الفقه الحنبلي - مناسك الحج3
(مسألة) (وله شم العود والفواكه والشيح والخزامى) للمحرم شم العود ولا فدية عليه لانه لا يتطيب به هكذا إنما يقصد منه التبخير وكذلك الفواكه كلها من الاترج والتفاح والسفرجل وغيرها وكذلك نبات الصحراء كالشيح والقيصوم والخزامي
الذي تستطاب رائحته وما يشمه الآدميون لغير قصد الطيب كالحناء والعصفر فمباح شمه ولا فدية في شئ من ذلك لا نعلم فيه خلافا إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان يكره للمحرم أن يشم شيئا من نبت الارض من الشيح والقيصوم وغيرهما ولا نعلم أحدا أوجب في ذلك شيئا لانه لا يقصد للطيب ولا يتخذ منه الطيب أشبه سائر نبت الارض وقد روي أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يحرمن في المعصفرات (مسألة) (وفي شم الريحان والنرجس والورد والبنفسج والبرم ونحوها والادهان بدهن غير مطيب في رأسه روايتان) المذكور في هذه المسألة ينقسم قسمين (أحدها) ما ينبته الآدميون للطيب ولا يتخذ منه طيب
كالريحان الفارسي والمرشوش والنرجس والبرم ففيه روايتان (احداهما) يباح بغير فدية وهو قول عثمان وابن عباس والحسن ومجاهد واسحاق لانه إذا يبس ذهبت رائحته أشبه نبت البرية ولانه لا يتخذ منه طيب أشبه العصفر (والثانية) يحرم شمه فان فعل فعليه الفدية وهو قول جابر وابن عمر والشافعي وأبي ثور لانه يتخذ للطيب أشبه الورد وكرهه مالك وأصحاب الرأي ولم يوجبوا فيه شيئا وكلام أحمد محتمل لهذا فانه قال في الريحان ليس من آلة المحرم ولم يذكر فيه فدية (الثاني) ما ينبت للطيب ويتخذ منه طيب كالورد والبنفسج والياسمين والخيري فهذا إذا استعمله وشمه ففيه الفدية لان الفدية تجب فيما يتخذ منه كماء الورد فكذلك اصله، وعن أحمد رواية أخرى في الورد لا شئ في شمه لانه زهر أشبه سائر الشجر، وقد ذكر شيخنا فيه ههنا روايتين وكذلك ذكر أبو الخطاب والاولى تحريمه ووجوب الفدية فيه لانه ينبت للطيب ويتخذ منه أشبه الزعفران والعنبر.
قال القاضي: يقال ان العنبر ثمر شجرة وكذلك الكافور
(فصل) فأما الادهان بدهن لا طيب فيه كالزيت والشيرج والسمن والشحم ودهن البان الساذج فنقل الاثرم قال سمعت أبا عبد الله يسأل عن المحرم يدهن بالزيت والشيرج فقال نعم يدهن به إذا احتاج إليه ويتداوى المحرم بما يأكل قال ابن المنذر أجمع عوام أهل العلم على ان للمحرم أن يدهن بدنه بالشحم والزيت والسمن ونقل جواز ذلك عن ابن عباس وأبي ذر والاسود بن يزيد وعطاء والضحاك نقله الاثرم ونقل أبو داود عن أحمد أنه قال الزيت الذي يؤكل لا يدهن المحرم به رأسه فظاهر هذا أنه لا يدهن رأسه بشئ من الادهان وهو قول عطاء ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي لانه يزيل الشعث ويسكن الشعر (فصل) فاما دهن سائر البدن فلا نعلم عن أحمد فيه منعا وقد أجمع أهل العلم على إباحته في اليدين وإنما الكراهة في الرأس خاصة فانه محل الشعر وقال القاضي في إباحته في جميع البدن روايتان فان فعله فلا فدية فيه في ظاهر كلام أحمد سواء دهن رأسه وغيره الا أن يكون مطيبا وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه صدع وهو محرم.
فقالوا ألا ندهنك بالسمن؟ قال لا.
قالوا اليس تأكله؟
قال ليس أكله كالادهان به.
وعن مجاهد أنه إن تداوى به فعليه الكفارة وقال من منع من دهن الرأس فيه الفدية لانه مزيل للشعث أشبه ما لو كان مطيبا ولنا أن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ولا دليل فيه من نص ولا اجماع، ولا يصح قياسه على الطيب فان الطيب يوجب الفدية وان لم يزل شعثا ويستوي فيه الرأس وغيره والدهن بخلافه ولانه مانع لا تجب الفدية باستعماله في البدن فلم تجب باستعماله في الرأس كالماء (مسألة) (وان جلس عند العطار أو في موضع ليشم الطيب فشمه فعليه الفدية والا فلا) متى قصد شم الطيب من غيره بفعل منه نحو أن يجلس عند العطارين لذلك أو يدخل الكعبة حال تجميرها ليشم طيبها أو يحمل معه عقدة فيها مسك ليجد ريحها قال أحمد: سبحان الله كيف
يجوز هذا؟ وأباح الشافعي ذلك إلا العقدة تكون معه يشمها فان أصحابه اختلفوا فيها قال: لانه شم الطيب من غيره أشبه ما لو لم يقصده ولنا أنه قصد شم الطييب مبتدئا به وهو محرم فحرم كما لو باشره يحقق ذلك ان القصد شم الطيب لا مباشرته بدليل انه لو مس اليابس الذي لا يعلق بيده لم يكن عليه شئ ولو رفعه بخرقة وشمه وجبت عليه الفدية وان لم يباشره فاما ان لم يقصد شمه كالجالس عند العطار لحاجته وداخل السوق أو داخل الكعبة للتبرك بها ومن يشتري طيبا لنفسه أو للتجارة ولا يمسه فغير ممنوع منه لانه لا يمكن التحرز منه فعفي عنه فان حمل الطيب فقال ابن عقيل: ان كان ريحه ظاهرا لم يجز وإن لم يكن ظاهرا جاز (فصل) قال الشيخ رحمه الله (السادس) قتل صيد البر واصطياده وهو ما كان وحشيا مأكولا أو متولدا منه ومن غيره لا خلاف بين أهل العلم في تحريم قتل صيد البر واصطياده على المحرم، والاصل فيه قول الله سبحانه (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) وقوله تعالى (حرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) والصيد المحرم على المحرم ما جمع ثلاثة أشياء (أحدها) أن يكون وحشيا وما ليس بوحشي لا يحرم على المحرم أكله ولا ذبحه كبهيمة الانعام والخيل والدجاج ونحوها لا نعلم بين أهل العلم فيه خلافا
والاعتبار في ذلك بالاصل لا بالحال فلو استأنس الوحشي وجب فيه الجزاء كالحمام يجب الجزاء في أهليه ووحشية اعتبار بالاصل ولو توحش الاهلي لم يجب فيه شئ قال أحمد في بقرة صارت وحشية لا شئ فيها لان الاصل فيها الانسية فان تولد بين الوحشي والاهلي ولد ففيه الجزاء تغليبا للتحريم، واختلفت الرواية في الدجاج السندي هل فيه جزاء على روايتين وروى مهنا عن أحمد في البط يذبحه المحرم إذا لم يكن صيدا والصحيح أنه يحرم عليه ذبحه وفيه الجزاء لان الاصل فيه الوحشي فهو كالحمام (الثاني) أن يكون مأكولا فاما ما ليس بمأكول كسباع البهائم والمستخبث من الحشرات والطير وسائر المحرمات فلا جزاء فيه قال أحمد رحمه الله انما جعلت الكفارة في الصيد المحلل أكله وهذا قول أكثر أهل العلم الا أنهم أوجبوا الجزاء في المتولد بين المأكول وغيره كالسمع المتولد بين الضبع والذئب تغليبا للتحريم قبله كما غلبوا التحريم في أكله، وقال بعض أصحابنا في ام حبين جدي وهي دابة منتفخة البطن وهذا خلاف القياس فان أم حبين مستخبثة عند العرب لا تؤكل، وقد حكي
أن رجلا من البدو سئل: ما تأكلون؟ فقال مادب ودرج الا أم حبين.
فقال السائل: ليهن أم حبين العافية وانما تبعوا فيها قضية عثمان فانه قضى فيها بحملان وهو الجدي والصحيح أنه لا شئ فيها، واختلفت الرواية في الثعلب فعنه فيه الجزاء وهو المشهور، وبه قال طاوس وقتادة ومالك والشافعي وعن أحمد لا شئ فيه وهو قول الزهري وعمرو بن دينار وابن المنذر لانه سبع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، واختلفت الرواية في السنور الوحشي والاهلي والصحيح أنه لا جزاء في الاهلي لانه ليس وحشيا ولا مأكولا وأما الوحشي فاختار القاضي أنه لا شئ فيه لانه سبع.
وقال الثوري واسحاق في الوحشي حكومة والاختلاف فيه مبني على الاختلاف في إباحته، واختلفت الرواية في الهدهد والصرد لاختلاف الروايتين في إباحتهما وكلما اختلفت في إباحته اختلف في جزائه فاما ما يحرم فالصحيح أنه لا جزاء فيه لعدم النص فيه وهو مخالف للقياس الثالث أن يكون من صيد البر فاما صيد البحر فلا يحرم على المحرم بغير خلاف لقوله سبحانه (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر مادمتم حرما) قال ابن عباس رضي الله عنهما طعامه ما لفظه
(مسألة) (فمن أتلفه أو تلف في يده أو أتلف جزأ منه فعليه جزاؤه) من أتلف صيدا وهو محرم فعليه جزاؤه باجماع أهل العلم، وقد دل عليه قوله سبحانه (من قتله منكم متعمدا فجزاء، مثل ما قتل من النعم) قال شيخنا رضي الله عنه ولا نعلم أحدا خالف في قتل الصيد متعمدا أن فيه الجزاء الا الحسن ومجاهدا قالا يجب في الخطأ والنسيان ولا يجب في العمد، وهذا خلاف النص فلا يلتفت إليه وقتل الصيد نوعان مباح ومحرم، فالمحرم أن يقتله ابتداء من غير سبب يبيح قتله ففيه الجزاء لما ذكرنا، والباح ثلاثة انواع (أحدها) أن يضطر إليه (والثاني) أن يصول عليه الصيد (والثالث) إذا أراد تخليصه من سبع أو شبكة أو نحوه وسنذكر ذلك ان شاء الله تعالى (فصل) ويضمن ما تلف في يده وان صاده لم يملكه لان ما حرم لحق غيره لا يملك بالاخذ من غير اذنه كمل غيره وعليه ارساله في موضع يمتنع فيه فان لم يفعل فتلف ضمنه كما الآدمي إذا أخذه بغير حق فتلف في يده، وان كان مملوكا لآدمي فعليه رده إليه لكونه غصبه منه
(فصل) وان أتلف جزءا من الصيد فعليه ضمانه لان جملته مضمونة فكان بعضه مضمونا كالآدمي والاموال (مسألة) (ويضمن ما دل عليه أو أشار إليه أو أعان على ذبحه أو كان له اثر في ذبحه مثل أن يعيره سكينا الا أن يكون القاتل محرما فيكون جزاؤه بينهما) يحرم على المحرم الدلالة على الصيد والاشارة إليه فان في حديث أبي قتادة لما صاد الحمار الوحشي وأصحابه محرمون قال النبي صلى الله عليه وسلم " هل منكم أحدا امره أن يحمل عليها أو اشار إليها؟ " وفي لفظ فابصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذنوني وأحبوا لو أني أبصرته وهذا يدل على تعليق التحريم بذلك لو وجد منهم ولانه سبب إلى إتلاف صيد محرم فحرم كنصب الشرك (فصل) وليس له الاعانة على الصيد بشئ فان في حديث أبي قتادة المتفق عليه ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم ناولوني السوط والرمح قالوا والله لا نعينك عليه، وفي رواية فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني.
وهذا يدل على أنهم اعتقدوا تحريم الاعانة والنبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك ولانه اعانة على محرم فحرم كالاعانة على قتل الآدمي، وبضمنه بالدلالة عليه فإذا دل المحرم حلالا
على الصيد فأتلفه فالجزاء على المحرم روي ذلك عن علي وابن عباس وعطاء ومجاهد وبكر المزني واسحاق
وأصحاب الرأي، وقال مالك والشافعي لا شئ على الدال لانه يضمن بالجناية فلا يضمن بالدلالة كالآدمي ولنا حديث أبي قتادة ولانه سبب يتوصل به إلى إتلاف الصيد فتعلق به الضمان كما لو نصب أحبولة ولانه قول علي وابن عباس رضي الله عنهما ولا مخالف لها في الصحابة، وان اشار إليه فهو كما لو دل عليه لانه في معناه (فصل) فان دل محرما على الصيد فقتله فالجزاء بينهما، وبه قال عطاء وحماد بن أبي سليمان، وقال الشعبي وسعيد بن جبير وأصحاب الرأي على كل واحد جزاء لان كل واحد من الفعلين يستقل بالجزاء إذا انفرد فكذلك إذا لم يضمنه غيره، وقال مالك والشافعي لا شئ على الدال ولنا أن الواجب جزاء المتلف وهو واحد فيكون الجزاء واحدا وعلى مالك والشافعي ما سبق ولا فرق بين جميع الصورتين كون المدلول عليه ظاهرا أو خفيا لا يراه الا بالدلالة عليه ولو دل محرم محرما على الصيد ثم دل الآخر آخر ثم كذلك إلى عشرة فقتل العاشر كان الجزاء على جميعهم، وإن قتله الاول فلا شئ على غيره لانه لم يدله عليه أحد فلا يشاركه في ضمانه أحد ولو كان المدلول رأى الصيد قبل الدلالة والاشارة فلا شئ على الدال والمشير لان ذلك لم يكن سببا في تلفه ولان هذه ليست دلالة على الحقيقة وكذلك ان وجد من المحرم حدث عند رؤية الصيد من ضحك أو استشراف
ففطن له غيره فصاده فلا شئ على المحرم، فان في حديث أبي قتادة قال.
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالقاحة ومنا المحرم ومنا غير المحرم إذ بصرت بأصحابي يتراءون شيئا فنظرت فإذا حمار وحش، وفي لفظ فبينا أنا مع اصحابي فضحك بعضهم إذ نظرت إذا أنا بحمار وحش، وفي لفظ فلما كنا بالصفاح إذا هم يتراءون فقلت أي شئ تنظرون؟ فلم يخبروني متفق عليه (فصل) فان أعار قاتل الصيد سلاحا فقتله به فهو كما لو دله عليه سواء كان المستعار مما لا يتم قلته الا به أو أعاره شيئا هو مستغن عنه مثل أن يعيره رمحا ومعه رمح وكذلك لو أعانه عليه
بمناولته سلاحه أو سوطه أو أمره باصطياده لما ذكرنا من حديث أبي قتادة وقول اصحابه والله لا نعينك عليه بشئ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " هل منكم أحد امره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ " وكذلك ان أعاره سكينا فذبحه بها فاما ان اعاره آلة ليستعملها في غير الصيد فاستعملها في الصيد لم يضمن لان ذلك غير محرم عليه أشبه مالو ضحك عند رؤية الصيد ففطن له انسان فصاده (فصل) فان دل الحلال محرما على صيد فقتله فلا شئ على الحلال لانه لا يضمن الصيد بالاتلاف فبالدلالة أولى الا أن يكون ذلك في الحرم فيشتركان في الجزاء كالمحرمين لان صيد الحرم حرام على الحلال والمحرم فان اشترك في قتل الصيد حلال ومحرم في الحل فعلى المحرم الجزاء جميعه على ظاهر قول أحمد رحمه الله وقال أصحاب الشافعي عليه نصف الجزاء كما لو كانا محرمين
ولنا أنه اشترك في قتله من يجب عليه الضمان ومن لا يجب فاختص الجزاء بمن يجب عليه كما لو دل الحلال محرما على صيد فعليه ولانه اجتمع موجب ومسقط فغلب الايجاب كما لو قتل صيدا بعضه في الحرم وبعضه في الحل ذكر هذه المسألة القاضي أبو الحسين (فصل) وكذلك ان كان شريكه سبعا ثم ان كان جرح أحدهما قبل صاحبه والسابق الحلال أو السبع فعلى المحرم جزاؤه مجروحا وان كان السابق المحرم فعليه أرش جرحه على ما ذكرنا وان كان جرحهما في حال واحدة أو جرحاه ومات منهما فالجزاء كله على المحرم، وفيه وجه لنا كقول أصحاب الشافعي ان على المحرم نصفه كالمحرمين (مسألة) (ويحرم عليه الاكل من ذلك كله واكل ماصيد لاجله ولا يحرم عليه الاكل من غير ذلك) لا خلاف في تحريم الصيد على المحرم إذا صاده أو ذبحه لقوله تعالى (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) وان صاده حلال أو ذبحه وكان من المحرم إعانة فيه أو دلالة أو اشارة إليه لم يبح أيضا لان أعان عليه اشبه ما لو ذبحه، وان صيد من أجله حرم عليه اكله يروى ذلك عن عثمان ابن عفان رضي الله عنه، وبه قال مالك والشافعي وقال أبوحينفة له أكل ما صيد لاجله للقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة " هل منكم أحد امره أو اشار إليه بشئ؟ " قالوا لا.
قال " كلوا ما
بقي من لحمها " متفق عليه فدل على أن التحريم انما يتعلق بالاشارة والامر والاعانة ولانه صيد مذكى لم يحصل فيه ولا في سببه منع منه فلم يحرم عليه أكله كما لو لم يصد له
ولنا ماروى ابن عباس رضي الله عنهما أن الصعب بن جثامة الليثي أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالابواء أو بودان فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى ما في وجهه قال: " انا لم نرده عليك الا أنا حرم " متفق عليه، وروى جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال هو احسن حديث في الباب وهذا فيه تحريم ماصيد للمحرم وفيه اباحة ما لم يصده ولم يصد له (فصل) ولا يحرم عليه الاكل من غير ذلك، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك، ويروى ذلك عن طلحة بن عبيدالله وحكي عن عطاء وابن عمر وعائشة وابن عباس رضي الله عنهم ان لحكم الصيد يحرم على المحرم بكل حال، وبه قال طاوس وكرهه الثوري واسحاق لعموم قوله سبحانه (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) ولما ذكرنا من حديث الصعب بن جثامة، وروى أبو داود باسناده عن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال: كان الحارث خليفة عثمان على الطائف فصنع له طعاما وصنع فيه الحجل واليعاقيب ولحم الوحش فبعث إلى علي بن أبي طالب فجاءه فقال أطعموه قوما حلالا انا حرم ثم قال علي أنشد الله من كان ههنا من أشجع أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى إليه رجل حمار وحش فابي أن يأكله؟ قالوا نعم، ولانه لحم صيد فحرم على المحرم كما لو دل عليه ولنا ما ذكرنا من حديث أبي قتادة وجابر فانهما صريحان في الحكم وفي ذلك جمع بين الاحاديث وبيان المختلف منها بان يحمل ترك النبي صلى الله عليه وسلم الاكل في حديث الصعب بن جثامة لعلمه أو ظنه أنه
صيد من أجله ويتعين حمله على ذلك لما ذكرنا من الحديثين فان الجمع بين الاحاديث أولى من التعارض والتناقض، وروى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يريد مكة وهو محرم حتى إذا كان بالروحاء إذا حمار وحشي عقير فجاء البهزي وهو صاحبه فقال يارسول الله شأنكم بهذا الحمار فامر
رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه بين الرفاق (فصل) وما حرم على المحرم لكونه دل عليه أو أعان عليه أو صيد من أجله لا يحرم على الحلال اكله لقول علي رضي الله عنه أطعموه حلالا وقد بينا حمله على أنه صيد من أجلهم وحديث الصعب ابن جثامة حين رد النبي صلى الله عليه وسلم الصيد عليه لم ينهه عن أكله ولانه صيد حلال فابيح للحلال أكله كما لو صيد لهم وهل يباح أكله لمحرم آخر فيه احتمالان (أحدهما) يباح فان ظاهر حديث جابر اباحته وهو قول عثمان رضي الله عنه لانه يروي أنه أهدى له صيد فقال لاصحابه كلوا ولم يأكل وقال إنما صيد من أجلي ولانه لم يصد من أجله فحل له كما لو صاده الحلال لنفسه ويحتمل أن يحرم وهو قول علي رضي الله عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة " هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها " قالوا لا قال " فكلوه " فمفهومه ان إشارة واحد منهم تحرمه عليهم والاول أولى
(فصل) وإذا قتل المحرم الصيد ثم أكله ضمنه للقتل دون الاكل، وبه قال مالك والشافعي، وقال عطاء وأبو حنيفة يضمنه للاكل أيضا لانه أكل من صيد محرم عليه فضمنه كما لو صيد لاجله ولنا أنه مضمون بالجزاء فلم يضمن ثانيا كما لو أتلفه بغير الاكل وكصيد المحرم إذا قتله الحلال وأكله وكذلك ان قتله محرم آخر ثم أكل منه لم يجب عليه الجزاء لما ذكرنا ولان تحريمه لكونه ميتة والميتة لا تضمن بالجزاء، وكذلك ان حرم عليه أكله بالدلالة عليه والاعانة عليه فاكل منه لم يضمن لانه صيد مضمون بالجزاء مرة فلم يجب به جزاء ثان كما لو اتلفه فان أكل مما صيد لاجله ضمنه وهو قول مالك والشافعي في القديم وقال في الجديد لا جزاء عليه لانه أكل للصيد فلم يجب به الجزاء كما لو قتله ثم أكله ولنا أنه إتلاف ممنوع منه لحرمة الاحرام فتعلق به الضمان كالقتل.
أما إذا قتله ثم أكله يحرم للاتلاف إنما حرم لكونه ميتة، إذا ثبت هذا فانه يضمنه بمثله من اللحم لان أصله مضمون بمثله من النعم فكذلك أبعاضه تضمن بمثلها بخلاف حيوان الآدمي فانه يضمن جميعه بالقيمة فكذلك ابعاضه (فصل) وإذا ذبح المحرم الصيد صار ميتة يحرم أكله على جميع الناس، وهذا قول الحسن
والقاسم وسالم ومالك والاوزاعي واسحاق وأصحاب الرأي، وقال الحكم والثوري وأبو ثور لا بأس باكله.
قال ابن المنذر هو بمنزلة ذبيحة السارق وقال عمرو بن دينار وأيوب السختياني
يأكله الحلال، وحكي عن الشافعي قول قديم أنه يحل لغيره الاكل منه لان من أباحت زكاته غير الصيد أباحت الصيد كالحلال ولنا أنه حيوان حرم عليه ذبحه لحق الله تعالى فلم يحل بذبحه كالمجوسي، وبهذا فارق سائر الحيوانات وفارق غير الصيد فانه لا يحرم ذبحه وكذلك الحكم في صيد المحرم إذا ذبحه محرم أو حلال وبعض الحنفية يقول هو مباح، ولنا ما ذكرناه (مسألة) (وأن أتلف بيض صيد أو نقله إلى موضع آخر ففسد فعليه ضمانه بقيمته) إذا أتلف بيض صيد ضمنه بقيمته أي صيد كان قال ابن عباس في بيض النعام قيمته، وروي ذلك عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، وبه قال النخعي والزهري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لانه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " في بيض النعام يصيبه المحرم ثمنه " رواه ابن ماجة، وإذا وجب في بيض النعام قيمته مع أنه من ذوات الامثال فغيره أولى، ولان البيض لا مثل له فيجب فيه قيمته كصغار الطير فان لم يكن له قيمة لكونه مدرا أو لان فرخه ميت فلا شئ فيه، قال أصحابنا
الا بيض النعام فان لقشره قيمة والصحيح أنه لا شئ فيه لانه إذا لم يكن فيه حيوان ولا مآله إلى ان يصير فيه حيوان صار كالاحجار والخشب وسائر ماله قيمة من غير الصيد الا ترى أنه لو نقب بيضة فأخرج ما فيها لزمه جزاء جميعها ثم لو كسرها هو أو غيره لم يلزمه لذلك شئ، ومن كسر بيضة فخرج منها فرخ حي فعاش فلا شئ فيه، وقال ابن عقيل يحتمل أن يضمنه إلا أن يحفظه من الجارح إلى أن ينهض فيطير لانه صار في يده مضمونا وتخليته غير ممتنع ليس برد تام، ويحتمل أن لا يضمنه لانه لم يجعله غير ممتنع بعد أن كان ممتنعا بل تركه على صفته فهو كما لو أمسك طائرا أعرج ثم تركه وان مات ففيه ما في صغار أولاد المتلف بيضه ففي فرخ الحمام صغير أولاد الغنم، وفي فرخ
النعامة حوار وفيما عداهما قيمة الا ما كان أكبر من الحمام ففيه ما نذكره من الخلاف في أمهاته ان شاء الله تعالى، ولا يحل لمحرم أكل بيض الصيد إذا كسره هو أو محرم سواه، وان كسره حلال فهو كلحم الصيد ان كان أخذه لاجل المحرم لم يبح أكله والا ابيح، وان كسر المحرم بيض صيد لم يحرم على الحلال لان حله لا يقف على كسره ولا يعتبر له أهليته بل لو كسره مجوسي أو وثنى أو بغير تسمية لم يحرم فاشبه قطع اللحم وطبخه، وقال القاضي: يحرم على الحلال اكله كالصيد لان
كسره جرى مجرى الذبح بدليل حله للمحرم بكسر الحلال له وتحريمه عليه بكسر المحرم (فصل) وان نقل بيض صيد فجعله تحت آخر أو ترك مع بيض الصيد بيضا آخر أو شيئا فنفر عن بيضه حتى فسد فعليه ضمانه لانه تلف بسببه، وان صح وفرخ فلا ضمان عليه، وان باض الصيد على فراشه فنقله برفق ففسد ففيه وجهان بناء على الجراد إذا انفرش في طريقه وحكم بيض الجراد حكم الجراد وكذلك بيض كل حيوان حكمه حكمه لانه جزء منه أشبه الاصل، وان احتلب لبن صيد ففيه قيمته كما لو حلب لبن حيوان مغصوب (مسألة) (ولا يملك الصيد بغير الارث وقيل لا يملكه به أيضا) لا يملك المحرم الصيد ابتداء بالبيع ولا بالهبة ونحوهما من الاسباب فان الصعب بن جثامة
أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا فرده عليه وقال " انا لم نرده عليك ألا انا حرم " فان اخذه باحد هذه الاسباب ثم تلف فعليه جزاؤه، وان كان مبيعا فعليه القيمة لمالكه مع الجزاء لان ملكه لم يزل عنه، وان اخذه رهنا فلا شئ عليه سوى الجزاء لانه أمانة فان لم يتلف فعليه رده إلى مالكه فان ارسله فعليه ضمانه لمالكه وليس عليه جزاء وعليه رد المبيع ايضا، ويحتمل أن يلزمه ارساله كما لو كان مملوكا، ولانه لا يجوز له اثبات يده المشاهدة على الصيد، وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي ولا يسترد المحرم الصيد الذي باعه وهو حلال بخيار ولا عيب في ثمنه ولا غير ذلك لانه ابتداء ملك على الصيد وهو ممنوع منه، وان رده المشتري عليه بعيب أو خيار فله ذلك لان سبب الرد محقق
ثم لا يدخل في ملك المحرم ويلزمه ارساله (فصل) وان ورثه المحرم ورثه لان الملك بالارث ليس بفعل من جهته، وانما يدخل في ملكه حكما اختار ذلك أو كرهه، ولهذا يدخل في ملك الصبي والمجنون ويدخل به المسلم في ملك الكافر فجرى مجرى الاستدامة وقيل لا يملك به أيضا لانه جهة من جهات التمليك أشبه البيع وغيره فعلى هذا يكون أحق به من غير ثبوت ملكه عليه فإذا حل ملكه
(مسألة) (وأن أمسك صيدا حتى تحلل ثم تلف أو ذبحه ضمنه وكان ميتة وقال أبو الخطاب له أكله) إذا صاد المحرم صيدا لم يملكه، فان أمسكه حتى حل لزمه ارساله وليس له ذبحه فان تلف فعليه ضمانه لانه لا يحل له امساكه أشبه الغاصب، وان ذبحه ضمنه لذلك وحرم أكله لانه صيد ضمنه بحرمة الاحرام فلم يبح أكله كما لو ذبحه حال إحرامه، ولانها زكاة منع منها بسبب الاحرام فأشبه ما لو كان الاحرام باقيا، واختار أبو الخطاب أن له أكله وعليه ضمانه لانه ذبحه وهو من أهل ذبح الصيد فأشبه ما لو صاده الحل والفرق ظاهر لان هذا يلزمه ضمانه بخلاف الذي صاده بعد الحل ورى ابن أبي موسى عن أحمد إذا استأجر بيتا في الحرم فوجد فيه صيدا ميتا فداه احتياطا والقياس انه لا يجب عليه فداؤه ولان الاصل براءة الذمة (مسألة) (وإن أحرم وفي يده صيد أو دخل الحرم بصيد لزمه ازالة يده المشاهدة دون الحكمية عنه فان لم يفعل فتلف ضمنه وان أرسله انسان من يده قهرا فلا ضمان على المرسل) إذا أحرم وفي ملكه صيد لم يزل ملكه عنه ولا يده الحكمية مثل أن يكون في بلده أو في يد ثابت له في غير مكانه ولا شئ عليه ان مات وله التصرف فيه بالبيع والهبة وغيرهما وان غصبه
غاصب لزمه رده ويلزمه ازالة يده المشاهدة عنه، ومعناه إذا كان في قبضته أو خيمته أو رحله أو قفص معه أو مربوط بحبل معه لزمه ارساله، وبه قال مالك وأصحاب الرأي وقال الثوري هو ضامن لما في بيته أيضا، وحكي نحو ذلك عن الشافعي، وقال أبو ثور ليس على إرسال ما في يده وهو أحد قولي
الشافعي لانه في يده ولم يجب ارساله كما لو كان في يده الحكمية ولانه لا يلزم من منع ابتداء الصيد المنع من استدامته بدليل الصيد في الحرم ولنا على أنه لا يلزمه ازالة يده الحكمية أنه لم يفعل في الصيد فعلا فلم يلزمه شئ كما لو كان في ملك غيره وعكس هذا إذا كان في يده المشاهدة لانه فعل الامساك في الصيد فكان ممنوعا منه وكحالة الابتداء فان استدامة الامساك امساك بدليل انه لو حلف لا يملك شيئا فاستدام امساكه حنث، والاصل المقيس عليه ممنوع والحكم فيه ما ذكرنا قياسا عليه.
إذا ثبت هذا فانه متى أرسله لم يزل ملكه عنه، ومن أخذه رده عليه إذا حل ومن قتله ضمنه له لان ملكه كان عليه، وازالة يده لا تزيل الملك بدليل الغصب والعارية فان تلف في يده قبل ارساله مع امكانه ضمنه لانه تلف تحت اليد العادية فلزمه ضمانه كمال الآدمي ولا يلزمه ضمانه قبل إمكان الارسال لعدم التفريط والتعدي فان
أرسله إنسان من يده قهر فلا ضمان عليه لانه فعل ما له فعله ولان اليد قد زال حكمها وحرمتها فان أمسكه حتى حل فملكه باق عليه لان ملكه لم يزل بالاحرام انما زال حكم المشاهدة فصار كالعصير يتخمر ثم يتخلل قبل اراقته (فصل) ومن ملك صيدا في الحل فادخله الحرم لزمه رفع يده وارساله فان تلف في يده أو أتلفه فعليه ضمانه كصيد الحل في حق المحرم.
وقال عطاء: ان ذبحه فعليه الجزاء.
وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما وممن كره الصيد الحرم ابن عمر وابن عباس وعائشة وعطاء وطاوس وأصحاب الرأي، ورخص فيه جابر بن عبد الله ورويت عنه الكراهة قال هشام بن عروة: كان ابن الزبير تسع سنين براها في الاقفاص، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون به بأسا ورخص فيه سعيد بن جبير ومجاهد ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر لانه ملكه خارجا وحل له التصرف فيه فجاز له ذلك في الحرم كصيد المدينة ولنا أن الحرم سبب محرم للصيد يوجب ضمانه فحرم استدامة امساكه كالاحرام ولانه صيد ذبحه في الحرم فلزمه جزاؤه كما لو صاده منه، وصيد المدينة لا جزاء فيه بخلاف صيد الحرم
(فصل) فان أمسك صيدا في الحرم فاخرجه لزمه ارساله من يده كالمحرم أذا أمسك الصيد حتى حل فان تركه فتلف فعليه ضمانه كالمحرم إذا أمسكه حتى تحلل (مسألة) (وإن قتل صيدا صائلا عليه دفعا عن نفسه أو بتخليصه من سبع أو شبكة ليطلقه فتلف لم يضمنه وقيل يضمنه فيهما) إذا صال عليه صيد فلم يقدر على دفعه إلا بقتله فله قتله ولا ضمان عليه، وبهذا قال الشافعي وقال أبو بكر عليه الجزاء وهو قول أبي حنيفة لانه قتله لحاجة نفسه أشبه قتله لحاجته إلى أكله ولنا أنه حيوان قتله لدفع شره فلم يضمنه كالآدمي الصائل ولانه التحق بالمؤذيات طبعا فصار كالكلب العقور ولا فرق بين أن يخشى منه التلف أو مضرة لجرحه أو اتلاف ماله أو بعض حيواناته (فصل) فان خلص صيدا من سبع أو شبكه أو أخذه ليخلص من رجله خيطا ونحوه فتلف بذلك فلا ضمان عليه، وبه قال عطاء وقيل عليه الضمان وهو قول قتادة لعموم الآية، ولان غاية ما فيه أنه عدم القصد إلى قتله فأشبه قتل الخطأ ولنا أنه فعل أبيح لحاجة الحيوان فلم يضمن ما تلف به كما لو داوى ولي الصبي الصبي فمات بذلك وهذا ليس بمتعمد ولا تناوله الآية
(مسألة) (ولا تأثير للحرم ولا للاحرام في تحريم حيوان أنسي ولا محرم الاكل ولا القمل على المحرم في رواية وأي شئ تصدق به كان خيرا منه) لا تأثير للحرم ولا للاحرام في تحريم شئ من الحيوان الاهلي كبهيمة الانعام والخيول والدجاج ونحوها لانه ليس بصيد، وانما حرم الله سبحانه الصيد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح البدن في احرامه في الحرم يتقرب إلى الله سبحانه بذلك، وقال عليه السلام " أفضل الحج العج والثج " يعني اسالة الدماء بالذبح والنحر وهذا لا خلاف فيه، فان كان متولدا بين وحشي وأهلي غلب جانب التحريم (فصل) فأما المحرم أكله فهو ثلاثة أقسام
(أحدها) الخمس الفواسق التي أباح الشارع قتلها في الحل والحرم وهي الحدأة والغراب والفارة والعقرب والكلب العقور، وفي بعض ألفاظ الحديث الحية مكان العقرب فيباح قتلهن في الاحرام والحرم وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الثوري والشافعي وأصحاب الرأي واسحاق، وحكي عن النخعي أنه منه قتل الفأرة والحديث صريح في حل قتلها فلا تعويل على ما خالفه، والمراد بالغراب الابقع وغراب البين، وقال قوم لا يباح قتل غراب البين لانه روي " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية
والغراب الابقع والفأرة والكلب العقور والحديا " رواه مسلم وهذا يقيد مطلق ذكر الغراب في الحديث الآخر ولا يمكن حمله على العموم بدليل أن المباح من الغربان لا يحل قتله ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحرم الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " خمس من الدواب ليس على المحرم جناح في قتلهن " وذكر مثل حديث عائشة متفق عليهما وهذا عام في الغراب وهو أصح من الحديث الآخر، ولان غراب البين محرم الاكل يعدوا على أموال الناس ولا وجه لاخراجه من العموم وفارق ما أبيح أكله فانه ليس في معنى ما أبيح قتله فلا يلزم من تخصيصه تخصيص ما ليس في معناه (القسم الثاني) من المحرم أكله ماكان طبعه الاذى وان لم يوجد منه أذى كالاسد والنمر والفهد والذئب وما في معناه فيباح قتله أيضا ولا جزاء فيه قال مالك: الكلب العقور ما عقر الناس وعدا عليهم مثل الاسد والذئب والنمر والفهد.
فعلى هذا يباح قتل كل ما فيه أذى للناس في أنفسهم وأموالهم مثل سباع البهائم كلها، الحرام أكلها وجوارح الطير كالبازي والصقر والشاهين والعقاب ونحوها والحشرات
المؤذية والزنبور والبق والبعوض والبراغيث والذباب وبه قال الشافعي، وقال أصحاب الرأي: يقتل ما جاء في الحديث والذئب قياسا عليه ولنا أن الخبر نص من كل جنس على صورة من أدناه تنبيها على ما هو أعلى منها، ودلالة على ماكان
في معناها فنصه على الغراب والحدأة تنبيه على البازي ونحوه وعلى الفأرة تنبيه على الحشرات وعلى العقرب تنبيه على الحية وقد ذكرت في بعض الاحاديث، وعلى الكلب العقور تنبيه على السباع التي هي أعلا منه ولان مالا يضمن بقيمته ولا مثله لا يضمن بشئ كالحشرات (القسم الثالث) من المحرم الاكل مالا يؤذي بطبعه كالرخم والديدان فلا أثر للحرم ولا للاحرام فيه ولا جزاء فيه ان قتله، وبه قال الشافعي وقال مالك يحرم قتلها فان قتلها فداها وكذلك كل سبع لا يعدو على الناس فإذا وطئ الذباب أو النمل أو الذر أو قتل الزنبور تصدق بشئ من الطعام، وقال ابن عقيل في النملة لقمة، أو تمرة إذا لم تؤذه، ويتخرج في النحلة مثل ذلك لان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النملة والنحلة.
وحكي ابن أبي موسى في الضفدع حكومة
ولنا ان الله سبحانه أنما أوجب الجزاء في الصيد وليس هذا بصيد.
قال بعض أهل العلم الصيد ما جمع ثلاثة أشياء أن يكون مباحا ممتنعا، ولانه لا مثل له ولا قيمة والضمان إنما يكون بأحد هذين الشيئين (فصل) ولا بأس أن يقرد المحرم بعيره روى ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قرد بعيره باسقيا أي نزع القراد عنه فرماه وهذا قول ابن عباس وجابر بن زيد وعطاء وقال مالك لا يجوز وكرهه عكرمة ولنا أنه قول من سمينا من الصحابة ولانه مؤذ فابيح قتله كالحية والعقرب (فصل) فأما القمل ففيه روايتان (إحداهما) اباحة قتله لانه من أكثر الهوام أذى فأبيح قتله كالبراغيث وسائر ما يؤذي (والثانية) أن قتله محرم وهو ظاهر كلام الخرقي لانه يترفه بازالته فحرم كقطع الشعر ولان النبي صلى الله عليه وسلم رآى كعب بن عجرة والقمل يتناثر على وجهه فقال له احلق رأسك فلو كان قتل القمل وازالته مباح لم يكن كعب ليتركه حتى يصير كذلك ولكان النبي صلى الله عليه وسلم أمره بازالته خاصة والصئبان كالقمل لانه بيضه ولافرق بين قتل القمل ورميه أو قتله بالزئبق لحصول الترفه به قال القاضي إنما الروايتان فيما ازاله من شعره أما ما القاه من ظاهر بدنه وثوبه فلا شئ فيه رواية واحدة وظاهر كلام شيخنا ههنا يقتضي العموم ويجوز له حك رأسه برفع كيلا يقطع شعرا أو يقتل قملا فان حك فرآى في يده
شعرا أستحب له أن يعيده احتياطا ولا يجب حتى يستيقن
(فصل) فان تفلى المحرم أو قتل قملا فلا فدية فيه فان كعب بن عجره حين حلق رأسه قد أذهب قملا كثيرا ولم يجب عليه لذلك شئ إنما أوجب الفدية بحلق الشعر ولان القمل لا قيمة له فاشبه البعوض والبراغيث ولانه ليس بصيد ولاهو مأكولا حكي عن ابن عمر قال هي أهون مقتول وسئل ابن عباس في محرم القى قملة ثم طلبها فلم يجدها قال مالك ضالة لا تبتغي، وهذا قول طاوس وسعيد بن جبير وعطاء وأبي ثور وابن المنذر وعن أحمد فيمن قتل قملة قال يطعم شيئا.
فعلى هذا أي شئ تصدق به أجزأه سواء قتل قليلا أو كثيرا وهذا قول أصحاب الرأي وقال اسحاق تمرة فما فوقها، وقال مالك حفنة من طعام وروي ذلك عن ابن عمر وهذه الاقوال كلها قريب من قولنا فانهم لم يريدوا بذلك التقدير وإنما هو على التقريب لاقل ما يتصدق به (فصل) والخلاف إنما هو في قتله للمحرم أما في الحرم فيباح قتل القمل بغير خلاف لانه إنما حرم في حق المحرم لما فيه من الترفه فهو كقطع الشعر ومن كان في الحرم غير محرم فمباح له قطع الشعر وتقليم الاظفار والطيب وسائر ما يترفه به (فصل) ولا بأس بغسل المحرم رأسه وبدنه برفق.
فعل ذلك عمر وابنه وارخص فيه علي وجابر
وسعيد بن جبير والشافعي وأبو ثور واصحاب الرأي وكره مالك للمحرم أن يغطس في الماء ويغيب فيه رأسه ولعله ذهب إلى ان ذلك ستر له، والصحيح أنه لا بأس بذلك لان ذلك ليس بستر ولهذا لا يقوم مقام السترة في الصلاة، وقد روي عن ابن عباس قال ربما قال لي عمر ونحن محرمون بالجحفة تعال أباقيك أينا أطول نفسا في الماء؟ رواه سعيد ولانه ليس بستر معتاد وأشبه صب الماء عليه ووضع يده عليه، وقد روي عبد الله بن جبير قال أرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الانصاري فاتيته وهو يغتسل فسلمت عليه فقال من هذا؟ فقلت أنا عبد الله بن جبير أرسلني اليك عبد الله بن عباس يسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطاطاه
حتى بدا لي رأسه ثم قال لانسان يصب عليه الماء: صب، فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فاقبل بهما وأدبر ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل متفق عليه (فصل) ويكره له غسل رأسه بالسدر والخطمي ونحوهما لما فيه من إزالة الشعث والتعرض لقطع الشعر وكرهه جابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأصحاب الرأي فان فعل فلا فدية عليه، وبه قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر، وعن أحمد رحمه الله عليه الفدية، وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال صاحباه عليه
صدقة لان الخطمي يستلذ برائحته ويزيل الشعث ويقتل الهوام فوجبت به الفدية كالورس ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي وقصه بعيره " اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فانه يبعث يوم القيامة ملبيا " متفق عليه فأمر بغسله بالسدر مع اثبات حكم الاحرام في حقه والخطمي كالسدر، ولانه ليس بطيب فلم تجب الفدية باستعماله كالتراب، وقولهم يستلذ رائحته ممنوع ثم يبطل بالفاكهة وبعض التراب وإزالة الشعث يحصل بذلك أيضا، وقتل الهوام لا يعلم حصوله ولا يصح قياسه على الورس لانه طيب، ولذلك لو استعمله في غير الغسل أو في ثوبه منع منه بخلاف مسئلتنا (مسألة) (ولا يحرم صيد البحر على المحرم وفي إباحته في الحرم روايتان) لا يحرم صيد البحر على المحرم بغير خلاف لقوله تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة) قال ابن عباس وابن عمر طعامه ما القاه، وعن ابن عباس طعامه ملحه ولا خلاف بين أهل العلم في جواز أكله وبيعه وشرائه، ولا فرق بين حيوان البحر الملح وبين ما في الانهار والعيون فان اسم البحر يتناول الكل قال الله سبحانه (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا
ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا) ولان الله تعالى قابله بصيد البر بقوله (وحرم عليكم صيد البر) فدل على أن ما ليس من صيد البر فهو من صيد البحر، وحيوان البحر ماكان يعيش في الماء ويفرخ فيه ويبيض فيه، فان كان مما لا يعيش إلا في الماء كالسمك ونحوه فهذا لا خلاف فيه، وإن
كان مما يعيش في البر كالسلحفاة والسرطان فهو كالسمك لاجزاء فيه، وقال عطاء فيه الجزاء وفي الضفدع وكل ما يعيش في البر ولنا أنه يفرخ في الماء ويبيض فيه فكان من حيوانه كالسمك فأما طير الماء ففيه الجزاء في قول عامة أهل العلم منهم الاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا غير ما حكي عن عطاء أنه قال: حيثما يكون أكثر فهو من صيده ولنا أنه انما يفرخ في البر ويبيض فيه وانما يدخل الماء ليتعيش فيه ويكتسب منه فهو كصياد الآدميين، فان كان جنس من الحيوان نوع منه في البر ونوع منه في البحر كالسلحفاة فلكل نوع حكم نفسه كالبقر منها الوحشي محرم والاهلي مباح
(فصل) وهل يباح صيد البحر في الحرم فيه روايتان أصحهما أنه لا يباح فلا يحل الصيد من آبار الحرم وعيونه كرهه جابر بن عبد الله رضي الله عنه لقوله عليه السلام " لا ينفر صيدها " ولان الحرمة تثبت للصيد بحرمة المكان وهو شامل لكل صيد (والثانية) أنه مباح لان الاحرام لا يحرمه الحرم كالسباع والحيوان الاهلي (مسألة) (ويضمن الجراد بقيمته فان انفرش في طريقه فقتله بالمشي عليه ففي الجزاء وجهان وعنه لا ضمان في الجراد) اختلفت الرواية في الجراد فعنه هو صيد البحر لا جزاء فيه وهو مذهب أبي سعيد، قال ابن المنذر قال ابن عباس وكعب هو من صيد البحر، قال عروة هو من نثرة حوت، وروي عن ابي هريرة قال أصابنا ضرب من جراد فكان الرجل منا يضرب بسوطه وهو محرم فقيل له إن هذا لا يصلح فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " إن هذا من صيد البحر " وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الجراد من صيد البحر " رواهما أبو داود (والرواية الثانية) أنه من صيد البر وفيه الجزاء وهو قول الاكثرين لما روي أن عمر رضي الله عنه قال لكعب في جرادتين: ما جعلت في نفسك؟ قال درهمان، قال بخ درهمان خير من مائة جرادة، رواه
الشافعي في مسنده، ولانه طير يشاهد طيرانه في البر ويهلكه الماء إذا وقع فيه أشبه العصافير، فأما الحديثان اللذان ذكرناهما للرواية الاولى فوهم قاله أبو داود، فعلى هذا يضمنه بقيمته لانه لا مثل له وهذا قول الشافعي، وعن أحمد يتصدق بتمرة عن الجرادة وهذا يروى عن عمر وعبد الله بن عمر، وقال ابن عباس قبضة من طعام، قال القاضي كلام أحمد وغيره محمول على أنه أوجب ذلك على طريق القيمة، والظاهر أنهم لم يريدوا بذلك التقدير وانما أرادوا فيه أقل شئ (فصل) فان افترش الجراد في طريقه فقتله بالمشي عليه بحيث لا يمكنه التحرز منه ففيه وجهان (أحدهما) يجب جزاؤه لانه أتلقه لنفع نفسه فضمنه كالمضطر يقتل صيدا يأكله (والثاني) لا يضمنه لانه اضطره إلى إتلافه أشبه الصائل عليه (مسألة) (ومن اضطر إلى أكل الصيد واحتاج إلى شئ من هذه المحظورات فله فعله وعليه الفداء) إذا اضطر إلى أكل الصيد أبيح له ذلك بغير خلاف علمناه لقوله سبحانه (ولا تلقوا بأيديكم إلى
التهلكة) وترك الاكل مع القدرة عند الضرورة القاء بيده إلى التهلكة ومتى قتله لزمه ضمانه سواء وجد غيره أو لم يجد، وقال الاوزاعي لا يضمنه لانه مباح أشبه صيد البحر ولنا عموم الآية ولانه قتله من غير معنى حدث من الصيد يقتضي قتله فضمنه كغيره ولانه أتلفه لدفع الاذى عن نفسه لا لمعنى منه أشبه حلق الشعر لاذى برأسه وكذلك ان احتاج إلى حلق شعره للمرض أو القمل وقطع شعره لمداواة جرح أو نحوه أو تغطية رأسه أو لبس المخيط أو شئ من المحظورات فله فعله كما جاز حلق رأسه للحاجة فان فعله فعليه الفدية لان الفدية تثبت في حلق الرأس للعذر للآية وحديث كعب بن عجره وقسنا عليه سائر المحظورات (فصل) قال الشيخ رحمه الله (السابع) عقد النكاح لا يصح منه، وفي الرجعة روايتان ولا فدية عليه في شئ منهما.
لا يجوز للمحرم أن يتزوج لنفسه ولا يكون وليا في النكاح ولا وكيلا فيه ولا يجوز تزويج المحرمة
روي ذلك عن عمر وابنه وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار
والزهري والاوزاعي ومالك والشافعي وأجازه ابن عباس وهو قول أبي حنيفة لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم متفق عليه ولانه عقد يملك به الاستمتاع فلم يحرمه الاحرام كشراء الاماء.
ولنا ماروى عثمان بن عفان رض قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب " رواه مسلم ولان الاحرام يحرم الطيب فيحرم النكاح كالعدة فاما حديث ابن عباس فقد روي يزيد بن الاصم عن ميمونة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالا وبنى بها حلالا وماتت بسرف في الظلة التى بنى بها فيها رواه أبو داود والاثرم وعن أبي رافع قال تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت انا الرسول بينهما قال الترمذي هذا حديث حسن وميمونة أعلم بحال نفسها وأبو رافع صاحب القصة وهو السفير فيها فهما أعلم بذلك من ابن عباس وأولى بالتقديم لو كان ابن عباس كبيرا وقد كان صغيرا لا يعرف حقائق الامور وقد انكر عليه هذا القول فقال سعيد بن المسيب وهم من ابن عباس ما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم الا حلالا فكيف يعمل بحديث هذا حاله ويمكن حمل قوله وهو محرم أي في الشهر الحرام أو في البلد الحرام كما قيل * قتلوا ابن عفان الخليفة محرما * وقيل تزوجها حلالا واظهر أمر تزويجها وهو محرم ثم لو تعارض الحديثان كان تقديم حديثنا أولى لانه
قول النبي صلى الله عليه وسلم وذلك فعله والقول آكد لانه يحتمل أن يكون مختصا بما فعله وعقد النكاح يخالف شراء الامة لانه يحرم بالعدة والردة واختلاف الدين وكون المنكوحة اختاله من الرضاع ولان النكاح إنما يراد للوطئ غالبا بخلاف الشراء فانه يراد للخدمة والتجارة وغير ذلك فافترقا.
(فصل) وإذا وكل المحرم حلالا في النكاح فعقد له النكاح بعد تحلل الموكل صح العقد لان الاعتبار بحالة العقد وان وكله وهو حلال فلم يعقد له العقد حتى أحرم لم يصح لما ذكرنا فان أحرم
الامام الاعظم منع من التزويج لنفسه وتزويج أقاربه وهل يمنع من أن يزوج بالولاية العامة فيه احتمالان (أحدهما) يمنع كما لو باشر العقد (والثاني) لا يمنع لان فيه حرجا على الناس وتضييقا عليهم في سائر البلاد ولان من يزوج من الحكام إنما يزوجوه باذنه وولايته ذكر ذلك ابن عقيل واختار الجواز لانه حال ولايته كان حلالا والاستدامة أقوى من الابتداء لان الامامة العظمى من شرطها العدالة ولا تبطل بالفسق الطارئ (فصل) وإذا وكل الحلال محلا في النكاح فعقد النكاح وأحرم الموكل فقالت الزوجة وقع العقد بعد الاحرام فلم يصح وقال الزوج بل قبله فالقول قوله وان كان الاختلاف بالعكس فالقول قوله أيضا لانه يملك فسخ العقد فملك الاقرار به لكن يجب عليه نصف الصداق (فصل) فان تزوج أو زوج أو زوجت المحرمة لم يصح النكاح سواء كان الكل محرمين أو بعضهم لانه منهي عنه فلم يصح كنكاح المرأة على عمتها وخالتها، وقال ابن أبي موسى إذا زوج المحرم غيره صح في احدى الروايتين، وروي عن أحمد رحمه الله أنه قال: إن زوج المحرم لم ينفسخ النكاح قال بعض أصحابنا هذا يدل على أنه إذا كان الولي بمفرده أو الوكيل محرما لم يفسد النكاح لانه سبب يبيح محظورا للحلال فلم يمنع منه الاحرام كما لو حلق المحرم رأس حلال والمذهب الاول للحديث،
وكلام أحمد يحمل على أنه لم يفسخه لكونه مختلفا فيه، قال القاضي ويفرق بينهما بطلقة وكذلك كل نكاح مختلف فيه كالنكاح بلا ولي ليباح تزويجها بيقين وفي الرجعة روايتان (احداهما) لا تصح لانه عقد وضع لاباحة البضع أشبه النكاح (والثانية) يصح ويباح وهو قول أكثر أهل العلم واختيار الخرقي لانها امساك للزوجة لقوله تعالى (فأمسكوهن بمعروف) ولانها تجوز بلا ولي ولا شهود ولا اذنها فلم تحرم كامساكها بترك الطلاق، ولان الصحيح من المذهب أن الرجعية مباحة قبل الرجعة فلا يحصل بها احلال ولو قلنا أنها محرمة لم يكن ذلك مانعا من رجعتها كالتكفير للمظاهر، وهذه الرواية هي الصحيحة إن شاء الله تعالى ويباح شراء الاماء للتسري وغيره، ولا نعلم في ذلك خلافا والله أعلم (فصل) ويكره للمحرم الخطبة، وخطبة المحرمة، ويكره للمحرم أن يخطب للمحلين لقوله عليه السلام في حديث عثمان (ولا يخطب) ولانه تسبب إلى الحرام أشبه الاشارة إلى الصيد والاحرام
الفاسد كالصحيح في منع النكاح وسائر المحظورات لان حكمه باق في وجوب ما يجب بالاحرام فكذلك ما يحرم به (فصل) ويكره أن يشهد في النكاح لانه معونة على النكاح أشبه الخطبة، وإن شهد أو خطب لم يفسد النكاح، وقال بعض أصحاب الشافعي لا ينعقد النكاح بشهادة محرمين لان في بعض الروايات لا يشهد ولنا أنه لا مدخل للشاهد في العقد فاشبه الخطيب وهذه الزيادة غير معروفة فلا يثبت بها حكم ومتى تزوج المحرم أو المحرمة أو زوج لم يجب عليه فدية لانه فسد لاجل الاحرام فلم يجب به فدية كشراء الصيد ولا فرق بين الاحرام الفاسد والصحيح فيما ذكرنا لانه يمنع ما يمنعه في الصحيح كحلق الشعر وتقليم الاظفار وغير ذلك كذلك التزويج
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (الثامن الجماع في الفرج قبلا كان أو دبرا من آدمي أو غيره فمتى فعل ذلك قبل التحلل فسد نسكه عامدا كان أو ساهيا) يفسد الحج بالوطئ في الجملة بغير خلاف.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد باتيان شئ في حال الاحرام إلا بالجماع والاصل فيه ماروي عن ابن عمر رضي الله عنه ان رجلا سأله فقال: اني وقعت بامرأتي ونحن محرمان، فقال أفسدت حجك انطلق أنت وأهلك مع الناس فاقضوا ما يقضون، وحل إذا أحلوا، فإذا كان العام المقبل فاحجج انت وامرأتك واهديا هديا، فان لم تجدا فصوما ثلاثة ايام في الحج وسبعة إذا رجعتم، وكذلك قال ابن عباس وابن عمر ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فكان اجماعا رواه الاثرم في سننه وفي حديث ابن عباس " ويتفرقان من حيث يحرمان حتى يقضيا حجهما " قال ابن المنذر قول ابن عباس أعلى شئ روي فيمن وطئ في حجه، وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والنخعي والثوري والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي (فصل) ومتى كان قبل التحلل الاول فسد الحج سواء كان قبل الوقوف أو بعده في قول الاكثرين، وقال أبو حنيفة وأصحاب الرأي: إن جامع قبل الوقوف فسد حجه، وإن جامع بعده لم يفسد لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة " ولانه معنى يأمن به الفوات فأمن به الافساد كالتحلل
ولنا قول من سمينا من الصحابة فان قولهم مطلق جامع وهو محرم، ولانه جماع صادف احراما تاما فأفسده كما قبل الوقوف، وقوله عليه السلام " الحج عرفة " يعني معظمه، أو أنه ركن متأكد فيه ولا يلزم من أمن الفوات أمن الفساد بدليل العمرة (فصل) ولا فرق بين الوطئ في القبل والدبر من آدمي أو بهيمة، وبه قال الشافعي وأبو ثور ويتخرج من وطئ البهيمة أنه لا يفسد الحج إذا قلنا لا يجب به الحد وهو قول مالك وأبي حنيفة لانه لا يوجب الحد أشبه الوطئ دون الفرج.
وحكي أبو ثور عن أبي حنيفة ان اللواط والوطئ في دبر
المرأة لا يفسد الحج لانه لا يثبت به الاحصان أشبه الوطئ دون الفرج ولنا أنه وطئ في فرج يوجب الغسل فافسد الحج كالوطئ في قبل الآدمية ويفارق الوطئ دون الفرج فانه ليس من الكبائر في الاجنبية ولا يوجب مهرا ولا عدة ولا حدا ولا غسلا وان أنزل به فهو كمسئلتنا في رواية (فصل) والعمد والنسيان فيما ذكرنا سواء نص عليه احمد فقال: إذا جامع أهله بطل حجه لانه شئ لا يقدر على رده والشعر إذا حلقه فقد ذهب لا يقدر على رده والصيد إذا قتله فقد ذهب لا يقدر على رده فهذه الثلاثة العمد والنسيان فيها سواء، والجاهل بالتحريم والمكره في حكم الناسي لانه معذور وممن قال ان عمد الوطئ ونسيانه سواء أبو حنيفة ومالك والشافعي في القديم وقال في الجديد لا يفسد الحج ولا يجب عليه مع النسيان شئ.
وحكى ابن عقيل في الفصول رواية لا يفسد لقوله عليه السلام " عفى لامتي عن الخطأ والنسيان " والجهل في معناه لانها عبادة تجب بافسادها الكفارة فافترق فيها وطئ العامد والساهي كالصوم ولنا ان الصحابة رضى الله عنهم لم يستفصلوا السائل عن العمد والنسيان حين سألهم عن حكم الوطئ ولانه سبب يتعلق به وجوب القضاء في الحج فاستوى عمده وسهوه كالفوات والصوم ممنوع (فصل) ويجب به بدنه روي ذلك عن ابن عباس وطاوس ومجاهد ومالك والشافعي
وقال الثوري واسحاق عليه بدنة فان لم يجد فشاة، وقال أصحاب الرأي ان كان قبل الوقوف فسد حجه وعليه شاة وان كان بعده فحجه صحيح لانه قبل الوقوف معنى يوجب القضاء فلم يجب به بدنة كالفوات ولنا أنه جماع صادف احراما تاما فوجبت به البدنة كبعد الوقوف ولانه قول من سمينا من الصحابة ولم يفرقوا بين ما قبل الوقوف وبعده.
اما الفوات فهو مفارق للجماع وأما فساد الحج فلا فرق فيه بين حال الاكراه والمطاوعة لا نعلم فيه خلافا لانهم لا يوجبون فيه الشاة بخلاف الجماع (فصل) وحكم المرأة حكم الرجل في فساد الحج لان الجماع وجد منهما فاستويا فيه وحكم المكرهة والنائمة حكم المطاوعة ولا فرق فيما بعد يوم النحر وقبله لانه وطئ قبل التحلل الاول أشبه قبل يوم النحر (مسألة) (وعليهما المضي في فاسده والقضاء على الفور من حيث أحرما أولا ونفقة المرأة في القضاء عليها ان طاعوت وأن أكرهت فعلى الزوج) لا يفسد الحج بغير الجماع فإذا فسد فعليه، اتمامه وليس له الخروج منه روي ذلك عن عمر وعلي وأبي
هريرة وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال الحسن ومالك يجعل الحجة عمرة ولا يقيم على حجة فاسدة، وقال داود يخرج بالافساد من الحج والعمرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ولنا عموم قوله تعالى " (وأتموا الحج والعمرة لله) ولانه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا ولانه معنى يجب به القضاء فلم يخرج منه كالفوات والخبر لا يلزمنا لان المعنى فيه بامر الله وانما وجب القضاء لانه لم يأت به على الوجه الذى يلزم بالاحرام ونخص مالكا بانها حجة لا يمكنه الخروج منها بالاحرام فلا يخرج منها إلى عمرة كالصحيحة.
إذا ثبت هذا فانه يجب عليه أن يفعل بعد الافساد كما يفعل قبله من الوقوف والمبيت بمزدلفة والرمي ويجتنب بعد الفساد ما يجتنبه قبله من الوطئ ثانيا وقتل الصيد والطيب واللباس ونحوه وعليه الفدية بالجناية على الاحرام الفاسد كالاحرام الصحيح ويلزمه القضاء من قابل بكل حال لانه قول أبن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم فان كانت الحجة التى افسدها واجبة باصل الشرع أو بالنذر أو قضاء كانت الحجة من قابل مجزئة
لان الفاسد إذا انضم إليه القضاء اجزأ عما يجزئ عنه الاول لو لم يفسده وان كانت تطوعا وجب قضاؤها أيضا لانه بالدخول في الاحرام صار الاحرام عليه واجبا فإذا أفسده وجب قضاؤه كالمنذور ويكون القضاء على الفور ولا نعلم فيه مخالفا لان الحج الاصل يجب على الفور فهذا أولى لانه قد تعين بالدخول فيه والواجب باصل الشرع لم يتعين بذلك (فصل) ويحرم بالقضاء من أبعد الموضعين الميقات أو موضع إحرامه الاول لانه ان كان الميقات أبعد فلا يجوز تجاوز الميقات بغير احرام وان كان موضع إحرامه أبعد فعليه الاحرام بالقضاء منه نص عليه احمد رحمه الله ليكون القضاء على صفة الاداء، ولانه قول ابن عباس، وبه يقول سعيد بن المسيب والشافعي واسحاق وابن المنذر وقال النخعي يحرم من موضع الجماع لانه موضع الافساد ولنا أنها عبادة فكان قضاؤها على حسب ادائها كالصلاة (فصل) ونفقة المرأة في القضاء عليها ان طاوعت لانها أفسدت حجتها متعمدة فكانت نفقة القضاء عليها كالرجل، وان كانت مكرهة فعلى الزوج لانه الذي أفسد حجتها فكانت النفقة عليه كنفقة حجته (مسألة) (ويتفرقان في القضاء من الموضع الذي أصابها فيه إلى أن يحلا وهو واجب أو مستحب على وجهين) إذا قضيا يفرقان من موضع الجماع حتى يقضيا حجهما روي هذا عن عمر وابن عباس رضي
الله عنهما فروى سعيد والاثرم باسنادهما أن عمر سئل عن رجل وقع بامرأته وهما محرمان فقال: انما حجكما فإذا كان قابل فحجا واهديا حتى إذا بلغتما المكان الذي أصبتما فتفرقا حتى تحلا.
وروي عن ابن عباس مثل ذلك، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن احمد رضي الله عنه أنهما يتفرقان من حيث يحرمان إلى أن يحلا رواه مالك في الموطأ عن علي رضي الله عنه وروي عن ابن عباس وهو قول مالك لان التفريق بينهما خوفا من معاودة المحظور وهو يوجد في جميع احرامها، ووجه الاول ان ما قبل موضع الافساد كان احرامهما فيه صحيحا فلم يوجب التفريق فيه كالذي لم يفسد وانما اختص التفريق بموضع الجماع لانه ربما يذكره
برؤية مكانه فيدعوه ذلك إلى فعله ومعنى التفريق أن لا يركب معها في محمل ولا ينزل معها في فسطاط ونحوه قال احمد: يفترقان في النزول وفي المحمل والبساط ولكن يكون بقربهما، وهل يجب التفريق أو يستحب؟ فيه وجهان (احدهما) لا يجب وهو قول أبي حنيفة لانه لا يجب التفريق في قضاء رمضان إذا أفسده كذلك الحج (والثاني) يجب لانه قول من سمينا من الصحابة وقد أمروا به ولان الاجتماع في ذلك الموضع يذكر الجماع فيكون من دواعيه والاول أولى لان حكمة التفريق للصيانة عما يتوهم من معاودة الوقاع عند تذكره برؤية مكانه وهذا وهم بعيد لا يقتضي الايجاب والعمرة فيما ذكرناه كالحج لانها أحد النسكين فأشبه الآخر فان كان المعتر مكيا قد أحرم بها من الحل أحرم للقضاء من الحل، وان كان أحرم بها من الحرم أحرم للقضاء من الحل لانه ميقاتها ولا فرق بين المكي ومن حصل بها من المجاورين، وان أفسد المتمتع عمرته ومضى في فسادها فأتمها فقال احمد: يخرج من الميقات فيحرم منه للحج فان خشي الفوات أحرم من مكة وعليه دم فإذا فرغ من حجة خرج إلى الميقات فاحرم منه بعمرة مكان التي أفسدها وعليه هدي يذبحه إذا قدم مكة لما أفسد من عمرته، ولو أفسد المفرد حجته وأتم فله الاحرام بالعمرة من أدنى الحل كالمكيين (فصل) وإذا أفسد القارن نسكه فعليه فداء واحد وبه قال عطاء وابن جريج ومالك والشافعي واسحاق وأبو ثور، وقال الحكم عليه هديان ويتخرج لنا أن يلزمه بدنة للحج وشاة للعمرة إذا قلنا يلزمه طوافان وسعيان وقال أصحاب الرأي ان وطئ قبل الوقوف فسد نسكه وعليه شاتان للحج والعمرة ولنا أن الصحابة الذين سئلوا عمن أفسد نسكه لم يأمروه الا بفداء واحد ولم يفرقوا ولانه احد الانساك الثلاثة فلم يجب في افساده أكثر من فدية واحدة كالآخرين وسائر محظورات الاحرام واللبس والطيب وغيرهما لا يجب في كل واحد منهما أكثر من فدية واحدة كما لو كان مفردا
(فصل) وحكم العمرة حكم الحج في فسادها بالوطئ قبل الفراغ من السعي ووجوب المضي في فاسدها ووجوب القضاء قياسا على الحج الا أنه لا يجب بافسادها الا شاة، وقال الشافعي عليه القضاء وبدنة كالحج،
وقال أبو حنيفة ان وطئ قبل أن يطوف أربعة أشواط كقولنا وأن وطئ بعد ذلك لم تفسد عمرته وعليه شاة ولنا على الشافعي أنها عبادة لا وقوف فيها فلم تجب فيها بدنة كما لو قرنها بالحج ولان العمرة دون الحج فيجب ان يكون حكمها دون حكمه ولنا على أبي حنيفة أن الجماع من محظورات الاحرام فاستوى فيه ما قبل الطواف وبعده كسائر المحظورات ولانه وطئ صادف احراما تاما فافسده كما قبل الطواف (فصل) إذا أفسد القارن والمتمع نسكهما لم يسقط الدم عنهما، وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يسقط، وعن احمد رحمه الله مثله لانه لم يحصل الترفه بسقوط أحد السفرين.
وقال القاضي في القارن إذا قلنا إن عليه للافساد دمين فسد دم القران ولنا أن ما وجب في النسك الصحيح وجب في الفاسد كالافعال ولانه دم وجب عليه فلم يسقط بالافساد كالدم الواجب لترك الميقات فان افسد القارن نسكه ثم قضى مفردا لم يلزمه في القضاء دم، وقال الشافعي يلزمه لانه يجب في القضاء ما يجب في الاداء ولنا أن الافراد أفضل من القران مع الدم فإذا أتى به فقد أتى بما هو أولى فلم يلزمه شئ كمن لزمته الصلاة بتيمم فقضاه بوضوء
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: