الفقه الحنبلي - الرهن- الحجر
{ مسألة } (وإن أقر الراهن أنه أعتق العبد قبل رهنه فالحكم في ذلك كما لو أعتقه بعد رهنه) على ما ذكرنا من الخلاف لان كل من صح منه انشاء عقد صح منه الاقرار
به ولا يقبل قوله في تقدم عتقه لانه يسقط حق المرتهن من عوضه فعلى هذا تؤخذ منه قيمته فتجعل رهنا مكانه إن كان
موسرا لانه فوته على الراهن باقراره فهو كما لو أعتقه، وإن كان معسرا فالحكم فيه كما ذكرنا
{ مسألة } (وإن أقر أنه كان جنى أو انه باعه أو غصبه قبل على نفسه ولم يقبل على المرتهن إلا أن يصدقه) وجملته أنه إذا أقر الراهن أن العبد كان جنى قبل رهنه فكذبه المرتهن وولي الجناية لم يسمع قوله، وإن صدقه ولي الجناية وحده قبل إقراره على نفسه دون المرتهن ويلزمه أرش الجناية لانه حال بين المجني عليه وبين رقبة الجاني بفعله فأشبه مالو جنى عليه، وإن كان معسرا فمتى انفك الرهن كان المجني عليه أحق برقبته وعلى المرتهن اليمين أنه لا يعلم ذلك فان نكل قضي عليه.
وفيه وجه آخر انه يقبل اقرار الراهن لانه غير متهم لكونه تغريما يخرج الرهن من ملكه وعليه اليمين لانه يبطل باقراره حق المرتهن فيه، فان أقر أنه غصبه لم يقبل على المرتهن لان اقرار غيره لا يقبل في حقه فعلى هذا لا يخرج من الرهن ولا يزول شئ من أحكام الرهن ويلزمه قيمته للمغصوب منه لانه حال بينه وبينه برهنه، وكذلك لا يقبل أقراره على المرتهن ببيع ولا هبة لما ذكرنا، فان صدقه المرتهن في ذلك بطل الرهن لاعترافه بما يبطله فإذا انفك أخذ الراهن باقراره { مسألة } قال الشيخ رضي الله عنه (وإذا كان الرهن مركوبا أو محلوبا فللمرتهن أن يركب ويحلب بقدر نفقته متحريا للعدل في ذلك) وجملة ذلك أن الرهن ينقسم إلى قسمين: حيوان وغيره، والحيوان نوعان (أحدهما) أن يكون
مركوبا أو محلوبا فللمرتهن أن ينفق عليه ويركب ويحلب بقدر نفقته متحريا للعدل في ذلك نص عليه احمد في رواية محمد بن الحكم واحمد بن القاسم، واختاره الخرقي وهو قول إسحاق، وسواء انفق مع تعذر النفقة من الراهن لغيبة أو امتناع أو مع القدرة على اخذ النفقة منه واستئذانه.
وعن احمد رواية اخرى لا يحتسب له بما انفق وهو متطوع بها ولا ينتفع من الرهن بشئ وهذا قول ابي حنيفة ومالك والشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه " ولانه ملك غيره لم
يأذن له في الانتفاع به ولا الانفاق عليه فلم يكن له ذلك كغير الرهن ولنا ما روى البخاري باسناده عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونا، والدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة " فجعل منفعته بنفقته وهذا محل النزاع، فان قيل المراد به الرهن ينفق وينتفع قلنا لا يصح لو جهين (احدهما) انه قد روي في بعض الالفاظ إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولان الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقته فجعل المنفق المرتهن فيكون هو المنتفع (الثاني) ان قوله بنفقته يشير إلى ان الانتفاع عوض النفقة وانما ذلك في حق المرتهن، اما الراهن فانفاقه وانتفاعه لا بطريق المعاوضة
لاحدهما بالآخر ولان نفقة الحيوان واجبة وللمرتهن فيه حق وقد أمكنه استيفاء حقه من نماء الرهن والنيابة عن المالك فيما وجب عليه واستيفاء ذلك من منافعه فجاز ذلك كما يجوز للمراد اخذ مؤنتها من مال زوجها عند امتناعه بغير اذنه والنيابة عنه في الانفاق عليها.
والحديث نقول به والنماء للراهن ولكن للمرتهن ولاية صرفها إلى نفقته لثبوت يده عليه وولايته وهذا فيمن انفق محتسبا بالرجوع فان انفق متبرعا بغير نية الرجوع لم ينتفع به رواية واحدة (فصل) النوع الثاني الحيوان غير المركوب والمحلوب كالعبد والامة فليس للمرتهن ان ينفق عليه ويستخدمه بقدر نفقته في ظاهر المذهب ذكره القاضي ونص عليه احمد في رواية الاثرم قال: سعمت ابا عبد الله يسئل عن الرجل يرهن العبد فيستخدمه فقال الرهن لا ينتفع منه بشئ الا حديث ابي هريرة خاصة في الذي يركب ويحلب ويعلف.
قلت له فان كان الركوب واللبن اكثر؟ قال لا إلا بقدر، ونقل حنبل عن احمد ان له استخدام العبد ايضا وبه قال أبو ثور إذا امتنع المالك من الانفاق عليه وقال ابو بكر خالف حنبل الجماعة والعمل على انه لا ينتفع من الرهن بشئ الا ما خصه الشرع فان القياس انه لا ينتفع بشئ منه تركناه في المركوب والمحلوب للاثر فيما عداه يبقى على مقتضى القياس (القسم الثاني) ما لا يحتاج إلى مؤنة كالدار والمتاع ونحوه فلا يجوز للمرتهن الانتفاع بغير اذن الراهن لا نعلم في ذلك خلافا لان الرهن ملك الراهن فكذلك نماؤه، فان اذن الراهن للمرتهن في
الانتفاع بغير عوض وكان دين الراهن من قرض لم يجز لانه يصير قرضا جر منفعة وذلك حرام، قال
احمد: اكره قرض الدور وهو الربا المحض.
يعني إذا كانت رهنا في قرض ينتفع بها المرتهن، وإن كان الرهن بثمن مبيع أو اجر دار أو دين غير القرض فأذن له الراهن في الانتفاع جاز ذلك، وقد روي عن الحسن وابن سيرين، وهو قول إسحاق، فأما إن كان الانتفاع بعوض مثل ان استأجر المرتهن الدار من الراهن بأجرة مثلها من غير محاباة جاز في القرض وغيره لكونه ما انتفع بالقرض إنما انتفع بالاجارة، وإن حاباه فهو كالانتفاع بغير عوض يجوز في غير القرض، ومتى استأجرها واستعارها المرتهن فظاهر كلام احمد انها تخرج عن كونها رهنا فمتى انقضت الاجارة أو العارية عاد الرهن بحاله، قال احمد في رواية الحسن بن ثواب قال احمد إذا كان الرهن دارا فقال المرتهن اسكنها بكرائها وهي وثيقة بحقي تنتقل فتصير دينا وتتحول عن الرهن، وكذلك ان أكراها للراهن وقال احمد في رواية ابن منصور: إذا ارتهن دارا ثم اكراها لصاحبها خرجت من الرهن، فإذا رجعت إليه صارت رهنا.
قال شيخنا: والاولى أنها لا تخرج من الرهن إذا استأجرها المرتهن أو استعارها لان القبض مستدام ولا تنافي بين العقدين، وكلام أحمد في رواية الحسن بن ثواب محمول على أنه أذن للراهن في سكناها كما في رواية ابن منصور لانها خرجت عن يد المرتهن فزال اللزوم لزوال اليد بخلاف ما إذا سكنها المرتهن، ومتى استعار المرتهن الرهن صار مضمونا عليه، وبهذا قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة لا ضمان عليه ومبنى ذلك على العارية هل هي مضمونة أم لا؟ وسيأتي ذلك { مسألة } (وإن أنفق على الرهن بغير اذن الراهن مع امكانه فهو متبرع) إذا أنفق على الحيوان متبرعا لم يرجع بشئ لانه تصدق به فلم يرجع بعوضه كالصدقة على مسكين
وإن نوى الرجوع على المالك وكان ذلك باذن المالك رجع عليه لانه ناب عنه في الانفاق باذنه فكانت النفقة على المالك كما لو وكله في ذلك { مسألة } (وان عجز عن استئذانه ولم يستأذن الحاكم فعلى روايتين)
مفهوم كلامه ههنا أنه متى قدر على استئذان المالك فلم يستأذنه أن يكون متبرعا لا يرجع بشئ، وكذلك ذكره أبو الخطاب لانه مفرط في ترك استئذانه مع القدرة عليه فلم يرجع كما لو عمر داره بغير اذنه، وإن عجز عن استئذانه ولم يستأذن الحاكم ففيه روايتان (إحداهما أنه متبرع لانه لم يستأذن مالكه ولا من يقوم مقامه أشبه مالو كان المالك حاضرا فلم يستأذنه (والثانية) يرجع عليه لانه أنفق عليه عند العجز عن استئذانه أشبه مالو عجز عن استئذان الحاكم، وكذلك الحكم فيما إذا مات العبد المرهون.
وقال شيخنا فيمن أنفق بغير اذن الراهن بنية الرجوع مع امكانه أنه يخرج على روايتين بناء على ما إذا قضى دينه بغير اذنه وهذا أقيس في المذهب إذ لا يعتبر في قضاء الذين العجز عن استئذان الغريم { مسألة } (وكذلك الحكم في الوديعة وفي نفقة الجمال إذا هرب الجمال وتركها في يد المكتري) لانها امانة فأشبهت الرهن { مسألة } (وان انهدمت الدار فعمرها المرتهن بغير اذن الراهن لم يرجع به رواية واحدة) وليس له الانتفاع بها بقدر عمارتها فان عمارتها غير واجبة على الراهن فليس لغيره أن ينوب عنه فيما لا يلزمه، فان فعل كان متبرعا كالاجنبي بخلاف نفقة الحيوان فانها تجب على مالكه لحرمته في نفسه، وكذلك كفن العبد إذا مات يجب على سيده
(فصل) قال الشيخ (إذا جنى الرهن جناية موجبة للمال تعلق أرشها برقبته وللسيد فداؤه بالاقل من قيمته أو أرش جنايته أو بيعه في الجناية أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه، وعنه ان اختار فداءه لزمه جميع الارش) وجملة ذلك أن العبد المرهون إذا جنى على انسان أو على ماله تعلقت الجناية برقبته وقدمت على حق المرتهن بغير خلاف علمناه لانها مقدمة على حق المالك والملك أقوى من الرهن فأولى أن يقدم على الرهن، فان قيل فحق المرتهن أيضا يقدم على حق المالك.
قلنا حق المرتهن ثبت من جهة المالك بعقده وحق الجناية ثبت بغير اختياره مقدما على حقه فيقدم على ما ثبت بعقده، ولان حق الجناية مختص بالعين يسقط بفواتها وحق المرتهن لا يسقط بفوات العين ولا يختص بها فكان تعلقه بها أحق وأولى، فان كانت جنايته موجبة للقصاص في النفس فلولي الجناية استيفاؤه، فان اقتص
سقط الرهن كما لو تلف، وإن كانت في طرف اقتص منه وبقي الرهن في باقيه، وإن عفى على مال تعلق برقبة العبد وصار كالجناية الموجبة للمال فيقال للسيد انت مخير بين فدائه وبين تسليمه للبيع، فان اختار فداءه فداه بأقل الامرين من قيمته أو أرش الجناية في أصح الروايتين لانه ان كان الارش اقل فالمجني عليه لا يستحق أكثر من أرش جنايته، وان كانت القيمة أقل فلا يلزمه أكثر منها لان ما يدفعه عوض عن العبد فلا يلزم أكثر من قيمته كما لو اتلفه (والثانية) يفديه بأرش الجناية بالغا ما بلغ لانه ربما يرغب فيه راغب فيشتريه بأكثر من قيمته { مسألة } (فان فداه فهو رهن بحاله، وان سلمه بطل الرهن) إذا فداه الراهن فهو رهن بحاله لان حق المرتهن قائم لوجود سببه، وانما قدم حق المجني عليه
لقوته، فإذا زال ظهر حكم الرهن كحق من لارهن له مع حق المرتهن في تركة المفلس إذا أسقط المرتهن حقه ظهر حكم الآخر وهذا مذهب الشافعي، وإن سلمه بطل الرهن لفوات محله فهو كما لو تلف { مسألة } (فان لم يستغرق الارش قيمته بيع منه بقدره وباقيه رهن، وقيل يباع جميعه ويكون باقي ثمنه رهنا) إذا لم يستغرق أرش الجناية قيمة الرهن بيع منه بقدر الارش وباقيه رهن لان بيعه انما جاز ضرورة ايفاء الحق، فإذا اندفعت الضرورة ببيع البعض لم يجز بيع ما بقي لعدم الضرورة فيه، فان تعذر بيع بعضه بيع كله للضرورة المقتضية لبيعه ويكون باقي ثمنه رهنا لعدم تعلق الجناية به.
وقال أبو الخطاب: هل يباع منه بقدر الجناية أو يباع جميعه ويكون الفاضل من ثمنه عن أرش جنايته رهنا؟ على وجهين (أحدهما) يباع بعضه خاصة لما ذكرنا (والثاني) يباع جميعه لان بيع البعض يستقبض له وهو عيب ينقص به الثمن وذلك يضر بالمالك والمرتهن، وقد قال عليه السلام " لاضرر ولا ضرار " { مسألة } (فان اختار المرتهن فداءه ففداه باذن الراهن رجع به، وان فداه بغير اذنه فهل يرجع به؟ على روايتين إذا امتنع الراهن من فداء الجاني فالمرتهن مخير بين فدائه وتسليمه، فان اختار فداءه فبكم يفديه؟
يخرج على روايتين فيما يفديه به الراهن، فان فداه باذن الراهن رجع به عليه كما لو قضى دينه باذنه، وإن فداه متبرعا لم يرجع بشئ، وإن نوى الرجوع فهل يرجع ذلك؟ على وجهين بناء على مالو قضى دينه بغير اذنه.
فان زاد على الفداء الواجب لم يرجع به وجها واحدا.
ومذهب الشافعي كما ذكرنا إلا انه
لا يرجع بما فداه بغير اذنه وجها واحدا، وان شرط له الراهن الرجوع رجع قولا واحدا، وإن قضاه باذنه من غير شرط الرجوع ففيه وجهان وهذا أصل يذكر فيما بعد، وان فداه وشرط ان يكون رهنا بالفداء مع الدين الاول فقال القاضي يجوز ذلك لان المجني عليه يملك بيع العبد وابطال الرهن فصار بمنزلة الرهن الجائز قبل قبضه والزيادة في دين الرهن قبل لزومه جائزة، ولان أرش الجناية متعلق به وانما ينتقل من الجناية إلى الرهن.
وفيه وجه آخر انه لا يجوز لان العبد رهن بدين فلم يجر رهنه بدين سواه كما لو رهنه بدين غير هذا، وذهب أبو حنيفة إلى ان ضمان جناية الرهن على المرتهن فان فداه لم يرجع بالفداء، وان فداه الراهن وبيع في الجناية سقط دين الرهن إن كان بقدر الفداء وبناء على أصله في ان الرهن من ضمان المرتهن وقد ذكرنا ذلك (فصل) فان كانت الجناية على سيد العبد فلا يخلو من حالين (أحدهما) أن تكون غير موجبة للقود كجناية الخطأ واتلاف مال فيكون هدرا لان العبد مال سيده فلا يثبت له مال في ماله (الثاني) ان تكون موجبة للقود فلا يخلو ان تكون على النفس أو على ما دونها، فان كانت على ما دون النفس فالحق للسيد، فان عفا على مال سقط القصاص ولم يجب المال لما ذكرنا، وكذلك ان عفا على غير مال وان اراد ان يقتص فله ذلك لان السيد لا يملك الجناية على عبده فيثبت له ذلك بجنايته عليه كالاجنبي ولان القصاص يجب للزجر والحاجة داعية إلى زجره عن سيده، فان اقتص فعليه قيمته تكون رهنا مكانه أو قضاء عن الدين لانه أخرجه عن الرهن باختياره فكان عليه بدله كما لو اعتقه، ويحتمل أن لا يجب عليه شئ لانه اقتص باذنه فكأنه اقتص باذن الشارع فلم يلزمه شئ كالاجنبي وكذلك ان كانت الجناية على النفس فاقتص الورثة فهل تجب عليهم القيمة؟ يخرج على ما ذكرنا، وليس للورثة العفو على مال لما ذكرنا في السيد لانهم يقومون مقام الموروث، وذكر القاضي وجها آخر أن لهم ذلك لان الجناية في
ملك غيرهم فكان لهم العفو على مال كما لو جنى على أجنبي وللشافعي قولان كالوجهين، فان عفا بعض الورثة سقط القصاص وهل يثبت لغير العافي نصيبه من الدية؟ على الوجهين ومذهب الشافعي في هذا الفصل على نحو ما ذكرناه (فصل) فان جنى المرهون على عبد سيده لم يخل من حالين (أحدهما) أن لا يكون مرهونا فحكمه حكم الجناية على طرف سيده له القصاص ان كانت جنايته موجبة له فان عفا على مال أو غيره أو كانت الجناية لا توجب القصاص ذهبت هدرا وسواء كان المجني عليه قنا أو مدبرا أو أم ولد (الحال الثاني) أن يكون رهنا فلا يخلو إما أن يكون رهنا عند مرتهن القاتل أو غيره فان كان عند مرتهن القاتل والجناية موجبة للقصاص فللسيد القصاص فان اقتص بطل الرهن في المجني عليه وعليه قيمة المقتص منه، ويحتمل أن لا يجب لانه اقتص باذن الشارع فان عفا على مال أو كانت الجناية موجبة للمال وكان رهنا بحق واحد فجنايته هدر لان الحق يتعلق بكل واحد منهما فإذا قتل أحدهما بقي الحق متعلقا بالآخر، وان كان كل واحد منهما رهنا بحق منفرد ففيه أربع مسائل: (إحداها) أن يكون الحقان سواء وقيمتهما سواء فتكون الجناية هدرا سواء كان الحقان من جنسين مثل أن يكون أحدهما بمائة دينار والآخر بدراهم قيمتها مائة دينار أو من جنس واحد لانه لا فائدة في اعتبار الجناية (المسألة الثانية) ان يختلف الحقان وتتفق القيمتان مثل أن يكون دين أحدهما مائة ودين الآخر مائتين وقيمة كل واحد منهما مائة فان كان دين القاتل أكثر لم ينقل إلى دين المقتول لعدم الغرض
فيه وان كان دين المقتول أكثر نقل إلى القاتل لان للمرتهن غرضا في ذلك وهل يباع القاتل وتجعل قيمته رهنا مكان المقتول أو ينقل بحاله؟ على وجهين (أحدهما) لا يباع لانه لا فائدة فيه (والثاني) يباع لانه ربما زاد فيه من يبلغه أكثر من ثمنه فان عرض للبيع فلم يزد فيه لم يبع لعدم ذلك (المسألة الثالثة) أن يتفق الدينان وتختلف القيمتان بان يكون دين كل واحد منهما مائة وقيمة أحدهما
مائة والآخر مائتين فان كانت قيمة المقتول أكثر فلا غرض في النقل فيبقى بحاله وان كانت قيمة الجاني أكثر بيع منه بقدر جنايته تكون رهنا بدين المجني عليه والباقي رهن بدينه وإن اتفقا على تبقيته ونقل الدين إليه صار مرهونا بهما فان حل أحد الدينين بيع بكل حال لانه إن كان دينه المعجل بيع ليستوفى من ثمنه وما بقي منه رهن بالدين الآخر وان كان المعجل الآخر بيع ليستوفى منه بقدره والباقي رهن بدينه (المسألة الرابعة) أن يختلف الدينان والقيمتان مثل ان يكون أحد الدينين خمسين والآخر ثمانين وقيمة احدهما مائة والآخر مائتين فان كان دين المقتول اكثر نقل إليه والافلا (فصل) فان كان المجني عليه رهنا عند غير مرتهن القاتل فللسيد القصاص لانه مقدم على حق المرتهن بدليل أن الجناية الموجبة للمال مقدمة عليه فالقصاص أولى فان اقتص بطل الرهن في المجني عليه لان الجناية عليه لم توجب مالا يجعل رهنا مكانه وعليه قيمة المقتص منه يكون رهنا لانه أبطل حق الوثيقة فيه باختياره.
ويحتمل أن لا تجب لما ذكرنا وللسيد العفو على مال فتصير كالجناية الموجبة
للمال فيثبت المال في رقبة العبد لان السيد لو جنى على العبد لوجب أرش جنايته لحق المرتهن فبأن يثبت على عبده أولى.
فان كان الارش لا يستغرق قيمته بعنا منه بقدر أرش الجناية يكون رهنا عند مرتهن المجني عليه وباقيه رهن عند مرتهنه، وان لم يمكن بيع بعضه بيع جميعه وقسمة ثمنه بينهما على حسب ذلك يكون رهنا، وان كانت الجناية تستغرق قيمته نقل الجاني فجعل رهنا عند الآخر، ويحتمل ان يباع لاحتمال ان يرغب في شرائه راغب بأكثر من قيمته فيفصل من قيمته شئ يكون رهنا عند مرتهنه وهذا كله قول الشافعي (فصل) فان كانت الجناية على موروث سيده فيما دون النفس كأطرافه أو ماله فهي كالجناية على أجنبي وله القصاص إن كانت موجبة له والعفو على مال وغيره، وان كانت موجبة للمال ابتداء ثبت فان انتقل ذلك إلى السيد بموت المستحق فله ما لموروثه من القصاص والعفو على مال لان الاستدامة أقوى من الابتداء فجاز أن يثبت بها مالا يثبت في الابتداء، وان كانت الجناية على نفسه بالقتل ثبت
الحكم لسيده وله ان يقتص فيما يوجب القصاص.
وان عفا على مال أو كانت الجناية موجبة للمال ابتداء فهل يثبت للسيد؟ فيه وجهان (أحدهما) يثبت وهو قول بعض أصحاب الشافعي لان الجناية على غيره فأشبهت الجناية على ما دون النفس (والثاني) لا يثبت له مال في عبده ولا له العفو عليه وهو قول أبي ثور لانه حق ثبت للسيد ابتداء فلم يكن له ذلك كما لو كانت الجناية عليه، وأصل الوجهين في وجوب الحق في ابتدائه هل يثبت للقتيل ثم ينتقل إلى وارثه أو يثبت للوارث ابتداء؟ على وجهين وكل موضع ثبت له المال في رقبة عبده فانه يقدم على الرهن لانه يثبت للموروث بهذه الصفة فينتقل إلى وارثه كذلك فان اقتص في هذه الصورة لم يلزمه بدل الرهن لانه إذا قدم المال على حق المرتهن
فالقصاص أولى ولان القصاص ثبت للموروث مقدما على حق المرتهن فكذلك في حق وارثه فان كانت الجناية على مكاتب السيد فهي كالجناية على ولده وتعجيزه كموت ولده فيما ذكرناه (فصل) فان جنى العبد المرهون باذن سيده وكان ممن يعلم تحريم الجناية وانه لا يجب عليه قبول ذلك من سيده فهي كالجناية بغير اذنه، وان كان صبيا أو أعجميا لا يعلم ذلك فالجاني هو السيد.
يتعلق به موجب الجناية، ولا يباع العبد فيها موسرا كان أو معسرا كما لو باشر السيد الجناية، وقال القاضي فيه وجه ان العبد يباع مع اعسار السيد لان العبد باشر الجناية، والصحيح الاول لان العبد آلة فلو تعلقت الجناية به بيع مع اليسار، وحكم اقرار العبد بالجناية حكم إقرار غير المرهون على ما يأتي بيانه ان شاء الله تعالى { مسألة } (وان جني عليه جناية موجبة للقصاص فللسيد القصاص فان اقتص فعليه قيمة أقلهما قيمة تجعل مكانه) إذا جني على الرهن فالخصم في ذلك السيد لانه المالك والارش الواجب بالجناية ملكه وانما للمرتهن فيه حق الوثيقة فصار كالعبد المستأجر والمودع وبهذا قال الشافعي وغيره، فان ترك المطالبة أو أخرها أو كان غائبا أو له عذر يمنعه منها فللمرتهن المطالبة بها لان حقه متعلق بموجبها فكان له المطالبة به كما لو كان الجاني سيده، ثم ان كانت الجناية موجبة للقصاص فللسيد القصاص لانه حق له وانما يثبت ليستوفى فان اقتص أخذت منه
قيمة أقلهما قيمة فجعلت مكانه رهنا نص عليه أحمد في رواية ابن منصور وهو قول اسحاق، ويتخرج أن لا يجب عليه شئ وهو مذهب الشافعي لانه لم يجب بالجناية مال ولا استحق بحال وليس على الراهن
ان يسعى للمرتهن في اكتساب مال، ووجه الاول انه اتلف مالا استحق بسبب اتلاف الرهن فغرم قيمته كما لو كانت الجناية موجبة للمال، وهكذا الحكم فيما إذا ثبت القصاص للسيد في عبده المرهون.
وانما أو جبنا اقل القيمتين لان حق المرتهن انما يتعلق بالمالية والواجب من المال هو اقل القيمتين لان الرهن ان كان اقل لم يجب اكثر من قيمته، وان كان الجاني اقل قيمة لم يجب اكثر من قيمته لانها التي أتلفها بالقصاص وان عفا على مال صح عفوه ووجب اقل القيمتين لما ذكرنا، هذا إذا كان القصاص قتلا، وان كان جرحا أو قلع سن أو نحوه فالواجب بالعفو اقل الامرين من ارش الجرح أو قيمة الجاني لما ذكرنا وان عفا مطلقا انبنى على موجب العمد ما هو؟ فان قلنا موجبه احد شيئين ثبت المال وان قلنا موجبه القصاص عينا فحكمه كما لو اقتص، أو قلنا ثم تجب القيمة على الراهن وجب هنا وهو اختيار ابي الخطاب لانه فوت بدل الرهن بعفوه اشبه مالو اقتص، وان قلنا لا تجب على الراهن ثم لم تجب ههنا وهو قول القاضي ومذهب الشافعي لانه اكتساب مال فلا يجبر عليه وكذلك ان عفا على غير مال { مسألة } (وكذلك ان جنى على سيده فاقتص منه هو أو ورثته وقد ذكرنا ذلك) { مسألة } (وان عفا السيد على مال أو كانت موجبة للمال فاقتص منه جعل مكانه) اما إذا كانت الجناية موجبة للمال أو ثبت المال بالعفو عن الجناية الموجبة للقصاص فانه يتعلق به حق الراهن والمرتهن ويجب من غالب نقد البلد كقيم المتلفات، فلو اراد الراهن ان يصالح عنها ويأخذ عوضا عنها لم يجز إلا باذن المرتهن، فان اذن جاز لان الحق لهما وما قبض من شئ فهو رهن بدلا عن الاول وقائما مقامه
{ مسألة } (وان عفا السيد عن المال صح في حقه ولم يصح في حق المرتهن، فإذا انفك الرهن رد إلى الجاني، وقال أبو الخطاب يصح وعليه قيمته)
إذا عفا السيد عن المال فقال القاضي يسقط حق الراهن دون المرتهن فتؤخذ القيمة من الجاني تكون رهنا فإذا زال الرهن رجع الارش إلى الجاني كما لو اقر ان الرهن مغصوب أو جان فان استوفى الدين من الارش احتمل ان يرجع الجاني على العافي لان ماله ذهب في قضاء دينه فلزمته غرامته كما لو استعاره فرهنه، واحتمل أن لا يرجع عليه لانه لم يوجد منه في حق الجاني ما يقتضي وجوب الضمان وانما استوفى بسبب منه حال ملكه له فأشبه مالو جنى انسان على عبده ثم وهبه لغيره فتلف بالجناية السابقة، وقال أبو الخطاب: يضمن العفو مطلقا ويؤخذ من الراهن قيمته تكون رهنا لانه أسقط دينه عن غريمه فصح كسائر ديونه، قال ولا يمكن كونه رهنا مع تقدم حق الراهن فيه ولزمته القيمة لتقوية حق المرتهن كما لو اتلف بدل الرهن، وقال الشافعي لا يصح العفو أصلا لان حق المرتهن متعلق به فلم يصح عفو الراهن عنه كالرهن نفسه، وكما لو وهب الرهن أو غصب فعفا عن غاصبه.
قال شيخنا: وهذا أصح في النظر، فان قال المرتهن أسقطت حقي من ذلك سقط لانه ينفع الراهن ولا يضره، وان قال أسقطت الارش أو ابرأت منه لم يسقط لانه ملك للراهن فلا يسقط باسقاط غيره وهل يسقط حقه؟ فيه وجهان (أحدهما) يسقط وهو قول القاضي لان ذلك يتضمن اسقاط حقه وإذا لم يسقط حق غيره سقط حقه كما لو قال أسقطت حقي وحق الراهن (والثاني) لا يسقط لان العفو ولابراء منه لا يصح فلم يصح ما يضمنه
(فصل) وان أقر رجل بالجناية على الرهن فكذباه فلاشئ لهما، وإن كذبه المرتهن وصدقه الراهن فله الارش ولا حق للمرتهن فيه وان صدقه المرتهن وحده تعلق حقه بالارش وله قبضه فإذا قضى الراهن الحق أو ابرأه المرتهن رجع الارش إلى الجاني ولا شئ للراهن فيه، وان استوفى حقه من الارش لم يملك الجاني مطالبة الراهن بشئ لانه مقر له باستحقاقه (فصل) ولو كان الرهن أمة حاملا فضرب بطنها أجنبي فألقت جنينا ميتا ففيه عشر قيمة أمه وان ألقته حيا ثم مات لوقت يعيش مثله ففيه قيمته ولا يجب ضمان نقص الولادة لانه لا يتميز نقصها عما وجب ضمانه من ولدها، ويحتمل ان يضمن نقصها بالولادة لانه حصل بفعله فلزم ضمانه كما لو غصبها ثم جنى عليها
ويحتمل ان يجب اكثر الامرين من نقصها أو ضمان جنينها لان سبب ضمانها وجد فإذا لم يجتمع ضمانهما وجب ضمان اكثرهما، وان ضرب بطن بهيمة فالقت ولدها ميتا ففيه ما نقصتها الجناية لاغير وما وجب من ذلك كله فهو رهن مع الامر، وقال الشافعي: ما وجب لنقص الام أو لنقص البهيمة فهو رهن معها وكذلك ما وجب في ولدها وما وجب في جنين الامة فليس برهن ولنا أنه ضمان وجد بسبب الجناية على الرهن فكان من الرهن كالواجب لنقص الولادة وولد البهيمة { مسألة } (وان وطئ المرتهن الجارية بغير اذن الراهن فعليه الحد والمهر وولده رقيق) لا يحل للمرتهن وطئ الجارية المرهونة اجماعا لقول الله تعالى (إلا على أزواجهم أو ما ملكت ايمانهم وليست هذه زوجته ولا مكله، فان فعل بغير اذن الراهن عالما بالتحريم فعليه الحد لانه
لاشبهة له فيه فان الرهن وثيقة بالدين ولا مدخل لذلك في اباحة الوطئ، ولان وطئ المستأجرة يوجب الحد مع ملكه لنفعها فالرهن أولى، ويجب عليه المهر سواء أكرهها أو طاوعته، وقال الشافعي لا يجب المهر مع المطاوعة لان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي، ولان الحد إذا وجب على الموطوءة لم يجب المهر كالحرة.
ولنا ان المهر يجب للسيد فلا يسقط بمطاوعة الامة واذنها كما لو أذنت في قطع يدها، ولانه استوفى هذه المنفعة المملوكة للسيد بغير اذنه فكان عليه عوضها كما لو أكرهها وكأرش بكارتها لو كانت بكرا والحديث مخصوص بالمكرهة على البغاء فان الله تعالى سماها بذلك مع كونها مكرهة فقال (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن اردن تحصنا) وقولهم لا يجب الحد والمهر قلنا لا يجب لها المهر لها وفي مسئلتنا لا يجب لها وانما يجب لسيدها.
ويفارق الحرة فان المهر لو وجب لوجب لها وقد أسقطت حقها باذنها وههنا المستحق لم يأذن، ولان الوجوب في حق الحرة تعلق باكراهها وسقوطه بمطاوعتها فكذلك السيد ههنا لما تتعلق السقوط باذنه ينبغي ان يثبت عند عدمه وسواء وطئها معتقدا للحل أو غير معتقد له، أو ادعى بشبهة أو لم يدعها لا يسقط المهر بشئ من ذلك لانه حق آدمي فلا يسقط بالشبهات وولده رقيق للراهن لانه من زنا ولانه لاملك له فيها ولا شبهة ملك فأشبه الاجنبي
{ مسألة } (وإن وطئها باذن الراهن وادعى الجهالة وكان مثله بجهل ذلك فلاحد عليه ولا مهر وولده حر لا تلزمه قيمته) وجملة ذلك ان المرتهن إذا وطئها باذن الراهن وادعى الجهالة بالتحريم فان احتمل صدقه لكونه ممن نشأ ببادية أو حديث عهد بالاسلام فلاحد عليه وولده حر لانه وطئها معتقدا اباحة وطئها فهو كما لو وطئها يظنها أمته، وان لم يحتمل صدقه كالناشئ ببلاد المسلمين مختلطا بهم من أهل العلم لم تقبل دعواه لانه لا يخلو ممن يسمع منه ما يعلم به تحريم ذلك فيكون كمن لم يدع الجهل فيكون ولده رقيقا للراهن لانه من زنا، ومتى كان الوطئ باذن الراهن لم يجب عليه قيمة الولد وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لان الاذن في الوطئ اذن فيما يحدث منه بدليل أنه لو أذن المرتهن للراهن في الوطئ فحملت سقط حقه من الرهن، وكما لو اذن في قطع أصبع لم يضمنها وكالحرة إذا اذنت في وطئها سقط عنه الضمان، وفيه قول ان قيمة الولد تجب؟ وإن أذن الراهن في الوطئ وهو منصوص الشافعي لان وجوب الضمان يمنع اتخاذ الولد رقيقا ويشبه اعتقاد الحل وما حصل ذلك باذنه بخلاف وطئ الراهن فان خروجها من الرهن بالحمل الذي سببه الوطئ المأذون فيه ولا يجب المهر إذا كان الوطئ باذن الراهن، وقال أبو حنيفة يجب وعن الشافعية كالمذهبين ولنا انه اذن في سببه وهو حقه فلم يجب كما لو أذن في قتلها، ولان المالك اذن في استيفاء المنفعة
فلم يجب عوضها كالحرة المطاوعة، وولده حر للشبهة وقد ذكرناه، ولا تصير هذه الامة أم ولد بحال سواء ملكها المرتهن بعد الوضع أو قبله، وسواء حكمنا برق الولد أو حريته وفيه وجه آخر أنه إذا ملكها حاملا انها تصير ام ولد وسنذكر ذلك في امهات الاولاد (فصل) قال عبد الله بن احمد سألت ابي عن رجل عنده رهون كثيرة لا يعرف اصحابها ولا من رهن عنده قال: إذا ايست من معرفتهم ومعرفة ورثتهم فأرى ان تباع ويتصدق بثمنها، فان عرف بعد اربابها خيرهم بين الاجر أو يغرم لهم.
هذا الذي اذهب إليه، وقال أبو الحارث عن احمد في الرهن يكون عنده السنين الكثيرة يأيس من صاحبه يبيعه ويتصدق بالفضل فظاهر هذا أنه يستوفي
حقه، ونقل أبو طالب لا يستوفي حقه من ثمنه ولكن ان جاء صاحبه بعد فطلبه اعطاه إياه وطلب منه حقه، واما إن رفع امره إلى الحاكم فباعه ووفاه حقه منه جاز ذلك
(باب الحجر) الحجر في اللغة المنع والتضييق ومنه سمي الحرام حجرا قال الله تعالى (ويقولون حجرا محجورا) اي حراما محرما ويسمى العقل حجرا قال الله تعالى (هل في ذلك قسم لذي حجر؟) اي عقل سمي حجرالانه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح، وهو في الشرع منع الانسان من التصرف في ماله { مسألة } (وهو على ضربين حجر على الانسان لحظ نفسه وحجر لحق غيره) كالحجر على المريض في التبرع بما زاد على الثلث لحق الورثة، وعلى العبد والمكاتب لحق السيد والراهن يحجر عليه في الرهن لحق المرتهن ولهؤلاء ابواب يذكرون فيها، ومن ذلك الحجر على المفلس لحق الغرماء وهو المذكور ههنا، والمفلس هو الذي لامال له ولا ما يدفع به حاجته ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لاصحابه " اتدرون من المفلس " قالوا يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال " ليس ذلك المفلس، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ويأتي وقد ضرب هذا ولطم هذا وأكل مال هذا وأخذ من عرض هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فان بقي عليه شئ أخذ من سيئاتهم فرد عليه ثم صك له صك إلى النار " أخرجه مسلم بمعناه فقولهم ذلك اخبار عن حقيقة المفلس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس ذلك المفلس " تجوز لم يرد به نفي الحقيقة بل أراد أن فلس الآخرة أشد وأعظم بحيث يصير مفلس الدنيا بالنسبة إليه كالغني، ونحو هذا قوله عليه الصلاة والسلام " ليس الشديد بالصرعة انما الشديد الذي يغلب نفسه عند الغضب " وقوله " ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس " ومنه قول الشاعر ليس من مات فاستراح بميت * انما الميت ميت الاحياء قيل إنما سمي هذا مفلسا لانه لامال له إلا الفلوس وهي أدنى أنواع المال، والمفلس في عرف
الفقهاء من دينه أكثر من ماله، وسموه مفلسا وان كان ذا مال لان ماله مستحق الصرف في جهة دينه فكأنه معدوم وقد دل عليه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم مفلس الآخرة فانه أخبر أن له حسنات أمثال الجبال لكنها لا تفي بما عليه فقسمت بين الغرماء وبقي لا شئ له ويجوز أن يكون سمي بذلك لما يؤول إليه من عدم ماله بعد وفاء دينه ويجوز أن يكون سمي بذلك لانه يمنع من التصرف في ماله إلا الشئ التافه الذي لا يعيش إلا به كالفلوس { مسألة } ومن لزمه دين مؤجل لم يطالب به قبل أجله لانه لا يلزمه أداؤه ولم يحجر عليه من أجله لانه لا يستحق المطالبة به فلم يجز منعه من التصرف في ماله بسببه فان كان بعض دينه مؤجلا وبعضه حالا وكان ماله يفي بالحال لم يحجر عليه أيضا، وقال بعض أصحاب الشافعي ان ظهرت أمارات الفلس لكون ماله بازاء دينه ولا نفقة له إلا من ماله حجر عليه في أحد الوجهين لان الظاهر أنه ماله يعجز عن ديونه فهو كما لو كان ماله ناقصا، ولنا أن ماله واف بما يلزمه أداؤه فلم يحجر عليه كما لو لم تظهر أمارات الفلس ولان الغرماء لا يمكنهم طلب حقوقهم في الحال فلا حاجة إلى الحجر { مسألة } (فان أراد سفرا يحل الدين قبل مدته فلغريمه منعه الا أن يوثقه برهن أو كفيل)
وجملة ذلك أن المدين إذا أراد السفر وأراد غريمه منعه نظرنا فان كان محل الدين قبل محل قدومه من السفر كمن يسافر إلى الحج لا يقدم الافي صفر ودينه يحل في المحرم فله منعه من السفر لان عليه ضررا في تأخير حقه عن محله فان أقام ضمينا مليئا أو دفع رهنا يفي بالدين عند المحل فله السفر لزوال الضرر بذلك.
{ مسألة } (فان كان لا يحل الدين قبله ففي منعه روايتان) أما إذا كان الدين لا يحل الا بعد محل السفر مثل أن يكون محله في ربيع وقدومه في صفر فان كان سفره إلى الجهاد فلغريمه منعه الا بضمين أو رهن لانه سفر يتعرض فيه لذهاب النفس فلا يأمن فوات الحق، وان كان لغير الجهاد فليس له منعه في إحدى الروايتين، وهو ظاهر كلام الخرقي لان
هذا السفر ليس با مارة على منع الحق في محله فلم يملك منعه منه كالسفر القصير وكالسعي إلى الجمعة (والثانية) له منعه لان قدومه عند المحل غير متيقن ولا ظاهر فملك منعه منه كالاول، وقال الشافعي ليس له منعه من السفر ولا المطالبة بكفيل إذا كان الدين مؤجلا بحال سواء كان الدين يحل قبل محل
سفره أولا إلى الجهاد أو إلى غيره لانه لا يملك المطالبة بالدين فلم يملك منعه من السفر ولا المطالبة بكفيل كالسفر الآمن القصير، ولنا أنه سفر يمنع استيفاء الدين في محله فملك منعه منه إذا لم يوثقه برهن أو كفيل كالسفر بعد حلول الحق، ولانه لا يملك تأخير الدين عن محله وفي السفر المختلف فيه تأخيره عن محله فلم يملك كحجره { مسألة } (وإذا كان حالا وله ما يفي به لم يحجر عليه) لعدم الحاجة إلى ذلك ويأمره بوفائه فان أبى حبسه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " رواه أحمد فعقوبته حبسه وعرضه أن يغلظ له فيقال له يا ظالم يا متعدي ونحو ذلك { مسألة } (فان أصر باعه الحاكم وقضى دينه) وجملته ان الغريم إذا حبس فصبر على الحبس ولم يقض الدين قضى الحاكم دينه من ماله.
وان احتاج إلى بيع ماله في قضاء دينه باعه وقضى دينه وهذا مذهب الشافعي وأبي يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة ليس للحاكم بيع ماله لكنه يجبره على البيع إذا لم يمكن الايفاء بدونه، فان امتنع لم يبعه الحاكم وانما يحبسه ليبيع بنفسه الا ان يكون عليه احد النقدين وماله من النقد الآخر فيدفع أحد النقدين عن الآخر لانه رشيد لا ولاية عليه فلم يجز بيع ماله بغير اذنه كالذي لادين عليه ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع ماله في دينه.
رواه الخلال باسناده، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال: الا ان أسيفع جهينه قد رضي من دينه وأمانته بأن يقال سبق الحاج فادان معرضا فأصبح وقد رين به فمن كان له عليه مال فليحضر غدا
الكلمات المفتاحية :
الفقه الحنبلي
هذه التدوينة قابلة للنسخ اذا اعجبتك قم بنسخ الرابط من هذه الروابط الثلاثة والصقه بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code:
ليست هناك تعليقات: