الفقه الحنبلي - الاجارة -
فلا يجوز استئجار بهيمة زمنة للحمل ولا أرض لا تنبت الزرع لان الاجارة عقد على المنفعة ولا يمكن تسليم هذه المنفعة من هذه العين فلا تجوز اجارتها كالعبد الآبق *
(مسألة) * (الخامس كون المنفعة مملوكة للمؤجر أو مأذونا له فيها) لانه تصرف فيما لا يملكه ولا اذن فيه مالكه فلم يجز كبيعه، ويحتمل أن يجوز ويقف على اجازة المالك بناء على بيع العين بغير إذن مالكها * (مسألة) * (يجوز للمستأجر اجارة العين لمن يقوم مقامه من المؤجر وغيره) يجوز للمستأجر اجارة العين المستأجرة إذا قبضها نص عليه أحمد وهو قول سعيد بن المسيب وابن سبرين ومجاهد وعكرمة وأبي سلمة بن عبد الرحمن والنخعي والشعبي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وذكر القاضي فيه رواية أخرى أنه لا يجوز لان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن والمنافع لم تدخل في ضمانه، ولانه عقد على ما لم يدخل في ضمانه فلم يجز كبيع المكيل والموزون قبل قبضه، والاول أصح لان قبض العين قام مقام قبض المنافع بدليل أنه يجوز التصرف فيها فجاز العقد عليها كبيع الثمرة على الشجرة وبهذا الاصل يبطل قياس الرواية الاخرى.
إذا ثبت هذا فانه لا تجوز إجارته إلا لمن يقوم مقامه أو دونه في الضرر لان هذه المنفعة صارت مملوكة له فله أن يستوفيها بنفسه وبنائه، والمستأجرة لا يجوز أجارتها لمن هو أكثر ضررا منه ولا لمن يخالف ضرره ضرره لما نذكره
(فصل) فاما اجارتها قبل قبضها فتجوز من غير المؤجر في أحد الوجهين وهو قول بعض الشافعية لان قبض العين لا ينتقل به الضمان إليه فلم يقف جواز التصرف عليه، والثاني لا يجوز وهو قول أبي حنيفة، والمشهور من قولي الشافعي لان المنافع مملوكة بعقد معاوضة فاعتبر في جواز العقد عليها
القبض كالاعيان، وأما اجارتها للمؤجر قبل القبض فإذا قلنا لا يجوز من غير المؤجر ففيها ههنا وجهان (أحدهما) لا يجوز كغيره (والثاني) يجوز لان القبض لا يتعذر عليه بخلاف الاجنبي وأصلهما بيع الطعام قبل قبضه وهل يصح من بائعه؟ على روايتين وتجوز اجارتها من المؤجر بعد قبضها وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يجوز لانه يؤدي إلى تناقض الاحكام لان التسليم مستحق من المكري فإذا اكتراها صار مستحقا له فيصير مستحقا لما يستحق عليه وهو تناقض ولنا أن كل عقد جاز مع الاجنبي جاز مع العاقد كالبيع وما ذكروه لا يصح لان التسليم قد حصل وهذا المستحق له تسليم آخر ثم يبطل بالبيع فانه يستحق عليه تسليم العين، فإذا اشتراها استحق تسليمها فان قبل التسليم ههنا مستحق في جميع المدة قلنا المستحق تسليم العين، وقد حصل وليس عليه تسليم آخر غير أن العين من ضمان المؤجر فإذا تعذرت المنافع بتلف الدار أو غصبها رجع عليها لانها تعذرت بسبب كان في ضمانه
* (مسألة) * (وتجوز إجارتها بمثل الاجرة وزيادة، وعنه لا تجوز بزيادة، وعنه ان جدد فيها عمارة جازت الزيادة وإلا فلا) إذا قلنا بجواز إجارة العين المستأجرة جازت بمثل الاجرة وزيادة نص عليه أحمد، وروي عن عطاء والحسن والزهري وبه قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر، وعن أحمد لا تجوز بزيادة تروى كراهة ذلك عن ابن المسيب وأبي سلمة وابن سيرين ومجاهد وعكرمة والنخعي وعنه إن جدد فيها عمارة جازت الزيادة وإلا فلا فان فعل تصدق بالزيادة روي ذلك عن الشعبي وبه قال الثوري وأبو حنيفة لانه يربح بذلك فيما لم يضمن، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن ولانه يربح فيما لم يضمن فلم يجز كما لو ربح في الطعام قبل قبضه ويخالف ما إذا عمل فيها فان الربح في مقابلة العمل، وعن أحمد رواية أخرى ان أذن له المالك في الزيادة جاز وإلا لم يجز ولنا أنه عقد يجوز برأس المال فجاز بزيادة كبيع المبيع بعد قبضه وكما لو أحدث فيها عمارة لا يقابلها جزء من الاجر، وأما الخبر فان المنافع قد دخلت في ضمانه من وجه بدليل أنها لو فاتت من غير
استيفائه كانت من ضمانه، والقياس على بيع الطعام قبل قبضه لا يصح فانه لا يجوز وان لم يربح فيه، وتعليلهم بأن الربح في مقابلة عمله ملغي بما إذا كنس الدار ونظفها فان ذلك يزيد في أجرها عادة والله أعلم
(فصل) وسئل أحمد عن الرجل يتقبل العمل من الاعمال فيقبله بأقل من ذلك أيجوز له الفضل؟ قال ما أدري هي مسألة فيها بعض الشئ، قلت أليس كان الخياط أسهل عندك إذا قطع الثوب أو غيره إذا عمل في العمل شيئا؟ قال إذا عمل فهو أسهل.
قال النخعي لا بأس أن يتقبل الخياط الثياب بأجر معلوم ثم يقبلها بعد ذلك بعد أن يعين فيها أو يقطع أو يعطيه سلوكا أو إبرا فان لم يعين فيها بشئ فلا يأخذن فضلا.
وهذا يحتمل أن يكون النخعي قاله بناء على مذهبه في أن من استأجر شيئا لا يؤجره بزيادة، وقياس المذهب جواز ذلك سواء أعان فيها بشئ أو لم يعن لانه إذا جاز أن يقبله بمثل الاجر الاول جاز بزيادة عليه كالبيع وكاجارة العين * (مسألة) * (وللمستعير اجارتها إذا أذن له المعير مدة بعينها) لانه لو أذن له في بيعها جاز فكذلك إذا أذن له في اجارتها ولان الحق له فجاز باذنه ولابد من تعيين المدة في الاذن لان الاجارة عقد لازم لا تجوز الا مدة معينة * (مسألة) * (وتجوز اجارة الوقف) لان منافعه مملوكة للموقوف عليه فجاز اجارتها كالمستأجر * (مسألة) * (فان مات المؤجر فانتقل إلى من بعده لم تفسخ الاجارة في أحد الوجهين) وللثاني حصته من الاجر لانه أجر ملكه في زمن ولايته فلم تبطل بموته كما لو أجر ملكه الطلق
(والثاني) تنفسخ الاجارة فيما بقي من المدة لانا تبينا أنه أجر ملكه وملك غيره فصح في ملكه دون ملك غيره كما لو أجر دارين احداهما له والاخرى لغيره بخلاف الطلق فان المالك يملك من جهة الموروث فلا يملك إلا ما خلفه، وما تصرف فيه في حياته لا ينتقل إلى الوارث والمنافع التي أجرها قد خرت عن ملكه بالاجارة فلا تنتقل إلى الوارث، والبطن الثاني في الوقف يملكون من جهة الواقف
فما حدث فيها بعد البطن الاول كان ملكا لهم فقد صادف تصرف المؤجر في ملكهم من غير اذنهم ولا ولاية له عليهم ويتخرج أن تبطل الاجارة كلها بناء على تفريق الصفقة وهذا التفصيل مذهب الشافعي فعلى هذا إن كان المؤجر قبض الاجر كله وقلنا تنفسخ الاجارة فلمن انتقل إليه الوقف أخذه ويرجع المستأجر على ورثة المؤجر بحصة الباقي من الاجر.
وان قلنا لا تنفسخ رجع من انتقل إليه الوقف على التركة بحصته * (مسألة) * (وإن أجر الولي اليتيم أو ماله مدة فبلغ في أثنائها فليس له فسخ الاجارة ذكره أبو الخطاب) لانه عقد لازم عقده بحق الولاية فلم يبطل بالبلوغ كما لو باع داره أو زوجه، ويحتمل أن تبطل الاجارة فيما يعد البلوغ لزوال الولاية لما ذكرنا في إجارة الوقف.
ويحتمل انه إذا أجره مدة يتحقق فيها بلوغه وهو أن يؤجر ابن أربع عشره سنتين فيبطل في السادس عشر لاننا نتيقن انه أجره فيها بعد بلوغه، وهل يصح في الخامس عشر؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة، وإن لم يتحقق فيها بلوغه
كالذي أجره الخامس عشر وحده فبلغ في أثنائه فيكون فيه ما ذكرنا في صدر الفصل، لانا لو قلنا يلزم الصبي بعقد الولي مدة يتحقق فيها بلوغه أفضى إلى أن يعقد على منافعه طول عمره وإلى أن يتصرف فيه في غير زمن ولايته عليه، ولا يشبه النكاح لانه لا يمكن تقدير مدته فانه انما يعقد للابد، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة إذا بلغ لصبي فله الخيار لانه عقد على منافعه في حال لا يملك التصرف في نفسه فإذا ملك ثبت له الخبيار كالامة إذا عتقت تحت زوج ولنا انه عقد لازم عقد عليه قبل أن يملك التصرف فإذا ملكه لم يثبت له الخيار كالاب إذا زوج ولده والامة إنما ثبت لها الخيار إذا عتقت تحت عبد لاجل العيب لا لما ذكره، بدليل انها لو عتقت تحت حر لم يثبت لها الخيار، إن مات الولي المؤجر للصبي أو ماله أو عزل وانتقلت الولاية إلى غيره لم يبطل عقده لانه تصرف وهو من أهل التصرف في محل ولايته فلم يبطل تصرفه بموته أو عزله كما لو مات ناظر الوقف أو عزل أو مات الحاكم بعد تصرفه فيما له النظر فيه، ويفارق ما لو أجر الموقوف عليه الوقف مدة ثم مات في أثنائها لانه أجر ملك غيره بغير اذنه في مدة لا ولاية له فيها، وههنا انما يثبت للوالي الثاني التصرف
فيما لم يتصرف فيه الاولى وهذا العقد قد تصرف فيه الاول فلم يثبت للثاني ولاية على ما تناوله الخبر * (مسألة) * (فان أجر السيد عبده مدة ثم أعتقه في أثنائها صح العتق) ولم يبطل عقد الاجاره في قياس المذهب ولا يرجع العبد على مولاه بشئ.
وهذا أحد قولي
الشافعي، وقال في القديم يرجع على مولاه بأجر المثل لانه المنافع تستوفى منه بسبب كان من جهة السيد فرجع عليه كما لو أكرهه بعد عتقه على ذلك العمل ولنا انها منفعة استحقت بالعقد قبل العتق فلم يرجع ببدلها كما لو زوج أمته ثم أعتقها بعد دخول الزوج بها فان ما يستوفيه السيد لا يرجع به عليه.
ويخالف المكره فانه تعدى بذلك، وقال أبو حنيفة للعبد الخيار في الفسخ أو الامضاء كالصبي إذا بلغ للمعنى الذي ذكره.
ثم ولنا انه عقد لازم على ما يملك فلم ينفسخ بالعتق ولا يزول ملكه عنه كما لو زوج أمته ثم باعها إذا ثبت هذا فان نفقة العبد إذا لم تكن مشروطة على المستأجر فهي على معتقه لانه كالباقي في ملكه لكونه يملك عوض نفعه، ولان العبد عاجز عن نفقته لانه مشغول بالاجارة ولم تجب على المستأجر لانه استحق منفعته بعوض غير نفقته لم يبق الا انها على المولى، ويتخرج ان تنفسخ الاجاره كالصبي والله أعلم * (فصل) * قال رحمه الله (واجارة العين تنقسم إلى قسمين (أحدهما) أن تكون على مدة كاجارة الدار شهرا والارض عاما والعبد للخدمه أو للرعي مدة معلومة ويسمى الاجير فيها الاجير الخاص) تكون في الآدمي وغيره، فأما غير الآدمي فمثل اجارة الدار شهرا والارض عاما.
وأما اجارة الآدمي فمثل أن يستأجر رجلا يبني معه يوما أو يخيط له شهرا فهذا يسمى الاجير الخاص لان المستأجر يختص بمنفعته في مدة الاجارة لا يشاركه فيها غيره * (مسألة) * (ويشترط أن تكون المدة معلومة يغلب على الظن بقاء العين فيها وان طالت)
أما ضبطها بالشهر والسنة فلا نعلم فيه خلافا وإنما اشترط العلم بالمدة لانها هي الضابطة فاشترط معرفتها كعدد المكيلات فيما بيع بالكيل، فان قدر المدة بسنة مطلقة حمل على السنة الهلالية لانها المعهودة
قال الله تعالى (يسألونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس والحج) فوجب أن يحمل العقد عليه، فان قال هلالية كان توكيدا، وإن قال عددية أو سنة بالايام فهي ثلثمائة وستون يوما لان الشهر العددي ثلاثون يوما.
وان استأجر سنة هلالية في أولها عد اثني عشر شهرا بالاهلة سواء كان الشهر تاما أو ناقصا لان الشهر الهلالي ما بين هلالين ينقص مرة ويزيد أخرى.
وكذلك إن كان العقد على أشهر دون السنة، وإن جعلا المدة سنة رومية أو شمسية أو فارسية أو قبطية وهما يعلمانها جاز وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم وإن جهلا ذلك أو أحدهما لم يصح (فصل) فان أجره إلى العيد انصرف إلى الذي يليه وتعلق بأول جزء منه لانه جعل غاية فتنتهي مدة الاجارة بأوله.
وقال القاضي: لابد من تعيين العيد فطرا أو أضحى من هذه السنة أو من سنة كذا.
وكذلك الحكم ان علقه بشهر يقع اسمه على شهرين كجمادى وربيع يجب على قوله أن يذكر الاول أو الثاني من سنة كذا.
وان علقه بشهر مفرد كرجب فلابد أن يبينه من أي سنة، وإن علقه بيوم بينه من أي أسبوع، وإن علقه بعيد من أعياد الكفار وهما يعلمانه صح وإلا لم يصح (فصل) ولا تتقدر أكثر مدة الاجارة بل يجوز أجرة العين مدة يغلب على الظن بقاء العين فيها
وإن طالت.
وهذا قول عامة أهل العلم، غير أن أصحاب الشافعي اختلفوا في مذهبه فمنهم من قال له قولان (أحدهما) كما ذكرنا وهو الصحيح (والثاني) لا يجوز أكثر من سنة لان الحاجة لا تدعو إلى أكثر منها ومنهم من قال له قول ثالث انها لا تجوز أكثر من ثلاثين سنة.
وحكى القاضى في كتاب الخلاف عن ابن حامد ان أصحابنا اختلفوا في مدة الاجارة فمنهم من قال لا تجوز أكثر من سنة.
واختاره ومنهم من قال إلى ثلاثين سنة لان الغالب ان الاعيان لا تبقى اكثر منها وتتغير الاسعار والاجر ولنا قوله تعالى إخبارا عن شعيب عليه السلام انه قال (على أن تأجرني ثماني حجج) وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يقم على نسخه دليل.
ولان ما جاز العقد عليه سنة جاز أكثر منها كالبيع والنكاح والمساقاة والتقدير بسنة وثلاثين تحكم لا دليل عليه وليس هو بأولى من التقدير بزيادة عليه أو نقصان منه (فصل) إذا استأجر سنين لم يحتج إلى تقسيط الاجر على كل سنة في ظاهر كلام احمد كما لو
استأجر سنة لم يحتج إلى تقسيط أجر كل شهر بالاتفاق، وكذلك لا يفتقر إلى تقسيط أجر كل يوم إذا استأجر شهرا، ولان المنفعة كالاعيان في البيع، ولو اشتملت الصفقة على اعيان لم يلزمه تقدير ثمن كل عين كذلك، ههنا وقال الشافعي في أحد قوليه يفتقر إلى تقسيط أجر كل سنة لان المنافع تختلف باختلاف السنين فلا يأمن أن ينفسخ العقد فلا يعلم بم يرجع وهذا يبطل بالشهور فانه لا يفتقر إلى تقسيط الاجر على كل شهر مع الاحتمال الذي ذكروه
* (مسألة) * (ولا يشترط أن تلي العقد فلو أجره سنة خمس في سنة أربع صح) سواء كانت العين مشغولة وقت العقد أو لم تكن وكذلك ان أجره شهر رجب في المحرم وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يصح إلا أن يستأجرها من هي في إجارة، ففيه قولان لانه عقد على ما يمكن تسليمه في الحال فأشبه إجارة العين المغصوبة قال ولا يجوز أن يكتري بعيرا بعينه إلا عند خروجه لذلك ولنا انها مدة يجوز العقد عليها مع غيرها فجاز العقد عليها مفردة مع عموم الناس كالتي تلي العقد وإنما تشترط القدرة على التسليم عند وجوبه كالسلم فانه لا يشترط وجود القدرة عليه حين العقد، ولا فرق بين كونها مشغولة أو غير مشغولة لما ذكرناه، وما ذكره يبطل بما إذا أجرها من المكتري فان يصح مع ما ذكروه.
إذا ثبت هذا فان الاجارة ان كانت على مدة تلي العقد لم يحتج إلى ذكر ابتدائها من حين العقد وان كانت لا تليه فلابد من ذكره لانها أحد طرفي العقد فاحتيج إلى معرفتة كالانتهاء، وان أطلق فقال أجرتك سنة أو شهرا صح وكان ابتداؤها من حين العقد وهو قول أبي حنيفة ومالك وقال الشافعي وبعض اصحابنا لا يصح حتى يسمي الشهر ويذكر أي سنة هي قال أحمد في رواية اسماعيل ابن سعيد إذا استأجر أجيرا شهرا فلا يجوز حتى يسمي الشهر ولنا قول الله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام قال (على أن تأجرني ثماني حجج) لم يذكر ابتداءها ولانه تقدير بمدة ليس فيها قربة فإذا اطلقها وجب أن تلي السبب كمدة السلم والايلاء وتفارق النذر فانه قربة
(فصل) إذا تمت الاجارة وكانت على مدة ملك المستأجر المنافع المعقود عليها إلى المدة وتحدث
على ملكه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة تحدث على ملك المؤجر ولا يملكها المستأجر بالعقد لانها معدومة فلا تكون مملوكة كالولد والتمرة ولنا ان الملك عبارة عن حكم يحصل به تصرف مخصوص وقد ثبت أن المنفعة المستقبلة كان لمالك العين أن يتصرف فيها كتصرفه في العين فلما أجرها كان المستأجر مالكا للتصرف فيها كما كان يملكه المؤجر فثبت انها كانت مملوكة لمالك العين ثم انتقلت إلى المستأجر بخلاف الولد والتمرة فان المستأجر لا يملك التصرف فيها قولهم إن المنفعة معدومة قلنا هي مقدرة الوجود لانها جعلت موردا للفعل والقدر لا يرد إلا على موجود * (مسألة) * (وإذا أجره في اثناء شهر سنة استوفى شهرا بالعدد وسائرها بالاهلة) لانه تعذر اتمامه بالهلال فتممناه بالعدد وامكن استيفاء ما عداه بالهلال فوجب ذلك لانه الاصل وعنه يستوفي الجميع بالعدد لانها مدة يستوفي بعضها بالعدد فوجب استيفاء جميعها به كما لو كانت المدة شهرا واحدا ولان الشهر الاول ينبغي أن يكمل من الشهر الذي يليه فيحصل ابتداء الشهر الثاني في اثنائه وكذلك كل شهر يأتي بعده ولابي حنيفة والشافعي كالروايتين، وكذلك الحكم في كل ما يعتبر فيه الاشهر كعدة الوفاة وشهري صيام الكفارة
(فصل) ومن اكترى دابة إلى العشاء فآخر المدة غروب الشمس وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة وأبو ثور آخرها زوال الشمس لان العشاء آخر النهار وآخره النصف الآخر من الزوال وكذلك جاء في حديث ذي اليدين عن أبي هريرة قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم احدى صلاة العشي يعني الظهر أو العصر هكذا تفسيره ولنا قوله تعالى (من بعد صلاة العشاء) يعني العتمة وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لولا أن أشق على أمتي لاخرت العشاء إلى ثلث الليل " وإنما تعلق الحكم بغروب الشمس لان هذه الصلاة تسمى العشاء الآخرة فيدل على أن الاولى المغرب وهو في العرف كذلك فوجب أن يتعلق الحكم به لان المدة إذا جعلت إلى وقت تعلقت بأوله كما لو جعلتا إلى الليل، وما ذكروه لا يصح لان لفظ العشي غير لفظ
العشاء فلا يجوز الاحتجاج بأحدهما على الآخر حتى يقوم دليل على أن معنى اللفظين واحد ثم لو ثبت أن معناهما واحد غير أن أهل العرف لا يعرفون غير ما ذكرنا، فان اكتراها إلى الليل فهو إلى أوله وكذلك ان اكتراها إلى النهار فهو إلى أوله، ويتخرج أن يدخل الليل في المدة الاولى والنهار في الثانية لما ذكرنا في مدة الخيار، وان اكتراها نهارا فهو إلى غروب الشمس وان اكتراها ليلة فهي إلى طلوع الفجر في قول الجميع لان الله تعالى قال في ليلة القدر (سلام هي حتى مطلع الفجر) وقال (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) ثم قال (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا
واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) (فصل) وان اكترى فسطاطا إلى مكة ولم يقل متى اخرج فالكراء فاسد وبه قال أبو ثور وهو قياس قول الشافعي وقال أصحاب الرأي يجوز استحسانا بخلاف القياس ولنا انها مدة غير معلومة الابتداء فلم يجز كما لو قال أجرتك داري من حين يخرج الحاج إلى رأس السنة وقد اعترفوا بمخالفته الدليل وما ادعوه دليلا تمنع كونه دليلا (القسم الثاني) إجارتها العمل معلوم كاجارة الدابة للركوب إلى موضع معين أو بقر لحرث مكان أو دياس زرع واستئجار عبد ليدله على طريق أو رحى لطحن قفزان معلومة فيشترط معرفة العمل وضبطه بما لا يختلف لان الاجارة عقد معاوضة فوجب أن يكون العوض فيها معلوما لئلا يفضي إلى الاختلاف والتنازع كقولنا في البيع، والعلم بمقدار المنفعة إما أن يحصل بتقدير المدة كما ذكرنا في اجارة الدار وخدمة العبد مدة معلومة وإما بتقدير العمل ووصف ما يعمله وضبطه بما لا يختلف فيه كالمبيعات (فصل) يجوز أن يكتري بقرا لحرث مكان لان البقر خلقت للحرث ولذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم " بينما رجل يسوق بقرة أراد أن يركبها فقالت إني لم أخلق لهذا إنما خلقت للحرث " متفق عليه، ويحتاج إلى معرفة الارض وتقدير العمل، فأما الارض فلا تعرف إلا بالمشاهدة فانها تختلف فتكون صلبة تتعب
البقر والحراث وتكون فيها حجارة تتعلق فيها السكة وتكون رخوة يسهل حرثها، ولا تنضبط بالصفة فتحتاج إلى الرؤية.
وأما تقدير العمل فيجوز بأحد شيئين إما بالمدة كيوم وإما بمعرفة الارض كهذه
القطعة أو من ههنا إلى ههنا أو بالمساحة كجريب أو جريبين أو كذا ذراعا في كذا كل ذلك جائز لحصول العلم به فان قدره بالمدة فلابد من معرفة البقر التي يعمل عليها لان الغرض يختلف باختلافها بالقوة والضعف ويجوز أن يستأجر البقر مفردة ليتولى رب الارض الحرث بها ويجوز أن يستأجرها مع صاحبها ويجوز استئجارها بآلتها وبدونها وتكون الآلة من عند صاحب الارض ويجوز استئجار البقر وغيرها لدواس الزرع لانها منفعة مباحة مقصودة اشبهت الحرث ويجوز على مدة أو زرع معين أو موصوف كما ذكرنا في الحرث، ومتى كان على مدة احتيج إلى معرفة الحيوان لان الغرض يختلف به فمنه ما روثه ظاهر ومنه نجس، ولا يحتاج إلى معرفة عين الحيوان ويجوز أن يستأجر الحيوان بآلته وغيرها مع صاحبه ومنفردا كما ذكرنا في الحرث (فصل) ويجوز استئجار غنم لتدوس له طينا أو زرعا ولاصحاب الشافعي فيه وجه انه لا يجوز لانها منفعة غير مقصودة من هذا الحيوان.
ولنا انها منفعة مباحة يمكن استيفاؤها اشبهت سائر المنافع المباحة وكالتي قبلها (فصل) وان اكترى حيوانا لعمل لم يخلق له كمن استأجر البقر للركوب أو الحمل أو الابل
والحمير للحرث جاز لانها منفعة مقصودة أمكن استيفاؤها من الحيوان لم يرد الشرع بتحريمها فجاز كالتي خلقت له، ولان مقتضى الملك جواز التصرف بكل ما تصلح له العين المملوكة ويمكن تحصيلها منها ولا يمتنع ذلك الا بمعارض راجح أو ما ورد بتحريمه نص أو قياس صحيح أو رجحان مضرة على منفعة ولم يوجد شئ منها، كثير من الناس يحملون على البقر ويركبونها وفي بعض البلاد يحرث على الابل والبغال والحمير فيكون معنى خلقها للحرث ان شاء الله تعالى انه معظم نفعها ولا يمنع ذلك الانتفاع بها في شئ آخر كما أن الخيل خلقت للركوب والزينة ويباح أكلها، واللؤلؤ خلف للحلية ويجوز استعماله في الادوية وغيرها (فصل) ويجوز استئجار بهيمة لادارة الرحى ويفتقر لشيئين معرفة الحجر بالمشاهدة أو الصفة لان عمل البهيمة يختلف فيه بثقله وخفته فيحتاج صاحبها إلى معرفته (الثاني) تقدير العمل بالزمان كيوم
أو يومين أو بالطعام فيقول قفيزا أو قفيزين وذكر جنس المطحون ان كان يختلف لان منه ما يسهل طحنه ومنه ما يشق، وان اكتراها لادارة دولاب فلابد من مشاهدته ومشاهدة دلائه لاختلافها وتقدير ذلك بالزمان أو مل ء، هذا الحوض، وكذلك ان اكتراها للسقي بالغرب فلابد من معرفته ولانه يختلف بكبره وصغره، ويقدر بالزمان أو الغروب أو بمل ء بركة، يجوز تقدير ذلك بسقي أرض لان ذلك يختلف فقد تكون الارض شديدة العطش لا يرويها القليل وتكون قريبة العهد بالماء فيرويها
اليسير، وان قدره بسقي ماشية احتمل أن لا يجوز لذلك ويحتمل الجواز لان شربها يتقارب في الغالب ويجوز استئجار دابة ليستقي عليها ماء، ولابد من معرفة الآلة التي يسقي فيها من راوية أو قرب أو جرار اما بالرؤية والماء بالصفة، ويقدر العمل بالزمان أو بالعدد أو بمل ء شئ معين، فان قدره بعدد المرات احتاج إلى معرفة المكان الذي يستقي منه والذي يذهب إليه لان ذلك يختلف بالقرب والبعد والسهولة والحزونه، وان قدره إلى شئ معين احتاج إلى معرفته ومعرفة ما يستقي منه، ويجوز أن يكتري البهيمة بآلتها وبدونها مع صاحبها ووحدها، فان اكتراها لبل تراب معروف جاز لانه يعلم بالعرف وكل موضع وقع العقد على مدة فلابد من معرفة الظهر الذي يعمل عليه لان الغرض يختلف باختلافها في القوة والضعف وان وقع على عمل معين لم يحتج إلى ذلك لانه لا يختلف ويحتمل أن يحتاج إلى ذلك في استقاء الما عليه لان منه ما روثه وجسمه طاهر كالخيل والبقر ومنه ما روثه نجس وفي جسمه اختلاف كالبغال فربما نجس يد المستقي أو دلوه فيتنجس الماء به فيختلف الغرض بذلك فاحتيج إلى معرفته * (مسألة) * (يجوز استئجار رجل ليدله على طريق) لان النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا عبد الله بن الاريقط هاديا خريتا وهو الماهر بالهداية ليدلهما على الطريق إلى المدينة
* (مسألة) * (ويصح استئجار رحى لطحن قفزان معلومة)
ويحتاج إلى معرفة جنس المطحون برا أو شعيرا أو ذرة أو غيره لان ذلك يختلف فمنه ما يسهل طحنه ومنه ما يعسر فاحتيج إلى معرفتة لتزول الجهالة (فصل) يجوز استئجار كيال أو وزان لعمل معلوم أو في مدة معلومة وبه قال مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لا نعلم فيه خلافا، وقد روي في حديث سويد بن قيس أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترى رجل منا سراويل وثم رجل يزن بأجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " زن وأرجح " رواه أبو داود (فصل) ويجوز استئجار رجل ليلازم غريما تستحق ملازمته وقد روي عن احمد انه كره ذلك وقال: غير هذا أعجب إلي وانما كرهه لانه يؤول إلى الخصومة وفيه تضييق على المسلم ولا يأمن ان يكون ظالما فيساعده على ظلمه وروي عنه انه قال لا بأس به لان الظاهر انه بحق فان الحاكم في الظاهر لا يحكم الا بحق ولهذا أجزنا للموكل فعله (فصل) ويجوز الاستئجار لحفر الآبار والانهار والقني لانها منفعة معلومة يجوز التطوع بها فجاز الاستئجار عليها كالخدمة ولابد من تقدير العمل بمدة أو عمل معين فان قدره بمدة نحو أن يستأجره شهرا ليحفر له بئرا أو نهرا لم يحتج إلى معرفة القدر وعليه الحفر في ذلك الشهر قليلا حفر أو كثير
قال شيخنا ويفتقر إلى معرفة الارض التى يحفر فيها وقال بعض أصحابنا لا يحتاج إلى ذلك لان الغرض لا يختلف بذلك والاول أولى ان شاء الله تعالى لان الارض الصلبة يشق حفرها واللينة يسهل، وان قدره بالعمل فلابد من معرفة الموضع بالمشاهدة لكونها تختلف بالسهولة والصلابة وذلك لا ينضبط بالصفة، ويعرف دور البئر وعمقها وطول النهر وعرضه وعمقه لان العمل يختلف بذلك، وإذا حفر بئرا فعليه شيل التراب لانه لا يمكنه الحفر الا بذلك فقد تضمنه العقد، فان تهور تراب من جانبيها أو سقطت فيه بهيمة أو نحو ذلك لم يلزمه شيله وكان على صاحب البئر لانه سقط فيها من ملكه ولا يتضمن عقد الاجارة رفعه، وان وصل إلى صخرة أو جماد يمنع الحفر لم يلزمه حفره لان ذلك مخالف لما شاهده من الارض وانما اعتبرت مشاهدة الارض لانها تختلف فإذا ظهر فيها ما يخالف المشاهدة كان له
الخيار في الفسخ فان فسخ كان له الاجر بحصة ما عمل فيقسط الاجر على ما بقي وما عمل، فيقال كم أجر ما عمل وكم أجر ما بقي؟ فيقسط الاجر المسمى عليهما ولا يجوز تقسيطه على عدد الاذرع، لان أعلى البئر يسهل نقل التراب منه وأسفله يشق ذلك فيه، وان نبع منه ما منعه من الحفر فهو كالصخرة على ما ذكرنا (فصل) ويجوز استئجار ناسخ ينسخ له كتبا من الفقه والحديث والشعر المباح وسجلات نص عليه في رواية مثنى ابن جامع، وسأله عن كتابة الحديث بالاجر فلم ير به بأسا، ولابد من التقدير بالمدة
أو العمل فان قدره بالعمل ذكر عدد الورق وقدره وعدد السطور في كل ورقة وقدر الحواشي ودقة القلم وغلظ فان عرف الخط بالمشاهدة جاز وان أمكن ضبطه بالصفة ضبطه والا فلابد من المشاهدة لان الاجر يختلف باختلافه، ويجوز تقدير الاجر بأجزاء الفرع وبأجزاء الاصل، وان قاطعه على نسخ الاصل بأجر واحد جاز فان أخطأ بالشئ اليسير عفي عنه لانه لا يمكن التحرز منه، وان كان كثيرا بحيث يخرج عن العادة فهو عيب يرد به، قال ابن عقيل ليس له محادثة غيره حال النسخ ولا التشاغل بما يشغل سره ويوجب غلطه ولا لغير تحديثه وشغله، وكذلك الاعمال التي تختل بشغل السر والقلب كالقصارة والنساجة ونحوهما، ويجوز أن يستأجر على نسخ مصحف في قول أكثر أهل العلم، منهم جابر بن زيد ومالك بن دينار وبه قال أبو حنيفة والشافعي وابو ثور وابن المنذر، وقال ابن سيرين لا بأس أن يستأجر الرجل شهرا ويستكتبه مصحفا، وكره علقمة كناية المصحف بالاجر ولعله يرى ذلك مما يختص كون فاعله من أهل القربة فكره الاجر عليه كالصلاة ولنا انه فعل مباح يجوز أن ينوب فيه الغير عن الغير فجاز أخذ الاجرة عليه ككتابة الحديث، وقد جاء في الخبر " أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " (فصل) يجوز أن يستأجر لحصاد زرعه لا نعلم فيه خلافا وكان ابراهيم بن أدهم يؤجر نفسه لحصاد الزرع، ويجوز تقديره بمدة وبعمل مثل أن يقاطعه على حصاد زرع معين، ويجوز أن يستأجر رجلا لسقي
زرعه وتنقيته ودياسه ونقله إلى موضع معين، ويجوز ان يستأجر رجلا يحتطب له لانه عمل مباح تدخله النيابة أشبه حصاد الزرع.
قال احمد في رجل استأجر أجيرا على أن يحتطب له على حمارين كل يوم فكان الرجل ينقل عليهما وعلى حمير لرجل آخر ويأخذ منه الاجرة فان كان يدخل عليه ضرر يرجع عليه بالقيمة، وظاهر هذا أن المستأجر يرجع على الاجير بقيمة ما استضر باشتغاله عن عمله لقوله ان كان يدخل عليه ضرر رجع بالقيمة فاعتبر الضرر.
وظاهر هذا انه إذا لم يستضر لا يرجع بشئ لانه اكتراه لعمل فوفاه على التمام فلم يلزمه شئ كما لو استأجره بعمل فكان يقرأ القرآن في حال عمله فان ضر المستأجر رجع عليه بقيمة ما فوت عليه.
ويحتمل أنه أراد أنه يرجع عليه بقيمة ما عمله لغيره لانه صرف منافعه المعقود عليها إلى عمل غير المستأجر فكان عليه قيمتها كما لو عمل لنفسه.
وقال القاضي معناه انه يرجع عليه بالاجر الذي أخذه من الآخر لان منافعها في هذه المدة مملوكة لغيره فما حصل في مقابلتها يكون الذي استأجره (فصل) يجوز الاستئجار لاستيفاء القصاص في النفس وما دونها، وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور، وقال أبو حنيفة لا يجوز في النفس لان عدد الضربات يختلف وموضع الضربات غير متعين إذ يمكن أن يضرب مما يلى الرأس ومما يلي الكتف فكان مجهولا ولنا انه حق يجوز التوكيل في استيفائه لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة فجاز الاستئجار
عليه كالقصاص في الطرف.
وقوله ان عدد الضربات يختلف وهو مجهول يبطل بخياطة الثوب فان عدد الغرزات مجهول، وقوله ان محله غير متعين، قلنا هو متقارب فلا يمنع ذلك صحته كموضع الخياطة من حاشية الثوب (فصل) ويجوز أن يستأجر سمسارا يشتري له ثيابا، ورخص فيه ابن سيرين وعطاء والنخعي، وكرهه الثوري وحماد ولنا انها منفعة مباحة تجوز النيابة فيها فجاز الاستئجار عليها كالبناء، وتجوز على مدة معلومة مثل أن يستأجره عشرة أيام يشتري له فيها لان المدة معلومة والعمل معلوم فأشبه الخياط والقصار، وان عين
العمل دون الزمان فجعل له من كل الف درهم شيئا معلوما صح أيضا، وان قال كلما اشتريت ثوبا فلك درهم أجرا وكانت الثياب معلومة بصفة أو مقدرة بثمن جاز، وان لم تكن كذلك فظاهر كلام أحمد انه لا يجوز لان الثياب تختلف باختلاف أثمانها والاجر يختلف باختلافها فان اشترى فله أجر مثله، وهذا قول أبي ثور وابن المنذر لانه عمل عملا بعوض لم يسلم له فكان له أجر المثل كسائر الاجارات الفاسدة (فصل) وان استأجره ليبيع له ثيابا بعينها صح وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يصح لان ذلك يتعذر عليه فأشبه ضراب الفحل وحمل الحجر الكبير ولنا انه عمل مباح معلوم تجوز النيابة فيه فجاز الاستئجار عليه كشراء الثياب، ولانه يجوز الاستئجار
عليه مقدرا بزمن فجاز مقدرا بالعمل كالخياطة وقولهم انه يتعذر ممنوع فان الثياب لا تنفك عن راغب فيها ولذلك صحت المضاربة ولا تكون الا بالبيع والشراء بخلاف ما قاسوا عليه فانه يتعذر، وان استأجره على شراء ثياب معينة من رجل معين احتمل أن لا يصح لانه قد يتعذر لامتناع صاحبها من البيع فيتعذر تحصيل العمل بحكم الظاهر بخلاف البيع ويحتمل أن يصح لانه ممكن في الجملة فان حصل من ذلك شئ استحق الاجر وإلا بطلت الاجارة كما لو لم يعين البائع ولا المشتري * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (الضرب الثاني عقد على منفعة في الذمة مضبوطة بصفات السلم كخياطة ثوب وبناء دار وحمل إلى موضع معين ولا يكون الاجير فيها إلا آدميا جائز التصرف، ويسمى الاجير المشترك) يجوز للآدمي أن يؤجر نفسه بغير خلاف وقد أجر موسى عليه السلام نفسه لرعاية الغنم، واستأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه رجلا ليدلهما على الطريق ولانه يجوز الانتفاع به مع بقاء عينه أشبه الدور، ثم ان اجارته تقع على مدة بعينها وعمل بعينه كاجارة موسى عليه السلام نفسه للرعي، وتقع على عمل موصوف في الذمة كالسلم، ومتى كان على عمل موصوف في الذمة لم يكن الاجير فيها إلا آدميا جائز التصرف لان الذمة لا تكون لغير الآدمي ولا تثبت المعاوضة لعمل في الذمة لغير جائز التصرف، ولابد أن يكون العمل الذي يتعلق بالذمة مضبوطا بصفات السلم ليحصل العلم به
ويسمى الاجير فيها الاجير المشترك مثل الخياط الذي يتقبل الخياطة لجماعة وكذلك القصار ومن في معناه فتكون منفعة مشتركة بينهم * (مسألة) * (ولا يجوز الجمع بين تقدير المدة والعمل كقوله استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب في يوم، وعنه يجوز) لا يجوز الجمع بين تقدير المدة والعمل كقوله استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب في يوم أو تبني هذه الدار في شهر وهو قول أبي حنيفة والشافعي لان الجمع بينهما بزبد الاجارة غررا لا حاجة إليه لانه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدة فان استعمل في بقية المدة فقد زاد على ما وقع عليه العقد وان لم يعمل كان تاركا للعمل في بعض المدة، فهذا غرر قد أمكن التحرز منه ولم يوجد مثله في محل الوفاق فلم يجز العقد معه، وروي عن أحمد فيمن اكترى دابة إلى موضع على أن يدخله في ثلاث فدخله في ست قال قد أضربه فقيل يرجع عليه بالقيمة؟ قالا لا ويصالحه، وهذا يدل على جواز تقديرهما جميعا وهو قول أبي يوسف ومحمد لان الاجارة معقودة على العمل فالمدة انما ذكرت للتعجيل فلا تمنع ذلك، فعلى هذا إذا تم العمل قبل انقضاء المدة لم يلزمه العمل في بقيتها لانه وفى ما عليه قبل مدته فلم يلزمه شئ آخر كما لو قضى الدين قبل أجله، وان مضت المدة قبل العمل فللمستأجر فسخ الاجارة لان الاجير لم يف له بشرطه، فان رضي بالبقاء عليه لم يملك الاجير الفسخ لان الاخلال بالشرط منه فلا يكون ذلك وسيلة
له إلى الفسخ كما لو تعذر المسلم فيه في وقته لم يملك المسلم إليه الفسخ وملكه المسلم، فان اختار امضاء العقد طالبه بالعمل لا غير كالمسلم إذا صبر عند تعذر المسلم فيه إلى حين وجوده لم يكن له أكثر من المسلم فيه وان فسخ العقد قبل العمل سقط الاجر والعمل، وان كان بعد عمل بعضه فله أجر المثل لان العقد قد انفسخ فسقط المسمى ورجع إلى أجر المثل * (مسألة) * (ولا تجوز الاجارة على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة كالحج والاذان، وعنه تجوز) معنى قوله يختص فاعله أن يكون من أهل القربة أنه يكون مسلما، وقد اختلفت الرواية عن أحمد
رحمه الله في الاستئجار على عمل يختص فاعله أن يكون مسلما كالامامة والحج والاذان وتعليم القرآن فروي عنه انها لا تصح وبه قال عطاء والضحاك بن قيس وأبو حنيفة والزهري، وكره إسحاق تعليم القرآن بأجر، قال عبد الله بن شقيق: هذه الزغفان التي يأخذها المسلمون من السحت، وكره أجر المعلم مع الشرط الحسن وابن سيرين وطاوس والشعبي والنخعي، وعن أحمد رواية أخرى انه يجوز حكاها أبو الخطاب، ونقل أبو طالب عن احمد انه قال: التعليم أحب إلي من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين، ومن أن يتوكل لرجل من عامة الناس في ضيعة، ومن أن يستدين ويتجر لعله لا يقدر على الوفاء فيلقى الله بأمانات الناس التعليم أحب إلي، وهذا يدل على أن منعه منه في موضع منعه للكراهة لا للتحريم
وممن أجاز ذلك مالك والشافعي، ورخص في أجور المعلمين أبو قلابة وأبو ثور وابن المنذر لان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج رجلا بما معه من القرآن متفق عليه، فإذا جاز تعليم القرآن عوضا في النكاح وقام مقام المهر جاز أخذ الاجرة عليه في الاجارة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " حديث صحيح، وفي حديث أبي سعيد أن رجلا رقى رجلا بفاتحة الكتاب على جعل فبرأ وأخذ أصحابه الجعل فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه وسألوه فقال " لعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق، كلوا واضربوا لي معكم بسهم " حديث صحيح.
وإذا جاز أخذ الجعل جاز أخذ الاجر لانه في معناه، ولانه يجوز أخذ الرزق عليه من بيت المال فجاز أخذ الاجر عليه كبناء المساجد ولان الحاجة تدعو إلى الاستنابة في الحج عمن وجب عليه وعجز عن فعله ولا يكاد يوجد متبرع بذلك فيحتاچ إلى بذل الاجر فيه ووجه الرواية الاولى ما روى عثمان بن أبي العاص قال إن آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا.
قال الترمذي هذا حديث حسن.
وروى عبادة بن الصامت قال
علمت أناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة فأهدى إلي رجل منهم قوسا قال قلت قوس وليست بمال قال قلت أتقلدها في سبيل الله وذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقص عليه القصة قال ان سرك أن
يقلدك الله قوسا من نار فاقبلها " وعن أبي بن كعب أنه علم رجلا سورة من القرآن فاهدى له خميصة أو ثوبا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " لو انك لبستها أو أخذتها ألبسك الله مكانها ثوبا من نار " وعن أبي قال: كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة قد احتبس في بيته أقرئه القرآن فكان عند فراغه مما أقرئه يقول لجارية له هلمي طعام أخي فيؤتى بطعام لا آكل مثله بالمدينة فحاك في نفسي منه شئ فذكرته للنبى صلى الله عليه وسلم فقال " ان كان ذاك الطعام طعامه وطعام أهله فكل منه، وان كان يتحفك به فلا تأكله " وعن عبد الرحمن بن شبل الانصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكتروا به " روى هذه الاحاديث كلها الاثرم في سننه، ولان من شرط صحة هذه الافعال كونها قربة إلى الله تعالى فلم يجز أخذ الاجر عليها كما لو استأجر قوما يصلون خلفه الجمعة أو التراويح.
فاما الاخد على الرقية فان احمد اختار جوازه وقال لا بأس، وذكر حديث أبي سعيد، والفرق بينه وبين ما اختلف فيه أن الرقية نوع مداواة والمأخوذ عليها جعل والمداواة يباح أخذ الاجر عليها والجعالة أوسع من الاجارة ولهذا تجوز مع جهالة العمل والمدة وقوله عليه السلام " أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " يعني الجعل أيضا في الرقية لانه ذكر ذلك في سياق خبر
الرقية، وأما جعل تعليم القرآن صداقا فعنه فيه اختلاف، وليس في الخبر تصريح بأن التعليم صداق انما قال " زوجتكها بما معك من القرآن " فيحتمل أنه زوجها إياه بغير صداق اكراما له كما زوج أبا طلحة أم سليم على اسلامه ونقل عنه جوازه، والفرق بين المهر والاجر أن المهر ليس بعوض محض وانما وجب نحلة ووصلة ولهذا جاز خلو العقد عن تسميته وصح مع فساده بخلاف الاجر في غيره (فصل) فأما الرزق من بيت المال فيجوز على ما يتعدى نفعه من هذه الامور لان بيت المال من مصالح المسلمين فإذا كان بذله لمن يتعدى نفعه إلى المسلمين محتاجا إليه كان من المصالح وكان له أخذه لانه من أهله وجرى مجرى الوقف على من يقوم بهذه المصالح بخلاف الاجر (فصل) فأن أعطى المعلم شيئا من غير شرط جاز في ظاهر كلام أحمد فانه قال في رواية أيوب ابن سافرى لا يطلب ولا يشارط فان أعطي شيئا أخذه، وقال في رواية أحمد بن سعيد اكره أجر
المعلم إذا شرط، وقال إذا كان المعلم لا يشارط ولا يطلب من أحد شيئا ان أتاه شئ قبله كانه يراه أهون، وكرهه طائفة من أهل العلم لما تقدم من حديث الفرس والخميصة التي أعطيها أبي وعبادة من غير شرط، ولان ذلك قربة فلم يجز أخذ العوض عنه بشرط ولا بغيره كالصلاة والصيام ووجه الاول قول النبي صلى الله عليه وسلم " ما أتاك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفس فخذه وتموله فانه رزق ساقه الله اليك " وقد أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكل طعام الذي كان يعلمه إذا كان طعامه وطعام أهله ولانه إذا
كان بغير شرط كان هبة مجردة فجاز كما لو لم يعلمه شيئا، فاما حديث القوس والخميصة فقضيتان في عين فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنهما فعلا ذلك خالصا فكره أخذ العوض عنه من غير الله تعالى، ويحتمل غير ذلك، فاما ان أعطي المعلم أجرا على تعليم الخط وحفظه جاز نص عليه أحمد فقال: ان كان المعطي ينوي أنه يعطيه لحفظ الصبي وتعليمه فأرجو إذا كان كذا ولان هذا مما يجوز أخذ الاجر عليه مفردا فجاز مع غيره كسائر ما يجوز الاستئجار عليه وهكذا لو كان امام المسجد قيما يكنسه ويسرج قناديله ويغلق بابه ويفتحه فأخذ أجرا على خدمته، أو كان النائب في الحج يخدم المستنيب له في طريق الحج وليشد له ويحج عن قريبه فدفع إليه أجرا لخدمته جاز ذلك انشاء الله تعالى (فصل) فأما ما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة كتعليم الخط والحساب والشعر وشبهه وبناء المساجد والقناطر فيجوز أخذ الاجرة عليه لانه يقع تارة قربة وتارة غير قربة فلم يمنع من الاستئجار لفعله كغرس الاشجار وبناء البيوت وكذلك في تعليم الفقه والحديث ذكره شيخنا، وذكر القاضى في الخلاف أنهما من القسم الاول، والاولى ما ذكره شيخنا لكون فاعله لا يختص أن يكون من أهل القربة، وأما ما لا يتعدى نفعه فاعله من العبادات المحضة كالصيام وصلاة الانسان لنفسه وحجه عن نفسه، وأداء زكاة نفسه فلا يجوز أخذ الاجرة عليه بغير خلاف لان الاجر عوض للانتفاع ولم يحصل لغيره ههنا انتفاع فأشبه إجارة الاعيان التي لا نفع فيها
* (مسألة) * وان استأجر من بحجمه صح، ويكره للحر أكل أجرته ويطعمه الرقيق والبهائم،
وقال القاضي لا يصح) يجوز أن يستأجر حجاما ليحجمه وأجره مباح اختاره أبو الخطاب وهو قول ابن عباس قال أنا آكله وبه قال عكرمة والقاسم ومحمد بن علي بن الحسين وربيعة ويحيي الانصاري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وقال القاضي لا يجوز وذكر أن أحمد نص عليه قال وان أعطي شيئا من غير عقد ولا شرط فله أخذه وبصرفه في علف دابته وطعم عبيده ومؤنة صناعته ولا يحل أكله وممن كره كسب الحجام عثمان وأبو هريرة والحسن والنخعي لان النبي صلى الله عليه وسلم قال " كسب الحجام خبيث " متفق عليه وقال أطعمه ناضحك ورقيقك ولنا ما روى ابن عباس قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ولو علمه حراما لم يعطه متفق عليه، وفي لفظ ولو علمه خبيثا لم يعطه ولانها منفعة مباحة لا يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة فجاز الاستئجار عليها كالختان ولان بالناس حاجة إليها ولا يجد كل أحد متبرعا بها فجاز الاستئجار عليها كالرضاع ولان قول النبي صلى الله عليه وسلم في كسب الحجام " أطعمه رقيقك " دليل على اباحته إذ غير جائز أن يطعم رقيقه ما يحرم أكله فان الرقيق آدمي يحرم عليه أكل ما حرم على الحر وتخصيص ذلك بما
أعطيه من غير استئجار تحكم لا دليل عليه، فعلى هذا تسمية كسبه خبيثا لا يلزم منه التحريم فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الثوم والبصل خبيثين مع إباحتهما وانما كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك للحر تنزيها له لدناءة صناعته وليس عن أحمد نص في تحريم كسب الحجام ولا استئجاره عليها وانما قال نحن نعطيه كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ونقول له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أكله نهاه، وقال " أعلفه الناضح والرقيق " هذا معنى كلامه في جميع الروايات وليس هذا صريحا في تحريمه بل فيه دليل على إباحته كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم على ما بينا، فان إعطاءه للحجام دليل اباحته إذ لا يعطيه ما يحرم عليه وهو عليه السلام يعلم الناس وينهاهم عن المحرمات فكيف يعطيهم أياها؟ فعلى هذا يكون نهيه عليه السلام عن أكله نهي كراهة لا نهي تحريم وكذلك قول الامام أحمد فانه لم يخرج عن قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله بل قصد اتباعه، وكذلك سائر من كرهه من الائمة يتعين حمل قولهم على الكراهة فلا يكون في المسألة قائل بالتحريم.
إذا ثبت هذا فانه
يكره للحر أكل أجرة الحجام ويكره تعلم صناعة الحجامة وإجارة نفسه لها لما ذكرنا من الاخبار ولان فيها دناءة فكره الدخول فيها كالكسح، وفيما ذكرناه إن شاء الله جمع بين الاخبار وتوفيق بين الادلة الدالة عليها فعلى هذا يطعمه الرقيق والبهائم كما جاء في الاخبار الصحيحة والله أعلم (فصل) فأما استئجار الحجام لغير الحجامة كالفصد وحلق الشعر وتقصيره والختان وقطع شئ من الجسد للحاجة إليه فجائز لان قول النبي صلى الله عليه وسلم " كسب الحجام خبيث " يريد بالحجامة كما نهى عن مهر البغي
أي في البغاء، ولذلك لو كسب في بضاعة أخرى لم يكن خبيثا بغير خلاف وهذا النهي يخالف القياس فيختص بالمحل الذي ورد فيه ولان هذه الامور تدعو الحاجة إليها، ولا تحريم فيها فجازت الاجارة فيها كسائر المنافع المباحة (فصل) ويجوز أن يستأجر كحالا ليكحل عينه لانه عمل جائز ويمكن تسليمه ويقدر على ذلك بالمدة لان العمل غير مضبوط ويحتاج إلى بيان عدد ما يكحله في كل يوم مرة أو مرتين فان قدرها بالبرء فقال القضي لا يجوز لانه غير معلوم، وقال ابن أبي موسى لا بأس بمشارطة الطبيب على البرء، لان أبا سعيد حين رقى الرجل شارطه على البرء، قال شيخنا والصحيح إن شاء الله جواز ذلك لكي يكون جعالة لا إجارة فان الاجارة لابد فيها من مدة معلومة أو عمل معلوم والجعالة تجوز على عمل مجهول كرد اللقطة والآبق وحديث أبى سعيد في الرقية انما كان جعالة فيجوز ههنا مثله.
إذا ثبت هذا فان الكحل ان كان من العليل جاز لان آلات العمل تكون من المستأجر كاللبن في البناء والطين والآجر ونحوها وان شرطه على الكحال جاز، وقال القاضي يحتمل أن لا يجوز لان الاعيان لا تملك بعقد الاجارة فلا يصح اشتراطه على العامل كلبن الحائط ولنا ان العادة جارية به ويشق على العامل تحصيله وقد يعجز عنه بالكلية فجاز ذلك كالصبغ من الصباغ والحبر والاقلام من الوراق وما ذكره ينتقض بهذين الاصلين، وفارق لبن الحائط لان العادة تحصيل
المستأجر إياه ولا يشق ذلك بخلاف مسئلتنا، وقال أصحاب مالك يجوز أن يستأجر من يبني له جدارا
والآجر من عنده لانه اشترى ما تتم به الصنعة التي عقد عليها فإذا كان معروفا جاز كما لو استأجره ليصبغ له ثوبا والصبغ من عنده ولنا ان عقد الاجارة عقد على المنفعة فإذا شرط بيع العين صار كبيعتين في بيعة ويفارق الصبغ من حيث ان الحاجة داعية إليه، لان تحصيل الصبغ يشق على صاحب الثوب وقد يكون الصبغ لا يحصل الا في خنب يحتاج إلى مؤنة كثيرة لا يحتاج إليها في صبغ هذا الثوب فجاز لمسيس الحاجة إليه بخلاف مسئلتنا (فصل) فان استأجره مدة فكحله فيها فلم تبرأ عينه استحق الاجر وبه قال الجماعة، وحكي عن مالك انه لا يستحق أجرا حتى تبرأ عينه ولم يحك ذلك أصحابه وهو فاسد لان المستأجر قد وفى العمل الذي وقع العقد عليه فوجب له الاجر وان لم يحصل الغرض كما لو استأجره لبناء حائط يوما أو لخياطة قميص فلم يتمه فيه فان برأت عينه في أثناء المدة انفسخت الاجارة فيما بقي من المدة لتعذر العمل فهو كما لو حجز عنه أمر غالب وكذلك لو مات فان امتنع عن الاكتحال مع بقاء المرض استحق الكحال الاجر بمضي المدة كما لو استأجره يوما للبناء فلم يستعمله فيه، فأما ان شارطه على البرء فهي جعالة لا يستحق شيئا حتى يوجد البرء سواء وجد قريبا أو بعيدا فان برئ بغير كحله أو تعذر الكحل
لموته أو غير ذلك من الموانع التي من جهة المستأجر فله أجر مثله كما لو عمل العامل في الجعالة ثم فسخ العقد فان امتنع لامر من جهة الكحال أو غير المستأجر فلا شئ له وان فسخ الجاعل الجعالة بعد عمل الكحال فعليه أجر عمله وان فسخ الكحال فلا شئ له على ما يذكر في باب الجعالة ان شاء الله تعالى (فصل) ويصح ان يستأجر طبيبا لمداواته والكلام فيه كالكلام في الكحال سواء لانه لا يجوز اشتراط الدواء على الطبيب لانه انما جاز في الكحال على خلاف الاصل للحاجة إليه وجري العادة به ولم يوجد ذلك المنع ههنا فيثبت الحكم فيه على وفق الاصل (فصل) ويجوز أن يستأجر من يقلع ضرسه لانها منفعة مباحة مقصودة فجاز ذلك عليها كالختان فان أخطأ فقلع غير ما أمر بقلعه ضمنه لانه من جنايته وان برأ الضرس قبل قلعه انفسخت الاجارة
لان قلعه لا يجوز وان لم يبرأ لكن امتنع المستأجر من قلعه لم يجبر عليه لان اتلاف جزء الآدمي محرم في الاصل وإنما أبيح إذا صار بقاؤه ضررا وذلك مفوض إلى كل انسان في نفسه إذا كان أهلا لذلك فصاحب الضرس اعلم بمضرته ونفعه وقدر ألمه * (فصل) * قال رضي الله عنه (وللمستأجر استيفاء المنفعة بنفسه وبمثله فإذا اكترى دارا للسكنى فله أن يسكنها مثله لانه لم يزد على استيفاء حقه ولانه حقه فجاز أن يستوفيه بنفسه وبوكيله إذا كان مثله في الضرر أو دونه كقبض المبيع واستيفاء الدين ويضع فيه ما جرت عادة الساكن به من الرحل
والطعام ويخزن فيه الثياب وغيرها مما لا يضر بها ولا يسكنها من يضر بها كالقصارين والحدادين ولا يجعل فيها الدواب لانها تروث فيها وتفسدها، ولا يجعل فيها السرجين ولا رحى ولا ما يضر بها ولا شيئا ثقيلا فوق سقف لانه يثقله وقد يكسر خشبه فان شرط ذلك جاز وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا ولا يملك فعل ما يضر بها لانه فوق المعقود عليه فلم يكن له فعله كما لو اشترى شيئا لم يملك أخذ أكثر منه فان جعل الدار مخزنا للطعام فقال أصحابنا يجوز ذلك لانه يجوز أن يجعلها مخزنا لغيره ويحتمل أن لا يجوز لانه يفضي إلى تخريق الفار أرضها وحيطانها وذلك ضرر لا يرضى به صاحب الدار (فصل) وان اكترى ظهرا ليركبه فله أن يركبه مثله ومن هو أخف منه ولا يركبه من هو أثقل منه لان العقد اقتضى استيفاء منفعة مقدرة بذلك الراكب فكان له أن يستوفي ذلك بنفسه ونائبه وله استيفاء أقل منه لانه بعض حقه وليس له استيفاء أكثر منه لانه أكثر مما عقد عليه ولا يشترط التساوي في الطول والقصر ولا المعرفة بالركوب، وقال القاضي يشترط أن يكون مثله في هذه الاوصاف كلها لان قلة المعرفة بالركوب يثقل على المركوب ويضر به قال الشاعر لم يركبوا الخيل إلا بعدما كبروا * فهم ثقال على أكفالها عنف
ولنا ان التفاوت في هذه الامور مع التساوي في الثقل يسير فعفي عنه ولهذا لا يشترط ذكره
في الاجارة ولو اعتبر ذلك لاشتترطت معرفته في الاجارة كالثقل والخفة (فصل) فان شرط أن لا يستوفى المنفعة بمثله ولا بمن دونه فقياس قول أصحابنا صحة العقد وبطلان الشرط فانهم قالوا فيمن شرط أن يزرع في الارض حنطة ولا يزرع غيرها يبطل الشرط ويصح العقد، يحتمل أن يصح الشرط وهو أحد الوجهين للشافعية لان المستأجر يملك المنافع من جهة المؤجر فلا يملك ما لم يرض به ولانه قد يكون له غرض في تخصيصه باستيفاء هذه المنفعة وقالوا في الوجه الآخر يبطل الشرط لانه ينافي موجب العقد إذ موجبه ملك المنفعة والتسليط على استيفائها بنفسه ونائبه واستيفاء بعضها بنفسه وبعضها بنائبه والشرط ينافي ذلك فكان باطلا ولا يبطل به العقد في أصح الوجهين لانه لا يؤثر في حق المؤجر نفعا ولا ضرا فألغي وبطل العقد على مقتضاه والآخر يبطله لانه ينافي مقتضاه أشبه ما لو شرط أن لا يستوفي المنافع * (مسألة) * (وله استيفاء المنفعة وما دونها في الضرر من جنسها) قال احمد إذا استأجر دابة ليحمل عليها تمرا فحمل عليها حنطة أرجو أن لا يكون به بأس إذا كان الوزن واحدا وان كانت المنفعة التي يستوفيها أكثر ضررا أو مخالفة للمعقود عليها في الضرر لم يجز لانه يستوفي أكثر من حقه أو غير ما يستحقه
* (مسألة) * (فإذا استأجر أرضا لزرع الحنطة فله زرع الشعير ونحوه وليس له زرع الدخن ونحوه ولا يملك الغرس ولا البناء ولو اكتراها لاحدهما لم يملك الآخر) وجملة ذلك ان اجارة الارض صحيحة وقد ذكرناه ولا يصح حتى يرى الارض لان المنفعة تختلف باختلافها ولا تعرف إلا بالرؤية لكونها لا تنضبط بالصفة ولا يصح حتى يذكر ما يكتري له من زرع أو غرس أو بناء لان الارض تصلح لذلك كله وتأثيره في الارض يختلف فوجب بيانه فان قال أجرتكها لتزرعها أو تغرسها لم يصح لانه لم يعين أحدهما لانه أشبه ما لو قال بعتك أحد هذين العبدين، فان قال لتزرعها ما شئت وتغرسها ما شئت صح وهذا منصوص الشافعي وخالفه أكثر أصحابه فقالوا لا يجوز لانه لا يدري كم يزرع ويغرس وقال بعضهم يصح ويزرع نصفها ويغرس نصفها
ولنا أن العقد اقتضى إباحة هذين الشيئين فصح كما لو قال لتزرعها ما شئت ولان اختلاف الجنسين كاختلاف النوعين، وقوله لتزرعها ما شئت اذن في نوعين وأنواع وقد صح فكذلك في الجنسين وله أن يغرسها كلها وأن يزرعها كلها كما لو أذن له في أنواع الزرع كله كان له زرعها نوعا واحدا وزرعها جميعها من نوعين وكذلك ههنا (فصل) فان اكراها للزرع وحده ففيه أربع مسائل (احداهن) اكراها للزرع مطلقا أو قال لتزرع ما شئت فيصح وله زرع ما شاء وهذا مذهب الشافعي وحكي عن ابن سريج أنه لا يصح
حتى يبين الزرع لان ضرره يختلف فلم بصح بدون البيان كما لو لم يذكر ما يكترى له من زرع أو غرس أو بناء ولنا أنه يجوز استئجارها لاكثر الزرع ضررا ويباح له جميع الانواع لانها دونه فإذا عمم أو أطلق تناول الاكثر وكان له ما دونه، ويخالف الاجناس المختلفة فانه لا يدخل بعضها في بعض، فان قيل فلو اكترى دابة للركوب لوجب تعيين الراكب قلنا لان اجارة المركوب لاكثر الركاب ضررا لا تجوز بخلاف المزروع ولان للحيوان حرمة في نفسة فلم يجز اطلاق ذلك فيه بخلاف الارض، فان قيل فلو استأجر دارا للسكنى مطلقا لم يجز أن يسكنها من يضر بها كالقصار والحداد فلم قلتم انه يزرعها ما يضر بها؟ قلنا السكنى لا تقتضي ضررا فلذلك منع من اسكان من يضر بها لان العقد لم يقتضه والزرع يقتضي الضرر فإذا أطلق كان راضيا بأكثره فلهذا جاز، وليس له أن يغرس في هذه الارض ولا يبني لان ضرره أكثر من المعقود عليه (المسألة الثانية) اكراها لزرع حنطة أو نوع بعينه فان له زرع ما عينه وما ضرره كضرره أو دونه ولا يتعين ما عينه في قول عامة أهل العلم الا أهل الظاهر فانهم قالوا لا يجوز له زرع غير ما عينه حتى لو وصف الحنطة بانها سمراء لم يجز أن يزرع بيضاء لانه عينه بالعقد فلم يجز العدول عنه كما لو عين المركوب أو عين الدراهم في الثمن ولنا أن المعقود عليه منفعة الارض دون القمح ولهذا يستقر عليه الاجر بمضي المدة إذا تسلم الارض ولم يزرعها وانما ذكر القمح لتقدر به المنفعة فلم يتعين كما لو استأجر دارا ليسكنها فله أن
يسكنها غيره، وفارق المركوب والدراهم في الثمن فانه معقود عليهما فتعينا والمعقود عليه ههنا منفة مقدرة وقد تعينت أيضا ولم يتعين ما قدرت به كما لا يتعين المكيال والميزان في المكيل والموزون، فعلى هذا يجوز له زرع القمح والشعير والباقلا لانه أقل ضررا وليس له زرع الدخن والذرة والقطن لانه اما أن يكون أكثر ضررا فيأخذ فوق حقه أو يكون ضرره مخالفا لضرر القمح فيأخذ ما لم يتناوله العقد ولا شيئا من جنسه (المسألة الثالثة) قال ازرعها حنطة وما ضرره كضررها أو دونه فهذه كالتي قبلها الا أنه لا مخالف فيها لانه شرط ما اقتضاه الاطلاق وبين ذلك بصريح نصه فزال الاشكال (المسألة الرابعة) قال ازرعها حنطة ولا تزرع غيرها فذكر القاضي أن الشرط باطل لمنافاته مقتضى العقد لانه يقتضي استيفاء المنفعة كيف شاء فلم يصح الشرط كما لو شرط عليه استيفاء المبيع بنفسه والعقد صحيح لانه لا ضرر فيه ولا غرض لاحد المتعاقدين لان ما ضرره مثله لا يختلف في غرض المؤجر فلم يؤثر في العقد فأشبه شرط استيفاء المبيع أو الثمن بنفسه وقد ذكرنا فيما إذا اشترط مكتري الدار أن لا يسكنها غيره وجها في صحة الشرط ووجها في فساد العقد فيخرج ههنا مثله (فصل) فان أكراها للغراس ففيه ما ذكرنا من المسائل إلا أن يزرعها لان ضرر الزرع أقل من ضرر الغراس وهو من جنسه لان كل واحد منهما يضر بباطن الارض وليس له البناء لان ضرره مخالف لضرره فانه يضر بظاهر الارض وان اكتراها للزرع لم يملك الغراس ولا البناء لان ضرر الغرس أكثر
وضرر البناء مخالف لضرره، وان اكتراها للبناء لم يكن له الغرس ولا الزرع لان ضررهما يخالف ضرره
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: