره من المثال غير مقيد بالربع بل هو مجاز يتناول القليل والكثير.
وهل يجب الدم بقص ثلاثة أظفار أو لا يجب الا في أربع يخرج على الروايتين في الشعر لانه في معناه وعلى ما حكاه ابن أبي موسى لا يجب الا في خمسة أظفار قياسا على الشعر والله أعلم.
(مسألة) (وفيما دون ذلك في كل واحد مد من طعام وعنه قبضة وعنه درهم) يعني إذا حلق أقل من ثلاث شعرات أو أقل من أربع على الرواية الاخرى فعليه مد من طعام في ظاهر المذهب، وهو الذي ذكره الخرقي، وهو قول الحسن وابن عيينة والشافعي وعن احمد في الشعرة درهم وفي الشعرتين درهمان وعنه في كل شعرة قبضة من طعام روي ذلك عن عطاء ونحوه عن مالك وأصحاب الرأي قال أصحاب الرأي يتصدق بشئ قليل، وقال مالك فيما قل من الشعر اطعام طعام.
ووجهه انه لا تقدير فيه فيجب فيه أقل ما يقع عليه اسم الصدقة.
وعن مالك فيمن أزال شعرا يسيرا لا ضمان عليه لان النص إنما أوجب الفدية في حلق جميع الرأس والحقنا به ما يقع عليه اسم الرأس
ولنا أن ما ضمنت جملته ضمنت أبعاضه كالصيد والاولى وجوب الاطعام لان الشارع إنما عدل
عن الحيوان إلى الاطعام في جزاء الصيد وههنا أوجب الاطعام مع الحيوان على وجه التخيير فيجب أن يرجع إليه فيما لا يجب فيه الدم والاولى مد لانه أقل ما وجب باشرع فدية فكان واجبا في أقل الشعر والطعام الذي يجزئ اخراجه في الفطرة من البر والشعير والتمر والزبيب كالذى يجزئ في الاربع من الشعر (فصل) وحكم الاظفار حكم الشعر فيما ذكرنا، قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ اظفاره وعليه الفدية بأخذها في قول أكثرهم منهم حماد ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وفيه رواية أخرى لافدية عليه لان الشرع لم يرد فيه بفدية ولنا أنه أزال ما منع ازالته لاجل الترفه فوجبت عليه الفدية كحلق الشعر، وعدم النص لايمنع قياسه على المنصوص كشعر البدن مع شعر الرأس والحكم في فدية الاظفار، وفيما يجب فيما دون الثلاث منها أو الاربع على الرواية الاخرى، وفيما يجب في الاربع والثلاث كالحكم في الشعر على ما ذكرنا من التفصيل والاختلاف فيه وهذا قول الشافعي وأبي ثور، وقال أبو حنيفة لا يجب الدم إلا بتقليم أظفار يد كاملة، فلم قلم من كل يد أربعة لم يجب عليه دم عنده لانه لم يستكمل منفعة اليد أشبه ما دون الثلاث ولنا أنه قلم ما يقع عليه اسم الجمع أشبه مالو قلم خمسا من يد واحدة، وقولهم يبطل بما إذا حلق ربع رأسه فانه لم يستوف منفعة العضو ويجب به الدم، وقولهم يفضي إلى وجوب الدم في القليل دون الكثير (فصل) وفي قص بعض الظفر ما في جميعه وكذلك في قطع بعض الشعرة ما في قطع جميعها لان
الفدية تجب في الشعر والظفر سواء طال أو قصر وليس يقدر بمساحة فيتقدر الضمان عليه، بل هو كالموضحة يجب في الصغيرة منها ما يجب في الكبيرة، وخرج ابن عقيل وجها أنه يجب بحساب المتلف كالاصبع يجب في أنملتها ثلث ديتها (مسألة) (وإن حلق رأسه باذنه فالفدية عليه، وإن كان مكرها أو نائما فالفدية على الحالق)
إذا حلق محرم رأس محرم باذنه أو حلقه حلال باذنه فالفدية على المحلوق رأسه لان الله تعالى قال (ولا تحلقوا رؤوسكم) الآية، وقد علم أن غيره هو الذي يحلقه فأضاف الفعل إليه وجعل الفدية عليه ويحتمل أن يجب الضمان على الحالق لانه شعر محترم أشبه شعرالصيد، ذكره ابن عقيل في الفصول وإن حلق رأسه وهو ساكت لم ينهه ففيه وجهان (أحدهما) يجب على الحالق كما لو أتلف ماله وهو ساكت (والثاني) على المحرم لانه أمانة عنده فهو كما لو أتلف انسان الوديعة فلم ينهه وإن حلقه مكرها أو نائما فلا فدية على المحلوق رأسه، وبه قال اسحاق وأبو ثور وابن القاسم وابن المنذر، وقال أبو حنيفة عليه الفدية وعن الشافعي كالمذهبين ولنا أنه لم يحلق رأسه ولم يحلق باذنه فأشبه ما لو انقطع الشعر بنفسه، إذا ثبت ذلك فان الفدية تجب على الحالق محرما كان أو حلالا، وقال أصحاب الرأي على الحلال صدقة، وقال عطاء عليهما الفدية ولنا أنه أزال ما منع من إزالته لاجل الاحرام فكانت الفدية عليه كالمحرم يحلق رأس نفسه (مسألة) (وإن حلق محرم رأس حلال فلا فدية عليه) وكذلك إن قلم أظفاره، وبه قال عطاء ومجاهد وعمرو بن دينار والشافعي واسحاق وأبو ثور
وقال سعيد بن جبير في محرم قص شارب حلال يتصدق بدرهم، وقال أبو حنيفة يلزمه صدقة لانه محرم أتلف شعرا أشبه شعر المحرم ولنا أنه شعر مباح الاتلاف فلم يجب باتلافه شئ كشعر بهيمة الانعام (مسألة) (وقطع الشعر ونتفه كحلقه وشعر الرأس والبدن واحد وعنه لكل واحد حكم مفرد) لا فرق بين حلق الشعر وإزالته بالنورة، أو قصه، أو غير ذلك لا نعلم فيه خلافا وكذلك القول في الاظفار، وشعر الرأس والبدن واحد سواء في وجوب الفدية في ظاهر المذهب وهو قول الاكثرين خلافا لداود لانه شعر يحصل به الترفه والتنظيف أشبه الرأس، فان حلق شعر رأسه وبدنه ففي الجميع فدية واحدة، وإن حلق من رأسه شعرتين ومن بدنه كذلك فعليه دم هذا اختيار أبي الخطاب وهو
ظاهر كلام الخرقي ومذهب أكثر الفقهاء، وفيه رواية أخرى أنه إذا قلع من رأسه وبدنه ما يجب الدم بكل واحد منهما منفردا فعليه دمان، وهذا الذي ذكره القاضي وابن عقيل، وعلى هذه الرواية لو قطع من رأسه شعرتين ومن بدنه كذلك لم يجب عليه دم لان الرأس يخالف البدن بحصول التحلل بحلقه دون شعر البدن ولنا أن الشعر كله جنس واحد في البدن فلم تتعدد الفدية بتعدده فيه بخلاف مواضعه كسائر البدن وكما لو لبس قميصا وسراويل (مسألة) (وان خرج في عينيه شعر فقلعه أو نزل شعره فغطى عينيه فقصه أو انكسر ظفره فقصه أو قلع جلدا عليه شعر فلا فدية عليه) إذا خرج في عينيه شعر أو استرسل شعر حاجبيه على عينيه فغطاهما فله إزالته وكذلك ان انكسر
ظفره فله قص ما انكسر منه ولا شئ عليه لانه إزالة لاذاه فلم يكن عليه فدية كقتل الصيد الصائل وكذلك أن قطع جلدة عليها شعر لم يكن عليه فدية لانه زال تبعا لغيره والتابع لا يضمن كما لو قلع أشعار عيني انسان فانه لا يضمن اهدابهما فاما ان كان الاذى من غير الشعر كالقمل والقروح والصداع وشدة الحر عليه لكثرة الشعر فله إزالته وعليه الفدية كما لو احتاج إلى اكل الصيد في حال المخمصة وكذلك ان احتاج إلى مداواة قرحة لا يمكنه مداواتها الا بقص ظفره فله قصه وعليه الفدية لما ذكرنا وقال ابن القاسم صاحب مالك لا فدية عليه ولنا أنه ما منع إزالته لضرر في غيره أشبه حلق رأسه دفعا لضرر القمل وان وقع في أظفاره مرض فازالها لذلك المرض فلا شئ عليه لانه أزالها لازالة مرضها أشبه قص الظفر لكسره والله تعالى أعلم، وان انكسر ظفره فأزال أكثر مما انكسر فعليه الفدية لانه لا حاجة إلى إزالته.
(فصل) وان خلل شعره فسقطت شعرة فان كانت ميتة فلا شئ عليه وان كانت من الشعر النابت ففيها الفدية لان أزالها بفعله فان شك فيها فلا فدية لان الاصل نفي الضمان وبراءة الذمة فلا يجب بالشك وان قطع أصبعا عليها ظفر فلا شئ عليه لانه تبع والله أعلم
(فصل) قال رحمه الله (الثالث) تغطية رأسه فمتى غطاه بعمامة أو خرقة أو قرطاس فيه دواء أو غيره أو عصبه أو طينه بطين أو حناء أو غيره فعليه الفدية أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من تغطية رأسه حكاه ابن المنذر، وقد دل عليه نهي النبي صلى الله عليه وسلم المحرم عن لبس العمائم والبرانس وقوله عليه السلام في المحرم الذي وقصته راحلته " لا تخمروا رأسه فانه يبعث يوم القيامة ملبيا " فعلل منع تخمير رأسه ببقائه على احرامه فعلم ان المحرم ممنوع منه وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول احرام الرجل في رأسه، وذكر القاضي أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " إحرام الرجل في رأسه واحرام المرأة في وجهها " وانه عليه السلام نهى أن يشد المحرم باليسير.
(فصل) والاذنان مع الرأس تحرم تغطيتهما كسائر الرأس وأباح ذلك الشافعي ولنا قوله صلى الله عليه وسلم " الاذنان من الرأس " وقد ذكرناه في الطهارة إذا ثبت ذلك فانه يمنع من تغطية بعض رأسه كما يمنع تغطية جميعه لان المنهي عنه يحرم بعضه كما يحرم جميعه ولذلك لما قال الله تعالى (ولا تحلقوا رؤوسكم حرم حلق بعضه) وسواء غطاه بالملبوس المعتاد أو بغيره مثل ان عصبه بعصابة أو شده بسير أو جعل عليه قرطاسا فيه دواء أو لا دواء فيه أو خضبه بحناء أو طلاه بطين أو نورة أو جعل عليه دواء فان جميع ذلك ستر له وتغطية وهو ممنوع منه وسواء كان ذلك لعذر أو غيره تجب به الفدية لقوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو به اذى من رأسه ففدية) الآية ولحديث كعب ابن عجرة وبهذا كله قال الشافعي وكان عطاء يرخص في العصابة من المصرورة، والصحيح الاول كما لو لبس قلنسوة للبرد.
(مسألة) (وان استظل بالمحمل ففيه روايتان) كره أحمد رحمه الله للمحرم الاستظلال بالمحمل وما كان في معناه كالهودج والعمارية ونحو ذلك على البعير رواية واحدة ويروي كراهته عن ابن عمر ومالك وعبد الرحمن بن مهدي واهل المدينة وكان سفيان بن عيينة يقول لا يستظل البتة ورخص فيه ربيعة والثوري والشافعي، وروي ذلك عن عثمان وعطاء لما روت أم الحصين قالت حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة
وبلالا واحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة رواه مسلم ولانه يباح له التظلل في البيت والخباء فجاز في حال الركوب كالحلال واحتج احمد بان عطاء روى أن ابن عمر رضي الله عنه رأى على رحل عمر بن عبد الله بن ابي ربيعة عودا يستره من الشمس فنهاه وعن نافع عن ابن عمر أنه رأى رجلا محرما على رحل وقد رفع عليه ثوبا على عود يستره من الشمس فقال أضح لمن أحرمت له أي ابرز للشمس.
رواهما الاثرم، ولانه يستره بما يقصد به الترفه
أشبه مالو غطاه، والحديث الذي استدلوا به قد ذهب إليه أحمد ولم يكره الاستتار بالثوب، فان ذلك لا يقصد الاستدامة والهودج بخلافه والخيمة والبيت يرادان الجمع الرحل وحفظه لا للترفه.
إذا ثبت ذلك فان احمد رحمه الله انما كره ذلك كراهة تنزيه في الظاهر عنه لوقوع الخلاف فيه وقول ابن عمر، ولم ير ذلك حراما ولا موجبا للفدية، قال الاثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن المحرم يستظل على محمل قال لا وذكر حديث ابن عمر، قيل له فان فعل يهريق دما؟ قال أما الدم فلا وعنه أنه تجب عليه الفدية اختاره الخرقي وهو وقل أهل المدينة لانه ستر رأسه بما يستدام ويلازمه غالبا أشبه مالو ستره بشئ يلاقيه، ويروي عن الرياشي قال: رأيت احمد بن المعذل في الموقف في يوم شديد الحر وقد ضحى للشمس، فقلت له يا أبا الفضل هذا أمر قد اختلف فيه فلو أخذت بالتوسعة فأنشأ يقول: ضحيت له كي أستظل بظله * إذا الظل أضحى في القيامة قالصا فوا أسفا إن كان سعيك باطلا * وواحسرتا إن كان حجك ناقصا (مسألة) (وإن حمل على رأسه شيئا، أو نصب حياله ثوبا، أو ستظل بخيمة، أو شجرة، أو بيت فلا شئ عليه) إذا حمل على رأسه طبقا، أو مكيلا أو نحوه فلا فدية عليه، وبه قال عطاء ومالك وقال الشافعي عليه الفدية لانه ستره ولنا أن هذ لا يقصد به الستر غالبا فلم تجب به الفدية كما لو وضع يديه على رأسه وسواء قصد به الستر أو لم يقصد لان ما تجب به الفدية لا يختلف بالقصد وعدمه فكذلك مالا يجب به، واختار ابن
عقيل وجوب الفدية إذا قصد به الستر لان الحيل لاتحيل الحقوق، ولانه لو جلس عند العطار لقصد شم الطيب وجبت عليه الفدية، وان لم يقصد لم تجب كذلك هذا، وان ستر رأسه ببدنه فلا شئ عليه لما ذكرنا، ولان الستر ببعض بدنه لا يثبت له حكم الستر، وكذلك لو وضع يده على فرجه لم تجزه في الستر، ولان المحرم مأمور بمسح رأسه وذلك يكون بوضع يده عليه، وان طلا رأسه بغسل أو صمغ ليجتمع الشعر ويتلبد فلا يدخله الغبار ولا يصيبه الشعث، ولا يقع فيه الدبيب جاز، وهذا
التلبيد الذي جاء في حديث ابن عمر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبدا.
متفق عليه.
وان كان في رأسه طيب مما جعله فيه قبل الاحرام فلا بأس لان ابن عباس رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم (فصل) ولا بأس أن يستظل بالسقف والحائط والشجرة والخباء وان نزل تحت شجرة وطرح عليها شيئا يستظل به فلا بأس به عند جميع أهل العلم وقد صح به النقل قال جابر رضي الله عنه في حديث حجة النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس رواه مسلم ولا بأس أن ينصب حياله ثوبا يقيه الحر والبرد.
إما ان يمسكه انسان أو يرفعه على عود على نحو ما روى في حديث أم الحصين ان بلالا وأسامة كان رافعا ثوبه يستر به النبي صلى الله عليه وسلم ولان ذلك لا يقصد به الاستدامة فلم يكن به بأس كالاستظلال بحائط (مسألة) (وفي تغطية الوجه روايتان) (إحداهما) يباح روي ذلك عن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت وابن الزبير وسعد بن أبي وقاص وجابر والقسم وطاوس والثوري والشافعي (والثانية) لا يباح وهو مذهب أبي حنيفة ومالك لما روي عن ابن عامر أن رجلا وقع عن راحلته فاقعصته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا وجهه ولا رأسه فانه يبعث يوم القيامة ملبيا " ولانه محرم على المرأة فحرم على الرجل كالطيب ولنا قول من ذكرنا من الصحابة ولا نعرف لهم مخالفا في عصرهم فكان اجماعا، ولما روي عنه
عليه السلام أنه قال " احرام الرجل في رأسه، واحرام المرأة في وجهها " وحديث ابن عباس المشهور فيه " ولا تخمروا رأسه " هذا المتفق عليه، وقوله " ولا تخمروا وجهه " فقال شعبة حدثنيه أبو بشر ثم سألته عنه بعد عشر سنين فجاء بالحديث كما كان يحدث إلا أنه قال " ولا تخمروا وجهه ورأسه " ففي قوله دليل على أنه ضعف هذه الزيادة، وقد روي في بعض الفاظه " خمروا وجهه ولا تخمروا رأسه " فتعارض الروايتان وما ذكروه يبطل بلبس القفازين
(مسألة) (الرابع لبس المخيط والخفين) قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على ان المحرم ممنوع من لبس القميص والعمائم والسراويلات والبرانس والخفاف والاصل في هذا ماروى ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف ألا احدا لا يجد النعلين فيلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس " متفق عليه.
نص النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الاشياء وألحق بها أهل العلم ما في معناه مثل الجبة والدراعة والتبان وأشباه ذلك، فلا يجوز للمحرم ستر بدنه بما عمل على قدره ولا ستر عضو من اعضائه بما عمل على قدره كالقميص للبدن والسراويل لبعض البدن والقفازين لليدين والخفين للرجلين ونحو ذلك، وليس في هذا اختلاف، قال ابن عبد البر: لا يجوز لبس شئ من المخيط عند جميع أهل العلم، وأجمعوا على ان المراد بهذا الذكور دون الاناث (مسألة) (إلا أن لا يجد ازارا فيلبس سراويل أو لا يجد نعلين فيلبس خفين ولا يقطعهما ولا فدية عليه) إذا لم يجد المحرم إزارا فله أن يلبس سراويل وإذا لم يجد النعلين فله لبس الخفين لا نعلم فيه خلافا
والاصل فيه ماروى ابن عباس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات يقول " من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل للمحرم " متفق عليه.
ولا فدية عليه في لبسهما عند ذلك في قول عطاء وعكرمة والثوري والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي ألا مالكا وأبا حنيفة
قالا على من لبس السراويل الفدية لحديث ابن عمر الذي قدمناه ولان ما وجبت الفدية بلبسه مع وجود الازار وجبت مع عدمه كالقميص ولنا ما ذكرنا من حديث ابن عباس وهو صريح في الاباحة ظاهر في إسقاط الفدية لانه أمر بلبسه ولم يذكر فدية ولانه يختص لبسه بحالة عدم غيره فلم تجب به فدية كالخفين المقطوعين وحديث ابن عمر مخصوص بحديث ابن عباس.
وأما القميص فيمكنه أن يأتزر به من غير لبس ويحصل به الستر بخلاف السراويل (فصل) وإذا لبس الخفين مع عدم النعلين لم يلزمه قطعهما في أشهر الروايتين عن احمد يروى ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبه قال عطاء وعكرمة (والرواية الثانية) انه يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين فعلى هذه الرواية ان لبسهما من غير قطع افتدى، وبه قال عروة بن الزبير ومالك والثوري والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر لما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " فمن لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين " متفق عليه وهو متضمن لزيادة على حديث ابن عباس وجابر والزيادة من الثقة مقبولة.
قال الخطابي: العجب من أحمد
في هذا فانه لا يكاد يخالف سنة تبلغه وقلت سنة لم تبلغه.
ووجه الاولى حديث ابن عباس وجابر " من لم يجد النعلين فليلبس الخفين " مع قول علي رضي الله عنه وقطع الخفين فساد يلبسهما كما هما مع موافقة القياس فانه ملبوس أبيح مع عدم غيره أشبه السراويل ولان قطعه لا يخرجه عن حالة الحظر فان لبس المقطوع محرم مع القدرة على النعلين كلبس الصحيح وفيه اتلاف ماله وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اضاعته فأما حديث ابن عمر فقد قيل ان قوله فليقطعهما من كلام نافع كذلك روي في امالي أبي القاسم بن بشران باسناد صحيح ان نافعا قال بعد روايته للحديث وليقطع الخفين أسفل من الكعبين وروى ابن ابي موسى عن صفية بنت ابي عبيد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما، وكان ابن عمر يفتي بقطعهما قالت صفية فلما أخبرته بهذا رجع، وروى أبو حفص باسناده في شرحه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه طاف وعليه خفان فقال له عمر رضي الله عنه والخفان مع القباء فقال قد لبستهما مع من هو خير منك يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويحتمل أن يكون الامر بقطعهما منسوخا فان عمرو بن دينار روى الحديثين جميعا وقال انظروا أيهما كان قبل، قال الدارقطني قال أبو بكر النيسابوري حديث ابن عمر قبل لانه جاء في بعض رواياته قال نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد يعني بالمدينة فكأنه كان قبل الاحرام وفي حديث ابن عباس يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات يقول " من لم يجد نعلين فليلبس خفين "
فيدل على تأخره عن حديث ابن عمر فيكون ناسخا له لانه لو كان القطع واجبا لبينه للناس فانه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه والمفهوم من إطلاق لبسهما لبسهما على حالهما من غير قطع قال شيخنا والاولى قطعهما عملا بالحديث الصحيح وخروجا من الخلاف وأخذا بالاحتياط والذي قاله صحيح (فصل) فان وجد المقطوع مع وجود النعل لم يجز له وعليه الفدية نص عليه، وبه قال مالك وقال أبو حنيفة لا فدية عليه لانه لو كان لبسه محرما وفيه فدية لما أمر بقطعه لعدم الفائدة فيه وعن الشافعي كالمذهبين ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شرط لاباحة لبسهما عدم النعلين فدل على أنه لا يجوز مع وجودهما ولانه مخيط لعضو على قدره فوجب على المحرم الفدية بلبسه كالقفازين (فصل) وقياس قول احمد في اللالكة والجمجم ونحوهما أنه لا يلبسهما فانه قال لا يلبس النعل التي لها قيد وهذا أشد منها وقد قال في رأس الخف الصغير لا يلبسه وذلك لانه يستر القدم وقد عمل لها على قدرها فأشبه الخف فان عدم النعلين فله لبس ذلك ولا فدية عليه لان النبي صلى الله عليه وسلم أباح لبس الخف عند ذلك فما دون الخف أولى (فصل) فأما النعل فيباح لبسها كيفما كانت ولا يجب قطع شئ منها لان إباحتها وردت مطلقا وروي عن أحمد في القيد في النعل يفتدي لاننا لا نعرف النعال هكذا وقال إذا أحرمت فاقطع المحمل الذي على النعال والعقب الذي يجعل للنعل فقد كان عطاء يقول فيه دم وقال ابن أبي موسى في
الارشاد في القيد والعقب الفدية والقيد هو السير المعترض على الزمام قال القاضي: إنما كرههما إذا كانا عريضين وهذا هو الصحيح فانه لم يجب قطع الخفين الساترين للقدمين والساقين فقطع سير النعل أولى أن لا يجب، ولان ذلك معتاد في النعل فلم يجب ازالته كسائر سيورها ولان قطع القيد والعقب
ربما تعذر معه المشي في النعلين لسقوطهما بزوال ذلك فلم يجب كقطع القبال (فصل) فان وجد نعلا لم يمكنه لبسها فله لبس الخف ولا فدية عليه لان مالا يمكن استعماله كالمعدوم فاشبه مالو كانت النعل لغيره وكالماء في التيمم والرقبة التي لا يمكنه عتقها ولان العجز عن لبسها قال مقام العدم في إباحة لبس الخف فكذلك في اسقاط الفدية ونص أحمد على وجوب الفدية لقوله عليه السلام " من لم يجد نعلين فيلبس الخفين " وهذا واجد (مسألة) (ولا يعقد عليه منطقة ولا رداء ولا غيره الا ازاره وهميانه فيه نفقته إذا لم يثبت الا بالعقد) ليس للمحرم أن يعقد عليه الرداء ولا غيره الا الازار والهميان وليس له أن يجعل لذلك زرا وعروة ولا يخلله بشوكة ولا ابرة ولا خيط ولا يغرزه في ازاره لانه في حكم المخيط وروى الاثرم عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلا سأله أخالف بين طرفي من ورائي ثم أعقده؟ وهو محرم فقال ابن عمر: لا تعقد عليك شيئا.
وعن أبي معبد مولى ابن عباس أن ابن عباس قال له يا أبا معبد زر علي طيلساني وهو محرم فقال له كنت تكره هذا فقال إني أريد أن أفتدي ولا بأس أن يتشح بالقميص
ويرتدي به وبرداء موصل ولا يعقده لان المنهي عنه المخيط على قدر العضو (فصل) فاما الازار فيجوز عقده، لانه يحتاج إليه لستر العورة فابيح كاللباس وان شد وسطه بالنديل أو نحوه كالحبل جاز إذا لم يعقده قال أحمد في محرم حزم عمامة على وسطه: لا يقدها ويدخل بعضها في بعض، قال طاوس رأيت ابن عمر يطوف بالبيت وعليه عمامة قد شدها على وسطه فادخلها هكذا.
ولا يجوز أن يشق أسفل ازاره نصفين ويعقد كل نصف على ساق لانه يشبه السراويل ولا يلبس الران لانه في معنى الخف (فصل) فأما الهميان فهو مباح للمحرم في قول اكثر أهل العلم منهم ابن عباس وابن عمر وسعيد أبن المسيب وعطاء ومجاهد وطاوس والقاسم والنخعي والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي قال ابن عبد البر أجاز ذلك جماعة فقهاء الامصار متقدموهم ومتأخروهم ومتى ثبت بغير العقد مثل
أن يدخل السيور بعضها في بعض لم يعقده لانه لا حاجة إليه فان لم يثبت الا بالعقد جاز نص عليه أحمد وهو قول اسحاق.
قال ابراهيم كانوا يرخصون في عقد الهميان للمحرم ولا يرخصون في عقد غيره وقالت عائشة: أوثق عليك نفقتك.
وقال ابن عباس: أوثقوا عليكم نفقاتكم.
وذكر القاضي في الشرح ان ابن عباس قال رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحرم في الهميان ان يربطه إذا كانت فيه نفقته
وقال مجاهد سئل ابن عمر عن المحرم يشد الهميان عليه فقال لا بأس به إذا كانت فيه نفقته يستوثق من نفقته ولانه مما تدعو الحاجة إليه فجاز كعقد الازار (فصل) فان لم يكن في الهميان نفقة لم يجز عقده لعدم الحاجة إليه وكذلك المنطقة وقد روي ابن عمر أنه كره المنطقة والهميان للمحرم وهو محمول على ما ليس فيه نفقة على ما تقدم من الرخصة فيما فيه النفقة، وسئل أحمد عن المحرم يلبس المنطقة من وجع الظهر أو لحاجة إليها.
فقال يفتدي.
فقيل له أفلا يكون مثل الهميان؟ قال لا: وعن ابن عمر أنه كره المنطقة للمحرم وأباح شد الهميان إذا كانت فيه نفقة والفرق بينهما أن الهميان يكون فيه النفقة والمنطقة لا نفقة فيها فابيح شد ما فيه النفقة للحاجة إلى حفظها ولم يبح شد غيرها فان كان في المنطقة نفقة أو لم يكن في الهميان نفقة فهما سواء وقد ذكرنا أن احمد لم يبح شد المنطقة لوجع الظهر الا أن يفتدي لان المنطقة ليست بعدة لذلك ولانه فعل المحظور في الاحرام لدفع الضرر عن نفسه أشبه من لبس المخيط لدفع البرد أو تطيب للمرض فان فعل مالا يباح له فعله من عقد غير الهميان والازار ونحوه فعليه الفدية لانه فعل محظورا في الاحرام
(مسألة) (وان طرح على كتفيه قباء فعليه الفدية وقال الخرقي لا فدية عليه الا أن يدخل يديه في كميه) إذا طرح على كتفيه قباء أو نحوه وأدخل كتفيه فيه فعليه الفدية وإن لم تدخل يداه في الكمين هذا مذهب مالك والشافعي لانه مخيط لبسه المحرم على العادة في لبسه فأشبه القميص وقد روى ابن المنذر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الاقبية وقال الخرقي لا فدية عليه إذا لم يدخل يديه في كميه وهو قول الحسن وعطاء وابراهيم وأبي حنيفة لما ذكرنا من حديث عبد الرحمن بن عوف في مسألة الخفين
إذا لم يجد نعلين ولان القباء لا يحيط بالبدن فلم تلزمه الفدية بوضعه على كتفيه إذا لم يدخل يديه في كميه كالقميص يتشح به وقياسهم منقوض بالرداء الموصل والخبر محمول على لبسه مع إدخال يديه في الكمين (مسألة) (ويتقلد بالسيف عن الضرورة) إذا احتاج المحرم إلى أن يتقلد بالسيف فله ذلك وبه قال عطاء والشافعي ومالك وكرهه الحسن ولنا ما روى أبو داود باسناده عن البراء قال: لا صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية صالحهم على أن لا يدخلوها إلا بجلبان السلاح (القراب بما فيه) وهذا ظاهر في إباحة حمله عند الحاجة لانهم لم يكونوا يأمنون أهل مكة أن ينقضوا العهد فاشترطوا حمل السلاح في قرابه فاما من غير خوف فقد قال أحمد لا الامن ضرورة وإنما منع منه لان ابن عمر قال لا يحمل المحرم السلاح في الحرم.
قال شيخنا والقياس إباحته لان ذلك ليس هو في المعنى الملبوس المنصوص على تحريمه ولذلك لو حمل قربة في عنقه لم يحرم ذلك ولم تجب به الفدية.
وقد سئل أحمد عن المحرم يلقي جرابه في عنقه كهيئة القربة فقال أرجوا أن لا يكون به بأس (فصل) قال الشيخ رحمه الله (الخامس الطيب فيحرم عليه تطيب بدنه وثيابه وشم الادهان المطيبة والادهان بها) أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من الطيب وقد دل قول النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته راحلته " لا تمسوه بطيب " رواه مسلم، وفي لفظ ولا تخيطوه.
متفق عليه فلما منع الميت من الطيب
لاحرامه فالحي أولى ومتى تطيب فعليه الفدية لانه فعل ما حرمه الاحرام فلزمته الفدية كاللباس فيحرم عليه تطيب بدنه لما ذكرنا من الحديث وتطيب ثيابه فلا يجوز له لبس ثوب مطيب وهذا قول جابر وابن عمر ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يلبس من الثياب شئ مسه الزعفران ولا الورس " متفق عليه فكلما صبغ بزعفران أو ورس أو غمس في ماء ورد أو بخر بعود فليس للمحرم لبسه ولا الجلوس عليه ولا النوم عليه نص عليه أحمد لانه استعمال له فاشبه لبسه ومتى لبسه أو استعمله فعليه الفدية، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة ان كان رطبا يلي
يدنه أو يابسا ينفض فعليه الفدية وإلا فلا لانه ليس بمطيب ولنا أنه منهي عنه لاجل الاحرام فلزمته الفدية به كاستعمال الطيب في بدنه وقياسا على الثوب المطيب فان غسله حتى ذهب ما فيه من ذلك فلا بأس به عند جميع العلماء وان فرش فوق المطيب ثوبا صفيقا يمنع الرائحة والمباشرة فلا فدية بالنوم عليه لانه لم يستعمل الطيب ولم يباشره (فصل) وليس له شم الادهان المطيبة كدهن الورد والبنفسج والخيري والزنبق ونحوها ولا الادهان بها وليس في تحريم ذلك خلاف في المذهب وكره مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي الادهان بدهن البنفسج وقال الشافعي ليس بطيب ولنا أنه يقصد رائحته ويتخذ للطيب أشبه ماء الورد (مسألة) (وشم المسك والكافور والعنبر والزعفران والورس والمبخر بالعود وأكل ما فيه الطيب يظهر طعمه أو ريحه يحرم عليه شم كل ما تطيب رائحته ويتخذ للشم كالمسك والعنبر والكافور والغالية والزعفران والورس وماء الورد لانه استعمال للطيب وكذلك التبخر بالعود لانه طيب (فصل) ومتى جعل شئ من الطيب في مأكول أو مشروب كالمسك والزعفران فلم تذهب رائحته لم يبح للمحرم تناوله نيا كان أو قد مسته النار وبهذا قال الشافعي وكان مالك وأصحاب الرأي
لا يرون بما مست النار من طعام بأسا وان بقيت رائحته وطعمه ولونه لانه بالطبخ استحال عن كونه طيبا وروي عن ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير أنهم لم يكونوا يرون باكل الخشكنانج الاصفر بأسا وكرهه القاسم بن محمد ولنا أن الاستمتاع والترفه به حاصل أشبه النئ ولان المقصود من الطيب رائحته وهي باقية وقول من أباح الخشكنانج الاصفر محمول على ما ذهبت رائحته فان ما ذهبت رائحته.
وطعمه ولم يبق فيه إلا اللون مما مسته النار لا بأس باكله لا نعلم فيه خلافا إلا ما روى عن القاسم وجعفر بن محمد أنهما كرها الخشكنانج الاصفر ويمكن حمله على ما بقيت رائحته ليزول الخلاف فان لم تمسه النار لكن ذهبت رائحته وطعمه فلا بأس به وهو قول الشافعي وكره مالك والحميدي واسحاق وأصحاب الرأي الملح الاصفر
وفرقوا بين ما مسته النار وما لم تمسه ولنا أن المقصود الرائحة دون اللون فان الطيب إنما كان طيبا لرائحته لا للونه فوجب دوران الحكم معها دونه (فصل) فان ذهبت رائتحه وبقي طعمه فظاهر كلام احمد في رواية صالح تحريمه وهو مذهب الشافعي لان الطعم لا يكاد ينفك عن الرائحة فمتى وجد الطعم دل على وجود بقاء الرائحة وظاهر كلام الخرقي إباحته لان المقصود الرائحة فيزول المنع بزوالها (فصل) ولا يجوز أن يأكل طيبا ولا يكتحل به ولا يستعط به ولا يحتقن به لانه استعمال للطيب أشبه شمه (مسألة) (وان مس من الطيب ما لا يعلق بيده فلا فدية عليه) إذا مس من الطيب مالا يعلق بيده كالمسك غير المسحوق وقطع الكافور والعنبر فلا فدية عليه لانه غير مستعمل للطيب فان شمه فعليه الفدية لانه هكذا يستعمل وان شم العود فلا فدية عليه لانه لا يتطيب به هكذا وان كان الطيب يعلق بيده كالغالية وماء الورد والمسك المسحوق الذي يعلق باصابعه فعليه الفدية لانه مستعمل للطيب
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: