الفقه الحنبلي - النذور - ادب القاضي
(فصل) إذا نذر المشي إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الاقصى لزمه ذلك وبهذا قال مالك والاوزاعي وابو عبيد وابن المنذر وهو أحد قولي الشافعي وقال في
الآخر لا يتبين لي وجوب المشي اليهما لان البر باتيان بيت الله فرض والبر باتيان هذين نفل ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تشد الرحال الا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا
والمسجد الاقصى " ولانه أحد المساجد الثلاثة فيلزم النذر بالمشي إليه كالمسجد الحرام ولا يلزم ما ذكروه فان كان قربة تجب بالنذر، وان لم يكن لها أصل في الوجوب كعيادة المرضى وشهود الجنائز ويلزمه بهذا النذر أن يصلي في الموضع الذي أتاه ركعتين لان القصد بالنذر القربة والطاعة وانما يحصل ذلك بالصلاة فتضمن ذلك نذره كما يلزم ناذر المشي إلى بيت الله الحرام أحد النسكين ونذر الصلاة في أحد المسجدين كنذر المشي إليه كما ان نذر أحد النسكين في المسجد الحرام كنذر المشي وقال أبو حنيفة لا تتعين عليه الصلاة في موضع بالنذر سواء كان في المسجد الحرام أو غيره لان مالا أصل له في الشرع لا يجب بالنذر بدليل نذر الصلاة في سائر المساجد ولنا ما روي ان عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله اني نذرت أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام قال " اوف بنذرك " متفق عليه، روي عنه عليه الصلاة والسلام " صلاة في المسجد الحرام بمائة الف صلاة " وان كانت فضيلة وقربة لزمت بالنذر كما لو نذر طول القراءة وما ذكروه ويبطل بالعمرة فانها تلزم بالنذر وهي غير واجبة عندهم (فصل) إذا نظر الصلاة في المسجد الحرام لم تجز الصلاة في غيره لانه أفضل المساجد واكثرها ثوابا للمصلي فيها وان نذر الصلاة في المسجد الاقصى أجزأته الصلاة في المسجد الحرام لما روى جابر ان رجلا قام يوم الفتح فقال يا رسول الله اني نذرت ان فتح الله عليك ان أصلي في بيت المقدس
ركعتين قال " صل ههنا " ثم أعاد عليه قال " صل ههنا " ثم اعاد عليه قال " صل ههنا " ثم أعاد عليه قال " شأنك " رواه الامام احمد ولفظه " والذي نفسي بيده لو صليت ههنا لاجزأ عنك كل صلاة في بيت المقدس " وقد سبق هذا في باب الاعتكاف (فصل) وان أفسد الحج المنذور ماشيا وجب القضاء مشيا لان القضاء يكون على صفة الاداء وكذلك ان فاته الحج لكن ان فاته الحج سقط توابع الوقوف من المبيت بمزدلفة ومنى والرمي وتحلل للعمرة ويمضي في الحج الفاسد ماشيا حتى يحل منه * (مسألة) * (فان نذر رقبة فهي التي تجزئ عن الواجب إلا أن ينوي رقبة بعينها)
إذا نذر رقبة فهي التي تجزئ في الكفارة وهي المؤمنة السليمة من العيوب المضرة بالعمل على ما ذكرنا في بابا الظهار لان النذر المطلق تحمل على المعهود في الشعر والواجب باصل الشرع كذلك وهو أحد الوجهين لاصحاب الشافعي (والثاني) تجزئه أي رقبة كانت صحيحة أو معيبة مسلمة أو كافرة لان الاسم يتناول جميع ذلك ولان المطلق يحمل على معهود الشرع وهو الواجب في الكفارة وما ذكروه يبطل بنذر المشي إلى بيت الله الحرام فانه لا يحمل على ما تناوله الاسم فاما ان نوى رقبة بعينها أجزأه عتقها اي رقبة كانت لانه نوى بلفظه ما يحتمله، وان نوى ما يقع عليه الاسم الرقبة أجزأه ما نواه لما ذكرنا فان المطلق يتقيد
بالنية كما يتقيد بالقرينة اللفظية، وقال احمد فيمن نذر رقبة معينة فمات قبل أن يعتقها تلزمه كفارة يمين ولا يلزمه عتق عبد لان هذا شئ فاته على حديث عقبة بن عامر واليه ذهب في الفائت وما عجز عنه (فصل) ومن نذر حجا أو صياما أو صدقة أو عتقا أو اعتكافا أو صلاة أو غيرها من الطاعات ومات قبل فعله فعله الولي عنه وعن احمد في الصلاة لا يصلي عن الميت لانها لا بدل لها بحال واما سائر الاعمال فيجوز أن ينوب الولي عنه فيها وليس بواجب عليه لكن يستحب له ذلك على سبيل الصلة له والمعروف وافتى بذلك ابن عباس في امرأة نذرت أن تمشي إلى قباء فماتت ولم تقضه أن تمشي ابنتها عنها، وروى سعيد عن سفيان عن عبد الكريم بن ابي أمية انه سأل ابن عباس عن نذر كان على أمه من اعتكاف قال صم عنها واعتكف عنها وقال ثنا أبو الاحوص عن ابراهيم بن مهاجر عن عامر ابن شعيب ان عائشة اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعدما مات وقال مالك لا يمشي أحد عن احد ولا يصوم عنه ولا يصلي وكذلك سائر أعمال البدن قياسا على الصلاة، وقال الشافعي يقضي عنه الحج ولا يقضي الصلاة قولا واحدا ولا يقضي الصوم في أحد الوجهين ويطعم عنه في كل يوم مسكين لان ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه عن كل يوم مسكين " أخرجه ابن ماجة
وقال أهل الظاهر يجب القضاء على وليه بظاهر الاخبار الواردة فيه وجمهور أهل العلم على أن القضا ليس بواجب على الولي الا أن يكون حقا في المال ويكون للميت تركة فامر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا محمول على الندب والاستحباب بدليل قرائن في الخبر منها ان النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين وقضاء الدين عن الميت لا يجب على الوارث ما لم يخف تركة يقضي منها، ومنها ان السائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل يفعل ذلك أولا؟ وجوابه يختلف باختلاف مقتضى سؤاله فان كان مقتضاه السؤال عن الاباحة فالامر في جوابه يقتضي الاباحة وان كان السؤال عن الاجزاء فأمره يقتضي الاجزاء كقولهم أنصلي في مرابض الغنم؟ قال " صلوا في مرابض الغنم " وان كان السؤال عن الوجوب فأمره يقتضي الوجوب كقولهم انتوضأ من لحوم الابل؟ قال " نعم توضئوا منها " وسؤال السائل في مسئلتنا كان عن الاجزاء فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل يقتضيه لا غير ولنا على جواز الصيام عن الميت ما روت عائشة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من مات
وعليه صيام صام عنه وليه " وعن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ان امي ماتت وعليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال " لو كان على امك دين اكنت قاضيه عنها؟ " قال نعم قال " فدين الله أحق ان يقضي " وفي رواية قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ان امي ماتت وعليها صوم أفأصوم عنها؟ قال " أرأيت لو كان على امك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ " قالت نعم قال " فصومي عن امك " متفق عليهن وعن ابن عباس ان سعد بن عبادة استفتى النبي صلى الله عليه وسلم في نذر كان على امه فتوفيت قبل ان تقضيه فأفتاه ان يقضيه فكانت سنة بعد وعنه ان رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال ان أمي نذرت ان تحج وانها ماتت فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ "
قال نعم قال " فاقض الله فهو أحق بالقضاء " رواه البخاري وهذا صريح في الصوم والحج ومطللق في النذر وما عدا المذكور في الحديث فمقاس عليه وحديث ابن عمر في الواجب بأصل الشرع ويتعين حمله عليه جميعا بين الحديثين ولو قدر التعارض لكانت أحاديثنا أصح وأكثر وأولى بالتقديم.
إذا ثبت
هذا فان الاولى ان يقضي النذر عنه وارثه وان قضاه غيره اجزأ عنه كما لو قضى عنه دينه فان النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين وقاسه عليه ولان ما يقضيه الوارث انما هو تبرع منه وغيره مثله في التبرع وان كان النذر في مال تعلق بتركته * (مسألة) * (وان نذر ان يطوف على اربع طاف طوافين) نص عليه قال ذلك ابن عباس لما روى معاوية ابن خديج الكندي انه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومعه امه كبشة بنت معدي كرب عمة الاشعث بن قيس فقالت يا رسول الله اني آليت ان اطوف بالبيت حبوا فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " طوفي على رجليك سبعين سبعا عن يديك وسبعا عن رجليك " أخرجه الدارقطني باسناده وقال ابن عباس في امرأة نذرت ان تطوف بالبيت على أربع قال تطوف عن يديها سبعا وعن رجلها سبعا رواه سعيد والقياس ان يلزمه طواف واحد على رجليه ولا يلزمه على يديه لانه غير مشروع فسقط كما ان اخت عقبة بن عامر نذرت ان تحج غير مختمرة فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم
ان تحج وتختمر وروى عكرمة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فحانت منه نظرة فإذا امرأة ناشرة شعرها قال " فمروها فلتختمر " ومر برجلين مقرونين فقال " أطلقا قرانكا وقد ذكرنا حديث أبي اسرائل الذي نذر ان يصوم ويفعل أشياء فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصوم وحده ونهاه عن سائر نذوره وهل تلزمه كفارة؟ يخرج فيه وجهان بناء على ما تقدم وقياس المذهب لزوم الكفارة لا خلاله بصفة نذره وان كان غير مشروع كما لو كان أصل النذر غير مشروع وأما وجه الاول فان من نذر الطواف على أربع فقد نذر الطواف على يديه ورجليه فأقيم الطواف الثاني مقام طوافه على يديه
كتاب القضاء الاصل في القضاء ومشروعيته الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله تعالى (وان احكم بينهم بما أنزل الله) وقوله (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم) وقال تعالى (فلا وربك لا يؤمنون
حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم خرجا مما قضيت) وأما السنة فروي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " متفق عليه في آي وأخبار سوى ذلك كثيرة واجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس * (مسألة) * (وهو فرض كفاية) لان أمر الناس لا يستقيم بدونه فكان واجبا عليهم كالجهاد والامامة قال أحمد رحمه الله لابد للناس من حاكم اتذهب حقوق الناس؟ وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به واداء الحق فيه ولذلك جعل الله فيه اجرا على الخطأ واسقط عنه حكمه ولان فيه أمرا بالمعروف ونصرة للمظلوم واداء الحق إلى مستحقه ورد الظالم عن ظلمه واصلاحا بين الناس وتخليصا لبعضهم من بعض وذلك من أبواب القرب ولذلك تولاه النبي صلى الله عليه وسلم والانبياء قبله فكانوا يحكمون لاممهم وبعث عليا إلى اليمن قاضيا وبعث معاذا قاضيا، وعن عقبة بن عامر قال جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال " اقض بينهما " قلت انت أولى بذلك قال " وان كان " قلت علام اقضي؟ قال " اقض فان صبت فلك عشرة أجور وان أخطأت فلك أجر واحد " رواه سعيد في سننه، وولى عمر شريحا قضاء الكوفة وكعب بن سور قضاء البصرة (فصل) وفيه خطر عظيم ووزر كبير لمن لم يؤد الحق فيه ولذلك كان السلف يمتنعون منه أشد الامتناع ويخشون على أنفسهم خطره قال خاقان بن عبد الله اريد أبو قلابة على قضاء البصرة فهرب إلى اليمامة فأريد على قضائها فهرب إلى الشام فأريد على قضائها وقيل ليس هناك غيرك قال فانزلوا الامر على ما قلتم فان مثلي مثل سابح وقع في البحر فسبح يومه فانطلق ثم سبح اليوم الثاني فمضى أيضا فلما كان اليوم الثالث فترت يداه، وكان يقال اعلم الناس بالقضاء اشدهم له كراهة ولعظم خطره قال النبي صلى الله عليه وسلم " من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين " قال الترمذي هذا حديث حسن قيل في هذا الحديث إنه لم يخرج مخرج الذم للقضاء وانما وصفه بالمشقة فكأن من وليه قد حمل
على مشقة كمشقة الذبح * (مسألة) * (فيجب على الامام ان ينصب في كل إقليم قاضيا ويختار لذلك أفضل من يجد وأورعهم) لان النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا قاضيا إلى اليمن وبعث معاذا قاضيا أيضا وقال " بم تحكم؟ " قال بكتاب الله قال " فان لم تجد؟ " قال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فان لم تجد؟ " قال اجتهد رأيي قال " الحمد
لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم " وولى عمر شريحا قضاء الكوفة وكتب إلى أبي عبيدة ومعاذ يأمرهما بتولية القضاء في الشام ولان أهل كل بلد يتحاجون إلى القاضي ولا يمكنهم المصير إلى الامام ومن أمكنه ذلك شق عليه فوجب اغناؤهم عنه * (مسألة) * (ويختار لذلك افضل من يجد وأورعهم ويأمر بتقوى الله تعالى وايثار طاعته في سره وتحري العدل والاجتهاد في اقامة الحق) إذا اراد الامام تولية قاض فان كان له خبرة بالناس ويعرف من يصلح للقضاء ولاه وان لم يعرف ذلك سأل أهل المعرفة بالناس واسترشدهم عنما يصلح وان ذكر له رجل لا يعرف احضره وسأله فان عرف عدالته والا بحث عن عدالته فإذا عرفها ولاه قال علي رضي الله عنه لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضيا حتى يكون فيه خمس خصال عفيف حليم عالم بما كان قبله يستشير ذوي الرأي، ويكتب له الامام عهدا يأمره فيه بتقوى الله والتثبت في القضاء ومشاورة أهل العلم وتصفح حال الشهود وتأمل الشهادات وتعاهد اليتامى وحفظ أموالهم وأموال الوقوف وغير ذلك مما يحتاج إلى مراعاته وان يستخلف في كل صقع أصلح من يقدر عليه ليكون قيما بما يتولاه * (مسألة *) (وهل يجب على من يصلح له إذا طلب ولم يوجد غيره الدخول فيه وعنه أنه سئل هلى يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره ممن يوثق به؟ قال لا يأثم وهذا يدل على أنه ليس بواجب) الناس في القضاء على ثلاثة أضرب (منهم) من لا يجوز له الدخول فيه وهو من لا يحسنه ولم
تجتمع فيه شروطه فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " القضاة ثلاثة " ذكر منهم رجالا قضى بين الناس
بجهل فهو في النار ولان من لا يحسنه لا يقدر على العدل فيه فيأخذ الحق من مستحقه ويدفعه إلى غيره (ومنهم) من يجوز له ولا يجب عليه وهو من كان من أهل العدالة والاجتهاد ويوجد غيره مثله فله أن يلي القضاء بحكم حاله وصلاحيته ولا يجب عليه لانه لم يتعين له فظاهر كلام أحمد أنه لا يستحب له الدخول فيه لما فيه من الخطر والغرر وفي تركه من السلامة ولما ورد فيه من التشديد والذم ولان طريقة السلف الامتناع منه والتوقي وقد أراد عثمان تولية ابن عمر القضاء فأباه وقال أبو عبد الله ابن حامد إن كان رجلا خاملا يرجع إليه في الاحكام فالاولى له توليه ليرجع إليه في الاحكام ويقوم به الحق وينتفع به المسلمون، وان كان مشهورا في الناس بالعلم يرجع إليه في تعليم العلم والفتوى فالاولى الاشتغال بذلك لما فيه من النفع مع الامن من الغرر هذا قول أصحاب الشافعي وقالوا أيضا إذا كان ذا حاجة وله في القضاء رزق فالاولى له الاشتغال به فيكون أولى من سائر المكاسب لانه قربة وطاعة (والثالث) من يجب عليه وهو من يصلح للقضاء ولا يوجد سواه فهذا يتعين عليه لانه فرض كفاية لا يقدر على القيام به غيره فيتعين عليه كغسل الميت وتكفينه وقد نقل عن احمد ما يدل على أنه لا يتعين عليه فانه سئل هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره؟ قال لا يأثم فهذا يحتمل أن يحمل على ظاهره في أنه لا يجب عليه لما فيه من الخطر فلا يلزمه الاضرار بنفسه لنفع غيره ولذلك امتنع أبو قلابة منه وقد قيل له ليس ههنا غيرك ويحتمل ان يحمل على من لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السلطان أو غيره فان أحمد قال لابد للناس من حاكم أتذهب حقوق الناس؟
* (مسألة) * (وان وجد غيره كره له طلبه بغير خلاف في المذهب).
لان أنسا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من ابتغى القضاء وسأل فيه الشفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عزوجل ملكا يسدده " قال الترمذي حديث حسن غريب وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة " يا عبد الرحمن لا تسأل الامارة فانك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة اعنت عليها " متفق عليه.
* (مسألة) * (وإن طلب فالافضل ألا يجيب في ظاهر كلام أحمد).
وقال ابن حامد الافضل الاجابة إذا أمن نفسه وقد ذكرنا أن ظاهر كلام أحمد رحمه الله أن الافضل والاولى له ألا يجيب إذا طلب ووجد غيره لما فيه من الخطر والغرر وفي تركه من السلامة ولما ورد فيه من التشديد والذم ولان طريقة السلف الامتناع منه والتوفي لذلك وقد أراد عثمان تولية ابن عمر القضاء فأباه وقد ذكرنا قول ابن حامد مفصلا وهو قول أصحاب الشافعي.
* (مسألة) * (ولا تثبت ولاية القضاء إلا بتولية الامام أو نائبه لانها من المصالح العامة فلم تجز إلا من جهة الامام كعقد الذمة).
* (مسألة) * (ومن شرط صحتهما معرفة المولي كون المولى على صفة تصلح للقضاء).
لان مقصود القضاء لا يحصل إلا بذلك فان كان يعرف صلاحيته للقضاء ولاه وإن لم يعرف ذلك سأل أهل المعرفة بالناس واسترشدهم فان عرف ذلك ولاه.
* (مسألة) * (ويعين ما يوليه الحكم فيه من الاعمال والبلدان ومشافهته بالولاية أو مكاتبته بها واشهاد شاهدين على توليته وقال القاضي تثبت بالاستفاضة إذا كان بلده قريبا يستفيض فيه أخبار بلد الامام) يشترط تعيين ما يوليه من الاعمال والبلدان ليعلم محمل ولايته فيحكم فيه ولا يحكم في غيره وقد ولى النبي صلى الله عليه وسلم عليا قضاء اليمن وولى عمر شريحا قضاء الكوفة وكعب بن سور قضاء البصرة وبعث في كل مصر قاضيا وواليا، ويشافهه الامام بالولاية ان كان حاضرا أو يكاتبه بها إن كان غائبا لان التولية تحصل بالمشافهة في الحضرة وبالمكاتبة في الغيبة كالتوكيل فان كان البلد الذي لا قضاة فيه غير بلد الامام كتب له العهد بما ولاه، لان النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمر وبن حزم حين بعثه إلى اليمن وكتب عمر إلى أهل الكوفة، أما بعد فاني قد بعثت عليكم عمارا أميرا وعبد الله قاضيا فاسمعوا لهما وأطيعوا، فان كان البلد الذي ولاه بعيدا لا يستفيض إليه الخبر بما يكون في بلد الامام احضر شاهدين عدلين وقرأ عليهما العهد وأشهدهما على توليته ليمضيا معه إلى بلد ولايته فيقيما له الشهادة ويقول لهما اشهدا على اني قد وليته قضاء البلد الفلاني وتقدمت إليه بما يشتمل هذا العهد عليه، وإن كان البلد قريبا من بلد الامام يستفيض إليه ما يجري في بلد الامام نحو ان يكون بينهما خمسة ايام أو ما دونها جاز أن يكتفى بالاستفاضة دون
الشهادة، لان الولاية تثبت بها وبهذا قال الشافعي إلا ان عنده في ثبوت الولاية بالاستفاضة في البلد القريب وجهين، وقال أصحاب أبي حنيفة تثبت بالاستفاضة ولم يفرقوا بين البلد القريب والبعيد
لان النبي صلى الله عليه وسلم ولى عليا قضاء اليمن وهو بعيد من غير شهادة وولى الولاة في البلدان البعيدة وفوض إليهم الولاية والقضاء ولم يشهد وكذلك خلفاؤه ولم ينقل عنهم الاشهاد على تولية القضاء مع بعد بلدانهم.
ولنا أن القضاء لا يثبت إلا باحد أمرين وقد بعدت الاستفاضة في البلد البعيد لعدم وصولها إليه فيتعين الاشهاد ولا نسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهد على توليته، فان الظاهر انه لم يبعث واليا إلا ومعه جماعة الظاهر انه أشهدهم وعدم نقله لا يلزم منه عدم فعله، وقد قام دليله فيتعين وجوبه.
* (مسألة) * (وهل تشترط عدالة المولي على روايتين).
(إحداهما) تشترط كما تشترط في المتولي (والثانية) لا تشترط لان ولاية الامامه الكبرى تصح من كل بر وفاجر فصحت ولايته كالعدل ولاننا لو اعتبرنا العدالة في المولي أفضى إلى تعذرها بالكلية فيما إذا كان الامام غير عدل.
* (مسألة) * (وألفاظ التولية الصريحة سبعة وليتك الحكم وقلدتك أو استنبتك واستخلفتك ورددت اليك وفوضت اليك الحكم فإذا وجد لفظ منها والقبول من المولى انعقدت الولاية) لانها لا تحتمل الا ذلك فمتى أني بواحدة منها واتصل بها القبول صحت الولاية كالبيع والنكاح وغير ذلك والكناية أربعة اعتمدت عليك وعولت عليك ووكلت اليك واسندت اليك الحكم فلا
تنعقد حتى يقترن بها قرينة نحو فاحكم أو تول ما عولت عليك فيه وما أشبهه نحو وانظر فيما اسندت اليك واحكم فيما وكلت اليك، ولان هذه الالفاظ تحتمل التولية وغيرها من كونه يأخذ برأيه وغير ذلك فلم تنصرف إلى التولية الا بقرينة تنفي الاحتمال.
(فصل) قال الشيخ رضي الله عنه وإذا ثبتت الولاية وكانت عامة اسنفاد بها النظر عشرة أشياء: فصل الخصومات واستيفاء الحق ممن هو عليه ودفعه إلى ربه والنظر في أموال اليتامى والمجانين والسفهاء والحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو فلس والنظر في الوقوف في عمله باجرائها على شرط الواقف وتنفيذ الوصايا وتزويج النساء اللاتي لا ولي لهن وإقامة الحدود واقامة الجمعة والنظر في مصالح عمله بكف الاذى عن طرقات المسلمين وافنيتهم وتصفح حال شهوده وامنائه والاستبدال بمن يثبت جرحه منهم وانما تثبت هذه الولايات له لان العادة من القضاة توليها فعند اطلاق تولية القضاء تنصرف إلى ولاية ما جرت العادة بولايته لها فاما جباية الخراج وأخذ الصدقة فعلى وجهين (أحدهما) تدخلان فيه قياسا على سائر الخصال المذكورة وفي الآخر لا يدخلان فيه لان العادة لم تثبت بتولية القضاء لهما لان الاصل عدم ذلك فلا يثبت * (مسألة) * (وله طلب الرزق لنفسه وامنائه وخلفائه مع الحاجة فاما مع عدمها فعلى وجهين) يجوز للقاضي أخذ الرزق ورخص فيه شريح وابن سيرين والشافعي وأكثر أهل العلم وروي
عن عمر رضي الله عنه انه استعمل زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقا ورزق شريحا في كل شهر مائة درهم وبعث إلى الكوفة عمارا وابن مسعود وعثمان وكان ابن مسعود قاضيهم ومعلمهم وكتب إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام ان انظرا رجالا من صالحي من قبلكم فاستعملوهم على القضاء واوسعوا عليهم وارزقوهم واكفوهم من مال الله وقال أبو الخطاب يجوز له أخذ الرزق مع الحاجة فاما مع عدمها فعلى وجهين، وقد روي عن أحمد أنه قال ما يعجبني ان يأخذ على القضاء اجرا وان كان فبقدر عمله مثل مال اليتيم وكان ابن مسعود والحسن يكرهان الاجر على القضاء وكان ابن مسعود وعبد الرحمن بن القاسم بن عبد الرحمن لا يأخذان عليه أجرا وقالا لا نأخذ أجرا على ان نعدل بين اثنين وقال أصحاب الشافعي ان لم يكن متعينا جاز له أخذ الرزق وان تعين لم يجز الا مع الحاجة والصحيح جواز الاخذ عليه مطلقا لان أبا بكر رضي الله عنه لما ولي الخلافة فرضوا له رزقا كل يوم درهمين ولما ذكرنا ان عمر رزق زيدا وشريحا وابن مسعود وأمر بفرض الرزق
لمن ولي من القضاة ولان بالناس حاجة إليه ولو لم يجز فرض الرزق لتعطل وضاعت الحقوق فاما الاستئجار عليه فلا يجوز قال عمر رضي الله عنه لا ينبغي لقاضي المسلمين ان يأخذ على القضاء اجرا وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا لانه قربة يختص فاعله ان يكون من أهل القربة فاشبه الصلاة ولانه لا يعمله الانسان عن غيره وإنما يقع عن نفسه فاشبه الصلاة ولانه عمل غير معلوم فان لم يكن القاضي رزق فقال للخصمين لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي عليه جعلا جاز ويحتمل الا يجوز
(فصل) قال رضي الله عنه ويجوز ان يوليه عموم النظر في عموم العمل ويجوز ان يوليه خاصا في أحدهما أو فيهما ويوليه النظر في بلد أو محلة خاصة فينفذ قضاؤه في أهله ومن طرأ إليه ويجعل إليه الحكم في المداينات خاصة أو في قدر من المال لا يتجاوزه أو يفرض إليه عقود الانكحة دون غيرها لان ذلك جميعه إلى الامام وله الاستنابة في الكل فتكون له الاستنابة في البعض فان من ملك في الكل ملك في البعض وقد صح ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يستنيب أصحابه كلا في شئ فولى عمر القضاء وبعث عليا قاضيا على اليمين وكان يرسل أصحابه في جمع الزكاة وغيرها وكذلك الخلفاء بعده ولانه نيابة فكان على حسب الاستنابة * (مسألة) * (فان جعل اليهما عملا واحدا جاز) وعند أبي الخطاب لا يجوز وهو أحد الوجهين لاصحاب الشافعي لانه يؤدي إلى إيقاف الاحكام والخصومات لانهما يختلفان في الاجتهاد ويرى أحدهما مالا يرى الآخر (والثاني) يجوز وهو قول أصحاب أبي حنيفة وهو أصح ان شاء الله تعالى لانه يجوز ان يستخلف في البلد الذي هو فيه فيكون فيه قاضيان فجاز ان يكون فيها قاضيان أصلبان لان الغرض فصل الخصومات وإيصال الحق إلى مستحقه وهذا يحصل فاشبه القاضي وخلفاءه ولانه يجوز للقاضي ان يستخلف خليفتين في موضع واحد فالامام أولى لان توليته أقوى وقولهم يفضي إلى ايقاف الاحكام لا يصح فان كل حاكم يحكم باجتهاده بين المتحاكمين إليه وليس للآخر الاعتراض عليه ولا نقض حكمه فيما خالف اجتهاده
(فصل) ولا يجوز ان يقلد القضاء لواحد على ان يحكم بمذهب بعينه وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا لان الله تعالى قال (فاحكم بين الناس بالحق) والحق لا يتعين في مذهب وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب فان قلده على هذا الشرط بطل الشرط وفي فساد التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع (فصل) إذا فرض الامام إلى انسان تولية القاضي جاز لانه يجوز ان يتولى ذلك فجاز له التوكيل فيه كالبيع فان فوض إليه اختيار قاض جاز ولا يجوز له اختيار نفسه ولا والده ولا ولده كما لو وكله في الصدقة بمال لم يجز له أخذه ولا دفعه إلى هذين ويحتمل ان يجوز له اختيارهما إذا كانا صالحين للولاية لانهما يدخلان في عموم من اذن له في الاختيار منه مع اهليتهما اشبها الاجانب * (مسألة) * (إذا مات المولي أو عزل المولى مع صلاحيته لم تبطل ولايته في أحد الوجهين وتبطل في الاخر) إذا ولى الامام قاضيا ثم مات لم ينعزل القاضي لان الخلفاء رضي الله عنهم ولو أحكاما في زمنهم فلم ينعزلوا بموتهم ولان في عزله بموت الامام ضربرا على المسلمين فان البلد يتعطل من الحكام وتقف أحكام الناس إلى ان يولي الامام الثاني حاكما وفيه خطر عظيم وكذلك لا ينعزل القاضي إذا عزل الامام لما ذكرنا فاما ان عزله الامام الذي ولاه أو غيره ففيه وجهان (احدهما) لا ينعزل وهو مذهب الشافعي لانه عقد لمصلحة المسلمين فلم يملك عزله مع سداد حاله كما لو عقد النكاح على موليته لم يكن له فسخه (والثاني) ينعزل لما روي عن عمر رضي الله عنه انه قال لاعزلن ابا مريم
واولين رجلا إذا رآه الفاجر فرقه فعزله عن قضاء البصرة وولى كعب بن سور مكانه، وولى علي رضي الله عنه ابا الاسود ثم عزله فقال له لم عزلتني وما خنت قال اني رأيتك يعلو كلامك على الخصمين ولانه يملك عزل امرائه وولاته على البلدان فكذلك قضاته وقد كان عمر رضي الله عنه يولي ويعزل فعزل شر حبيل ابن حسنة عن ولايته في الشام وولى معاوية فقال له شر حبيل أمن جبن عزلتني أو خيانة؟ قال من كل لا ولكن اردت رجلا اقوى من رجل وعزل خالد بن الوليد وولى ابا عبيدة وقد كان يولي بعض الولاة الحكم مع الامارة فولى ابا موسى البصرة قضاءها وامارتها ثم كان يعزلهم هو ومن
لم يعزله عزله عثمان بعده الا القليل منهم فعزل القاضي أولى ويفارق عزله بموت من ولاه أو عزله لان فيه ضررا وههنا لا ضرر فيه لانه لا يعزل قاضيا حتى يولي آخر مكانه ولهذا لا ينعزل القاضي بموت الامام وينعزل بعزله وقد ذكر شيخنا في عزله بالموت في الكتاب المشروح وجهين وحكاهما أبو الخطاب والاولى ان شاء الله ما ذكرنا فاما ان تغيرت حال القاضي بفسق أو زوال عقل أو مرض يمنعه من القضاء أو اختل فيه بعض شروطه فانه ينعزل بذلك ويتعين على الامام عزله وجها واحدا، وأما إذا استخلف القاضي خليفة فانه ينعزل بموته وعزله لانه نا؟؟ اشبه الوكيل * (مسألة) * (وهل ينعزل قبل العلم بالعزل على روايتين بناء على الوكيل) وقد مضى ذلك في كتاب الوكالة
(فصل) وللامام تولية القضاء في بلده وغيره لان النبي صلى الله عليه وسلم ولى عمر بن الخطاب القضاء وولى عليا ومعاذا وقال عثمان لابن عمر ان اباك كان يقضي وهو خير منك فقال ان ابي قد كان يقضي فان اشكل عليه شئ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث رواه عمرو بن شيبة في قضاة البصرة وروى سعيد في سننه عن عمرو بن العاص قال: جاء خصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي " يا عمرو اقض بينهما " قال قلت انت أولى بذلك مني يا رسول الله قال " ان أصبت القضاء بينهما فلك عشر حسنات وان أخطأت فلك حسنة " وعن عقبة بن عامر مثله، ولان الامام يشتغل باشياء كثيرة من مصالح المسلمين فلا يتفرع للقضاء بينهم فإذا ولى قاضيا استحب أن يجعل له أن يستخلف لانه قد يحتاج إلى ذلك فإذا أذن له في الاستخلاف جاز له بلا خلاف نعلمه، وان نهاه لم يكن له أن يستخلف لان ولايته باذنه فلم يكن له ما ذكرناه كالوكيل، وان أطلق فله الاستخلاف، ويحتمل أن لا يكون له ذلك لانه يتصرف بالاذن فلم يكن له ما لم يأذن فيه كالوكيل ولاصحاب الشافعي في هذا وجهان ووجه الاول ان الغرض من القضاء الفصل بين المتخاصمين إذا فعله بنفسه بخلاف الوكيل فان استخلف في موضع ليس له الاستخلاف فحكمه حكم من لم يول * (مسألة) * (وإذا قال المولي من نظر في الحكم في البلد الفلاني من فلان وفلان فهو خليفتي
أو قد وليته لم تنعقد الولاية لمن ينظر) لانه علقها على شرط ولم يعين بالولاية أحدا منهم، ويحتمل أن تنعقد لمن نظر لان النبي صلى الله عليه وسلم
قال " زيد فان قتل فأميركم جعفر فان قتل فأميركم عبد الله بن رواحة " فعلق ولاية الامارة بعد زيد على شرط فكذلك ولاية الحكم * (مسألة) * (وان قال وليت فلانا وفلانا فمن نظر منهما فهو خليفتي انعقدت الولاية) لمن ينظر منهما لانه عقد الولاية لهما جميعا (فصل) قال الشيخ رحمه الله ويشترط في القاضي عشر صفات ان يكون بالغا عاقلا حرا ذكرا مسلما عدلا سميعا بصير متكلما مجتهدا وهل يشترط كونه كاتبا؟ على وجهين وجملة ذلك انه يشترط للقاضى أن يكون بالغا عاقلا مسلما لان هذه شروط العدالة فأولى أن تشترط للقضاء (الرابع) الذكورية فلا تصح تولية المرأة، وحكي عن ابن جرير ان الذكورية لا تشترط لان المرأة يجوز أن تكون مفتية فيجوز أن تكون قاضيا، وقال أبو حنيفة يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود لانه يجوز أن تكون شاهدة فيه ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " ولان القاضي يحضره محافل الخصوم والرجال ويحتاج فيه إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة، والمرأة ناقصة العقل ضعيفة الرأي ليست من اهل الحضور في محافل الرجال ولا تقبل شهادتها ولو كان معها الف امرأة مثلها ما لم يكن معهن رجل وقد نبه الله تعالى على ضلالهن ونسيانهن بقوله سبحانه (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى) ولا تصلح للامامة العظمى ولا لتولية البلدان ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه
ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد فيما بلغنا ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالبا (الخامس) الحرية فلا تصح تولية العبد لانه منقوص برقه مشغول بحقوق سيده لا تقبل شهادته في جميع الاشياء فلم يكن اهلا للقضاء كالمرأة
[ السادس ] أن يكون سميعا (السابع) أن يكون بصيرا [ الثامن ] أن يكون متكلما لان الاصم لا يسمع قول الخصمين والاعمى لا يعرف المدعي من المدعي عليه والمقر من المقر له، والاخرس لا يمكنه النطق بالحكم ولا يفهم الناس جميع إشارته وقال بعض أصحاب الشافعي يجوز أن يكون أعمى لان شعيبا عليه السلام كان اعمى ولهم في الاخرس الذي تفهم إشارته وجهان ولنا ان هذه الحواس تؤثر في الشهادة فيمنع فقدها ولاية القضاء كالسمع وهذا لان منصب الشهادة دون منصب القضاء، والشاهد يشهد في اشياء يسيرة يحتاج إليه فيها وربما أحاط بحقيقة علمها والقاضي ولايته عامة فيحكم في قضايا الناس عامة فإذا لم تقبل منه الشهادة فالقضاء اولى، وما ذكر عن شعيب عليه السلام فممنوع فانه لم يثبت انه كان اعمى ولو ثبت فيه ذلك فلا يلزم ههنا فان شعيبا عليه السلام كان من آمن معه من الناس قليلا، وربما لا يحتاجون إلى الحكم بينهم لقلتهم وتناصفهم فلا يكون حجة في مسئلتنا (التاسع) العدالة فلا يجوز تولية فاسق ولا من فيه نقص يمنع الشهادة وسنذكر ذلك في الشهادة إن شاء الله تعالى، وحكي عن الاصم انه قال يجوز ان يكون القاضي فاسقا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن اوقاتها فصلوها لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم سبحة "
ولنا قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) فأمر بالتبيين عند قول الفاسق ولا يجوز أن يكون الحاكم ممن لا يقبل قوله ويجب التبيين عند حكمه، ولان الفاسق لا يجوز أن يكون شاهدا فلئلا يجوز أن يكون قاضيا اولى فاما الخبر فاخبر بوقوع ذلك مع كونهم أمراء لا بمشروعيته والنزاع في صحة توليته لا في وجودها (العاشر) أن يكون مجتهدا وبهذا قال مالك والشافعي وبعض الحنفية، وقال بعضهم يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد لان الغرض منه فصل الخصومات فاما إذا أمكنه ذلك جاز كما يحكم بقول المقومين ولنا قول الله تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله - وقال - وان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) وروى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال " القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في
الجنة رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل جار في الحكم فهو في النار " رواه ابن ماجة والعامي يقضي على جهل ولان الحكم آكد من الفتيا لانه فتيا والزام ثم المفتي لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا فالحكم اولى فان قيل فالمفتي يجوز أن يخبر بما يسمع قلنا نعم إلا انه لا يكون مفتيا في تلك الحال وانما هو مخبر فيحتاج أن يجبر عن رجل بعينه من اهل الاجتهاد فيكون معمر لا بخبره لا بفتياه ويخالف قول المقومين لان ذلك لا تمكن الحاكم معرفته بنفسه بخلاف الحكم * (مسألة) * (وليس من شرط الحاكم أن يكون كاتبا وفيه وجه آخر انه يشترط ذلك ليعلم ما يكتبه كاتبه ولا يتمكن من اخفائه عنه)
ولنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أميا وهو سيد الحكام وليس من ضرورة الحكم الكتابة فلا تعتبر شرطا فان احتاج إلى ذلك جاز توليته لمن يعرفه كما انه قد يحتاج إلى القسمة بين الناس وليس من شرطه معرفة المساحة ويحتاج إلى التقويم وليس من شروط القضاء أن يكون عالما بقيم الاشياء * (مسألة) * (والمجتهد من يعرف من كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقيقة والمجاز والامر والنهي والمجمل والمبين والمحكم والمتشابة والخاص والعام والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ والمستثنى والمستثنى منه ويعرف من السنة صحيحها من سقيمها وتواترها من آحادها ومرسلها ومتصلها ومسندها ومنقطعها مما له تعلق بالاحكام خاصة وهي في كتاب الله تعالى نحو خمسمائة آية ولا يلزمه معرفة سائر القرآن، ومن السنة ما يتعلق بالاحكام دون سائر الاخبار ومن خبر الجنة والنار ونحوهما مما يتعلق بالاحكام وانما كان المجتهد من يعرف هذه الاشياء المذكورة لان المجتهد هو من يمكنه تعرف الصواب بدليله كالمجتهد في القبلة ومن لا يعرفه بدليله يكون مقلدا لكون يقبل قول غيره من غير معرفة بصوابه كالذي يقبل قول الدليل على الطريق من غير معرفة بصوابه وقول من يعرف جهة القبلة من غير معرفة.
وادلة الاحكام الكتاب والسنة والاجماع والقياس وجهة دلالة الكتاب والسنة من هذه الوجوه فالكلام باطلاقه يحمل على الحقيقة دون المجاز والعام الخاص إذا تعارضا قدم الخاص ويجوز تخصيص العام ولا يدخل الخاص تخصيص، والمطلق يحمل على المقيد والمقصود ان لكل واحد مما ذكرنا دلالة لا تمكن
معرفتها الا بمعرفته فوجب معرفة ذلك ليعرف دلاله ووقف الاجتهاد على معرفته لذلك ومثاله ان المجتهد في القبلة يحتاج في معرفة النجوم إلى معرفتها باعيانها وجهاتها فإذا عرف القطب احتاج إلى معرفة كونه في الجهة الشمالية وكذلك إذا عرف الشمس احتاج إلى معرفة الجهة التي تكون فيها في حال طلوعها وحال غروبها وتوسطها وهذا كذلك والمسند من السنة والمتصل واحد والمرسل الذي يكون بين الراوي وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل غير مذكور والمنقطع الذي يكون بينهما أكثر من واحد وقيل الذي يرويه من لم يدرك الصحابة عنهم.
* (مسألة) * (ويعرف ما أجمع عليه مما اختلف فيه والقياس وحدوده وشروطه وكيفية استنباط الاحكام من أصناف علوم الكتاب والسنة) وقد نص احمد على اشتراط ذلك للفتيا والحكم في معناه، وإنما اشترطوا معرفة ما أجمع عليه لان الاجتهاد إنما شرع فيما اختلف فيه أما المجمع عليه فيجب الرجوع إلى ما أجمع عليه دون غيره فيجب معرفة ذلك ليرجع في المجمع عليه إلى الاجماع وفي غيره إلى الاجتهاد وأما معرفة استنباط القياس وهو أحد أدلة الاحكام فانه لا يمكن معرفتها الا بذلك فكان معرفة ذلك من ضرورة معرفة الاحكام وأما معرفة اللغة والعربية فان أدلة الاحكام كتاب الله تعالى وسنة رسوله والكتاب عربي مبين نزل به الروح الامين بلسان عربي مبين والسنة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقوم مقامه وقد قال الله سبحانه (وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه) فيعتبر معرفة اللغة التي هي لسان الكتاب والسنة ليعرف
مقتضاها فان قيل فهذه الشروط لا تجتمع في أحد فكيف يجوز اشتراطها؟ قلنا ليس من شرطه ان يكون محيطا بهذه المعلوم احاطة تجمع أقصاها وانما يحتاج ان يعرف من ذلك ما يتعلق بالاحكام من الكتاب والسنة ولسان العرب ولا ان يحيط بجميع الاخبار الواردة في هذا فقد كان أبو بكر الصديق وعمر ابن الخطاب خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه وخير الناس بعده في حال امامتهما يسئلان الحكم فلا يعرفان ما فيه من السنة حتى يسألا الناس فيخبرا فسئل أبو بكر عن ميراث الجدة فقال مالك في كتاب
الله شئ ولا أعلم لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ولكن ارجعي حتى أسال الناس ثم قام فقال انشد الله من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجدة فقام المغيرة بن شعبة فقال اشهد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس وسأل عمر عن املاص المرأة فأخبره المغيرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بفرة ولا تشترط معرفة المسائل التي عرفها المجتهدون في كتبهم فان هذه فروع فرعها الفقهاء بعد حيازة منصب الاجتهاد فلا تكون شرطا له وهو سابق وليس من شرط الاجتهاد في مسألة ان يكون مجتهدا في كل المسائل بل من عرف ادلة مسألة وما يتعلق بها فهو مجتهد فيها وان جهل غيرها كمن عرف الفرائض وأصولها ليس من شرط اجتهاده فيها معرفته بالبيع ولذلك ما من امام الا وقد توقف في مسائل، وقيل من يجيب في كل مسألة فهو مجنون، وإذا ترك العالم لا أدرى اصيبت مقاتله وحكي عن مالك انه سئل عن اربعين مسألة فقال في ستة وثلاثين لا أدري ولم يخرجه ذلك عن كونه مجتهدا وانما المعتبر أصول هذه الامور وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله فمن عرف ذلك ورزق فهمه كان مجتهدا وصلح للفتيا والقضاء وبالله التوفيق.
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (وإذا تحاكم رجلان إلى رجل يصلح للقضاء وحكماه بينهما جاز ذلك ونفذ حكمه عليهما وبهذا قال أبو حنيفة وللشافعي قولان (أحدهما) لا يلزمه حكمه إلا بتراضيهما لان حكمه إنما يلزم بالرضى به فلا يكون الرضى إلا بعد المعرفة بحكمه.
ولنا ما روى ابو شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " إن الله هو الحكم فلم تكنى أبا الحكم؟ " قال ان قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم فرضي علي الفريقان " قال ما أحسن هذا فمن أكبر ولدك؟ " قال شريح قال " فأنت أبو شريح " أخرجه النسائي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما فهو ملعون " ولولا أن حكمه يلزمهما لما لحقه هذا الذم، ولان عمر وأبيا تحاكما إلى زيد وحاكم عمر اعرابيا إلى شريح قبل أن يوليه القضاء وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم ولم يكونوا قضاة فان قيل فعمر وعثمان كانا إمامين فإذا ردا الحكم إلى رجل صار قاضيا؟ قلنا لم ينقل عنهما الا الرضا بتحكيمه خاصة وبهذا لا يعتبر قاضيا وما ذكروه يبطل بما إذا رضي بتصرف وكيله
فانه يلزمه قبل المعرفة به إذا ثبت هذا فانه لا يجوز نقض حكمه فيما لا ينقض فيه حكم من له ولاية، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة للحاكم نقضه إذا خالف رأيه، لان هذا عقد في حق الحاكم فملك فسخه كالعقد الموقوف في حقه.
ولنا ان هذا حكم صحيح لازم فلم يجز فسخه لمخالفة رأيه كحكم من له ولاية وما ذكروه لا يصح فان حكمه لازم للخصمين فكيف يكون موقوفا؟ ولو كان كذلك لملك فسخه وان لم يخالف رأيه ولا نسلم الوقوف في العقود إذا ثبت هذا فان لكل واحد من الخصمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه
في الحكم لانه لا يثبت إلا برضاه فاشبه ما لو رجع عن التوكيل قبل التصرف، وإن رجع بعد شروعه ففيه وجهان.
(أحدهما) له ذلك لان الحكم لم يتم أشبه قبل الشروع (والثاني) ليس له ذلك لانه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحكم مالا يوافقه رجع فبطل المقصود به واختلف أصحابنا فيمن يجوز فيه التحكيم فقال أبو الخطاب ظاهر كلام احمد أن تحكيمه يجوز في كل ما يتحاكم فيه الخصمان قياسا على قاضي الامام وقال القاضي يجوز حكمه في الاموال خاصة فاما النكاح واللعان والقذف والقصاص فلا يجوز التحكيم فيها لان لهذه الاحكام مزية على غيرها فاختص حاكم الامام بالنظر فيها كالحدود وذكر صاحب المحرر فيها روايتين ولاصحاب الشافعي وجهان كهذين، وإذا كتب هذا القاضي بما حكم به كتابا إلى قاض من قضاة المسلمين لزمه قبوله وتنفيذ كتابه لانه حاكم نافذ الاحكام فلزم قبول كتابه كحاكم الامام
* (باب أدب القاضي) * ينبغي أن يكون قويا من غير عنف لينا من غير ضعف لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله ويكون حليما متأنيا ذا فطنة وتيقظ لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة صحيح السمع والبصر عالما بلغات أهل ولايته عفيفا ورعا نزها بعيدا من الطمع صدوق اللهجة ذا رأي ومشورة لكلامه
لين إذا قرب وهيبة إذا أوعد ووفاء إذا وعد ولا يكون جبارا ولا عسوفا فيقطع ذا الحجة عن حجته قال علي رضي الله عنه لا ينبغي أن يكون القاضي قاضيا حتى يكون فيه خمس خصال عفيف حليم عالم بما كان قبله يستشير ذوي الالباب لا يخاف في الله لومة لائم، وقال عمر بن عبدالعزير ينبغي للقاضي أن يكون فيه سبع خلال ان فاتته واحدة كانت فيه وصمة: العقل، والعفة، والورع، والنزاهة، والصرامة، والعلم بالسنين، والحلم، ورواه سعيد وفيه ويكون فهما حليما عفيفا صلبا سآلا عما لا يعلم وفي رواية محتملا للائمة ولا يكون ضعيفا مهينا لان ذلك يبسط المتخاصمين إلى التهاتر والتشائم بين يديه قال عمر رضي الله عنه لاعزلن فلانا عن القضاء ولاستعملن رجلا إذا رآه الفاجر فرقه.
(فصل) وله ان ينتهر الخصم إذا التوى ويصيح عليه وان استحق التعزير عزره بما يرى من أدب أو حبس وإن افتات عليه بان يقول حكمت علي بغير حق وارتشيت فله تأديبه وله وان يعفو
وان بدأ المنكر باليمين قطعها عليه وقال البينة على خصمك فان عاد نهره فان عاد عزره ان رأى وأمثال ذلك مما فيه اساءة الادب فله مقابلة فاعله وله العفو.
* (مسألة) * (وإذا ولى في غير بلده سال عمن فيه من الفقهاء والفضلاء والعدول وينفذ عند مسيره من يعلمهم يوم دخوله ليتقوه) وجملة ذلك إذا ولي في غير بلده فاراد المسير إلى بلد ولايته بحث عن قوم من أهل ذلك البلد ليسألهم عنه ويتعرف منهم ما يحتاج إلى معرفته فان لم يجد سال في طريقه فان لم يجد سال إذا دخل عن اهله ومن به من العلماء والفضلاء واهل العدالة والسير وسائر ما يحتاج إلى معرفته وإذا قرب من البلد بعث من يعلمهم بقدومه ليتلقوه.
* (مسألة) * (ويجعل دخوله يوم الاثنين أو الخميس أو السبت ان امكنه لقوله عليه الصلاة السلام بورك لامتي في سبتها وخميسها) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان إذا قدم من سفر قدم يوم الخميس ويكون لابسا اجمل ثيابه فيأتى الجامع فيصلي فيه ركعتين كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل إذا دخل المدينة ويستقبل
القبلة لانه روي " افضل المجالس ما استقل به القبلة " * (مسألة) * (فإذا اجتمع الناس أمر بعهده فقرئ عليهم ليعلموا توليته وامر من ينادي من له حاجة فليحضر يوم كذا ثم ينصرف إلى منزله الذي قد اعد له)
وأول ما يبدأ به ان يبعث إلى الحاكم المعزول فيأخذ منه ديوان الحكم وهو ما فيه وثائق الناس من المحاضر وهو نسخ ما يثبت عند الحاكم والسجلات نسخ ما حكم به وما كان عنده من حجج الناس ووثائقهم مودعة في ديوان الحكم وكانت عنده بحكم الولاية فإذا انتقلت الولاية إلى غيره كان عليه تسليمها إليه فتكون مودعة عنده في ديوانه * (مسألة) * (ثم يخرج في اليوم الذي وعد الجلوس فيه على اعدل احواله غير غضبان ولا جائع ولا شبعان ولا حاقن ولا مهموم بأمر يشغله عن الفهم) كالعطش الشديد والفرح الشديد والحزن الكبير والهم العظيم والوجع المؤلم والحر المزعج والنعاس الذي يغمر القلب ليكون اجمع لقلبه واحضر لذهنه وابلغ في تيقظه للصواب وفطنته لموضع الرأي ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان " فنص على الغضب ونبه على ما في معناه مما ذكرنا ويسلم على من يمر به ثم يسلم على من هو في مجلسه وبصلى تحية المسجد ان كان في المسجد ويجلس على بساط ولا يجلس على التراب ولا على حصر المسجد لان ذلك يذهب بهيبته من أعين الخصوم وهذه الآداب المذكورة في هذه المسألة ليست شرطا في الحكم الا الخلو من الغضب وما في معناه وفي اشتراطه روايتان وما ذكر ههنا من الجلوس على بساط ولا يجلس على التراب ولا حصر المسجد لم نعلم انه نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن احد من خلفائه والاقتداء بهم اولى ان شاء الله تعالى فيكون وجوده وعدمه سواء
* (مسألة) * (ويستعين بالله تعالى ويتوكل عليه ويدعوه سرا ان يعصمه من الزلل ويوفقه للصواب ولما يرضيه من القول والعمل ويجعل مجلسه في مكان فسيح كالجامع والقضاء الواسع في وسط البلدان
امكن ليساوي فيه الناس) (فصل) ولا يكره القضاء في الجامع والمساجد فعل ذلك شريح والحسن والشعبي ومحار ابن دثار ويحيى بن يعمر وابن أبي ليلى وابن خلدة قاض لعمر بن عبد العزيز، وروي عن عمر وعلي وعثمان انهم كانوا يقضون في المسجد قال مالك القضاء في المسجد من أمر الناس القديم وبه قال مالك واسحاق وابن المنذر، وقال الشافعي يكره ذلك الا ان ينفق خصمان عنده في المسجد لما روي ان عمر كتب إلى القاسم بن عبد الرحمن لا تقض في المسجد لانه يأتيك الحائض والجنب والذمي وتكثر غاشيته ويجري بينهم اللغط والتكاذب والتجاحد وربما أدي إلى السب وما لم تبن له المساجد ولنا اجماع الصحابة بما قد روينا عنهم وقال الشعبي رأيت عمر مستندا إلى القبلة يقضي بين الناس ولان القضاء قربة وطاعه وانصاف بين الناس ولا نعلم صحة ما رووه وقد روي عنه خلافه وأما الحائض فان عرضت لها حاجة إلى القضاء وكلت أو أتته في منزله والجنب يغتسل ويدخل والذمي يجوز دخوله باذن مسلم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في مسجده مع حاجة الناس إليه للحكومة والفتيا وغير ذلك من حوائجهم وكان أصحابه يطالب بعضهم بعضا بالحقوق في المسجد وربما رفعوا اصواتهم فقد روي عن كعب ابن مالك قال تقاضيت ابن أبي حدرد دينا في المسجد حتى ارتفعت اصواتنا فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأشار الي ضع من ديتك الشطر فقلت نعم يا رسول الله فقال " قم فاقضه "
* (مسألة) * (ولا يتخذ حاجبا ولا بوابا يحجب الناس عن الوصول إليه) لما روى القاسم بن مخيمرة عن أبي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال " من ولي من أمور الناس شيئا واحتجب دون حاجتهم احتجب الله دون حاجته وفاقته وفقره " رواه الترمذي ولان حاجبه ربما قدم المتأخر وأخر المتقدم لغرض له وربما كسرهم بحجبهم والاستئذان لهم ولا بأس باتخاذ حاجب في غير مجلس القضاء لانه يحتاج إلى الخلوة بنفسه * (مسألة) * (ويعرض القصص فيبدأ بالاول فالاول) لان الاول سبق فقدم كما لو سبق إلى موضع مباح ولا يقدم السابق في أكثر من حكومة واحدة
لئلا يستوعب المجلس بدعاويه فيضر بغيره فان حضروا دفعة واحدة وتشاحوا اقرع بينهم فقدم من تقع له القرعة ويعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه والدخول عليه الا ان يكون احدهما كافرا فيقدم المسلم عليه في الدخول ويرفعه في الجلوس لحرمة الاسلام فان الله تعالى قال (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) ووجه وجوب العدل بين الخصمين فيما ذكرنا ما روى عمرو بن شبة في كتاب القضاة باسناده عن ام سلمة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه سلم قال " من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لفظه واشارته ومقعده ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين ولا يرفعه على الاخر " وفي رواية " فليسو بينهم في النظر والمجلس والاشارة " ولانه إذا ميز احد الخصمين عن الآخر حصر وانكسر وربما لم يقم حجته فادى ذلك إلى ظلمه وقيل يسوي بين المسلم والكافر لان العدل يقتضي ذلك ولا يسار
(احداهما) ولا يلقنه حجته لما فيه من الضرر ولا يضيفه لانه يكسر قلب صاحبه وروي مثل ذلك عن علي الا ان يضيف صاحبه معه لما روي عن علي كرم الله وجهه انه نزل به رجل فقال له انك خصم قال نعم قال تحول عنا فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تضيفوا أحد الخصمين الا وخصمه معه " * (مسألة) * (ولا يعلمه كيف يدعي في احد الوجهين لما ذكرنا وفي الآخر له تحرير الدعوى إذا لم يحسن تحريرها).
لانه لا ضرر على خصمه وله ان يشفع إلى خصمه لينظره أو يضع عنه ويزن عنه لان النبي صلى الله عليه وسلم شفع إلى كعب بن مالك في ان يحط عن ابن أبي حدرد بعض دينه وله ان يزن عن المدعى عليه ما وجب عليه لانه نفع لخصمه ولا يكون الا بعد انقضاء الحكم * (مسألة) * (ويحضر مجلسه الفقهاء من كل مذهب) حتى إذا حدثت حادثه يفتقر إلى سؤالهم عنها سألهم ليذكروا ادلتهم فيها وجوابهم عنها فانه اسرع لاجتهاده وأقرب لصوابه وان حكم باجتهاده فليس لاحد منهم الاعتراض عليه وان خالف اجتهاده ولان فيه افتياتا عليه الا ان يحكم بما يخالف نصا أو اجماعا ويستحب ان يشاورهم فيما يشكل عليه لقول الله سبحانه (وشاورهم في الامر) قال الحسن ان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لغنيا عن مشورتهم
وانما أراد أن يستن بذلك الحكام بعده وقد شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في اسارى بدر وفي مصالحة الكفار يوم الخندق وشاور أبو بكر رضي الله عنه الناس في ميراث الجدة وعمر في دية الجنين وشاور
في حد الخمر وروي ان عمر كان يكون عنده جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف إذا نزل به الامر شاورهم فيه ولا مخالف في استحباب ذلك قال أحمد لما ولي سعد بن ابراهيم قضاء المدينة كان يجلس بين القاسم وسالم ويشاورهما وولي محارب بن دثار قضاء الكوفه فكان يجلس بين الحكم وحماد يشاورهما، ما أحسن هذا لو كان الحكام يفعلونه يشاورون ويتتظرون لانه يتنبه بالمشاورة ويتذكر ما نسيه بالمذاكرة ولان الاحاطة بجميع العلوم متعذرة وقد يتنبه لاصابة الحق ومعرفة الحادثة من من هو دون القاضي فكيف بمن يساويه؟ فقد روي أن ابا بكر الصديق رضي الله عنه جاءته الجدتان فورث ام الام واسقط ام الاب فقال له عبد الرحمن ابن سهل يا خليفه رسول الله لقد اسقطت التي لو ماتت ورثها وورثت التي لو ماتت لم يرثها فرجع أبو بكر فاشرك بينهما.
إذا ثبت هذا فانه يشاور اهل العلم والامانة لان من ليس كذلك لا قول له في الحادثة ولا يسكن إلى قوله قال سفيان وليكن اهل مشورتك اهل التقوي واهل الامانة ويشاور الموافقين والمخالفين ويسألهم عن حججهم يبين له الحق * (مسألة) * (والمشاورة ههنا لاستخراج الادلة وتعرف الحق بالاجتهاد) * (مسألة) * فان اتضح له الحكم حكم وإلا اخره ولا يقلد غيره وان كان اعلم منه لا يجوز تقليد غيره سواء ظهر الحق فخالفه غيره فيه أو لم يظهر له شئ وسواء ضاق الوقت أو لم يضق وكذلك ليس للمفتي الفتيا بالتقليد وبهذا قال الشافعي وابو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة إذا كان الحاكم من اهل الاجتهاد جاز له ترك رأيه لرأي من هو افقه منه عنده إذا صار إليه فهو ضرب من الاجتهاد لانه يعتقد أنه افقه منه بطريق الاجتهاد
ولنا أنه من أهل الاجتهاد فلم يجز له تقليد غيره كما لو كان مثله كالمجتهدين في القبلة وما ذكروه لا يصح فان هو أفقه منه يجوز عليه الخطأ فإذا اعتقد ان ما قاله خطأ لم يجز له ان يعمل به وان كان
لم يبن له الحق فلا يجوز له ان يحكم بما يجوز ان يبين له خطؤه إذا اجتهد * (مسألة) * (ولا يقضي وهو غضبان ولا حاقن ولا في شدة الجوع والعطش والهم والوجع والنعاس والبرد المؤلم والحر المزعج فان خالف وحكم فوافق الحق نفذ حكمه وقال القاضي لا ينفذ وقيل ان عرض له ذلك بعد فهم الحكم جاز وإلا فلا) لا خلاف بين أهل العلم فيما علمنا في ان القاضي لا ينبغي له ان يقضي وهو غضبان كره ذلك شريح وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة والشافعي لما روي ان ابا بكرة كتب إلى ابنه عبد الله وهو قاض بسجستان لا تحكم بين اثنين وانت غضبان فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يحكم احد بين اثنين وهو غضبان " متفق عليه وروي عن عمر انه كتب إلى ابي موسى اياك والقلق والغضب والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة فإذا رأيت الخصم يتعمد فاوجع رأسه، ولانه إذا غضب تغير عقله ولم يستوف رأيه وفكره وفي معنى الغضب كلما يشغل فكره من الجوع المفرط والعطش الشديد والجوع المزعج ومدافعة احد الاخبثين وشدة النعاس والهم والغم والحزن والفرح فهذه كلها تمنع الحكم لانها تمنع حضور القلب واستيفاء الفكر الذي يتوصل به إلى اصابة الحق في الغالب فهي في معنى الغضب المنصوص عليه فتجري مجراه فان خالف وحكم في الغضب أو ما شاكله فوافق الحق نفذ قضاؤه
ذكره القاضي في المجرد وهو مذهب الشافعي وحكي عن القاضي انه لا ينفذ لانه منهي عنه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه الزبير ورجل من الانصار في شراج الحرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اسق ثم ارسل إلى جارك " فقال الانصاري أن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للزبير " اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر " متفق عليه فحكم في حال غضبه وقال بعض اهل العلم انما يمنع الغضب الحكم إذا كان قبل أن يتضح حكم المسألة للحاكم لانه يشغله عن استيفاء النظر فيها فاما ما حدث بعد اتضاح الحكم فلا يمنعه لان الحق قد استبان قبله كغضب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: