ابن تيمية و التصوف
ابن تيمية و التصوف |
الفصل الأول
موقف ابن تيمية من نشأة التصوف وأصوله وضوابطه
أولا: موقف ابن تيمية من اصطلاح التصوف والصوفية
من حيث السنة والبدعة
لم يكن ابن تيمية ممن يؤثر عنه القول ببدعية لفظ الصوفية كما يجنح إلى ذلك كثير من متأخري أهل السنة، فقد قال ابن تيمية أن هذا اللفظ لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، ونُقِلَ التكلم به عن غير واحد من
الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد وأبي سليمان الداراني وغيرهما، كما رُوِيَ عن سفيان الثوري أنه تكلم به وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري وتنازعوا في "المعنى" الذي أضيف إليه الصوفي –فإنه من أسماء النسب كالقرشي، والمدني وأمثال ذلك وهذه الدقة في قول ابن تيمية توضح قاعدة التفريق بين شهرة المصطلح وبين وجوده، فالوجود غير الشهرة.
وهنا يجب الإشارة أن القول ببدعية هذا الاصطلاح أقل ما يوصف به السطحية، لأن الاصطلاح لا يقف عند القرون الثلاثة المفضلة، فهذه القرون الثلاثة المفضلة المشهور لها بالخيرية لما كانت عليها من منهج وعقيدة، والمشاحة ليست في الاصطلاح، وإنما فيما تحمله من معانٍ، فالاصطلاح إنما يكون من باب التصنيف لا التعبد، وما نشأت اصطلاحات المسلمين إلا في أوقات متأخرة عن عهد النبوة، ولم يقل أحد ببدعيتها.
كما أنه يمكن إلزام من قال أن مطلق اللفظ بدعة إلزامه بتبديع السلف الذين تداولوا المصطلح بينهم، فليس بصواب تبديع كل لفظ لم يأت في هذه القرون المفضلة، فكلام ابن تيمية يشير إلى تداول اللفظ ووجوده عند الإمام أحمد والحسن البصري والفضيل والجنيد وغيرهم من أوائل الصوفية، فهم من أئمة السلف، ومن أهل القرون الثلاثة المفضلة، وإقرارهم لوجود الاصطلاح حجة على من أنكره، فلا يمكن تجزءة مذهب السلف بقبول بعضه دون بعض.
وقد ساهم ابن تيمية بوضع اصطلاحٍ كان في النفس منه شيء قبل الشروع في هذا البحث، ألا وهو صوفية أهل السنة والحديث، حيث ذكر هذا المصطلح ووصف به الصوفية المتقدمين كالفُضيل وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكَرْخي وأمثالهم قال عنهم: " صوفية أهل السنة والحديث"، وذلك لأنهم في اعتقادهم وعملهم يؤمنون بما أخبر به الرسول ويَمْتَثلون أمره، وهذا القول منه يؤكد أنه كأحد أعلام المنهج السلفي لا ينكر الاصطلاح في ذاته، إذ لا مشاحة في ذاته، وإنما فيما يحمله من معانٍ وآراء، فالحكم يدور معها.
ثانيا: الأسماء المختلفة للصوفية واشتقاق المصطلح عند ابن تيمية ونسبته:
ومما يؤكد عناية ابن تيمية بالمعنى المراد من الاصطلاح، فقد تتبع الأسماء التي تسمى بها الزهاد الأوائل، وذكر أنه كان لهم أسماء عدة تختلف باختلاف مكانهم، فكانوا يسمون بالشام "الجوعية"، وبالبصرة " الفقرية " و " الفكرية "، ويسمون بخراسان " المغاربة " ويسمون أيضا " الصوفية والفقراء "وهذا التعدد في الأسماء يدل على أن انتشار صورا المنهج الصوفي في بقاع الإسلام، مما يدل على أصالة نزعة الزهد لدى المسلمين، كما يدل على أن الأحكام التي تأتي من أحد العلماء كما ورد عن الشافعي في صوفية العراق، إنما تتصل بأهل هذا المصر فحسب، إلا إن صرح بأن ذلك أصل للطائفة ككل.
وحينما عرض ابن تيمية مذاهب شتى في اشتقاق التصوف والصوفية ذكر محاولة النسبة إلى صوفة بن مر، والصفاء، والصف المقدم، وأهل الصفة، إلا أن ما ارتضاه هو النسبة للباس الظاهر حيث قال: "واسم الصوفية هو نسبة إلى لباس الصوف، هذا هو الصحيح" وبين أن الصوفية لم يلزموا أحدا بلباس الصوف، وإنما نسبوا إليه لأنه كان ظاهر حالهم.
ومما يلفت النظر انشغال ابن تيمية إلى حد تتبع اصطلاحاته وأوصاف أهله ونشأته، وهو إن دل فإنما يدل على التحقيق في المسائل، وعدم التعجل في إصدار الأحكام، وطول النفس العلمي في التتبع، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وهذا منهج سلفي أصيل ليت من ينتسب إليه أن يتتبعه، ولا يسيء إليه بتعجله.
كما نرى فقه ابن تيمية في حكمه على الصوفية الأوائل بالبدعة لأنهم لبسوا الصوف، وفسر أنهم قد لبسوه عفوا لا قصدا للتدين باللباس، وأنهم لم يلزموا أحدا بلباسهم، وهذا يخرجهم من طائل البدع التي جاء بها المتأخرون، فهم لم يتخذوا هذا اللباس دينا، وإنما كان يأخذه أحدهم تخشنا وزهدا في طلب المزيد للدنيا، فيكفيه ما يستر عورته فحسب.
ثالثا: تحقيق الشيخ نسبة التصوف إلى أهل الصفة ونفي معنى الانقطاع عن الدنيا للعبادة
وإذا كان أهل كل مذهب يحاولون إثبات أصالة مذهبهم، فلا شك أنهم يحاولون أن يعودوا بمذهبهم إلى المنبع الأول، عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته، وإثبات ما هم عليه للنبي، ومن كان معه من الأصحاب، فحينما حاول البعض أن ينسب للتصوف أنه انقطاع للعبادة عن الدنيا، واحتجوا بأهل الصفة، جاء ابن تيمية فأوضح خطأ نسبة التصوف إلى أهل الصفة، وأن إقامتهم بمؤخرة المسجد للتعبد كان عرضا لا قصدا، فالصفة مكان يأوي إليه فقراء المسلمين ممن ليس له أهل ولا مكان يأوي إليه، فكان المهاجرون من مكة وغيرهم يهاجرون إلى المدينة، فلما من له أهل من الأنصار ينزل عليهم .
كما ذكر أن فقراء المسلمين من أهل الصفة وغيرهم كانو يكتسبون عند إمكان الاكتساب، وأما إذا أحصروا في سبيل الله عن الكسب فكانوا يقدمون ما هو أقرب إلى الله ورسوله، وكان أهل الصفة ضيوف الإسلام يبعث إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يكون عنده فإن الغالب كان عليهم الحاجة لا يقوم ما يقدرون عليه من الكسب بما يحتاجون إليه من الرزق .
كما ذكر ابن تيمية استحالة تركهم الحياة للتعبد ثم يسألون الناس أموالهم، فهذا مخالف للتعاليم التي تلقومه من النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث أدبهم بترك المسألة مطلقا، حتى كان السوط يسقط من يد أحدهم فلا يقول لأحد: ناولني إياه، واستدلوا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : "من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشا أو خموشا أو كدوشا في وجهه" ومثل قوله: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه".
وليس معنى نفي التصوف لأهل الصفة أنه نفي للتصوف، وإنما هو نفي لفهم التصوف على أنه تفرغ للعبادة فحسب مع محاولة للبحث عن مستند شرعي قوي يمتد للأوائل أنهم انقطعوا عن الدنيا وجلسوا في الزوايا، وإنما المستند الشرعي مستمدا من القرآن والسنة القولية والعملية، وإقرار النبي -صلى الله عليه وسلم-لبعض صحابته على فعلهم.
رابعا: محاولة ابن تيمية لتعريف التصوف والملاحظات عليه
حينما أراد ابن تيمية أن يعرف التصوف كعلم، ذكر بعض المعاني التي تدور حوله، ثم ذكر ما يذهب إليه من خلال ما يعرفه من علومهم وما يعرفه من نواياهم، فعرف ابن تيمية التصوف بأنه حقائق وأحوال معروفة للوصول تهدف في نهاية الطريق إلى صفاء النفس من أجل الوصول لمرتبة الصديقية، وقيل أنه مشتق من "صفا من الكدر وامتلأ من الفكر واستوى عنده الذهب والحجر"، وقيل أنه:"كتمان المعاني وترك الدعاوى"، وهذه المرتبة –الصديقية- هي ما تلي مقام النبوة.
والملاحظات على محاولة ابن تيمية لتعريف التصوف اشتماله ثلااثة أمور:
الأمر الأول: هو شق الغاية، وهو البحث عن مرتبة الصديقية التي تلي مرتبة النبوة، وهو اعتراف بالمنهج الصحيح للصوفية الأوائل بعدم القول بعلو منزلة الأولياء على الأنبياء.
الأمر الثاني: وهو الشق الوصفي للصوفي، وهو الزهد في الدنيا، والاتصاف بالأخلاق، والفناء الشرعي.
الأمر الثالث: وهو ما يختص بالحكم، فإنه لم يحكم على التصوف أو الصوفية بالبدعة في قول أو فعل من خلال التعريف، ويؤكد ذلك تعليقه بعد عرض هذه الآراء بعد أن عرض اختلاف الناس في التصوف والصوفية بين من ذمهم مطلقا وقال أنهم مبتدعون خارجون عن السنة، وبين طائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء، ثم بين أن الصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم، فمنهم السابق وفيهم المقتصد، ومنهم من يجتهد فيخطئ وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، ومنهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه، وأنه قد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة؛ ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم: كالحلاج مثلا؛ فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه وأخرجوه عن الطريق. كالجنيد وغيره.
وليس هذا الفهم عن ابن تيمية فهما خاصا، فقد انتقل هذا الفهم من الشيخ إلى التلميذ، فقد قال عنهم ابن القيم:" وما أحسن ما قال أبو أحمد الشيرازى: كان الصوفية يسخرون من الشيطان، والآن الشيطان يسخر منهم"، والمعنى أنه كان يفرق بين الأوائل والمتأخرين، وكان يستدل بقولهم في الاعتقاد كما في قصة احتجاج قول أبي جعفر الهمداني الصوفي على الإمام الجويني في قضية العلو حتى صرخ أبو المعالي ولطم على رأسه وقال: حيرني الهمداني حيرني الهمداني.
خامسا: دلالة لفظ الصوفية عند ابن تيمية أنه صار مجملا يجب التحقيق عند إطلاقه
ومما ذهب إليه ابن تيمية أن لفظ التصوف قد صار لفظًا مجملاً، يدخل فيه من هو صِدِّيق ومن هو زنديق، فمن صَدَّق الرسولَ فيما أخبر وأطاعه فيما أمر صار صدِّيقًا، ومن أعرض عن خبره وأمره حتى أخبر بنقيض ما أَخْبرَ وأمَرَ بخلاف ما أَمَر صار زنديقًا، وهذا حال أهل البدع الذي ينتسبون إلى الصوفية كالقائلين بوحدة الوجود ويسمون ذلك تصوفًا، فإنهم ليسوا من الصوفية الحقيقيين أهل الزهد والورع، وإنما دخلاء عليهم، لذلك وجب معرفة قصد المتكلم الذي يحاول الانتماء للتصوف، أهو على تصوف المتقدمين أم المتأخرين؟.
سادسا: مراتب الصوفية عند ابن تيمية
في بيان ابن تيمية لمراتب الصوفية أنهم ثلاث مراتب: صوفية حقائق، وصوفية أرزاق، وصوفية رسم.
الأولى: صوفية الحقائق، وهم أهل الزهد والوارع.
الثانية: صوفية الأرزاق، وأما صوفية الأرزاق فهم الذين تم عمل الأوقاف لهم، ولم يشترط لهم العلماء أن يكونوا من أهل الحقائق لأنهم قليلون، فضلا عن أن أهل الحقائق لا يلتزمون بالتواجد في هذه الأوقاف.
الثالثة: صوفية الرسم، وهم الذين اقتصروا على اللباس والآداب الوضعية، فهؤلاء بمنزلة الذي يقتصر على زي أهل العلم وأهل الجهاد ونوع ما من أقوالهم وأعمالهم بحيث يظن الجاهل حقيقة أمره أنه منهم وليس منهم.
وكما هو واضح: فإن ابن تيمية يفرق بين هذه المراتب بعضها البعض، فأعلاها المرتبة الأولى وهم أهل الحقائق، وأدناها أهل الرسم الذين يحاولون التشبه بأهل الحقائق، أهل الزهد والأخلاق، وليسوا منهم.
كما أن الواضح من كلام ابن تيمية أنه يقر الصنفين الأول والثاني دون الثالث، وإقراره للصنف الثاني ليس معناه جواز ترك العمل والعكوف للعبادة فحسب، فقد رد هذا المبدأ حينما نفى أن يكون أصل الصوفية هم أهل الصفة كما مر معنا.
سابعا: أنواع التصوف عند ابن تيمية من حيث الاعتقاد:
تعرض ابن تيمية لعقيدة الصوفية، فذكر منهم من كان على عقيدة السلف كالفضيل بن عياض والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وعمرو بن عثمان المكي وأبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي، ثم بين أنه حينما ظهر التفلسف في المتصوفة المتأخرين فصارت المتصوفة تارة على طريقة صوفية أهل الحديث وهم خيارهم وأعلامهم، وتارة على اعتقاد صوفية وتارة على اعتقاد صوفية أهل الكلام فهؤلاء دونهم وتارة على اعتقاد صوفية الفلاسفة.
ويقول ابن تيمية التفريق في بين التصوف والفلسفة: "وأما ابن عربي وابن سبعين وغيرهما ونحوهما فحقائقهم فلسفية غيَّروا عبارتها وأخرجوها في قالب التصوف أخذوا مُخَّ الفلسفة فَكَسوه لِحاءَ الشريعة. "[17]، ولا يكتفي بذلك في كلامه على ابن عربي وابن سبعين، بل يصفهما بأنهما من ملاحدة الصوفية، وذلك لقولهم بالحلول والإتحاد.
وبذلك يكون تقسيم ابن تيمية للصوفية أنهم ثلاثة أنواع:
الأولى: صوفية أهل الحديث، وهم الصوفية الأوائل كالجنيد والفضيل، وبالطبع فهم من تلقوا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-وصحابته.
الثانية: صوفية أهل الكلام، كالغزالي.
الثالثة: صوفية الفلاسفة، كالحلاج وابن عربي، والتلمساني.
واستدراكا على ما لم يراه ابن تيمية بعد تقدم الزمان صار هناك نوعا رابعا وهو الصوفية الطرقية التي تكثر في العالم الإسلامي، وهي غالبا ما تستقي من الأنواع السابقة، إلا أنها تضيف بدعا إليها في باب التعبد، وقد تصل للشركيات المخرجة من ملة الإسلام.
ثامنا: قول الشيخ في الأصل الذي يرجع إليه التصوف في الدين:
ذهب ابن تيمية إلى أن الزهد والعبادة هما أصل التصوف لأن أهل البصرة كانوا أهل عبادة، وأنهم إنما نسبوا إلى اللبسة الظاهرة وهي لباس الصوف فقيل في أحدهم: " صوفي "، إلا أن هذا اللباس كان زهدا منهم في الدنيا، ولما يلزموا به أحدا، ولا علقوا الأمر به، وإنما أضيفوا إليه لكونه ظاهر حالهم ويوضح ابن تيمية أن من الصوفية من كان مشتغلا بالعلم والفقه كما كان منشغلا بالعبادة.
ووضح ابن تيمية أن "الزهد " المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة وأما كل ما يستعين به العبد على طاعة الله فليس تركه من الزهد المشروع بل ترك الفضول التي تشغل عن طاعة الله ورسوله هو المشروع. وكذلك في أثناء المائة الثانية صاروا يعبرون عن ذلك بلفظ " الصوفي "؛ لأن لبس الصوف يكثر في الزهاد ومن قال إن الصوفي نسبة إلى الصفة أو الصفا أو الصف الأول أو صوفة بن بشر بن أد بن طانجة أو صوفة القفا ؛ فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى.
ومعنى أن الصوف يكثر في الزهاد أنه يلبسه الزهاد وغيرهم، كما أن من الزهاد من لا يلبسه ويعتبره من الرياء، وقد ورد ذلك في أقوال أكابر الصوفية في النقد الذاتي للتصوف.
تاسعا: كلام الشيخ في تقيد علم الصوفية بالكتاب والسنة،
كان ابن تيمية دائما ما يذكر تقيد علم الصوفية بالكتاب والسنة، وكان يستشهد بكلام الشيخ أبي سليمان الداراني في عدم قبول ما يقع في قلبه إلا بشاهدين هما الكتاب والسنة، وكان يستشهد بقول أبي القاسم الجنيد رحمه الله عليه أن علم الصوفية مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث، لا يصلح له أن يتكلم في التصوف ولا يقتدى به، وينقل عن أبي عثمان النيسابوري قوله أن من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا، نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا، نطق بالبدعة، لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم: ﴿ وإن تطيعوه تهتدوا ﴾. وقول أبو عمر بن نجيد: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل.
فليس كل من انتسب للتصوف صار قوله هو قول الصوفية، فما كان موافقا للكتاب والسنة فهو مقبول، وإلا فهو مردود، لأن الهداية كلها في نصوص الوحي، فالمعتبر عن العارفين بالله المذكوريين في كون معيار الولاية الشرعية هو لزوم الكتاب والسنة، لذلك أبان ابن تيمية أن الصوفية المعيارية هي ما تقيدت بالكتاب والسنة، والمراد بالمعيارية ما يقاس عليه غيرها، والتي تؤدي لمنهج السلف، وأن من خالف ذلك فهو ضال زنديق ليس من أهل الطريق، لأنه ما من سالك للطريق يستغنى عما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- أو يخالفه في أمره ومن زعم حصول العلم بغير هذا الطريق فهو عندهم ضال زنديق، لأنه لا يجوز قط أن يستغني سالك عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد نقل ابن تيمية أمر الصوفية بالعلم، والحكم بزندقة من أنكر سبيله، فإن كبار ْمَشَايِخ الصُّوفِيَّة أوصوا به، اتفقوا على وجوب تعلم العلم الشرعي والنظر والاعتبار بما في المخلوقات من الآيات، وأنهم أعظم تجردًا من أهل الكلام والفقه.
وقد أنكر ابن تيمية قول بعضهم أن مجرد ترك الشهوات والتجرد المحض يوجب معرفة الحقائق من معرفة ما جاءت به الرسل ومن غير نظر في ذلك وتدبر فهذا ليس طريق القوم الذين لهم في الأمة لسان صدق ولهذا وصيتهم بالعلم الشرعي والمحافظة عليه في الأصول الخبرية وفي الأعمال أعظم من أن يذكر هنا.
وقد ذكر ابن تيمية عن السري السقطي أن واحداً منهم دخل عليه فلما رأى عنده محبرة وقلما خرج ولم يجلس عنده، ولهذا أوصى سهل التستري الصوفية ألا يفارقوا المحبرة والأوراق لطلب العلك، لأن مفارقتهم زندقة، وذكر الشيخ قول الجنيد: علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن.
عاشرا: كلام الشيخ أن العبرة ليست بالغنى والفقر والتعليق عليه
وضح ابن تيمية أن الكتاب والسنة قد دلا على أن التفاضل بين المؤمنين إنما يكون بالإيمان والتقوى، لا الغنى والفقر، فقد كان في الأنبياء والسابقين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء، والكاملون يقومون بالمقامين فيقومون بالشكر والصبر على التمام، وذلك كحال نبينا صلى الله عليه وسلم أصحابه، لكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع من الغنى والغنى أنفع لآخرين كما تكون الصحة لبعضهم أنفع.
والظاهر أن هذا الكلام كان قديما لابن تيمية قبل اطلاعه على المصطلح الصوفي وأخذه في الاعتبار حسبما سيأتي في القواعد المعتبرة في الحكم على الصوفية والمتصوفة، حيث فهم المراد من الفقر في المصطلح الصوفي وأنه الافتقار إلى الله، وهو ما تم إثباته في اعتبار المعجم الصوفي عند الحديث عن الصوفية في بيان منهج ابن تيمية في الحكم عليهم.
وهو كلام يوافق ما ورد من سيرة الصحابة، فقد كان أغناهم أزهدهم، وقد رأينا الخلفاء الراشدين الأربعة، قد بشرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، وكان الثلاثة الأوائل منهم أهل مال، إلا أن هذا المال لم يتملكهم، بل كانوا يؤثرون الآخرة، فيقدمون المال في الدنيا زهدا فيها، وإعلاء لراية الدين.
الفصل الثاني
موقف ابن تيمية من أعلام التصوف وعلومهم
الموقف الأول: توثيق المتقدمين وتجريح المتأخرين من الصوفية
كان من منهج ابن تيمية التفريق بين متقدمي الصوفية ومتأخريهم، فالمتقدمين منهم أهل علم وورع وتقوى، بخلاف المتأخرين الذين أدخلوا الفلسفة في التصوف وحاولوا الجمع بيتهما، فكان ابن تيمية دائما ما يذكر المتقدمين ويترضى عنهم، ويذكر المتأخرين ويتبرأ منهم، وذكر أنه وإن ادعى أحد الصوفية أن ابن عربي واحد منهم، فهو من صوفية الملاحدة الفلاسفة، وليس من صوفية أهل العلم فضلا عن أن يكون من مشايخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والجنيد، وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهم، وحينما ذكر هؤلاء العلماء قال: "رضوان الله عليهم أجمعين" وهذا دليل على رضى ابن تيمية عن عقيدة الأوائل، وعدم رميهم بالبدعة، أو تعميم الأحكام مثلما شاع في المناهضين للتصوف جملة وتفصيلا.
وكان موقف ابن تيمية من توثيق متقدمي الصوفية مما أثار دهشة الشيخ محمد جميل غازي حينما قدم لكتاب ابن تيمية "الصوفية والفقراء"، فاستنكر أشياء عليه كقوله أنهم يريدون مقام الصديقية ، وراح يعمم في الأحكام ويكيل لهم الأوصاف بالزندقة، والقول بالحلول والاتحاد، ووصفهم بأنهم أهل المروق والفرقة والبدعة.
ورغم إنصاف ابن تيمية للمتقدمين، إلا أنه كان شديدا في الإنكار على المتأخرين، فقد كان مناهضا لابن سبعين وأمثاله ممن يكسون كلامهم بعبارات الصوفية والصوفية العارفون يعلمون أنهم كفار وإن شيوخ الصوفية الكبار كالفضيل وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني وعمرو بن عثمان الشبلي والجنيد وسهل بن عبد الله التستري وأبي عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي كانوا من أعظم الناس تكفيرا لهؤلاء.
كما كان ابن تيمية يذكر جوانب من تعظيم الصوفية الأوائل للشعائر بخلاف المتأخرين الذين حاولوا التحلل من الواجبات واستحلوا المحرمات كالتلمساني، وأظهر أن مذهب الأوائل يخللف هذا المذهب وأنهم كانو أعظمهم نكيراً عليه وعلى أهله، فكان علماء الصوفية المشهورين كالفضيل وأبي سليمان الداراني والجنيد وسهل بن عبد الله التستري وعمر بن عثمان المكي وأبي عثمان النيسابوري وابن خفيف الشيرازي ويحيى بن معاذ الرازي وأمثالهم من الكلام في إثبات الصفات والذم للجهمية والحلولية مالا يتسع هذا الموضع.
والإنصاف مع المخالف لا يعني التمييع، وهذه القاعدة موجهة لمن يحاول الذب عن عقيدة السلف، وذلك بالشدة على أهل البدع، فبالرغم من أن الشدة على أهل البدع أمر محمود في الدين لأنه من الجهاد باللسان، لكن شتان ثم شتان بين تتبع المسائل ودراستها والتحقيق فيها، وبين من سلك مسلك الحكام المجملة، فكلام ابن تيمية في مدح الصوفية ليس معناه إذابة الفوارق بين الصوفية ككل، وبين أهل السنة، وهذا ما يستغله بعض متأخري الصوفية حينما يستدلون بأقوال ابن تيمية في الصوفية المتقدمين على أنه مدح للصوفية ككل، بل للأوائل منهم الذين كانوا على عقيدة السلف الصالح.
الموقف الثاني: بيان ابن تيمية في موافقة عقيدة الصوفية الأوائل لعقيدة السلف:
كان ابن تيمية كثيرا ما يذكر أعلام التصوف المتقدمين، ويثني عليهم، ويبين موافقتهم لعقيدة السلف ومخالفتهم لطريقة من جاء بعدهم من الفرق، وكان يستشهد بأقوالهم في أن من لم يوافق عقيدة السلف لا يستحق أن يكون وليا لله، ويستدل على ذلك بقول أبي محمد عبد القادر بن عبد الله الجيلي حينما سئل: "هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل؟"، فقال: " مَا كَانَ وَلَا يكون ".
وكان ابن تيمية مدافعا عن عقيدة الصوفية الأوائل، ويشهد لهم بالعلم والفضل، من ذلك أنه ذب عنهم ورد على من شنع عليهم في مسألة نفي الصفات الإلهية، فقال أن شيوخ الصوفية المشهورون عند الأمة كالجنيد وسهل بن عبد الله التستري وعمرو بن عثمان المنكي وأبي العباس بن عطاء بل مثل أبي طالب المكي وأبي عبد الرحمن السلمي وأمثال هؤلاء محال أن يكونوا كالجهمية في سلب الصفات.
وقد بين ابن تيمية أن عقيدة الصوفية التي صنفها القشيري توافق كثيرا من اعتقاد الأشعرية الذي غالبه مُوَافق لأصول السّلف، إلا أن الثابت عن أكابر الصوفية كالفضيل وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والجنيد وسهل بن عبد الله التستري يوافق ما كان عليه السلف، وقد جمع أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْكلاباذى كتاب التعرف لمذاهب التصوف الذي هو أصوب وَأقرب إِلَى مَذْهَب سلف الْأمة.
وكان ابن تيمية يحتج بعقيدتهم في علو الله على عرشه، فذكر موقف الشيخ الصوفي أبي جعفر الهمداني مع أبي المعالي الْجُوَيْنِيّ وَهُوَ يَقُول كَانَ الله وَلَا عرش وَهُوَ على مَا عَلَيْهِ كَانَ، فَقَالَ الهمذاني: يا شيخ دَعْنَا من ذكر الْعَرْش أخبرنَا عَن هَذِه الضَّرُورَة الَّتِي نجدها فِي قُلُوبنَا فَإِنَّهُ مَا قَالَ عَارِف قطّ يَا الله إِلَّا وجد من قلبه ضروره بِطَلَب الْعُلُوّ وَلَا يلْتَفت يمنة ولايسرة فكيف ندفع هذه الضَّرُورة عن قلوبنا قال فصرخ أبو المعالى ولطم على رأسه وَقَالَ حيرني الهمدانى حيرني الْهَمدَانِي.
كما نقل عن الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني حيث وصفه بمفتي الصوفية العارفين وشيخ الصوفية في أواخر المائة الرابعة قوله حينما أراد أن يوصي أصحابه فأوصاهم بما عليه أهل السنة والجماعة، أصحاب العقيدة النقية قائلا: "أَحْبَبْت أَن أوصى أَصْحَابِي بِوَصِيَّة من السّنة وموعظة من الْحِكْمَة وَأجْمع مَا كَانَ عَلَيْهِ أهل الحَدِيث والأثر وَأهل الْمعرفَة والتصوف من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين قَالَ فِيهَا اوإن الله اسْتَوَى على عَرْشه بِلَا كَيفَ وَلَا تَشْبِيه وَلَا تَأْوِيل والاستواء مَعْقُول والكيف فِيهِ مَجْهُول وَأَنه عز وَجل مستو على عَرْشه بَائِن من خلقه والخلق بائنون مِنْهُ بِلَا حُلُول وَلَا ممازجة وَلَا اخْتِلَاط وَلَا ملاصقة لِأَنَّهُ الْفَرد الْبَائِن من الْخلق الْوَاحِد الْغَنِيّ عَن الْخلق وَأَن الله سميع بَصِير عليم خَبِير يتَكَلَّم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لِعِبَادِهِ يَوْم الْقِيَامَة ضَاحِكا وَينزل كل لَيْلَة إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا كَيفَ شَاءَ ".
ونقل الشيخ اتفاق الصوفية وأهل الحديث على نفي التجسيم والتعرض للتركيب في حق الله فقال أنهم لا يتعرضون للتركيب والتجسيم، والتبعيض وكل الألفاظ المبتدعة لا بنفي ولا إثبات، وأنهم ينزهون الله عما نزه عنه نفسه، وهم متفقون على أنه لا يمكن تفريقه ولا تجزئته. بمعنى انفصال شيء منه عن شيء، وأن هذا القول مأثور عن سلف الأمة وعليه أئمة الفقهاء وأئمة الحديث، وأئمة الصوفية، وأهل الاتباع المحض من الحنبلية.
كما أن ابن تيمية كان يستدل بفهمهم في مسألة المحبة أنها المحبة الحقيقية التي تشمل الواجبات والمستحبات الظاهرة، وأن هذِه الْمحبَّة حق كَمَا نطق بهَا الْكتاب وَالسّنة، وأن العقيدة الصحيحة التي عليها سلف الْأمة وأئمتها وَأهل السّنة والْحَدِيث وَجَمِيع مَشَايِخ الدّين وأئمة التصوف أَن الله مَحْبُوب لذاته محبَّة حَقِيقَة بل هِيَ أكمل محبَّة.
وجملة هذه العقائد التي ذكرها ابن تيمية عن الصوفية توافق العقيدة السلفية النقية التي أقرها علماء السلف في مصنفاتهم، وهو الإيمان بالله وبما ورد عن الله بمراد الله دون تحريف أو تأويل أو تشبيه أو تعطيل، والإيمان بصفات الله الذاتية والفعلية ومباينة الله لخلقه، وعلوه على عرشه وغير ذلك كثير مما لم يتسع المقام لذكره في هذا المقام.
الموقف الثالث: اعتراف ابن تيمية بصيانة أئمة الصوفية الأوائل طريقتهم من البدع بالعلم:
حينما أراد ابن تيمية بيان صيانة الصوفية الأوائل مذهبهم من البدع والمحدثات استدل بقول القشيرى رَحمَه الله: "اعلموا أَن شُيُوخ هَذِه الطَّائِفَة بنوا قَوَاعِد أَمرهم على أصُول صَحِيحَة فِي التَّوْحِيد صانوا بهَا عقائدهم عَن الْبدع ودانوا بِمَا وجدوا عَلَيْهِ من السّلف وَأهل السّنة من تَوْحِيد لَيْسَ فِيهِ تَمْثِيل وَلَا تَعْطِيل"، ثم علق ابن تيمية على قول القشيري بأنه كلام أئمة السلف والصوفية وهذا دليل على أن هذه الأمور من المجمع عليها.
وليس ذلك هو مناط الصيانة للمذهب فحسب، وإنما كان العلم المقتضي للصراط المستقيم وعدم الحيد عنه، لذلك أشار ابن تيمية إلى أن منهج الصوفية الأوائل هو اتباع العلم المشروع، وذلك بخلاف المنحرفين المغرضين المعرضين عن العلم والعمل، وهؤلاء هم المنحرفون الموافقين لعقيدة اليهود والنصارى وقد ذكرنا طرفا منه في الفصل السابق في بيان ضبط علم الصوفية الأوائل بالكتاب والسنة.
وحينما أراد ابن تيمية الرد على متأخري الصوفية الذين وقع فيهم القول بالحلول والاتحاد ذكر قول الجنيد:" أول مَا يحْتَاج إِلَيْهِ العَبْد من عقد الْحِكْمَة معرفَة الْمَصْنُوع صانعه والمحدث كَيفَ كَانَ إحداثه فَيعرف صفة الْخَالِق من الْمَخْلُوق وَالْقَدِيم من الْمُحدث"، ثم علق ابن تيمية على هذا الكلام بأنه كلام حسن، في التمييز بين الخالق والمخلوق حتى لا يقع السالك في الطريق الصوفي في الحلول والاتحاد، وأن هذا هو سبيل أهل الطريق الصوفي، ومن لم يكن كذلك فليس منهم وذلك إشارة لمن لم يسلك مذهبهم من المتأخرين ممن قال بالحلول والاتحاد.
وكان ابن تيمية دائما ما يستدل على المتأخرين بمذهب ومنهج المتقدمين، من ذلك عرضه لخطأ منهج المتأخرين في القدر، فقد وضح أنه من أراد النجاة من أهل الطريق الصوفي فعليه بمنهج المتقدمين من أئمة الصوفية، إلى أن قال: "فمن سلك مسلك الجنيد، من أهل التصوف والمعرفة، كان قد اهتدى ونجا وسعد، ومن لم يسلك في القدر مسلكه، بل سوى بين الجميع، لزمه ألا يفرق بين الحسنات والسيئات، وبين الأنبياء والفساق"
الموقف الرابع: الاستدلال بمنهجهم والنقل عنهم في بيان عقيدته لأهل الأمصار:
وقد كان من منهج ابن تيمية في تصانيفه لأهل الأمصار لبيان عقيدته الاستشهاد بالصوفية الأوائل، مما يعني أنهم حجة له ولمخالفيه، ويرى أنهم أصحاب علم مستقل يسمى التصوف، وأن فهمهم ومنهجهم موافق لما عليه سلف الأمة، يقول ابن تيمية في مسألة المحبة وتأويلها: "وَالَّذِي عَلَيْهِ سلف الْأمة وأئمتها وَأهل السّنة والْحَدِيث وَجَمِيع مَشَايِخ الدّين وأئمة التصوف أَن الله مَحْبُوب لذاته محبَّة حَقِيقَة بل هِيَ أكمل محبَّة فَإِنَّهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى الْبَقَرَة وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله"..
والمراد بأئمة التصوف في قول ابن تيمية هم المتقدمين منهم الذين كانوا أئمة من أئمة السلف، ليس المقصود منهم المبتدعة والمتفلسفين ومن خالفوا منهج السلف في العقائد والأعمال، وهذا يرد على من يستدل بأقوال ابن تيمية في التوثيق المطلق للصوفية المتقدمين عنه، فالشيخ كانت وفاته في القرن الثامن عام 728هـ، وإلى هذه السنة قد مر التصوف بمراحله كلها، إلا أن مرحلته الأخيرة التي هي الطرقية التي مازالت مستمرة إلى الآن، فالمدح الصادر من ابن تيمية إنما كان في الصوفية الأوائل الذين كانوا على منهج السلف ومن تابعهم في هذا المنهح، وليس في المتأخرين منهم.
وحينما كان يرسل ابن تيمية للأمصار رسائله في العقيدة كان يرسل لهم مستدلا بأقوال أئمة التصوف، ففي رسالته لأهل حماة يقول مستشهدا بأقوال معمر بن أحمد الأصبهاني شيخ الصوفية في حدود المائة الرابعة في بلاده ويلقبه بـ"الإمام العارف"، وينقل عنه عقيدته أن الله استوى على عرشه بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، والاستواء معقول والكيف فيه مجهول، وأنه عز وجل بائن من خلقه، والخلق منه بائنون بلا حلول ولا ممازجة، ولا اختلاط ولا ملاصقة، لأنه المنفرد البائن من خلقه، الواحد الغني عن الخلق، وأن الله عز وجل سميع، بصير، عليم، خبير، يتكلم، ويرضى، ويسخط، ويضحك، ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكًا، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول: «هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر»، ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه، ولا تأويل، وأن من أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال، وسائر الصفوة من العارفين على هذا، كما كان ينقل من أقوال الفضيل بن عياض أنه كان ينسب عقيدة الرؤية للصوفية قاطبة لا يستثني منهم أحدا.
الموقف الخامس: اعتماد ابن تيمية لعلوم الصوفية والثناء عليها:
أولا: التفسير الإشاري:
لقد كان ابن تيمية على دراية بما أسهم به الصوفية الأوائل من علوم، فكان مما أشار إليه ابن تيمية من جهودهم ما صنفوه في علم التفسير، والذي علاف بالتفسير الإشاري، وليس المراد هنا التفسير الباطني الذي قام به الصوفية الباطنية، فقد صنف ابن تيمية الصوفية الباطنية مع طوائف الباطنية بقوله: "والباطنية: باطنية الشيعة وباطنية الصوفية" وإنما المراد التفسير الإشاري الذي يكون المراد فيه من باب القياس، فقد كان التفسير من جملة علوم الصوفية التي أبدع الصوفية فيها، كقول بعض الصوفية مثلا في تأويل قوله تعالى: "اذهب إلى فرعون إنه طغى" هو القلب، وفي تأويل قوله تعالى: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة"، هي النفس، وأمثال ذلك، مما يكون معناه صحيحا وإن لم يكن هو المراد باللفظ الظاهر، وهو الأكثر في إشارات الصوفية.
ولا يعد هذا التفسير الإشاري تفسيرا لظاهر النصوص، بل يجعل من باب الاعتبار والقياس وهذه طريقة صحيحة علمية كما في قوله تعالى "لا يمسه إلا المطهرون"، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب"، فإذا كان ورقه لا يمسه إلا المطهرون، فمعانيه لا يهتدي بها إلا القلوب الطاهرة وإذا كان الملك لا يدخل بيتا فيه كلب فالمعاني التي تحبها الملائكة لا تدخل قلبا فيه أخلاق الكلاب المذمومة ولا تنزل الملائكة على هؤلاء.
ثانيا: كتب الرقائق والآداب وأعمال القلوب:
وحينما سُئِلَ ابن تيمية عن كتابي قوت القلوب والإحياء، أجاب أن كتاب قوت القلوب به من أعمال القلوب أمور جيدة، أثنى على مادته خاصة ما بها من أعمال القلوب، وبين أن صاحبه من أهل الحديث، وأنه أعلم بكلام الصوفية وغيرهم من الغزالي، وأن كلامه أجود تحقيقا وأبعد عن البدعة، إلا أن به أحاديث ضعيفة وموضوعة وأشياء كثيرة مردودة.
وأما كتاب (الإحياء) فذكر أن ما فيه من الكلام في " المهلكات " غالبه منقول من كلام المحاسبي في كتاب الرعاية، وبين أن منه المقبول والمردود وما هو محل نزاع، ورغم ما به من فوائد جمة إلا أن فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، كما يحتوي عل أحاديث وآثار ضعيفة وموضوعة وأغاليط للصوفية، وكل ذلك أنكره العلماء عليه، ورغم ذلك ففيه من كلام مشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة ما هو أكثر مما يرد منه فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه.
وكما هو واضح اعتبار الشيخ لجهودهم ومصنفاتهم في أعمال القلوب، مما أدى إلى التنازع في هذه التصانيف، وهذا التنازع الذي ذكره ابن تيمية كان مجملا، فإنه لا ينبغي للمبتدئ في طلب العلم أن يقرأ ما لا يستطيع أن يميز بين ما بها من الطيب والخبيث، فلا يجوز له مطالعتها إلا للعالم أو طالب العلم المتكن لأنها غير مأمونة.
الموقف السادس: اعتماد ابن تيمية للصوفية كنوع ثالث للعلماء:
ومما أشار إليه ابن تيمية اعتماد الصوفية كنوع مستقل من العلماء، فحينما أشار إلى وجود الصحيح والضعيف في كتب الفقه، أشار لمثله في نوع آخر من الكتب أسماه "كتب الرَّقَائِق والتصوف"، وأشار إلى أن المصنفين قد يكونُونَ أَئِمَّة فِي الْفِقْه أَوْ التصوف اَوْ الحَدِيث، ثم أخذ يعرض وجهات النظر في رواية الأحاديث المكذوبة والشاهد من كلام ابن تيمية اعتباره أن هناك نوع معين من العلوم يدعى التصوف، وأن هذا العلم له أئمة، وهذا العلم هدفه الرقائق والأخلاق وأعمال القلوب، وعنوان الرقائق هو من باب عطف الخاص على العام، وهو أمر مباح لما للخاص من أهمية، فهو كقوله تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾
الموقف السابع: الإنكار عليهم في البدع والمحدثات التي أدخلوها في الدين:
أنكر ابن تيمية كل المرويات التي استدل بها الصوفية في عدة الأولياء، والأبدال، والنقباء، والنجباء، والأوتاد، والأقطاب، مثل أربعة، أو سبعة، أو اثني عشر، أو أربعين، أو سبعين، أو ثلاثمائة، أو ثلاثمائة وثلاثة عشر، أو القطب الواحد، وقال أنه ليس في ذلك شيء صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ.
ولا شك أن هذا الموقف من ابن تيمية هو الموقف الصحيح الذي جاء الأنبياء من أجله، بقطع الوسائط بين الخالق والمخلوق، لأن الله قد خلق الإنسان وهو أقرب إليه من حبل الوريد، و النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أمر أصحابه ألا يسألوا الناس شيئا، فكيف يستعين المرء بالمخلوق، وخالقه أرحم به، وأقدر على الإجابة إليه؟!.
ومما أنكره الشيخ عليهم ترك بعضهم العمل لظنهم بلوغ الطريق، حينما سئل ابن تيمية عن قوم داوموا على الرياضة مرة فرأوا أنهم قد صاروا أرقى منزلة فقالوا: لا نبالي الآن ما عملنا وإنما الأوامر والنواهي رسوم العوام، ولو رقت منزلتهم لسقطت عنهم، فأجاب قائلا: "لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه. وهو شر من قول اليهود والنصارى؛ فإن اليهودي والنصراني آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وأولئك هم الكافرون حقا كما ذكر أنهم يقرون بأن لله أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا وأن ذلك متناول لهم إلى حين الموت...".
وكما هو ظاهر أن هذا القول من هذه الطائفة من الصوفية يشابه قولها قول غلاة المرجئة، فالعمل لا فائدة له لديهم، وإنما هو لمن لم يصل لمرتبتهم، وهذا كفر وضلال مبين لا برهان لهم به.
وأنكر عليهم وقوعهم في المعاصي والفسوق، وآخرون في الكفر، حتى جَوَّزوا عبادة الأصنام، ومنهم انتقال كثير منهم إلى وحدة الوجود، وهم بذلك يخالفون الجنيد وأئمة الدين في التوحيد،، فإن من قالوا بوحدة الوجود صرحوا بعبادة كل موجود، وهؤلاء كابن عربي الحاتمي، وابن سبعين، والقونوي، والتلمسانى، والبليانى، وابن الفارض، وأمثالهم.
وأنكر ابن تيمية على من ادعي النبوة والرسالة منهم، كالسهروردي المقتول، فإنه كان يقول لا أموت حتى يقال لي: قم فأنذر، وكان ابن سبعين يقول: لقد زرب أبن آمنة حيث قال: لا نبي بعدي ويقال إنه كان يتحرى غار حراء لينزل عليه فيه الوحي، وابن عربي ادعى ما هو أعظم من النبوة عنده، وهو ختم الولاية، فخاتم الأولياء عنده أفضل من خاتم الأنبياء في العلم بالله، وهو يقول إن جميع الأنبياء والرسل يستفيدون من مشكاة هذا الخاتم المدعي بمعرفة الله التي حقيقتها وحدة الوجود، وهي تعطيل الصانع سبحانه التي هي سر قول فرعون فإنه لما علم استحالة ادعاء النبوة، ابتدع هذه المقولة.
والقاعدة: أنه لا معصوم تحت أديم السماء يحتج بقوله وفعله، وكل يؤخذ منه ويرد، إلا الأنبياء، فلا يجب التعصب لأحد من أهل القبلة أيا من كان، ومتى ورد عنه ما يخالف الشرع فهو رد، ولا عبرة بمذهبه، فالحق أحق أن يتبع، ومتى ظهر فسق الرجل بعد ما كان عليه من تقوى فهو فاسق، ولا يوصف من كان يقول بتعديله بأنه مثله، لأنه لم يكن يعلم من حاله الفسق، وهذا كثيرا ما يحدث في الحكم على المخالف، فالأصل جهالة الحال، فمتى علمت حال الرجل بجرح أو تعديل فلك أن تتكلم، وإلا فقد يصيبك الحكم بالظن المنهي عنه.
الفصل الثالث
القواعد المنهجية التي سلكها ابن تيمية في الحكم على قضايا التصوف والصوفية
القاعدة الأولى: فهم التصوف الصحيح يكون من أقوال أئمة الصوفية المتقدمين دون المتأخرين:
رغم معاصرة ابن تيمية للصوفية المنحرفين كالرفاعية وغيرهم، واطلاعه على أقوال الصوفية المتأخرين كالحلاج وابن عربي، إلا أنه لم يكن يعتمد كلام هؤلاء المتأخرين في فهم التصوف الصحيح، وإنما التصوف الصحيح الذي يمكن أن يقال أنه معياري هو ما كان مأخوذا من منابع التصوف لا من فروعه، هذا الأصل الذي يمتد إلى آثار النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحفظ القرآن وكتابه السنة والتقيد بكل هذا، وكان ابن تيمية يحتج بقول الجنيد: الطّرق كلهَا مسدودة على الْخلق إِلَّا من اقتفى أثر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ ايضا من لم يحفظ الْقُرْآن وَيكْتب الحَدِيث لَا يقْتَدى بِهِ فِي هَذَا الْأَمر لِأَن علمنَا هَذَا مُقَيّد بِالْكتاب وَالسّنة وقول أَبُي عُثْمَان حين قال: من امْر السّنة على نَفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة وَمن أَمر الْهوى على نَفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، وقول أَبُو حَمْزَة الْبَغْدَادِيّ: من علم الطَّرِيق إِلَى الله سهل عَلَيْهِ سلوكه وَلَا دَلِيل على الطَّرِيق إِلَى الله إِلَّا مُتَابعَة الرَّسُول فِي أَحْوَاله وأقواله وأفعاله فطريق الأوائل كان هو الكتاب والسنة، وإن ورد عن أحدهم ما ينافي الكتاب والسنة فهم ليسوا معصومين، وليس فعلهم حجة ما داموا يخالفون الكتاب والسنة.
ولم يكتف ابن تيمية بأن يتم أخذ المذهب وفهمه من الصوفية الأوائل فحسب، فنهى أهل الاستقامة أن يأخذوا المذهب عن أهل الضلالة ممن يغلب عليهم الوجد، فيزول عقله ويحلق لحيته ويذهبوا به إلي البيمارستان، ويسقط عنه التمييز بين الحق والباطل، إلى أن قال: "وَمن كَانَ بِهَذِهِ الْحَالة لم يجز أَن يَجْعَل كَلَامه وَحده أصلا يفرق بِهِ بَين أَئِمَّة الْهدى والضلال وَالسّنة والبدعة وَالْحق وَالْبَاطِل لَكِن يقبل من كَلَامه مَا وَافق فِيهِ أَئِمَّة الْمَشَايِخ وَهُوَ مَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة".
وحينما عرض ابن تيمية قضية منزلة العمل الظاهر من الإيمان، تكلم في أن مذهب تاركي الأعمال هو مذهب الزنادقة، وأنه لا يصح نسبه مذهب ترك الأعمال مطلقا للصوفية، فكما أن أئمة الفقه برءاء ممن أحدثه من جاء بعدهم، فكذلك أهل التصوف، يقول ابن تيمية: "فكما أن أولئك الأئمة الفقهاء برءاء من بدع أهل الكلام فضلا عن بدع الفلاسفة من الباطنية ونحوهم فكذلك المشايخ الصوفية برءاء من بدع أهل التصوف فضلا عن بدع من دخل فيهم من المتفلسفة وغيرهم فهذا أصل عظيم ينبغي معرفته".
وكان ابن تيمية يستشهد بأئمة الصوفية المتقدمين في فهم الكرامات، فذكر ما قاله أبو علي الجوزجاني أنه قال: "كن طالبا للاستقامة لا طالبا للكرامة، فإن نفسك منجبلة على طلب الكرامة وربك يطلب منك الاستقامة"، ثم ذكر قول السهروردي في عوارفه أن المتأخرين من سالكي الطريق حينما سمعوا عن كرامات السلف الصالحين المتقدمين تطلعوا إلى شيء منها، وكان منهم من يظل منكسر القلب متهما لنفسه في صحة عمله حيث لم يكاشف بشيء من ذلك، ثم بين ابن تيمية الحكمة من الكرامات، وأنها ليست ملازمة للطاعة.
وبين أن الحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة تفننا فيقوى عزمه على هذا الزهد في الدنيا والخروج من دواعي الهوى، وقد يكون بعض عباده يكاشف بصدق اليقين ويرفع عن قلبه الحجاب، ومن كوشف بصدق اليقين أغني بذلك عن رؤية خرق العادات؛ لأن المراد منها كان حصول اليقين وقد حصل اليقين فلو كوشف هذا المرزوق صدق اليقين بشيء من ذلك لازداد يقينا. فلا تقتضي الحكمة كشف القدرة بخوارق العادات لهذا الموضع استغناء به وتقتضي الحكمة كشف ذلك الآخر لموضع حاجته وكان هذا الثاني يكون أتم استعدادا وأهلية من الأول. فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة فهي كل الكرامة. ثم إذا وقع في طريقه شيء خارق كان كأن لم يقع فما يبالي ولا ينقص بذلك. وإنما ينقص بالإخلال بواجب حق الاستقامة. فتعلم هذا؛ لأنه أصل كبير للطالبين والعلماء الزاهدين ومشايخ الصوفية.
ومع الاستدلال بأن الصوفية المعيارية الصحيحة هي صوفية الأوائل، فقد أنكر ابن تيمية أن يؤخذ مذاهب أولياء الله الصالحين من المتأخرين أصحاب كالحلاج وابن عربي، وقال أنه من القبح بمكان أن تؤخذ العقيدة والكلام في أصول الدين ممن قتل زندقة، ووقع في الفسق أو الكفر، فهذا من الخلط البين والفساد في المنهاج.
القاعدة الثانية: إتباع منهج العدل والإنصاف في الحكم على المخالف:
أبان ابن تيمية أن العلماء الذين أخطأوا في الحكم على الصوفية صنفان:
الأول: طائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة.
الثاني: طائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء.
ثم أبان ابن تيمية حكمه في كلا الموقفين بقوله أن كلا طرفي هذه الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كغيرهم، ففيهم السابق، وفيهم المقتصد، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه.
وتطبيقا لهذا المنهج فقد قال ابن تيمية في القشيري أن ما كتبه فيه حق وباطل، وفيه نقص عن طريقة السلف، وفيه كلمات مجملة، وأحاديث ضعيفة، إلا أنه لا يجوز رفع التصوف فوق شأنه مطلقا أو ذمه مطلقا، موضح أن العدل والإنصاف أولى في الحكم، وكان ذلك سبب كتابته لكتاب الاستقامة، حتى يقف ويبين سبيل الأمة الوسط في الحكم على التصوف، وبيان طريقه الصحيح، وأن الوسطية ليست أن يرفع التصوف فوق قدره، أو أن يحط من قدره.
وهذا العدل والإنصاف من ابن تيمية رغم ما رآه من صوفية عصره، وعداوتهم الظاهرة له، والمناظرات التي عقدت بينهم، خاصة الطائفة الأحمدية، وابن عطاء الله السكندري، وكونهم سببا في سجنه عدة مرات، إلا أن ذلك لم يدفعه أن يظلمهم ويحكم عليهم حكما واحدا عاما، وإنما الحكم على الأشخاص يتطلب الورع والتجرد لله، وغايته النصح للمسلمين، فكما أنه كان شديدا على أهل الأهواء الذين ضلوا وأضلوا، إلا أنه كان منصفا مع الأوائل منهم.
وهذا الإنصاف معهم في تأويل كلامهم وحمله على الحسن منه، والتأول لهم في بعض المواطن كان جليا في بعض المواطن، نذكر منها:
الأول: تفسير ابن تيمية للتوحيد عند الجنيد: ومما ذهب إليه ابن تيمية حينما حكى كلام الجنيد عن التوحيد أنه إفراد القدم من الحدث، فقال: " قلت هَذَا الْكَلَام فِيهِ إِجْمَال والمحق يحملهُ محملًا حسنا وَغير المحق يدْخل فِيهِ أَشْيَاء"، وهذا معناه أنه لا بد من حمل الكلام محملا حسنا، وأنه ليس من الإنصاف إدخال أمور أخرى فيه، والمحمل الحسن ليس هو المحمل الشرعي الذي يوافق الدين، وإنما ما يوافق غالب كلام الشخص كما سيتبين بعد.
الثاني: مسألة السماع الصوفي عند المتقدمين:ويقول ابن تيمية أَن الْكَلَام الْمُجْمل من كَلَامهم لا بد أن يحمل على مَا يناسب سَائِر كَلَامهم[66]، فقد تأول ابن تيمية للصوفية الأوائل في بعض ما صدر منهم كمسألة السماع، وقال أن هذه المسألة لم تكن في القرون الثلاثة المفضلة، فلم يجْتَمع على هَذَا السماع الْمُحدث ولا كان هناك من أحدٍ يمزق ثِيَابه وَلَا يرقص فِي سَماع، بل لما حدث التغبير بالعراق فِي أَوَاخِر الْمِائَة الثَّانِيَة وَكَانَ أَهله من خِيَار الصُّوفِيَّة، وتكلم عنه الشافعي ووصفه بالبدعة قائلا: خلفت بِبَغْدَاد شَيْئا أحدثته الزَّنَادِقَة يسمونه التغبير يصدون بِهِ النَّاس عَن الْقُرْآن، قال فيه ابن تيمية أنهم متأولين، وأنهم من أهل الصدْق وَالْإِخْلَاص وَالصَّلَاح، وأن حسناتهم قد غمرت مَا كَانَ لَهُم من السَّيِّئَات أَو الْخَطَأ.
ومما ذكره ابن تيمية عن الجنيد أنه كان يكره التكلف في حضور هذه المجالس لأنه موطن فتنة، وذكر قول الجنيد: " السماع فتْنَة لمن طلبه ترويح لمن صادفه ".
ومن هنا يمكن أن نقول حكم ابن تيمية عليهم أنهم متأولين، هذا خاص بما أحدثه طائفة من الأوائل ووقعوا فيه في هذه المسألة، وهذا إدراك من ابن تيمية لحجم المسألة ونوعيتها، ومن ثم ينزلها المنزلة التي تنبغي لها، وكذلك نراه لم يعمم الحكم على كل من وصف بالتصوف ممن خالف الكتاب والسنة، واتبع الطرق ووقع في الشرك والكفر ممن جاء بعدهم، لأن ذلك يكون بمثابة التقليد الأعمى الذي نهى القرآن عنه.
القاعدة الثالثة: التحقيق في نسبة الأشخاص للصوفية حتى لا تنسب أقوالهم وأفعالهم للتصوف
لم يكن ابن تيمية يقبل نسبة الرجل للتصوف بمجرد محاولة أن ينسبه أحد لهم، وكانت القاعدة عند ابن تيمية هو وجود ما يمكن أن نسميه بالتصوف المعياري، وهو التيار الذي يتميز بالعقيدة السلفية الممتزجة بالزهد والسلوك، فمن خالفها، أو حاول أن يشوبها بالفلسفة والكلام فانتسابه للتصوف مرفوض، لذلك رفض ابن تيمية انتساب طوائف من أهل البدع والزندقة للصوفية، وبين أنهم عند المحققين ليسوا منهم، كالحلاج وابن عربي ومن ذلك ما ذكره عنهم في تبرؤهم من الحلاج بقوله: " وَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْعَالِمُونَ بِحَالِ الْحَلَّاجِ فَلَيْسَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ يُعَظِّمُهُ".
القاعدة الرابعة: مراعاة انطباق الشروط وانتفاء الموانع في الحكم على الصوفية
وحينما تكلم ابن تيمية عن السكر الصوفي والجذب، فرق بين ما هو حاصل بسبب مشروع كتلاوة القرآن، وبين ما يحصل بسبب غير مشروع، كمن بتناول الحشيشة أو الخمر، فشتان بين من لم يصدر منه تفريط أو عدوان، وإن صدر عنه فلا ذنب له فيه، كمن سمع القرآن السماع الشرعي ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك، وكذلك ما يرد على القلوب من السكر والفناء وما يغيب العقل بغير اختيار، فإنه إذا لم يكن السبب محظورا لم يكن السكران مذموما بل معذورا فإن السكران بلا تمييز، أما إن حصل بتناول السكر من الخمر والحشيشة فإنه يحرم بلا نزاع بين المسلمين، وإن استحل السكر فهو كافر.
ويقول أيضا في بعض الشطحات الواردة عنهم أنها قد تكون من السكر والغيبة التي ينتج عنها وجد دون تمييز فينتج عنه بعض الفناء، والتي قد ينتج عنه الشطح كالقول الذي صدر من أبي يزيد البسطامي حين قال: سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، ثم علق ابن تيمية على ضابط الحكم على ذلك بقوله أن كلمات السكران تطوى ولا تروى ولا تؤدى، وأما إن كان السبب محظورا لم يكن السكران معذورا لا فرق في ذاك بين السكر الجسماني والروحاني؛ فسكر الأجسام بالطعام والشراب وسكر النفوس بالصور وسكر الأرواح بالأصوات.
وهذا ضابط هام في التفريق بين من يجد حلاوة الإيمان التي قد تصل للنشوة، والتأثر بالنصوص والعيش معها، فيبكي في مواضع العذاب والجحيم، ويستبشر في مواضع الثواب والنعيم، و النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في رفع القلم عن هؤلاء: "رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه حتى يبرأ"
ومن هذه الضوابط التي أخذها ابن تيمية مراعاة قصد المتكلم، فحينما أراد ابن تيمية شرح مفهوم الحلول، فرق بين القصد وعدمه، فقد وضح ابن تيمية أن لفظ الحلول قد يراد به حلول الشيء ذاته تارة كعقيدة الحلول عند النصارى، وحلول معرفته ومحبته تارة، كقول الواحد منا "أنت ساكن في قلبي"، فهو كقول العامة، ولم يفهم أحد من الكلام أن الله حال فيه، فهو كما يقال أن الله في قلوب العارفين، وكما يقال: إِنَّ اللَّهَ فِي الْمَسْجِدِ، ليس المراد أنه حَالٌّ فِيهِ، وبِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ: اللَّهُ فِي قَلْبِ فُلَانٍ، وفلان مَا عِنْدَهُ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا قَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ»."
ويمكن أن يستدل هنا بعض الباحثين أن ابن تيمية قد تساهل معهم، لأن هؤلاء الصوفية قد تكلموا حال صحوهم، ووجدهم، ولم نجد لهم إنكارا لتلك الشطحات حال صحوهم، والرد على ذلك أننا نرد على تأويل الشطح، وليس ثبوت ما يخالفه عمن وقع منه ذلك، ولا يمكن أن نطلب تأويلا لكل حادثة بعينها، لأنهم صنفوا في ضوابط هذا الشطح، وإنما نقول أن لازم المذهب ليس بمذهب ما لم يلتزمه صاحبه، فمتى التزمه حال صحوه وقال به فهنا يثبت الحكم.
القاعدة الخامسة: عدم إطلاق التعميمات في الأحكام على المخالف الذي سنطلق من أصول صحيحة
كان من منهج ابن تيمية عدم تعميم الأحكام على الفرق والطوائف التي انطلقت من أصول صحيحة، وإن فشت فيها البدع بعد ذلك، أما التي انطلقت من أصول مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان فكان يعمم الأحكام عليها، وذلك كأحكامه على الروافض والخوارج والباطنية والمرجئة، وذلك لأن أصول مذاهبهم التي انطلقوا منها تقوم على مخالفة الكتاب والسنة، بخلاف الأصول التي انطلق منها المذهب الصوفية من حيث الزهد والأخلاق والعقائد.
وتطبيق هذه القاعدة نجده عند ابن تيمية حينما عرض مذاهب الفرق المختلفة في أفضل الأولياء بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال أن أفضل الأولياء باتفاق أئمة السلف والخلف هما أبو بكر وعمر، وأن الشيعة يفضلون عليا، وحينما عرض مذهب الصوفية قال: "ومن قال من مخطئي الصوفية أنه قد يمكن أن يكون في المتأخرين من هو أفضل من أبي بكر وعمر" فقد عمم ابن تيمية الحكم على الشيعة، وحينما أراد أن يتكلم على الصوفية قال أن البعض منهم هم المخطئون في تفضيل بعض الأولياء على أبي بكر الصديق، رغم أن ابن تيمية قد عاصر غلاة الصوفية، وكانت بينهما المناظرات، إلا أن ذلك لم يدفعه لتعميم الأحكام عليهم.
ومثال أخر للتطبيق أنه حينما أراد أن يرد على بعض الصوفية في إثبات صفة العشق لله، لم يعمم الحكم في الصوفية، لأنه ليس مذهب عامتهم، فقال ابن تيمية:"وهذا قول بعض الصُّوفية والجمهور لا يطلقون هذا اللَّفظ في حق الله لأن العشق هو المحبة المفرطة الزائدة على الْحَد الَّذِي يَنْبَغِي وَالله تَعَالَى محبته لَا نِهَايَة لَهَا فَلَيْسَتْ تَنْتَهِي إِلَى حد لَا تنبغي مجاوزته" .
وهذا المنهج من ابن تيمية جعله يقول بالإنصاف في الحكم عليهم، لأن وقوع الانحراف الانحراف وارد في كل فرقة، إلا أنه لا يوجب إنكار الطريقة بأكملها، يقول ابن تيمية: "حَتَّى صَار المنحرفون صنفين صنف يقر بِحَقِّهَا وباطلها وصنف يُنكر حَقّهَا وباطلها كَمَا عَلَيْهِ طوائف من أهل الْكَلَام وَالْفِقْه وَالصَّوَاب إِنَّمَا هُوَ الْإِقْرَار بِمَا فِيهِ وَفِي غَيرهَا من مُوَافقَة الْكتاب وَالسّنة وَالْإِنْكَار لما فِيهَا وَفِي غَيرهَا من مُخَالفَة الْكتاب وَالسّنة".
القاعدة السادسة: اتباع المنهج التاريخي للبحث في أصالة المنهج من عدمه
حينما عرض ابن تيمية مذهب الصوفية، أنكر عليهم في اعتماد مذهبهم استبعاد القرون الثلاثة المفضلة في بداية تصانيفهم المشهورة في التأريخ للتصوف، وأوضح أن منهم من لم يسلك مسلك الإمام أحمد في كتابه الزهد، فهذا الإعراض كان قصورا في المنهج الصوفي في التصنيف عند المتقدمين، لأن حياة الصحابة والتابعين كانت أشد زهدا من المتأخرين، ثم علق ببيان أن معرفة الأصول تقطع الشك في القلوب بقوله: "فإن معرفة أصول الأشياء ومبادئها ومعرفة الدين وأصله وأصل ما تولد فيه من أعظم العلوم نفعا. إذ المرء ما لم يحط علما بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكة.
وحينما أراد ابن تيمية أن يحكم على الصوفية، قام بالتفريق بين المتقدمين والمتأخرين، فأوضح أن المتقدمين والمتأخرين في القسمة الزمانية ثلاثة أصناف: قومٌ على مذهب أهل الحديث كهؤلاء المذكورين في المتقدمين في الغالب، وقومٌ على طريقة أهل الكلام كأبي القاسم القُشَيري، وقومٌ خرجوا إلى طريقة المتفلسفة كمن سلك مَسْلك إخوان الصفا وأبي حَيَّان التوحيدي، ثم بين أن ابن عربي وابن سبعين هم من أهل الفلسفة الذبن غيَّروا عبارتها وأخرجوها في قالب صوفي وبذلك أخرجهم ابن تيمية من الصوفية لتبرؤ الصوفية المحققين منهم.
وكان من منهج ابن تيمية التتبع للمحدثات التي دخلت في التصوف، وبيان كونها من طريقة المتقدمين أم لا، ومثال ذلك تتبع ابن تيمية لمبحث الأسماء والصفات لدى الصوفية الأوائل، فقد أبان ابن تيمية أن منهج المتقدمين منهم أبعد ما يكون عن الإلحاد في الأسماء والصفات، وأن مذهبهم هو ما كان عليه سلف الأمة، إلا أن كثيرا من متأخري الصوفية دخلوا في مذهب الإباحة والحلولية، وخلطوا التصوف بالفلسفة اليونانية، كما خلطه بعضهم بشيء من أقوال أهل الكلام الجهمية وهذه الأقوال إنما تلقوها من قول النصارى وفلاسفتهم.
فلم يكن من الكافي لدى ابن تيمية إثبات الحقيقة على ما هي عليه الآن فحسب، لأن ذلك يفضي إلى التعميم، وإنما التحقيق بالبحث التاريخي في المسائل من أجل تحقيق الإنصاف في الأحكام، وهذا مثال للباحث المنصف الذي يبذل الجهد في الوصول للأحكام، ومعرفة الأصيل من الدخيل في الفكر محل الدراسة.
القاعدة السابعة: حمل المجمل على الغالب والمفصل من كلام القوم
كان من منهج ابن تيمية في تأويل مقالات العلماء بحملها على المحمل الحسن، يقول ابن تيمية: "قَالَ أَبُو الْقَاسِم عرفُوا مَا هُوَ حق الْقدَم وتحققوا بِمَا هُوَ نعت الْمَوْجُود عَن الْعَدَم وَكَذَلِكَ قَالَ سيد هَذِه الطَّائِفَة الْجُنَيْد رَضِي الله عَنهُ التَّوْحِيد إِفْرَاد الْقدَم من الْحَدث، قلت هَذَا الْكَلَام فِيهِ إِجْمَال والمحق يحملهُ محملًا حسنا وَغير المحق يدْخل فِيهِ أَشْيَاء" .
والمحمل الحسن هنا ليس توجيهه إلى ما يوافق الشرع، وإنما توجيهه إلى ما يوافق مذهبه، لأن قد يكون في نسبة الأقوال المجملة للشرع ما لا يكون مراد المتكلم في الأصل، وإنما يُعلَمُ مرادُ المتكلم من تفصيله وما يوافق غالب كلامه، وليس من الإنصاف توجيه أصحاب المقالات الباطلة بما يوافق الشرع، لذلك يقول ابن تيمية في منهجه في توجيه كلام أهل المقالات: " الْكَلَام الْمُجْمل من كَلَامهم يحمل على مَا ينْسب سَائِر كَلَامهم".
وهذه القاعدة عامة في فهم النصوص، فإنه متى أشكل نص بإجماله وجب البحث في تفصيله، ولا شك من منفعة بيان الإجمال، والأوجه التي يحتملها النص، خاصة إن اشتمل على أوجه فاسدة، فإن العالم مطالب ببيان الحق دون تسرع في الحكم، وبإنصاف، ولا ينشغل بالحكم على الناس في البداية.
وهذه القاعدة يمكن تطبيقها على كلام ابن تيمية نفسه، فقد تكلم في بعض المواطن عن الصوفية بإجمال، من ذلك قوله: "كَمَا أَن الصُّوفِيَّة وَنَحْوهم إِلَى النَّصَارَى أقرب فَإِن النَّصَارَى عِنْدهم عبَادَة وزهد وأخلاق بِلَا معرفَة وَلَا بَصِيرَة فهم ضالون" إلا أنه قد وضح هذا الإجمال في موضع آخر بقوله: "فإن منحرفة أهل الكلام فيهم شبه اليهود ومنحرفة أهل التصوف فيهم شبه النصارى".
القاعدة الثامنة: اعتبار المصطلح الصوفي من معجم الصوفية وأنه لا مشاحة في الاصطلاح
هناك من أنكر على الصوفية أن يكون لهم معجمهم الخاص كأهل كل فن، فكما أن لأهل الأصول معجمهم، فلأهل الفلسفة معجمهم، لذلك نجد أن الواجب عند الأصوليين غير الواجب عند الفلاسفة، فلا يوجد ما يمنع أن يكون للصوفية كأصحاب علم أن يكون لهم معجمهم الخاص، وهذا ما ذكره ابن تيمية عند شرحه لمصطلح الفقر في الكتاب والسنة، فذكر أن الفقر المراد فيهما هو المضاد للغنى، والذي منه المسوغ لأخذ الزكاة، وضده الغنى المانع لأخذ الزكاة، قال تعالى: فقال في الأولى: ﴿ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ﴾ ثم أوضح أنه لما كان جنس الزهد في الفقراء أغلب، صار الفقر في اصطلاح كثير من الناس عبارة عن طريق الزهد، فإذا قيل: هذا فيه فقرلم يرد به عدم المال، إنما يراد به ما يراد باسم الصوفي من المعارف والأحوال والأخلاق والآداب ونحو ذلك وفي ذلك إقرار لمصطلح الصوفي المشتق من التصوف، وأن الإشكال ليس في التسمية، وإنما في المعنى الواقف وراءه.
كما استخدام ابن تيمية المعجم الصوفي مقرا له، فكان يصف علماء الصوفية المبرزون بالقطب، والعارف، فقد وصف الجيلي بأنه قطب العارفين.
وقد ذكر ابن تيمية تأصيلا لهذه القاعدة، وردا على بعض الصوفية الذين يقولون أن الله يرى بالأعين في الدنيا مستدلين بأقوال لاوائل لصوفية: "واعلم أن ألفاظ الصوفية وعلومهم تختلف، فيطلقون ألفاظهم على موضوعات لهم، ومرموزات وإشارات تجرى فيما بينهم، فمن لم يداخلهم على التحقيق، ونازل ما هم عليه، رجع عنهم خاسئًا وهو حسير" ثم ذكر إطلاقهم لفظ الرؤية بالتقييد، فقال: كثير ما يقولون: رأيت الله، وذكر عن جعفر بن محمد قوله لما سئل: هل رأيت الله حين عبدته؟ قال: رأيت الله ثم عبدته. فقال السائل: كيف رأيته؟ فقال: لم تره العيون بتحديد العيان، ولكن رأته القلوب بتحقيق الإيقان."
وقد استخدم ابن تيمية ألفاظ الصوفية، إذ لا مشاحة في الاصطلاح، والعبرة بما تحمله تلك المعاني، بذلك يقول في مقدمته لكتاب أمراض القلوب وشفاؤها عن سبب تأليفه، فكان مما ذكره من الألفاظ: "المقامات" و"الأحوال"، وأنها من أصول الايمان، ومن هذه المقامات والأحوال محبة الله ورسوله والتوكل والإخلاص والشكر والصبر والخوف والرجاء.
وقال أيضا الاحتجاج بمصطلحاتهم حينما تكلم ابن تيمية عن الإرجاء، فقال أن الصوفية يدخلون أعمال القلوب التي يسمونها أحوالاً ومقامات أو منازل السائرين إلى الله أو مقامات العارفين، كل ما فيها مما فرضه الله ورسوله فهو من الإيمان الواجب، وفيها ما أحبه ولم يفرضه، فهو من الإيمان المستحب، فالأول لابد لكل مؤمن منه، ومن اقتصر عليه فهو من الأبرار أصحاب اليمين، ومن فعله وفعل الثاني كان من المقربين السابقين.
والشاهد من كلام ابن تيمية أن من لم يفهم مراد الصوفية لتقصير عن فهم مفرداتهم، فحتما سيسيء الحكم عليهم، وإساءة الحكم عليهم دليل على التقصير في طلب الفهم، وانعدام المنهج العلمي في التأويل، وإساءة ظن بالآخرين.
القاعدة التاسعة: عدم الخوض في الأقوال المشتهرة دون سند:
كان منهج ابن تيمية عدم الخوض في الأقوال المشتهرة على الألسنة ما لم يصح سندها، وذلك لأن الأحكام تحتاج لورع ودين، فالمرء مؤاخذ أمام الله جل وعلا بما يصدر عنه من أقوال وأفعال الله، فابن تيمية لم يتكلم في الحلاج في أول الأمر لأنه كان يرى أن غالب الأقوال المنسوبة إليه في سندها مقال، فقد نسبت له هذة الروايات الشطح المؤدي للحلول والاتحاد لكنه حينما علم حاله ومقالاته تكلم فيه، فقد تكلم فيه وأشار إليه كما في جامع الرسائل، وقال عنه: "لهذا كانت فرقة ابن سبعين فيها من رجال الظلم جماعة منهم الحلاج - وعند جماهير المشايخ الصوفية وأهل العلم أن الحلاج لم يكن من المشايخ الصالحين؛ بل كان زنديقا"، وقال في تبرؤ الصوفية الحقيقيين من الحلاج: " وَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْعَالِمُونَ بِحَالِ الْحَلَّاجِ فَلَيْسَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ يُعَظِّمُهُ".
القاعدة العاشرة: التمييز بين أئمة الصوفية المعتدلين وبين أتباعهم الغالين فيهم من بعدهم
كان من منهج ابن تيمية التفريق بين أئمة التصوف المعتدلين وأتباعهم الذين غلوا فيهم، فإن الغلو قد حصل في الأنبياء، والصالحين، ولا يضرهم هذا الغلو بشيء لأنهم لم يأمروا به، ولم يشهدوه ليقروه، لذلك حينما كان ابن تيمية يتكلم عن فرق الصوفية وجماعتهم، يفرق بين ما وصلوا إليه من انحراف، وما كان عليه إمامهم الذي ينتسبون إليه، فحينما تكلم عن عدي بن مسافر بن صخر وصفه بالصلاح، وأن له أتباع صالحون، إلا أن من أصحابه من غلا فيه إلى حد الكفر.
وهذا التفريق يمكن أن يوجد في شيء منه في قاعدة العدل والإنصاف، والتفريق بين المتقدمين والمتأخرين، إلا أنه يضيف بعدا آخر في العلاقة بين الأستاذ والتلميذ، وعدم مسؤولية المتقدمين عما صنعه أتباعهم، فلا ينبغي أن نظن أن الرفاعي كان على ما عليه الرفاعية، أو أن عبد القادر الجيلاني كان على ما كان عليه القادرية، وهو يشابه انتساب الأشاعرة للإمام الأشعري رغم مخالفتهم لما استقرت عقيدته عليه.
القاعدة الحادية عشرة: التفريق بين المجتهد والمقصر في طلب الحق
ومن قواعد الشريعة الإسلامية أن المجتهد المصيب له أجران، والمخطئ له أجر واحد، وهذا القول هو ما طبقه ابن تيمية على الصوفية حينما أراد إنزال الأحكام عليهم فقال: "فالمجتهِدُ الْمَحْضُ مَغْفُورٌ لَهُ وَمَأْجُورٌ، وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمَحْضِ مُسْتَوْجِبٌ لِلْعَذَابِ، وَالْمُرَكَّبُ مِنْ شُبْهَةٍ وَهُوَ مُسِيءٌ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ مَا يَغْلِبُ وَبِحَسَبِ الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ، وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى فِقْهٍ أَوْ تَصَوُّفٍ مُبْتَلُونَ بِذَلِكَ."
ومن هنا وجب البحث عما كان الرجل مجتهدا في طلب الحق، أم أنه مقلد للتقليد الأعمى، مقصر في طلب العلم، عاملا بما لم يعلم، والكتاب والسنة يحثان على طلب العلم قبل القول والعمل، ومن هنا نلتمس لهم الزلات، ونغفر لهم العثرات، لكننا نردها ونبين عوارها، وهذا هو الحق المبين في هذه المسألة والله أعلم.
القاعدة الثانية عشرة: عدم الحكم بالظن، مع التفريق بين الأصول والفروع لمعرفة قدر الخلاف والحكم على المخالف:
لقد أنكر ابن تيمية على من يبادر إلى تأويل أقوال المخالف بغلبة الظن، موضحا أن ذلك المنهج في التأويل قد يؤدي إلى التكفير إن كان متصلا بأمور الاعتقاد، فالحكم بالظن أمر مذموم في الشرع، يقول ابن تيمية: "من الناس من يبادر إلى التأويل بغلبات الظنون من غير برهان قاطع ولا ينبغي أن يبادر إلى تكفيره في كل مقام بل ينظر فيه فإن كان تأويله في أمر لا يتعلق بأصول العقائد ومهماتها فلا نكفره".
ثم أخذ ابن تيمية في الاسترسال لشرح هذه القاعدة ضاربا لها الأمثلة حتى يتبين المقام لمن يتصدر لإلقاء الأحكام القطعية دون بالظن المذموم الذي يمنعه من إقامة الحجة والبرهان للتبين من الحكم، وإلا فهناك قدر من الظن المعمول به في الشرع لأنه لا يتيسر لكل إنسان شهود كل الأمور، فأوجب الشرع العمل بشهادة العدول، وقبول خبر الواحد.
القاعدة الثالثة عشرة: التفريق بين منهج المتقدمين والمتأخرين من الصوفية:
دائما ما نجد في كلام ابن تيمية التفريق بين منهج المتقدمين والمتأخرين حينما يعرض للقضايا الصوفية التي أحدثها المتأخرون، فقد نص على أن طريقة الفلاسفة المتأخرين والباطنية وأصحاب رسائل إخوان الصفاء والفارابي وابن سينا والسهروردي المقتول، وابن رشد الحفيد، وملاحدة الصوفية تختلف عن طريقة عن طريقة المشايخ المتقدمين من أهل الكتاب والسنة ويذكر أيضا أن كثيرا من متأخري الصوفية دخلوا في مذهب الإباحة والحلولية، وخلطوا التصرف بالفلسفة اليونانية، كما خلطه بعضهم بشيء من أقوال أهل الكلام الجهمية.
فنصوص ابن تيمية كانت تحتوي في غالبها على التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في الزمان والمنهاج، خاصة بين من كانت أصولهم صحيحة ثم حصل الفساد العارض من المنتسبين، يدل النص التالي على تفريق ابن تيمية بين متقدمي ومتأخري الصوفية وأهل السنة في آن واحد، فيقول ابن تيمية: " وقد غلط طائفة ظنوا أنه نفسه الذي يسمع منه القرآن، وهو الذي يقرؤه بنفسه بلا واسطة عند قراءة كل قارئ، كما غلطوا في القرب، وهم طائفة من متأخري أهل الحديث ومتأخري الصوفية".
وهذا يجعلنا نقول: أن تفريق ابن تيمية بين المتقدمين والمتأخرين في كل من الصوفية وأهل الحديث يجعلنا نتيقن أنه ثم فرق بين المنهج والانتساب للمنهج، فالخيرية في المتقدم لأنهم السلف، والمتأخر هو من غير وبدل في الأصل الذي وضع له، لذلك نرى متقدمي أهل السنة يمدحون التصوف القائم على الكتاب والسنة، وأنه لا يجوز أن يُنسَبَ لهم ما وقع فيه المتأخرون وما أحدثوه في التصوف الأصيل قبل دخول المحدثات والبدع عليه، لذلك على من اتبع طريق السلف أن يفهم جيدا مسألة التفريق بين الصوفية الأوائل والمتأخرين حتى لا يسيء للسلف بسوء فهمه للقضايا المطروحة، وقصر فهمه.
القاعدة الرابعة عشرة: التحقيق في المسائل وتفصيلها قبل إنزال الأحكام:
فقد أبان ابن تيمية هذه القاعدة من خلال تحقيقة لما نسب إلى الصوفية من أقوال، وقد ذكر ابن تيمية هذه القاعدة في أثناء عرضه لمسألة الغشيان والسكر عن الصوفية بقوله: "فهكذا يجب التفصيل في هذه الأحوال والله أعلم" كأنما يقول بلسان الحال والمقال رادا على من تسرع في الأحكام، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولا ينبغي التسرع في الحكم وإنزاله على كل من حصل لهم الوجد أو السكر بحكم واحد، والظاهر أن شيئا من هذا التسرع قد حصل في عصره، وإلا لما أشار إليه في غالب كتاباته. ولدينا هنا تطبيقا لهذه القاعدة عدة أمثلة:
المثال الأول: تحقيق ابن تيمية في الغشيان والسكر والوجد الصوفي:
فقد بين ابن تيمية أن هذا السكر الصوفي لم يكن حال الصحابة، وأنه تكلم به طائفة من متأخري الصوفية الذين كان يحصل لهم نوع من الوجد والذوق، مع سقوط التمييز والعقل مع حصول اللذة الناتجة عن الخشية، وقد يكون عن العجز عن الإدراك المفرط للعظمة التي تجلت للإنسان، كما حدث لموسى عليه السلام.
كما علق على الضابط لمشروعية هذا الفناء، وبيان المشروع منه من الممنوع بقوله: "يحمد مَا فِيهَا من الامور المحمودة الايمانية من ذوق اَوْ وجد ايماني مَشْرُوع اَوْ محبَّة ايمانية اوخشية ايمانية وَلَا يحمد مِنْهَا مَا زَاد على الْمُسْتَحبّ وَمَا شغل عَن مَا هُوَ احب مِنْهُ،ويذم مِنْهَا مَا تضمن ترك وَاجِب من علم اَوْ عمل اوفعل محرم " ليس ذلك فحسب، بل وأبان ابن تيمية أن المذموم منها قد لا يكون بإرادة العبد، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعا.
وفي النهاية استنتج ابن تيمية حُكمَه أنه لا يُذَم بضابط، يقول ابن تيمية: "لَكِن اذا كَانَ المذموم بِغَيْر تَفْرِيط من العَبْد وَلَا عَن عدوان مِنْهُ لم يذم مِنْهُ، وكما ذكرت مثل ذَلِك فِي قاعة المولهين وعقلاء المجانين والمغلوبين فِي احوالهم وَمن يسلم اليه حَاله وَمن لَا يسلم اليه حَاله فَإِن السكر نوع من الْغَلَبَة ويذم من لم يحصل لَهُ من هَذِه الاحوال مَا يجب حُصُوله كَمَا ينقص من عدم مِنْهَا مَا يسْتَحبّ حُصُوله فَهَكَذَا يجب التَّفْصِيل فِي هَذِه الاحوال وَالله اعْلَم ".
المثال الثاني: تحقيق ابن تيمية لمسألة الفناء الصوفي:
وقد فرق ابن تيمية بين المعاني المختلفة للفناء، ووضح أنه الفناء عند الصوفية ثلاثة أمور:
الأول: فناء القلب عن إرادة ما سوى الرب بالتوكل وعبادة القلب، فهذا حق صحيح يراد به الفناء عن عبادة الغير.
الثاني: فناء القلب عن شهود ما سوى الرب، فهذا الفناء فيه نقص، لأن شهود الحقائق على ما هي عليه هو شهود الرب مدبرا لعباده آمرا بشرائعه أكمل من شهود وجوده أو صفة من صفاته، ولهذا كان الصحابة أكمل شهودا من أن ينقصهم شهود للحق مجملا عن شهوده مفصلا.
الثالث: فناء عن وجود السوى، بمعنى أنه يرى أن الله هو الوجود وأنه لا وجود لسواه لا به ولا بغيره وهذا القول والحال للاتحادية الزنادقة من المتأخرين كالبلياني والتلمساني والقونوني ممن قالوا أن الله عين الموجودات، ولا وجود لغيره.
وهنا يأتي التفصيل من ابن تيمية بقوله أنهم لو أرادوا قول الله تعالى ﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾ لكان ذلك هو الشهود الصحيح، أما لو أرادوا أن الله هو عين الموجودات فهذا كفر وضلال، ثم قال ابن تيمية معلقا على هذا التقسيم: " فتدبر هذا التقسيم فإنه بيان الصراط المستقيم." وهذا التفصيل هو ما نقصده في تقعيد ابن تيمية لهذه القواعد، ليس في الحكم على الصوفية فقط، وإنما لمن طلب الحق غير متعصب لمذهب، وإنما تعصب للحق وحده.
المثال الثالث: كلام الشيخ في الانتساب لشخص معين:
وضح ابن تيمية جواز انتساب طائفة إلى شيخ معين، لأنه لا ريب أن الناس يحتاجون من يتلقون عنه الدين، فقد تلقى الصحابة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتلقاه عنهم التابعون؛ وبذلك يحصل اتباع السابقين، الأولين بإحسان فكما أن المرء له من يعلمه القرآن ونحوه فكذلك له من يعلمه الدين الباطن والظاهر.
إلا أن ذلك لا يتعين ذلك في شخص معين، ولا يحتاج الإنسان في ذلك أن ينتسب إلى شيخ معين لأن كل من أفاد غيره فهو شيخه، فسلف الأمة شيوخ لخلفها، وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته ويعادي على ذلك، بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان ومن عرف منه التقوى، لأن الفضل الثابت في الكتاب والسنة إنما يحصل بالتقوى.
وأنكر ابن تيمية بعض بدع متأخري الصوفية الذين يقولون للمريدين: "أنت للشيخ فلان وهو شيخك في الدنيا والآخرة"، وأبان أن هذا القول من البدع المنكرة، فلا يجوز أن يجعل المرء نفسه لغير الله، كما أنه لا يصح أن يقال: إن فلانا شيخك في الدنيا والآخرة، فهو كلام لا حقيقة له فإنه إن أراد أنه يكون معه في الجنة فهذا إلى الله لا إليه وإن أراد أنه يشفع فيه فلا يشفع أحد لأحد إلا بإذن الله تعالى إن أذن له أن يشفع فيه وإلا لم يشفع، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يشفع حتى يأذن الله له في الشفاعة، فكيف بمن هو دونه. وكم من مدع للمشيخة وفيه نقص من العلم والإيمان ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
وأنكر الشيخ قول من قال من الصوفية: "إن الله يرضى لرضا المشايخ ويغضب لغضبهم"، وبين أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وليس أحد معصوما إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كان مبتدعا بدعة ظاهرة أو فاجرا فجورا ظاهرا، فهذا يجب الإنكار عليه كائنا من كان، لأن طاعة الله ورسوله أولى.
القاعدة الخامسة عشرة: دراسة آراء السابقين من السلف دون تقديسها ما لم يحصل الإجماع عليها:
من خلال دراسة تراث ابن تيمية ومراجعة منهجه العلمي، نجد أنه كان موقرا لسلف الأمة وآرائهم، عقيدة ومنهجا، إلا أنه ذلك لم يدفعه إلى تقدي ما لم يحمعوا عليه، فكل مسألة لم يقم عليها إجماع ثابت عن السلف فهي خاضعة للبحث والمناقشة، وهذا ما قام به ابن تيمية في دراسته لكل الآراء، وهذا هو الجانب التنظيري.
أما الجانب التطبيقي فقد نقل ابن تيمية ما نقل عن أئمة السلف في الصوفية، وأنهم ذموا التصوف، ولم يجعل ذلك النقل يؤثر على وجهته العلمية في تحرير محل النزاع، ولم يتهمه أعلام السلف ممن جاء بعده أنه يطعن في السلف كما يحصل في مثل هذه الأيام، فقد نقل ابن تيمية أن الأئمة الشافعي ومالك وطائفة من أهل العلم ومن العباد أيضا من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وأهل الحديث والعباد قد ذموا التصوف، بينما مدحه آخرون، إلا أنه ذهب إلى أن التحقيق فيه : "أنه مشتمل على الممدوح والمذموم كغيره" فكما نرى أن ابن تيمية لم يقدس رأي من سبقه من الأئمة المجتهدين طالما أنه لم يخالف النص والإجماع، وإنما أخضعها للبحث والتحقيق كباحث محقق منصف، وكأنما يرد ابن تيمية على من يزعم نبذ التقليد، ثم يذهب فيقدس أقوال الأئمة، ويقبلها رغم أنها يمكن توجيهها بأكثر من وجه.
الفصل الرابع
أسباب الخطأ في فهم موقف ابن تيمية من الصوفية في العصر الحديث
أولا: تصرف بعض المحققين في وضع المقدمات والعناوين التي لا تتناسب مع مذهب ابن تيمية
1- الشيخ محمد رشاد سالم رحمه الله: فقد وضع الشيخ محمد رشاد سالم رحمه الله عنوانا عاما في "غلو الصوفية" يتنافى مع المتن الذي كتبه ابن تيمية في ذكر بعض الطوائف الصوفية، وبالرجوع للنسخ غير المحققة تبين أن ابن تيمية لم يضع هذا العنوان، وإنما كانت هذه العناوين الجانبية تصرفا من المحقق واجتهادا منه لتيسير فهرسة الكتاب، وهذا يؤكد أن المنهج الذي سار عليه ابن تيمية منهج محكم لا تعميم فيه للأحكام، ولا شك أن الشيخ محمد رشاد سالم رحمه الله لم يكن من أنصار هذا المنهج، وهو من أكثر العلماء خدمة لتراث ابن تيمية، فقد اجتهد في وضع العناوين الجانبية، والتي غالبا ما لا تنفك صياغتها عن الواقع العملي للتصوف.
2- ربيع بن هادي المدخلي : ففي تحقيقه لكتاب "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة"، ذكر في مقدمته أن ابن تيمية: "عرف التصوف وما ينطوي عليه من شرور وخرافات وأباطيل واصطلاحات فاسدة ومغالطات تفسد وتدمر الدين والعقل، فثلَّ عروشه ودمر قواعده، وكشف تلك المغالطات بالحجج الواضحة والبراهين الساطعة."
ورغم أن الشيخ ربيع من المنصفين المتحرين للحق قبل إقامة الحكم على المخالفين، إلا أنه قد وقع هنا في التعميم، وهو مجتهد له أجره عند الله، وما نعرفه عنه أنه رأى التصوف في بقاع شتى، وكأحد العلماء الربانيين الداعيين إلى التوحيد الخالص، يمكن إسقاط هذه المقولة على التصوف العملي السائد في هذا العصر وأن تصوف الأوائل لم يعد موجودا الآن إلا في بطون الكتب في الغالب.
3- الأستاذ الدكتور ناصر عبد الكريم العقل: في تحقيق الأستاذ الدكتور ناصر عبد الكريم العقل لكتاب "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم"، ذهب في دراسته للكتاب إلى تعميم الأحكام على الصوفية، ولا يعني ذلك أن ما ذكره من بدع ومحدثات وشركيات ليس بحق، بل هي عين الحق، إلا أن الضبط المنهجي يستلزم التفريق بين المتقدمين والمتأخرين على الرغم من كون منهج المتقدمين يكاد يكون قد انقرض الآن، فذكر أن الصوفية بطرقها الكثيرة، وطقوسها المبتدعة، وشركياتها وأساليبها الشيطانية لا تزال تؤتي ثمارها النكدة، من التفريق بين المسلمين، وجعلهم طرائق قددًا.
فهذا التعليق العام هو ما يوقع القارئ في التعميم بالأحكام على التصوف ورفض التصوف بإطلاق، ورغم أن الواقع العملي قد يتمشى مع هذا التعميم، إلا أن الواقع العلمي يتنافي معه ويرفضه، خاصة بعدما سبب إشكاليات واتهامات متبادلة بين الطرفين، فسبيل العدل والإنصاف يقتضي بيان الحقائق العلمية، وإلا فلا يجوز لنا أن ننكر قول من ينتقص المنهج السلفي لانحراف بعض المنتسبين إليه علميا أو عمليا، فالعبرة بأصل المنهج، ولا يجوز الحكم عليه بعدم الشرعية أو التبديع المطلق طالما أنه انطلق من أصول صحيحة، وهذا ما ذكره الله جل وعلا بقوله في أصل توحيد النصارى ورصد الانحراف وذم من بدل، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ *مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ ، فلا ذنب لعيسى عليه السلام فيما بدله من جاء بعده، فلا يستحق الذم.
ثانيا: الإجمال في الفتوى من بعض العلماء المجتهدين والجهات الموثوقة في الفتوى التي تنصر فكر ابن تيمية:
تمهيد:
وليس معنى ذلك أن هؤلاء العلماء وهذه الجهات لم تفهم وسطية فكر ابن تيمية، بل قد فهموا وسطية منهج ابن تيمية في أحكامه على الصوفية، إلا أن هناك بعض الفتاوى التي خرجت مخرج الحكم المجمل، ومع الثقة في مرجعية هؤلاء العلماء، وذيوع صيتهم في الأمصار، وانتشار مصنفاتهم المقروءة، وتدوين المسموعة، وتتلمذ العديد من العلماء والدعاة على أيديهم، انتشرت هذه الفكرة عن الصوفية كافة.
وكان من هؤلاء الأعلام على سبيل المثال بعض المفتين السعوديين، كالشيخ محمد بن إبراهيم آلشيخ رحمه الله، والشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ومن كبار العلماء الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله تعالى، ومن الجهات العلمية هيئة كبار العلماء، ولا شك أنهم جميعا من العلماء الربانيين بحق، إلا أنه مع متغيرات العصر، وشيوع طلب الفتوى عن طريق الإذاعة، والتي لا تيسر كثيرا من الوقت لتأصيل الإجابة، وأن الإجابة تكون حسب السؤال وواقع السائل، وخاصة مع انتشار الطرق الصوفية في بلاد الإسلام، فصار اسم التصوف لا يذكر إلا مقترنا بالطرقية والغلو.
وفيما يلي نوضح تأصيل هؤلاء العلماء وهذه الجهات حول الصوفية والتصوف، بين الإجمال والتفصيل.
1- تأصيل العلماء والجهات لمنهج ابن تيمية
وهؤلاء العلماء كان من تأصيلهم التفريق بين تصوف المتقدمين، والمتأخرين كالتالي:
أولا: الشيخ محمد بن إبراهيم آلشيخ: وضح الشيخ أن المتصوفة قسمان: سنيين، وبدعيين وأن السني منه ما كان مقيداً بالكتاب والسنة كالجنيد، وأما البدعي فهو ما لم يتقيد بالكتاب والسنة، وكان مآل أهله الشطحات، كالقول بالحلول والاتحاد، والافتتان بالقبور، وأوضح أن هذا المسلك هو الذي ينبغي هو التفريق بين المنهجين بخلاف من يجعلونهم قسماً واحداً، فالذين تقيدوا بهما هم من خيار المسلمين.
ثانيا: ابن باز: بين الشيخ غلو متأخري الصوفية في مشايخهم، وحدد قوله بأن حكمه خاص بالمتأخرين منهم فقال: "كما يفعل بعض الصوفية مع مشايخهم يدعونهم مع الله، ويعتقدون أن لهم تصرفا في الكون، وأن لهم سرا يستطيعون معه أن يعلموا الغيب، أو ينفعوا الناس بما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، هذه أمور شركية حتى مع الأحياء" وبمثله قال في استغاثة بعض الصوفية بشيوخهم، ويطلبونهم منهم شفاء المرضى، ووضح أنه من الشرك الأكبر، لأنه سأله شيئا ليس من طاقته.
ثالثا: في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء: فقد أجابت اللجنة الدائمة على الفتوى رقم (19433) التي تسأل عن أحد الكتب التي تقول أن الصوفية فرقة ضالة منحرفة عن العقيدة والسلوك مبتدعة في العبادات، وأن ذلك يخالف ما كتبه ابن تيمية في مجلد (التصوف)، و (مدارج السالكين) لابن القيم، الذي يدل على أن من الصوفية من كان من أهل العلم والزهد والتقوى ومن هم على منهج السلف الصالح، وأن منهم من يقول: إن طريقنا هو العمل بالكتاب والسنة، ثم قال السائل: "فأرجو من فضيلتكم أن تفيدوني هل يجوز أن نقول: الصوفية على الإطلاق فرقة ضالة منحرفة، أو نقول: الأمر على التفصيل أو ماذا نقول فيهم؟".
فكان الجواب بما يلي: "كلام ابن تيمية ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في الصوفية، وأن منهم أناسا معتدلين، يعني: القدامى منهم، وأما المتأخرون فيغلب عليهم الانحراف والضلال، وعلى كل حال فالتصوف مبتدع في الإسلام، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ». والواجب على المسلم التمسك بالكتاب والسنة والسير على منهج السلف في الاعتقاد والعمل".
قلت: وهذا الذي أجابت به اللجنة الدائمة هو مذهب ابن تيمية، وبه كان تفصيل أعلام العلماء في العقود السابقة، إلا أن هؤلاء العلماء وهذه الجهات كانت في بعض الأحيان تطلق بعض الفتاوى المجملة في الصوفية، وليس ذلك عن قصد منها، لكن كان من ثمار هذا الإجمال التعميم في الحكم على الصوفية وعدم التفريق بين المتقدمين والمتأخرين منهم.
2- بعض الأقوال والفتاوى المجملة للعلماء والجهات في الحكم على الصوفية:
وكان من أمثلة الإجابات المقتضبة من هؤلاء الأئمة الأعلام ما يلي:
1- الشيخ محمد بن إبراهيم: حينما تعرض الشيخ لمذهب بعض الصوفية الذين يقولون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مخلوق من نور قال أنه رأْي باطل شاذ ليس إلا نتيجة لترهات الصوفية ومشائخ الطرق وخزعبلاتهم، تغذيها الاحتفالات بالموالد وما يتلى فيها من المنكرات والأضاليل والخزعبلات فكان كلام الشيخ مجملا في الحكم عليهم، كما قال في تعميمه للحكم عليهم: "أما ما يذهب إليه الصوفية من أن الولي يعبد من دون الله، أو أنه يعلم الغيب، أو أنه يتصرف في الكون، فهذا باطل، وكفر وضلال".
2- عبد العزيز بن باز: حينما سئل الشيخ ابن باز عن حكم التعبد بضرب الطبول والأغاني رد بقوله: "التصوف من البدع التي أحدثها الناس، فهو إحداث طرق غير الطريق الشرعي من العبادات التي أحدثها كثير من الناس، وأطلق عليه الصوفية، فهم الذين أحدثوا طرقا في العبادة، وأذكارا خاصة، وأعمالا خاصة، لم يشرعها الله عز وجل فهم من أهل البدع" ثم أخذ يعدد البدع التي أحدثها المتأخرون، لكن اللفظ الأول الذي خرج كان في التصوف إجمالا.
وحينما سئل عن حكم دعاء الأولياء أجاب أنه أمر منكر، وأنه من الشرك بالله، ثم علق إجمالا بقوله: "هذا من شأن الصوفية، يوجهون مريديهم وتلاميذهم على أن يعبدوهم من دون الله، ويلجأوا إليهم ويتوكلوا عليهم، ويسألوهم قضاء".
3- الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد: أما الشيخ بكر رحمه الله فقد أنكر اصطلاح التصوف، وتكلم عن قاعدة الألقاب عند أهل الإسلام، وبين أن مقامات الدين هي الإسلام، والإيمان والإحسان،، وأن ألقاب أهله المسلمون والمؤمنون والمحسنون والمتقون، وهكذا، وأنكر النسبة إلى اسم معين لم يرد به الشرع لأنه يكون عنوان للفرقة، والتحزب، ثم قال نسب لسلف الأمة أن منهجهم طرح هذه النسب المستحدثة، وقال أن كتب التراجم لدى المتقدمين لا تجدهم ينسبون إلى المذاهب الفقهية كفلان الحنفي ونحوه، وأن هذا من بالغ التوقي.
والرد على ذلك ما ذكرناه من تأويل ونقول عن السلف في التصنيف بالعلم الذي يُنتَسَبُ إليه كالتصوف والفقه، والتصنيف بالبلد كالبخاري والنيسابوري، والتصنيف بالمذهب كالسني والمعتزلي والحنفي والحنبلي والمالكي والشافعي، والتصنيف بالصفة كالمهاجرين والأنصار، كما أنه ثم فارق بين الحكم على التصنيف في ذاته، وبين الحكم على ما يحتوية المذهب من أصول مبتدعة ومنكرات وفواحش، فالشيخ رحمه الله قد قَعَّدَ هنا قاعدةً ونسبها إلى السلف، إلا أنهم كانوا على خلاف ذلك، والمقام لا يقتضي لذكر النقول، لأنه لا يكاد يخلو منه كتاب مصنف في فنون الشريعة.
4- فتاوى اللجنة الدائمة: جاءت فتوى للجنة الدائمة برقم (17558) تقول في السؤال الثاني منها: " ما هي الصوفية، وهل هي خطر على الدين، وما حكم مجالسة الصوفيين؟"
فكان الجواب كالتالي: "الغالب على الصوفية في هذا الزمان أنها طائفة ضالة، لها منهج في العبادة يخالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم يتلقون دينهم عن رؤساء طرقهم ومشائخهم، ويعتقدون فيهم أنهم ينفعون ويضرون من دون الله، ولا تجوز مجالستهم ولا مصاحبتهم إلا لمن يدعوهم إلى الله ويبصرهم بالسنة."
وكان أعضاء اللجنة هم العلماء الأفاضل: بكر أبو زيد رحمه الله، صالح الفوزان حفظه الله، عبد العزيز آل الشيخ وبرئاسة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله.
3-تأويل هذه الأقوال والفتاوى المجملة للعلماء والجهات في الحكم على الصوفية
هذه الفتاوى المجملة يمكن تأويلها بعدة طرق كالتالي:
أولا: أن الواقع الفكري قد فرض عليهم هذه الردود، إذ صار السؤال عن التصوف لا يمكن تأويله بالتصوف الصحيح مطلقا، فالتصوف البدعي هو ما كان منتشرا في كل بقاع الإسلام، والتصوف السني هو ما يمكن أن نجده في الكتب فحسب.
ثانيا: أن الفتاوي التي تكون في البرامج الإذاعية أو المرئية لا يكون هناك مجال ومتسع من الوقت لتأصيل الفتوى، والمنهج الأكثر شيوعا هو الرد على أكبر قدر من الفتاوى، ومِن ثَمَّ محاولة الرد المجمل الذي قد يقع فيه شيء من الخلل.
ثالثا: أن الفتاوى المسموعة ليست بمستوى تلك المكتوب من حيث التحرير والتأصيل، فالأولى تكون بالاستدعاء من الذاكرة، وبما يناسب حال المتكلم، فلا يمكن التقديم فيها والتأخير، وقد تأتي أهم النقاط في الفتوى التي تحمل ضوابط تأصيلية في آخرها، مثال ذلك ما أجاب به الشيخ ابن باز في أحد اللقاءات حينما سئل عن التصوف وموقف الإسلام منه، فأجاب أنهم جماعات اشتهروا بالبدع، وأبان أصل نسبتهم للتصوف، ثم قال أن التصوف هو التعبد على طريقة خاصة، لم تأت بها الشريعة، ولهذا غلب على المتصوفة البدع، إلا أنه أوضح في نهاية فتواه أن هناك من يكون زاهدا ويثنى عليه كالجنيد، وكسليمان الداراني، وبشر الحافي الذين زادوا في العبادة والزهد في الدنيا، فاستحقاقهم الثناء من أجل زهدهم ورغبتهم في الآخرة وعدم ابتداعهم.
والغالب أن ما يقع في أذن السامع ما يتلفظ به العالم لأول وهلة، ورغم أن الشيخ رحمه الله قد أنصف الصوفية الأوائل إلا أن ترتيب العرض نتيجة أن الفتوى مسموعة لا يمكن ترتيبها، فهذا ما يسبب إشكالية الفهم والتأصيل لدى القارئ العادي.
رابعا: أن نحمل هذا الإجمال على التفصيل الذي قرره هؤلاء العلماء في تأصيلاتهم، وهذا هو الأولى، إلا أن ذلك يتطلب مجهودا شاقا لخدمة تراثهم، وإلا حدث معهم مستقبلا مثلما حدث مع ابن تيمية من الإشكاليات في فهم مذهبه ومواقفه.
ثالثا: ظهور تيار يحاول إثبات موقف غالي لابن تيمية من المتصوفة
والمقصود بالموقف الغالي أنه ليس الموقف الوسطي الذي قررناه، فهو يعمم الأحكام على كل الصوفية، ولا يثبت الجانب التاريخي لهم، ولا فضل متقدميهم، بل يحمل كل المحدثات والبدع على الصوفية أجمعين، ولا يرى أن للصوفية تاريخا إلا تاريخ بدعهم، وإحداثهم في الشرع، من ذلك عبد الرحمن عبد الخالق حيث يقول في النشأة التاريخية: " لا يعرف على وجه التحديد من بدأ التصوف في الأمة الإسلامية ومن هو أول متصوف" ويقول في ابن تيمية أنه كان من أعظم الناس بيانًا لحقيقة التصوف، وتتبعًا لأقوال الزنادقة والملحدين منهم وخاصة ابن عربي، والتلمساني، وابن سبعين، وأنه قد تعقب أقوالهم وفضح باطنهم وحذر الأمة من شرورهم، وأن ابن تيمية كان من أعظم الرجال الذي كشفوا عوار التصوف، وما كتبه ودونه وقام به في هذا الصدد شيء يطول وصفه جدًا.
ونحن نشكر له فضله فيما بينه من حقائق وطوام عن متأخري الصوفية في الكتاب المذكور، وفي كتابه الآخر فضائح الصوفية، إلا أننا حينما نذكر موقف العلماء لا يمكن الحكم عليه إلا بعد تحريره وتتبعه، والتفريق كما سبق بين المتقدمين والمتأخرين، وبيان منهجه ورصد التطور التاريخي للمذهب، وإلا كنا على غير المنهج العلمي في البحث.
رابعا: الصعوبة في قراءة كتب ابن تيمية نفسها والمنهج الانتقائي في البحث
فإن ابن تيمية ابن تيمية يتميز في كتاباته بالموسوعية، لأنه غالبا ما يكتب من الذاكرة، ولم يكن يتيسر له الوقت لمراجعة كتاباته، وضمها وصفها جنبا إلى جنب، وهذا ملاحظ في كتاباته التي غالبا ما نجد التكرار فيها بين المصنفات تارة، وفي المصنف الواحد تارة أخرى، أضف إلى ذلك حجمها الكبير، وطول حجم الفقرات، ولعدم ترتيبها في بعض المواطن، فكل هذه العوامل حينما تتضافر سويا تجعل النظر في مصنفات ابن تيمية لا يتيسر إلا للباحثين الجادين من طلبة العلم، لا من يدخل الكتاب ليبحث عن ضالته، فمتى وجدها خرج من الكتاب بها، وجعل هذه الضالة هي المذهب العام السائد في مصنف العالم أو في مصنفاته.
ومع التقصير في طلب العلم، واندفاع الناس إلى عدم التأصيل وطلب العلم من كتب الفتوى التي تقتصر في الردود دون تأصيل، إلا المشتغلين الحقيقيين بالعلم، والمخلصين لدين الله الذين لا يشغلهم أمر الأحكام أكثر مما يعنيهم التدقيق في الوصول إليها، فما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه.
كل هذه العوامل كان لها الأثر في تحريف موقف ابن تيمية من الصوفية ومنهجه في الحكم عليهم، ولتصحيح الوجهة في الفهم لا بد من إعادة قراءة تراث ابن تيمية بإنصاف وموضوعية، ونشره ليستفيد منه المنتمين له انتماء دون أن يعرفوا تفاصيل آرائه، فالشيخ رحمه الله من أعلام السلف الذين ينبغي أن نقف على آرائهم الحقيقية لنعرف أصالتها، ومدى صلتها بالسلف، ومدى القرب من منهجه أو البعد عنه، فرحم الله الشيخ، وسائر السلف، والله الموفق.
الخاتمة وأهم النتائج
1- لم يكن ابن تيمية يقول بأن التصوف بدعة.
2- أنه يقول أن أصل التصوف هو الزهد والتعبد، وهو أصل مشروع.
3- أنه كان يدعو للتحقيق فيما ينسب للتصوف من أقوال وأفعال.
4- أن ابن تيمية قد قسم الصوفية إلى طبقتين: المتقدمين، والمتأخرين، فالمتقدمين هم ما كانوا على النقاء في العقائد والأعمال كالفضيل والجنيد، أما المتأخرين فهم من أحدثوا في التصوف وأدخلوا فيه ما ليس منه.
5- أن ابن تيمية كان يعتبر آراء المتقدمين ويحتج بهم.
6- أن ابن تيمية كان يثني على الصوفية الأوائل وأتباعهم، ويصنفهم كنوع ثالث من العلماء، ويثني على علومهم.
7- أن ابن تيمية كان ينطلق في حكمه على الصوفية على قواعد مطردة تقوم على ضوابط الحكم على المعين مع مراعاة العدل والإنصاف، واعتبار المصطلح الصوفي والبحث التاريخي.
8- أن ابن تيمية كان من أشد الناس توقيرا للسلف ولآرائهم دون أن يوصل هذه الآراء إلى التقديس طالما أنها لم يحصل عليها الإجماع.
9- أن هناك العديد من الأسباب التي أدت لتحريف موقف ابن تيمية، منها ما يتصل بالواقع المعاصر لطلب العلم، والإجمال في الفتوى من العلماء الموثوقين والجهات الموثوقة في الفتوى، وبعضها يعود لصعوبة البحث في آراء ابن تيمية لصعوبة الأسلوب مع كم التراث الهائل لديه.
الكلمات المفتاحية :
التصوف
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: