إذ قال يوسف لأبيه
( إذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِين )
ما قال له ( إنّي رأيت في منامي ) كما قال
سيدنا إبراهيم عليه السلام لإبنه سيدنا إسماعيل عليه السلام ( يا بنيّ إنّي أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ) بل قال سيدنا يوسف هنا ( إنّي رأيت ) وهذا يعطي الكشف المنامي لما سيكون في المستقبل أكثر منه مجرّد الرؤيا فهو إخبار من يوسف لأبيه على وجه الصدق لما سيكون من حاله في مستقبله لهذا قال بعد أن تمّ الأمر ( وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) أي جعلها حقّا كما قصصتها عليك بلا زيادة ولا نقصان.
ومن لطائف هذه الآية أنّ المريد يشترط عليه كتم حاله وما يكاشف به سواء في الرؤى أو في الكشف الصحيح ولا يصارح إلاّ شيخه بذلك فهو أعلم بما يراه منه كما قال يعقوب عليه السلام ( لا تقصص رؤياك على إخوتك ) ثمّ أوضح له سبب ذلك في قوله ( فيكيدوا لك كيدا ) حتى لا يترك منفذا للشيطان إلى الدخول فيما بينهم فقال كما قال تعالى ( إنّ الشيطان للإنسان عدوّ مبين ) لما عند الأنبياء وعلى آثارهم المشائخ من معرفة لمداخل الشيطان وأنّه يفسد الوداد بين الأحبّة والخلاّن فإنّ غاية الشيطان استراق السمع سماع الوحي كيفما كان وعلى لسان أينما كان ونحن هنا لو نفتح قوسا كي نذكر منهج النبيّ عليه الصلاة والسلام في حكاية المغيبات لأدركنا عظيم معرفته عليه الصلاة والسلام بمداخل الشيطان والنفس ومثالا على ذلك فإنّه عليه الصلاة والسلام ذكر ما سيكون في أمّته إلى يوم القيامة ولكن ذكره بجوامع كلمه الذي يعجز إبليس لعنه الله تعالى في تحديد ماهيته ووقته وكيفياته .. وهنا هناك علوم جمّة عزيزة.
لذا قال سيدي ابن عطاء الله السكندري في حكمة من حكمه ( عباراتهم إما لفيضان وجد أو لقصد هداية مريد فالأول حال السالكين والثاني حال أرباب المكنة والمحققين ) لأنّ الكأس متى إمتلأت فاضت بعد ذلك وفي حكاية سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه قوله ( تعلّق باطني بالعالم العلوي حتى سيطر ذلك على قلبي فشكوت ذلك إلى شيخي فقال لي ( ضعه في كتاب تتخلّص منه فكان ذلك سبب تأليفي كتاب " مفتاح الشهود في مظاهر الوجود " ) – نقلته بالمعنى –
قال سيدي ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه ( إستشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك دليل على عدم صدقك في عبوديتك )
قال بعض العارفين رضي الله عنه من أحبّ أن يطلع الناس على عمله فهو مراء ومن أراد أن يطلع الناس على حاله فهو كذاب.
قال سيدي ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه ( لا ينبغي للسالك أن يعبر عن وارداته فإن ذلك يقل عملها في قلبه ويمنعه وجود الصدق مع ربه ) فلا يجب الإغترار كثيرا بمن يكتب وارداته أو يحكي رؤياه للعامّة والخاصّة وإنّي العبد الضعيف لا أكتب ما أكتبه باعتباره من الواردات فلو كنت أعتبرها كذلك ما كتبت حرفا كما قال شيخنا سيدي إسماعيل رضي الله عنه في إحدى قصائده موجّها حديثه لشيخه سيدي محمد المداني رضي الله عنه ( وعندي من الاشواق ما لم أبح به --- فأنت طبيبي عالما بالخفية ) لأنّ الطبيب يداوي صاحب الشوق فيسقيه من كأس المحبّة كما قال سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه ( سقيت من كأس الحبّ ثمّ ملكته --- فصار ملكا لديّ في مدّة الدهر ).
أمّا أهل الإذن من ساداتنا العارفين كالشيخ الأكبر رضي الله عنه وغيره كثير رضي الله تعالى عنهم فهم ما كتبوا إلاّ بإذن إلهي فحكوا ما أذنوا لهم فيه كي ينتفع به من يقف عليه من بعدهم وفي زمانهم من أهل الله تعالى فلربّما تجد وليّا ما كتب حرفا أعلى مقاما من وليّ كتب آلاف الكتب ( وكلّهم من رسول الله ملتمس --- غرفا من البحر أو رشفا من الديم ) فلو لم يكتب أحد لما برزت المعارف الربانية والفيوضات الأقدسية ولما اشرقت على الخلق الأنوار المحمدية كما كتب الشيخ سيدي محمد البوصيري رضي الله عنه بردته وهمزيته بلسان الحبّ والشوق على بساط المعرفة والعلم فوق نوق البوح ...
ومن لطائف الآية أنّ المريد عليه أن يصارح شيخه ولا يكتمه شيئا ممّا تحلّى به في باطنه أو كاشفه الله تعالى به لأنّ كتمان ذلك عن شيخه يفسد بذرة الإرادة لئلاّ يتوهّم المريد أنّ ما أوتيه فاق ما عند شيخه فيغترّ بذلك فيفسد عليه إرادته وكذلك فلربما ما كوشف به المريد من تجليات الشيطان أو شديد مكره بالمريدين أو ربّما لما في نفسه من أمراض وأسقام فمن صارح شيخه فقد عرض حالته على الطبيب ولهذا جُعل الاشياخ .. وقد أفاض في هذه المباحث سيدي الإمام عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه في الكثير من كتبه النافعة ..
قال تعالى ( إذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ).
كان يوسف في أسمى معاني الصدق والصفاء بما أنّه صدّيق لمّا رأى رؤياه ولمّا قصّها على أبيه فكان كامل الصحو عند رؤياه ومتثبتا من مشهد ما يراه بما أنّه عدّد الكواكب فذكرها بعددها أحد عشر كوكبا فكانت هناك رؤيتان : رؤية أولى ( رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ) ثمّ رؤية ثانية وهي قوله ( رأيتهم لي ساجدين ) فكانت في الرؤيا آداب منها : أنّه ذكر مقامات إخوته المعبّر عنهم في الرؤيا ( بأحد عشر كوكبا ) فحفظ مقاماتهم وما غمطها لهم ثمّ ذكر مقام أبيه وأمّه في قوله ( والشمس والقمر ) فحفظ مقاميهما ثمّ ذكر بعد ذلك مقامه السامي عليه السلام في قوله ( رايتهم لي ساجدين ) فأخبر عن رفعة مقامه مقارنة بمقام إخوته لأنّ الرفعة تكون من جنس المرفوع التي هي الكواكب بينما لا تكون الرفعة على غير جنس المرفوع لهذا ذكر خصوصية مقامه مقارنة مع مقام والديه ومن الآداب أنّه ذكر إخوته قبل ذكره والديه فكان تركيب ألفاظ قصّة الرؤيا كما حكاها يوسف نهاية في الأدب مع والديه وإخوته عليهم جميعا السلام فأثبت المقامات ثمّ أتبعها بذكر خصوصيته ..
ثمّ قال ( رايتهم لي ساجدين ) فما قال مثلا ( رايتهم لي عابدين ) فما قال الله تعالى للملائكة ( أعبدوا آدم ) بل قال لهم ( أسجدوا لآدم فسجدوا ) فيعطيك هذا أنّ السجود لا يكون عبادة إلاّ متى صاحبت نيّة العبادة السجود فصحّ هنا سجود التكريم وإنّما لم يشرّع سجود التكريم في الشرائع لما فيه من شبهة عبادة غير الله تعالى لذا رفض إبليس لعنه الله تعالى السجود لآدم أي رفض الإعتراف بكرامته بدليل قوله ( قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي ) فما قال مثلا ( هذا الذي أمرتني بعبادته ) لذا قال ( أأسجد لمن خلقت طينا ) هنا تفهم وتفقه أنّ دخول الشيطان عند بوحك بما خصّك الله تعالى به أمر خطير فإنّما هو دخول عداوة إبليسية ضدّك ففتحت على نفسك باب النزاع مع شياطين الإنس والجان لهذا قال يعقوب عليه السلام لما نهاه عن قصّ الرؤيا على إخوته ( إنّ الشيطان للإنسان عدوّ مبين ) فهذا أعظم باب يدخل منه إبليس لعنه الله تعالى لأنّه الباب الذي طرد بسببه بعد أن رفض تكريم آدم عليه فانظر هنا وتمعّن في معرفة سيدنا يعقوب بمداخل الشيطان في هذا الباب تحديدا ..
فلمّا أخبر المريد سيدنا يوسف عليه السلام شيخه وهو سيدنا يعقوب عليه السلام وقصّ عليه رؤياه تصدّر هنا لحماية يوسف فتلك وظيفة الشيخ في كلّ زمان ومكان فقال له :
قال تعالى : ( قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ).
فكان أوّل أمره قصده حماية مريده التي ستتولاّه يد القدرة الإلهية فيما بعد ذلك كما سنذكر الفرق إن شاء الله تعالى بين الكيد وبين المكر كما قال تعالى في آية (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً ) وقال تعالى ( وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) رغم أنّ كيد الله تعالى ومكره يكون بالكافرين إلاّ أنّه يكون أيضا بالكائدين من المؤمنين وبالماكرين من المؤمنين وإن كان ليس على قياس واحد قال تعالى في خصوص المكر ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) فالكيد غير المكر فما قال يعقوب لإبنه ( يمكرون بك ) بل قال ( فيكيدوا لك كيدا ) وإن كانتا صفتين إبليسيتين وإنّما يكيد الله تعالى للمؤمنين في مقابلة كيد الكافرين لهم وهكذا في المكر لذا قال تعالى (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ).
ثمّ انّ يعقوب عليه السلام لم يخش من نفسه على إبنه أو أنّه خشي من أمّه على إبنها بل خشي من إخوته عليه لأنّهم من جنس مقامه لما رأى أحد عشر كوكبا فهو الكوكب الثاني عشر فلا يخشى الرسول أو النبيّ على أصحابه وأتباعه منه بل يخشى عليهم من بعضهم البعض لذا قال عليه الصلاة والسلام ( لا ترجعوا من بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ) وهكذا كلّ شيخ إنّما يخشى ما يقع فيما بين مريديه لهذا تراه جاهدا يخفي صاحب سرّه من بعده لما للشيطان من سطوة العداوة هناك.
قد يسأل سائل : هل يدخل إبليس لعنه الله تعالى حتّى فيما بين المريدين بخصوص المقامات العالية الملكوتية ؟ الجواب : نعم يدخل بل أخطر باب يدخل منه إبليس لعنه الله تعالى لهذا كان عليه الصلاة والسلام يعطي وساما لكلّ صاحب من صحابته لذا قال أحد الصحابة رضي الله عنه في معنى كلامه وحديثه ( كان كلّ واحد منّا يظنّ أنّه أحبّ الخلق إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ) هذا كي تستشعر أهميّة التربية وأنّها وظيفة ربانية لا سبيل لإكتسابها بالمزاحمة والطلب ..
( قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ).
فوقع المحذور الذي كان يخافه ويخشاه وهو ظهور تخصيص يوسف على إخوته في محضرهم فعلم عليه السلام أنّ الأمر لن يمرّ بسلام فأبعده الله تعالى عنهم من حيث أرادوا الكيد له فكانت المنحة في المحنة وإنّما أمره بعدم قصّ رؤياه على إخوته لما يعلمه من بواطن أبنائه بخصوص يوسف وأخيه تستشعره عند قولهم ( إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ) فقد كان عليه السلام يعلم ما عليه باطن أبنائه قبل قصّة الرؤيا بخصوص يوسف وأخيه لهذا قال له منبّها كي لا يستسهل وصية والده أو لا يأخذها على محمل الجدّ لما في قلبه من الصفاء التام ( فيكيدوا لك كيدا ) فأخافه هنا من كيدهم زجرا لئلاّ يقصّ عليهم رؤياه لما يعلمه عليه السلام من حالة الصفاء التي عليها يوسف لذا ما تناول يعقوب حديثا غير حديث الوصية والأمر بعدم قصّ رؤياه على إخوته رغم أنّهم إخوته في المقامين الصلبي والروحي فأراد عليه السلام ستر سرّ يوسف ولكن قدر الله تعالى ماضي ونوره ظاهر ...
ومن الإسترواح في قوله تعالى ( والله متمّ نوره ولو كره الكافرون ) في هذا المعنى الذي نحن بصدده مع مراعاة فارق تفسير الآية بعد القياس أنّ الله تعالى متمّ نور نبيّه أو وليّه ولو كره الكافر بذلك النور كما كفر بداية إخوة يوسف بنور يوسف ونعني بالكفر هنا عدم الإعتراف به أو مزاحمته ولكنهم في الأخير اعترفوا عليهم السلام فكم من وليّ يكفر الخلق بنوره ولكن النهاية تكون لظهور ذلك النور لأنّ الله تعالى يقول ( والله متمّ نوره ) لهذا قال له ( وليتمّ نعمته عليك ) أي ظهور خصوصيتك التامّة فتشرق كالبدر ليلة التمام لأنّها من عند الله تعالى ليس فيها حظّ نفس أو شيطان بل هي وهب خالص من عند لله تعالى.
ثمّ قال ( إنّ الشيطان للإنسان عدوّ مبين ) فذكر هنا الإنسان بالتعريف وهو الإنسان الكامل فأخبر عليه السلام إبنه أنّ هذا المقام السامي يحاربه الشيطان غاية إذ بسببه طرد من الحضرة وأخرج من الجنّة فهو المقام الذي تسبب في لعنه وطرده حسب رأيه ثمّ إنّ لفظة الإنسان فيها إشارة هنا إلى مقام الخلافة في الأرض ..
ما قال له ( إنّي رأيت في منامي ) كما قال
سيدنا إبراهيم عليه السلام لإبنه سيدنا إسماعيل عليه السلام ( يا بنيّ إنّي أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ) بل قال سيدنا يوسف هنا ( إنّي رأيت ) وهذا يعطي الكشف المنامي لما سيكون في المستقبل أكثر منه مجرّد الرؤيا فهو إخبار من يوسف لأبيه على وجه الصدق لما سيكون من حاله في مستقبله لهذا قال بعد أن تمّ الأمر ( وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) أي جعلها حقّا كما قصصتها عليك بلا زيادة ولا نقصان.
ومن لطائف هذه الآية أنّ المريد يشترط عليه كتم حاله وما يكاشف به سواء في الرؤى أو في الكشف الصحيح ولا يصارح إلاّ شيخه بذلك فهو أعلم بما يراه منه كما قال يعقوب عليه السلام ( لا تقصص رؤياك على إخوتك ) ثمّ أوضح له سبب ذلك في قوله ( فيكيدوا لك كيدا ) حتى لا يترك منفذا للشيطان إلى الدخول فيما بينهم فقال كما قال تعالى ( إنّ الشيطان للإنسان عدوّ مبين ) لما عند الأنبياء وعلى آثارهم المشائخ من معرفة لمداخل الشيطان وأنّه يفسد الوداد بين الأحبّة والخلاّن فإنّ غاية الشيطان استراق السمع سماع الوحي كيفما كان وعلى لسان أينما كان ونحن هنا لو نفتح قوسا كي نذكر منهج النبيّ عليه الصلاة والسلام في حكاية المغيبات لأدركنا عظيم معرفته عليه الصلاة والسلام بمداخل الشيطان والنفس ومثالا على ذلك فإنّه عليه الصلاة والسلام ذكر ما سيكون في أمّته إلى يوم القيامة ولكن ذكره بجوامع كلمه الذي يعجز إبليس لعنه الله تعالى في تحديد ماهيته ووقته وكيفياته .. وهنا هناك علوم جمّة عزيزة.
لذا قال سيدي ابن عطاء الله السكندري في حكمة من حكمه ( عباراتهم إما لفيضان وجد أو لقصد هداية مريد فالأول حال السالكين والثاني حال أرباب المكنة والمحققين ) لأنّ الكأس متى إمتلأت فاضت بعد ذلك وفي حكاية سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه قوله ( تعلّق باطني بالعالم العلوي حتى سيطر ذلك على قلبي فشكوت ذلك إلى شيخي فقال لي ( ضعه في كتاب تتخلّص منه فكان ذلك سبب تأليفي كتاب " مفتاح الشهود في مظاهر الوجود " ) – نقلته بالمعنى –
قال سيدي ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه ( إستشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك دليل على عدم صدقك في عبوديتك )
قال بعض العارفين رضي الله عنه من أحبّ أن يطلع الناس على عمله فهو مراء ومن أراد أن يطلع الناس على حاله فهو كذاب.
قال سيدي ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه ( لا ينبغي للسالك أن يعبر عن وارداته فإن ذلك يقل عملها في قلبه ويمنعه وجود الصدق مع ربه ) فلا يجب الإغترار كثيرا بمن يكتب وارداته أو يحكي رؤياه للعامّة والخاصّة وإنّي العبد الضعيف لا أكتب ما أكتبه باعتباره من الواردات فلو كنت أعتبرها كذلك ما كتبت حرفا كما قال شيخنا سيدي إسماعيل رضي الله عنه في إحدى قصائده موجّها حديثه لشيخه سيدي محمد المداني رضي الله عنه ( وعندي من الاشواق ما لم أبح به --- فأنت طبيبي عالما بالخفية ) لأنّ الطبيب يداوي صاحب الشوق فيسقيه من كأس المحبّة كما قال سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه ( سقيت من كأس الحبّ ثمّ ملكته --- فصار ملكا لديّ في مدّة الدهر ).
أمّا أهل الإذن من ساداتنا العارفين كالشيخ الأكبر رضي الله عنه وغيره كثير رضي الله تعالى عنهم فهم ما كتبوا إلاّ بإذن إلهي فحكوا ما أذنوا لهم فيه كي ينتفع به من يقف عليه من بعدهم وفي زمانهم من أهل الله تعالى فلربّما تجد وليّا ما كتب حرفا أعلى مقاما من وليّ كتب آلاف الكتب ( وكلّهم من رسول الله ملتمس --- غرفا من البحر أو رشفا من الديم ) فلو لم يكتب أحد لما برزت المعارف الربانية والفيوضات الأقدسية ولما اشرقت على الخلق الأنوار المحمدية كما كتب الشيخ سيدي محمد البوصيري رضي الله عنه بردته وهمزيته بلسان الحبّ والشوق على بساط المعرفة والعلم فوق نوق البوح ...
ومن لطائف الآية أنّ المريد عليه أن يصارح شيخه ولا يكتمه شيئا ممّا تحلّى به في باطنه أو كاشفه الله تعالى به لأنّ كتمان ذلك عن شيخه يفسد بذرة الإرادة لئلاّ يتوهّم المريد أنّ ما أوتيه فاق ما عند شيخه فيغترّ بذلك فيفسد عليه إرادته وكذلك فلربما ما كوشف به المريد من تجليات الشيطان أو شديد مكره بالمريدين أو ربّما لما في نفسه من أمراض وأسقام فمن صارح شيخه فقد عرض حالته على الطبيب ولهذا جُعل الاشياخ .. وقد أفاض في هذه المباحث سيدي الإمام عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه في الكثير من كتبه النافعة ..
قال تعالى ( إذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ).
كان يوسف في أسمى معاني الصدق والصفاء بما أنّه صدّيق لمّا رأى رؤياه ولمّا قصّها على أبيه فكان كامل الصحو عند رؤياه ومتثبتا من مشهد ما يراه بما أنّه عدّد الكواكب فذكرها بعددها أحد عشر كوكبا فكانت هناك رؤيتان : رؤية أولى ( رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ) ثمّ رؤية ثانية وهي قوله ( رأيتهم لي ساجدين ) فكانت في الرؤيا آداب منها : أنّه ذكر مقامات إخوته المعبّر عنهم في الرؤيا ( بأحد عشر كوكبا ) فحفظ مقاماتهم وما غمطها لهم ثمّ ذكر مقام أبيه وأمّه في قوله ( والشمس والقمر ) فحفظ مقاميهما ثمّ ذكر بعد ذلك مقامه السامي عليه السلام في قوله ( رايتهم لي ساجدين ) فأخبر عن رفعة مقامه مقارنة بمقام إخوته لأنّ الرفعة تكون من جنس المرفوع التي هي الكواكب بينما لا تكون الرفعة على غير جنس المرفوع لهذا ذكر خصوصية مقامه مقارنة مع مقام والديه ومن الآداب أنّه ذكر إخوته قبل ذكره والديه فكان تركيب ألفاظ قصّة الرؤيا كما حكاها يوسف نهاية في الأدب مع والديه وإخوته عليهم جميعا السلام فأثبت المقامات ثمّ أتبعها بذكر خصوصيته ..
ثمّ قال ( رايتهم لي ساجدين ) فما قال مثلا ( رايتهم لي عابدين ) فما قال الله تعالى للملائكة ( أعبدوا آدم ) بل قال لهم ( أسجدوا لآدم فسجدوا ) فيعطيك هذا أنّ السجود لا يكون عبادة إلاّ متى صاحبت نيّة العبادة السجود فصحّ هنا سجود التكريم وإنّما لم يشرّع سجود التكريم في الشرائع لما فيه من شبهة عبادة غير الله تعالى لذا رفض إبليس لعنه الله تعالى السجود لآدم أي رفض الإعتراف بكرامته بدليل قوله ( قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي ) فما قال مثلا ( هذا الذي أمرتني بعبادته ) لذا قال ( أأسجد لمن خلقت طينا ) هنا تفهم وتفقه أنّ دخول الشيطان عند بوحك بما خصّك الله تعالى به أمر خطير فإنّما هو دخول عداوة إبليسية ضدّك ففتحت على نفسك باب النزاع مع شياطين الإنس والجان لهذا قال يعقوب عليه السلام لما نهاه عن قصّ الرؤيا على إخوته ( إنّ الشيطان للإنسان عدوّ مبين ) فهذا أعظم باب يدخل منه إبليس لعنه الله تعالى لأنّه الباب الذي طرد بسببه بعد أن رفض تكريم آدم عليه فانظر هنا وتمعّن في معرفة سيدنا يعقوب بمداخل الشيطان في هذا الباب تحديدا ..
فلمّا أخبر المريد سيدنا يوسف عليه السلام شيخه وهو سيدنا يعقوب عليه السلام وقصّ عليه رؤياه تصدّر هنا لحماية يوسف فتلك وظيفة الشيخ في كلّ زمان ومكان فقال له :
قال تعالى : ( قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ).
فكان أوّل أمره قصده حماية مريده التي ستتولاّه يد القدرة الإلهية فيما بعد ذلك كما سنذكر الفرق إن شاء الله تعالى بين الكيد وبين المكر كما قال تعالى في آية (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً ) وقال تعالى ( وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) رغم أنّ كيد الله تعالى ومكره يكون بالكافرين إلاّ أنّه يكون أيضا بالكائدين من المؤمنين وبالماكرين من المؤمنين وإن كان ليس على قياس واحد قال تعالى في خصوص المكر ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) فالكيد غير المكر فما قال يعقوب لإبنه ( يمكرون بك ) بل قال ( فيكيدوا لك كيدا ) وإن كانتا صفتين إبليسيتين وإنّما يكيد الله تعالى للمؤمنين في مقابلة كيد الكافرين لهم وهكذا في المكر لذا قال تعالى (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ).
ثمّ انّ يعقوب عليه السلام لم يخش من نفسه على إبنه أو أنّه خشي من أمّه على إبنها بل خشي من إخوته عليه لأنّهم من جنس مقامه لما رأى أحد عشر كوكبا فهو الكوكب الثاني عشر فلا يخشى الرسول أو النبيّ على أصحابه وأتباعه منه بل يخشى عليهم من بعضهم البعض لذا قال عليه الصلاة والسلام ( لا ترجعوا من بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ) وهكذا كلّ شيخ إنّما يخشى ما يقع فيما بين مريديه لهذا تراه جاهدا يخفي صاحب سرّه من بعده لما للشيطان من سطوة العداوة هناك.
قد يسأل سائل : هل يدخل إبليس لعنه الله تعالى حتّى فيما بين المريدين بخصوص المقامات العالية الملكوتية ؟ الجواب : نعم يدخل بل أخطر باب يدخل منه إبليس لعنه الله تعالى لهذا كان عليه الصلاة والسلام يعطي وساما لكلّ صاحب من صحابته لذا قال أحد الصحابة رضي الله عنه في معنى كلامه وحديثه ( كان كلّ واحد منّا يظنّ أنّه أحبّ الخلق إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ) هذا كي تستشعر أهميّة التربية وأنّها وظيفة ربانية لا سبيل لإكتسابها بالمزاحمة والطلب ..
( قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ).
فوقع المحذور الذي كان يخافه ويخشاه وهو ظهور تخصيص يوسف على إخوته في محضرهم فعلم عليه السلام أنّ الأمر لن يمرّ بسلام فأبعده الله تعالى عنهم من حيث أرادوا الكيد له فكانت المنحة في المحنة وإنّما أمره بعدم قصّ رؤياه على إخوته لما يعلمه من بواطن أبنائه بخصوص يوسف وأخيه تستشعره عند قولهم ( إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ) فقد كان عليه السلام يعلم ما عليه باطن أبنائه قبل قصّة الرؤيا بخصوص يوسف وأخيه لهذا قال له منبّها كي لا يستسهل وصية والده أو لا يأخذها على محمل الجدّ لما في قلبه من الصفاء التام ( فيكيدوا لك كيدا ) فأخافه هنا من كيدهم زجرا لئلاّ يقصّ عليهم رؤياه لما يعلمه عليه السلام من حالة الصفاء التي عليها يوسف لذا ما تناول يعقوب حديثا غير حديث الوصية والأمر بعدم قصّ رؤياه على إخوته رغم أنّهم إخوته في المقامين الصلبي والروحي فأراد عليه السلام ستر سرّ يوسف ولكن قدر الله تعالى ماضي ونوره ظاهر ...
ومن الإسترواح في قوله تعالى ( والله متمّ نوره ولو كره الكافرون ) في هذا المعنى الذي نحن بصدده مع مراعاة فارق تفسير الآية بعد القياس أنّ الله تعالى متمّ نور نبيّه أو وليّه ولو كره الكافر بذلك النور كما كفر بداية إخوة يوسف بنور يوسف ونعني بالكفر هنا عدم الإعتراف به أو مزاحمته ولكنهم في الأخير اعترفوا عليهم السلام فكم من وليّ يكفر الخلق بنوره ولكن النهاية تكون لظهور ذلك النور لأنّ الله تعالى يقول ( والله متمّ نوره ) لهذا قال له ( وليتمّ نعمته عليك ) أي ظهور خصوصيتك التامّة فتشرق كالبدر ليلة التمام لأنّها من عند الله تعالى ليس فيها حظّ نفس أو شيطان بل هي وهب خالص من عند لله تعالى.
ثمّ قال ( إنّ الشيطان للإنسان عدوّ مبين ) فذكر هنا الإنسان بالتعريف وهو الإنسان الكامل فأخبر عليه السلام إبنه أنّ هذا المقام السامي يحاربه الشيطان غاية إذ بسببه طرد من الحضرة وأخرج من الجنّة فهو المقام الذي تسبب في لعنه وطرده حسب رأيه ثمّ إنّ لفظة الإنسان فيها إشارة هنا إلى مقام الخلافة في الأرض ..
الكلمات المفتاحية :
حدائق القرأن
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: